أسرار النظام اللغوي

لا نريد بمعنى النظام هذه الأحكام الظاهرة في اللغة كالإعراب والتصريف والقواعد اللسانية، من نحو عدم الجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين؛ فهذا كله ليس إلا أسبابًا للنظام الذي نشرحه في هذا الفصل، وهو يشبه النظام النفسي من حيث تعلقه بالحكمة التي تضبط عواطف النفس وخطراتها؛ وقد رأينا ذلك في اللغة على ثلاثة ضروب:

  • (١)

    نظام الألفاظ بالمعاني.

  • (٢)

    نظام المعاني بالألفاظ.

  • (٣)

    النظام المطلق، هو نظام القرينة أو الحس النفسي.

نظام الألفاظ بالمعاني

والمراد به مساوقة الصيغ اللفظية للمعاني الموضوعة لها؛ وقد ألممنا بأشياء منه في باب الاشتقاق، وذكرنا ثمة أن لابن جني صاحب الخصائص كلامًا في هذا المعنى؛ وابن جني هذا هو أول من ناهض هذا البحث إتقانًا؛ وتخلى بأمره افتنانًا؛ وإنما كان العلماء قبله يستروحون إلى أشياء منه عند الضرورة ويتعللون به، وأكثرهم لزومًا لذلك شيخه أبو علي الفارسي؛١ ولهذا وضع ابن جني كتابه (الخصائص) لبيان ما أودِعَتْهُ هذه اللغة من خصائص الحكمة، ونيطتْ به من علائم الإتقان والصنعة؛ أقام فيه القولَ على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بُدِئ، وإلامَ نمى؛ وقال في المعنى الذي عقدنا له هذا الفصل: إنه غَورٌ من العربية لا يُنتصف منه ولا يكاد يُحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مَسْهُوًّا عنه.
ومما حاوله في كتابه مما يتعلق بغرضنا سبعة أمور:
  • (١)
    إثبات أن العرب تقارب حروب الألفاظ متى تقاربت معانيها، كقوله تعالى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا٢ أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى (تهزهم هزًّا)، والهمزة أخت الهاء، فكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، كما أن المعنى نفسه أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهز ما لا حراك له، كالجذع ونحوه؛ أي فيبقى الهز والمقرون بالإزعاج خاصًّا بذي الحياة؛ لأنه متعلق بالشعور؛ وذلك ما أفادته الهمزة وحدها.
  • (٢)

    إن هذه المقاربة بين الحروف تقع فيها المراعاة حتى في الحروف البعيدة التي لا تتشابه إلا بالتأويل، كقوله: إن تركيب «ع ل م» في العلامة والعَلَم، وقالوا مع ذلك: بيضة غرماء، وقطيع أغرم، إذا كان فيه سوادٌ وبياض، وإذا وقع ذلك بانَ أحدُ اللونين من صاحبه، وكان كل واحد منهما (عَلَمًا) للآخر، وهذا المعنى من «غ ر م» ولكنه مقارب لتركيب (علم) كما ترى!

  • (٣)

    إن المقاربة قد تكون بالمضارعة في الأصل الواحد بالحرفين، كَسَحَل وصهَل (في معاني الصوت) فالصاد أخت السين، والهاء أخت الحاء، وسَحَل وزحر (في الصوت أيضًا) فالسين أخت الزاي، واللام أخت الراء.

  • (٤)

    إن من المضارعة نوعًا أحكم من هذا، وهو المضارعة بالأصول الثلاثية في الفعل (الفاء والعين واللام) نحو: عصر الشيء وأزلَّه، إذا حَبَسه، قال: والعصر ضرب من الحبس، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام، ونحو الأزم (أي المنع) والعَصْب (أي الشد)، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء. وقد أتى بأمثلة من ذلك ثم قال: وهذا موجود في أكثر الكلام، وإنما بقي من يُثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا وضح له وكشفت عنده حقيقته، أطاع طبعه له فوعاه، وهيهات ذلك مطلبًا، وعزَّ فيهم مذهبًا.

  • (٥)

    إثبات أن العرب يصوِّرون اللفظ على هيئة المعنى، وهذا مذهب قد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندُب استطالة، فقالوا (في العبارة عنه) صرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صَرْصَر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على فَعَلان (بثلاث حركات): إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو الغَلَيان، فقابلوا بتوالي الحركات في المثال توالي الحركات في الأفعال.

    قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء على سمْت ما حَدَّاه ومنهاج ما مَثَّلاه؛ منها أن المصادر الرباعية المضعَّفة تأتي للتكرر والزعزعة: كالقلقلة والصلصلة … إلخ؛ وأن الفَعَلى من المصادر والصفات تأتي للسرعة نحو الجَمَزَي والوقلى … إلخ؛ ومنها أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلًا على تكرير الفعل، نحو كسَّر وقطَّع … إلخ؛ وإنما خصُّوا العين بذلك لأنها أقوى حروف الفعل، إذ الفاء قد تحذف، نحو عدَة وزِنَة، أصلها وعْدَة، ووزنة، واللام كذلك، نحو يَدٌ وفم، أصلهما: يَدَو وفَمَوٌ، ولكن قلما تجد الحذف في العين؛ فلما كانت الأفعال دليلة المعاني، كرروا أقواها وجعلوه دليلًا على قوة المعنى للمحدث به، وكذلك يضعِّفون العين للمبالغة، نحو: أسد غَشَمْشَم، ويومٌ عَصبْصَب، ونحو اعْشَوْشَبَ المكان، واغدَوْدَن الشعر … إلخ.

    قلنا: ومن هذا الباب ما ذكره ابن فارس أنه سمع من يثق به يقول: إن العرب تشوِّه صورة اللفظ وتقبِّحها لمقابلة مثل ذلك في المعنى، كقولهم للبعيد ما بين الطرفين المفرط الطول: طِرِماح، وإنما أصله من الطَّرح، وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سُمِّي طِرماحًا؛ ومثل ذلك كثير في أبواب الصفات.

  • (٦)

    ومن نظام الألفاظ بالمعاني أنهم يقابلون الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فيجعلون كثيرًا أصوات الحروف على سمْت الأحداث المعبَّر عنها كقولهم: خَضم، وقَضم، فالخضم لأكل الشيء الرطب، والقضم لأكل الشيء الصلب اليابس، فاختاروا الخاء من أجل رخاوتها للرطب، والقافَ من أجل صلابتها لليابس، فحذَوْا بمسموع الأصوات على حذو مسموع الأحداث. ومن ذلك النَّضْح، للماء الخفيف، لرقة الحاء، والنضخُ لما هو أقوى منه، وذلك لغلظ الخاء. ومنه أيضًا قولهم: القدُّ، للقطع طولًا، والقطٌّ، له عرضًا، وذلك لأن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعًا له من الدال، فجعلوا الطاء لقطع العرض لقربه وسرعته، والدالَ لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا، والأمثلة من ذلك كثيرة في اللغة تُبادِر من يلتمسها، وقد أتى ابن جني بعدة منها، ونقل السيوطي في أوائل المزهر عن غيره أشياء أخرى، وكلها تدل على أنهم يضبطون نظام الألفاظ المقترنة المتقاربة بالمعاني، فيجعلون الحرف الأضعف فيها، والألين والأخفى والأسهل والأهمس، لما هو أدنى وأقلُّ وأخفُّ عملًا أو صوتًا، ويجعلون الحرف الأقوى والأشدّ َوالأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملًا وأعظم حسًّا؛ ومن أجمع الأمثلة لذلك ما أورده الثعالبي في فقه اللغة، قال: إذا أخرج المكروب أو المريض صوتًا رقيقًا فهو الأنين، فإن أخفاه فهو الهنين، فإن أظهره فخرج خافيًا فهو الحنين، فإن زاد فهو الأنين، فإن زاد في رفعه فهو الخنين.

  • (٧)

    إنهم قد يضيفون إلى اختيار الحرف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبَّر عنها وتقديم ما يضاهي أولَ الحدَث (المعنى) وتأخيرَ ما يضاهي آخره؛ سَوْقًا للحروف على سمْت المعنى المقصود والغرض المطلوب، كقولهم: شد الحبل؛ فالشين لما فيها من التفشِّي تُشبَّه بصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكامُ الشد والجذب، فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين لاسيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها وأدلُّ على المعنى الذي أريد بها. وكذلك: جرَّ الشيء، قدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجارِّ والمجرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جُرَّ على الأرض اضطرب في غالب الأمر صاعدًا عنها ونازلًا، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير، ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها، أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف.

ومما يلتحق بهذا الذي هو نظام الألفاظ بالمعاني، ما وضعوه من حكاية الأصوات، وذلك أنهم يشتقون اللفظ من نفس الصوت القائم بمعناه على جهة الحكاية وتصوير الأشياء بأصواتها، وهذا النوع يعده أدباء الغربيين من مُبْدَعات القرائح. ومما يحضرنا منه للعرب قولهم في حكاية صوت مصراعي الباب الكبير إذا أغلق: جَلَنْبَلَقَ، وقول الشاعر:

جرت الخيل فقالت حبَطَقْطَق

وقول الآخر في الإبل: (تداعيْن باسم السيَب) يحكى صوت مشافرها؛ وهذا غير الأصوات التي يعرون بها عن الأحداث وإن كانت مشتقة منها، كالعطعطة للأصوات المتتابعة في الحرب، والقهقهة للاستغراق في الضحك، وأمثال لذلك كثيرة.

نظام المعاني بالألفاظ

والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها في منازلها، وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنسًا، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي.

ولما كانت اللغة عملًا نفسيًّا محضًا، كان وجود هذا النوع فيها من أخص الدلائل على تمدنها؛ لأن النظام الذي يعين درجات المعاني إنما يفصل أجزاء الموجودات على درجات شعور النفس بذوات هذه الأجزاء أو بصفاتها، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان في اللغة حياة باطنة تشبه ما في الإنسان الراقي مما يسمى بالكمال أو الحياة الروحية العالية، حتى تتكافأ النفس واللغة في تصوُّر أجزاء المعاني وتصويرها.

ولقد أثبت العلماء أن أظهر ما يكون الفقر في اللغات المنحطة، إنما هو في أنواع الدلالة المعنوية، فكلما انحطت اللغة قلَّت فيها هذه الأنواع، حتى لتبلغ بها تلك القلة أحيانًا إلى أن تشبه الجماد في تجرده من الشعور ومعانيه؛ ووجدوا من لغات القبائل المتوحشة في أواسط أفريقيا ما ليس فيها ألفاظ تعبر عن الحب والمؤاخاة والعبادة ونحوها من أمهات المعاني النفسية، كأن مادة تلك اللغات من الإحساس الحيواني المحض.

والعربية تُعتبر أحكم اللغات نظامًا في أوضاع المعاني وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدَعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها؛ فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب؛ ثم الكلف، وهو شدة الحب؛ ثم العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب؛ ثم الشغف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق؛ ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحَبُّ شغاف القلب وهو جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن؛ ثم التَّيْم، وهو أن يستعبده الحب؛ ثم التَّبل، وهو أن يسقمه الهوى؛ ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى؛ ثم الهُيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر، وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.

وكذا فعلوا في معاني السرور والعداوة والغضب والحزن والسرعة وغيرها؛ ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعية التي هي قوام أمرهم: كاللبن، فإن له نحو سبعين اسمًا باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي كلها في المزهر،٣ وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها وتسمية أجزائها ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه.

وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بَنَى الثعالبي كتابه «فقه اللغة»، وهو أشهر من أن يُنَّبه عليه، ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاءً، بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة.

ومما ننبه إليه في هذا الفصل، أن أرقى الأمم مدنية إذا بلغت فيها المعاني النفسية مبلغ الهرم، وتعلقت بها الخواطر من كل جهة بحيث تفصل أجزاءها تفصيلًا؛ فجهد الأمة عند ذلك أن تحيط المعنى باصطلاحات علمية، وتعرِّف حوادثه على نحو ما تُعرَّف به فصول العلوم، كالحب مثلًا، فإن مراتبه التي يشير إليها العرب بالألفاظ المتقدمة يشير إليها غيرهم بتعاريف وفصول واصطلاحات، ثم لا تعدو بعد ذلك كله ما كان يفهمه العرب منها برقة شمائلهم ولطف حواسهم النفسية؛ فكأنهم لما عدموا العلوم جعلوا ألفاظهم فصولًا علمية، وذلك منتهى ما يكون من تمدُّن اللغات.

ثم أنت إذا تدبرت هذا النوع رأيته انتباهًا روحيًّا صرفًا، بَيْدَ أنه ممثَّل بالألفاظ، ورأيت فيما ترى كأن لنفس العربي طيفًا يحرك اللغة حتى بأنفاس الخطرات، ويكشف لها كل عاطفة دقيقة ولو اختبأتْ في أشعة من النظرات!

نظام القرينة

وهو ما نسميه بالنظام البديع لأنه في ظاهره نوع من الفوضى؛ وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه ويَهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقًا غير مقيد بنظام ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام؛ وذلك نظم ينفردون به ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم إلا حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور، وقد سماه علماؤنا (سُنن العرب). وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني من كتابه فقه اللغة، وسماه (سر العربية).

ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر؛ لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ، ولأن ما عرف العرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه، إذ جعل من عبارته أزمَّة لعقولهم، فكان يلفتها فجأة عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزةٌ من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه.

فمما ذكروه من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة: مخالفة ظاهر اللفظ، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هَبِلَتْه أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله، ومنها الحذف والاختصار، فيقولون: والله أفعلُ ذاك، ويريدون لا أفعل، فيحذفون حرف النفي؛ ومنها ذكر الواحد والمراد الجمع، كقوله تعالى: هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي٤ وقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي٥ والمراد الجماعة. وذكر الجمع والمراد واحد أو اثنان، كقوله: إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ٦ وهو يريد واحدًا، وقوله في خطاب موسى وأخيه: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ٧ والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجَتَي النبي : إن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وهما قلبان. ومنها صفة الجمع بصفة الواحد، كقوله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ٨ وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع، كقول العرب: ثوب أهدام، جاء الشتاء وقميصي أخلاق.٩ ومنها أن تخاطب العرب الشاهد ثم تحول الخطاب إلى الغائب، وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع؛ وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ١٠ الخطاب الأول للنبي وصحابته، والثاني للمشركين. ومنها الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى كقوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم١١ أراد بكم، وقوله: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً١٢ ومعناه: كان لهم، وقد جاء ذلك في الشعر أيضًا كما رواه ابن الأنباري في الأضداد. ومنها أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره، كقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ١٣ فخبر عن الأزواج بلفظ يَتَرَبَّصْنَ وترك الذين. ومنها نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ إلى قوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ١٤ وإنما يخرجان من الملح لا العذب. ونسبته إلى الجماعة وهو لأحدهم كقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا١٥ والقاتل واحد، وإلى أحد اثنين وهو لهما: كقوله: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ.١٦ ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين، كقول العرب: افعلا ذلك، ويكون المخاطب واحدًا، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرُّفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعراؤهم أكثر الناس قولًا: يا صاحبيّ، ويا خليليّ. ومنها أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماض، كقوله تعالى: أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ١٧ أي يأتي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ١٨ أي ما تَلَتِ الشياطين. ومنها أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل: نحو سر كاتم، أي مكتوم، وأمرَ عارف، أي معروف، وبالفاعل: على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابنًا. ومنها وصف الشيء بما يقع فيه، كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا سهروه. ومنها البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أُمِن اللبس بقرينة تقتضي ذلك، كإقامة وزن الشعر وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء:
وليلة خامدة خمودا
طخياء تخشى الجَدْي والفرقودا

فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها: «لو أن عَمرًا همَّ أن يرقودا» يريد يرقد. ومنها القبض محاذاة لذلك البسط. وهو النقصان من عدد الحروف كقولهم: لاهِ ابن عمك؛ أي لله، ودرس المنا، أي المنازل؛ ومنها الإضمار للأسماء والأفعال والحروف، كقولهم: ألا يا اسْلَمي، أي: يا هذه، وقولهم: أثعلبًا وتفر؟ أي أترى ثعلبًا وتفر؟ وقول طرفة:

ألا أيُّهذا الزاجري أشهد الوغى
يريد أن أشهد الوغى. ومنها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو: فَضَرْبَ الرِّقَابِ١٩ أي فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ٢٠ أي تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ٢١ أي الفتنة. ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا بحذاء كلام فيؤتَى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضًا، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غدايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:
هناك أخبية ولَّاج أبْوِبةٍ
فجمع الباب على أبوبة ليشاكل لفظ الأخبية، ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتَوَروا تجاورًا، وتجاوروا اجتوارًا، وانكسر كسرًا وكُسِرَ انكسارًا، وعليه قوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا.٢٢ ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقوله: امرأة بادن أي بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة. ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي حسرها السير، وغلالة رادع، أي مردّعة بالطيب والزعفران في مواضع منه، وقد أفاض صاحب المخصص في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى.٢٣
ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدِّر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفننًا، كقوله تعالى: إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ٢٤ أي يخوِّفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده بابًا في المخصص.٢٥

ومنها أيضًا قلب الكلام تفننًا، كقول العباس بن مرداس:

فديت بنفسه نفسي ومالي

أي فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:

ما كنت في الحرب العَوان مُغمَّرًا
إذ شبَّ حرُّ وقودها أجزالَها

وإنما هو: إذ شب حرَّ وقودها أجزالُها، ولكن رويَّ القصيدة بالفتح. ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معانيه.

وبعد، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه (تمدن العرب اللغوي)، وهو كما ترى يصح أن يكون غرضًا لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن يتعاون على إخراجه الفكر الصحيح والذهن الشفَّاف والفطنة الوقادة، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثَمَّ ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعرٌ وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم؛ لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تُخلَق الأسرار، وتُسدل عليها الأستار، فلا يُرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار.

هوامش

(١) توفي الفارسي سنة ٣٧٧، وكانوا يقولون: ما بين سيبويه وأبي علي أفضل منه، وتوفي ابن جني سنة ٣٩٢، وهو عالم هذه لأمة في التصريف.
(٢) سورة مريم: ٨٣.
(٣) الفصل ١٥، النوع ٢٩.
(٤) سورة الحجر: ٦٨.
(٥) سورة الشعراء: ٧٧.
(٦) سورة التوبة: ٦٦.
(٧) سورة النمل: ٣٧.
(٨) سورة التحريم: ٤.
(٩) أحصى ابن خالويه في كتاب (ليس ما كان من هذا النحو وهو: ثوب أسمال، أي خلق، وثوب أكباش — غليظ — وبرمة أكسار، وقدر أعشار، وقميص أخلاق، ولم يذكر منها أهدام.
(١٠) سورة هود: ١٤.
(١١) سورة يونس: ٢٢.
(١٢) سورة الإنسان: ٢٢.
(١٣) سورة البقرة: ٢٣٤.
(١٤) سورة الرحمن: ١٩‏–‏٢٢.
(١٥) سورة البقرة: ٧٢.
(١٦) سورة التوبة: ٦٢.
(١٧) سورة النحل: ١.
(١٨) سورة البقرة: ١٠٢.
(١٩) سورة محمد: ٤.
(٢٠) سورة الواقعة: ٢.
(٢١) سورة القلم: ٦.
(٢٢) سورة المزمل: ٨.
(٢٣) انظر الجزء (١٦).
(٢٤) سورة آل عمران: ١٧٥.
(٢٥) انظر الجزء (١٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤