الأصل التاريخي في الرواية

كان العرب أمة أمية؛ لا يقرءون إلا ما تخطه الطبيعة، ولا يكتبون إلا ما يُلَقَّنون من معانيها، فيأخذون عنها بالحس ويكتبون باللسان في لوح الحافظة؛ فكان كل عربي على مقدار وعيه وحفظه: كتابًا، أو جزءًا من كتاب؛ وكانت كل قبيلة بذلك كأنها سجل زمني في إحصاء الأخبار والآثار.

ولقد رأينا كثيرًا من الباحثين يزعمون أن الأصل في حفظ العرب كونهم قومًا بادين، وأن قلة مرافق الحياة التي في أيديهم كانت هي الباعث لهم على التوسع في الحفظ والمران عليه؛ وهو رأي لا يستقيم على النظر، ولا يصح عند التحقيق؛ لأن أقوامًا غير العرب قد تبدوا في عصور مختلفة ولم يؤثر عنهم من نوادر الحفظ وفنونه بعض ما أُثر عن هؤلاء؛ ولكن الصحيح ما قدمناه في غير هذا الموضع، من أن العرب قوم معنويون، ولم يجر من الأحكام النفسية على أمة من الأمم ما جرى عليهم؛ ولهذا كان لا بد لهم في أصل الخلقة من الحوافظ القوية التي ترتبط مآثر تلك النفوس ارتباطًا، وإلا اختل تركيبهم الطبيعي، وانتفت الموازنة بين قواهم، فلم يقم صلاح القوة الواحدة بفساد الأخرى.

وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبر ما اتسعوا فيه من المحفوظ؛ فإنك لست واجِده إلا في المعاني النفسية، مما يرجع إلى التفاخر والتفاضل بالأحساب والأنساب، والتعاير بالمثالب والتنابز بالألقاب؛ ولو أن الكتابة كانت فاشية فيهم ما عدلوا إليها ولا استغنوا بها عن الحفظ؛ لن سبيل تلك المعاني الطبيعية أن تجيء من أداة طبيعية أيضًا، حتى تكون عند الخاطر إذا خطر، والهاجس إذا بدر، وليس لذلك غير اللسان.

والعربي إذا فاخر أو نافر لا يكون من همه أن يقنع بطريقة من المنطق يدير لها الكلام على أشكاله وقضاياه، وإنما همه أن يضع لسانه في مفصل الحجة ثم يرسلها غير ملجلجة.

وكل أمة تضطر إلى شيء مما عددناه فإنها تنزل على هذا الحكم الطبيعي؛ كاليونان في جاهليتهم؛ فقد حفظوا ما وضعوه من أنساب آلهتهم ثم قرنوا بها أنسابهم، حتى لم يكن فيهم بيت من بيوت الشرف والحكمة إلا وهو معلق بسلسلة من النسب فرعها في الأرض وأصلها في السماء … وكذلك كان الرومان في أجيالهم الأولى؛ فإن فئة (البطارقة) منهم كانوا يرجعون بما يحفظونه من أنسابهم إلى أصول ليست عتيقة في الأرض.

فمثل هذه المعاني لا يتكل فيها على الكتب والخطوط دون الحفظ؛ وعلى حسب ما كان من اختلافها وتعدد أنواعها في العرب بما لم يكن في غيرهم من سائر الأجيال — كان العرب بطبيعتهم أثبت الناس حفظًا وأتمهم حافظةً، وكانت الكتابة غير طبيعية في نظامهم الاجتماعي؛ ومن ثم نشأ فيهم الأخذ والتحمل، فكان كل عربي بطبيعته راويًا فيما هو بسبيله من أمره وأمر قومه؛ فلما أن اهتدوا إلى الشعر وتوسعوا فيه — وسنأتي على تاريخ ذلك في بابه — جعلوا يرتبطون به أرقى تلك المعاني النفسية، حتى صار الشاعر لسان قومه: يذود عنهم، ويدفع عن أحسابهم، ويغتمز في أعدائهم؛ وبهذا انفرد بمعنى تاريخي في الرواية؛ إذ صار كأنه إنما يروي للتاريخ، بخلاف غيره من شيوخ القبيلة وأهل أنسابها والقائمين على مفاخرها؛ مما يرجع إليهم في علم ذلك خاصةً دون الرواية العامة، وذلك فيما نرى أصل المعنى التاريخي في الرواية العلمية عند العرب؛ وثبته ما كان من صنيع الرواة أنفسهم، في اتخاذهم الشعر عمودًا للرواية والاستشهاد به على الخبر وسواه، واطِّراح كثير مما لا شاهد له منه كما سيمر بك.

ولما صارت للشعر تلك المنزلة، مست الحاجة إلى من يتفرغ لرواية المفاخر والمثالب، ويتقصص أخبارها في أجذام العرب على نحو من الاستقصاء والاستغراق، كما هو الشأن في الأوضاع العلمية؛ فنشأت لذلك طبقة النسابين، وهم رواة الجاهلية وعلماؤها، وكان أمرهم قبيل الإسلام، ومن أشهرهم دغفل بن حنظلة، وعبيد بن شَربة الجرهمي، وابن الكيس النمري، وابن لسان الحمَّرة، وغيرهم؛ وبهذا تميزت الرواية بالمعنى العلمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤