تدوين الحديث

واستمر الحديث بعد الطبقة التي كان منها صغار الصحابة وكبار التابعين — كطبقة ابن عباس — على ما يعترض فيه من عوارض السهو والإغفال، وما يدخل عليه من الشبه والتأويلات، وعلى أن بعض الثقات ربما أخذه عن غير الثقة — حتى كانت خلافة عمر بن عبد العزيز (بويع سنة ٩٩ وتوفي سنة ١٠١) فرأى أن الحديث متعلق بأفراد الرجال وقد أسرع الموت فيهم، وأن أحدهم ربما طُويت معه طائفة من الخبر إذا هو مات، وخشي تزيُّد الناس وشيوع الكذب إذا قل الصحيح، وكانت قد فشت في زمنه أشياء مما يُتَعَمد فيه الكذب لغير مصلحة يُتأول عليها: كالأحاديث التي كان يكذب فيها عكرمة؛ مولى عبد الله بن عباس (توفي عكرمة سنة ١٠٥) وبرد؛ مولى سعيد بن المسيب (توفي سعيد سنة ٩٤) وغيرهما. وقبل ذلك تكلم معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي في القَدَر، وهما أول من فعل ذلك،١ وجعلا الكلام في القدر نحلة يُناظر فيها، وقد وضعا شيئًا من الأحاديث؛ ثم كان أمر الخوارج قد بلغ الغاية، فخشي عمر عاقبة ذلك وما أشبهه، فكتب إلى أبي بكر بن حزم نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة (توفي سنة ١٢٠) أن انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه: فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.

وكان هذا أول البدء في تدوين الحديث وجمعه؛ إذ كتب منه أبو بكر أشياء كانت عند أفراد، ولم يكن الحديث يدوَّن قبل ذلك، إلا ما كان يقيِّده بعض الصحابة، كعبد الله بن عمر وغيره، ممن رأوا أن السنن تكثر وتفوت الحفظ، فكتبوا. أما سائر الصحابة فأكثرهم أميون، وقليل منهم يكتبون ولكن لا يتقنون الكتابة ولا يصيبون التهجي إذا كتبوا، فتركوا التدوين لذلك.

ولما فشت الكتابة بينهم، كانت الصدور أوثق من الكتب؛ لتوافر الرجال، ولأن الحديث كان يُطلب للعمل به، فكان لا بد من معرفة حامله لتحقُّق عدالته قبل معرفة الحديث نفسه، على نحو ما مرَّ بك آنفًا؛ ومضوا على هذه السنة حتى حدثت الأحداث وانصدعت الفتوق؛ ولقد روي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة نهيًا، وقال: إنما ضلَّ من كان قبلكم بالكتابة، وجاءه رجل فقال: إني كتبت كتابًا قال أريد أن أعرضه عليك، فلما عرضه عليه أخذه منه ومحاه بالماء، ولما سئل في ذلك قال: إنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم.

ثم أمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم الزهري عالم الحجاز والشام وصاحب اليد البيضاء على فن الرواية، لأنه أول من قرر شروطها (٥٠‏–‏١٢٤ﻫ)، فدوَّن الحديث تدوينًا مراعيًا فيه شروط الرواية الصحيحة.

وقيل: إن أول من جمع في الحديث لذلك العهد، الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن انتهى الأمر لكبار الطبقة الثالثة، وصنف الإمام مالك بن أنس (٩٤‏–‏١٧٩ﻫ) كتاب الموطَّأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة (توفي سنة ١٥٠)، وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام (ولد سنة ٧٢ وتوفي ببيروت سنة ١٥٧)، وسفيان الثوري بالكوفة (٩٧‏–‏١٦١ﻫ)، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة (توفي سنة ١٦٧).٢
ونسبوا لمالك تدوين الحديث لأنه أودع كتابه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه؛ وجاء به مع ذلك على شروط الرواية؛٣ وكان أول من فعل ذلك، وقيل: إن عبد الملك بن جريج سبقه إليه.٤

ثم شاع التدوين بعد هؤلاء فيمن تلاهم من الأئمة، كلٌّ على حسب ما سنح له، فمنهم من رتَّب على المسانيد، ومنهم من رتَّب على العلل، بأن يجمع في كل متن من متون الحديث طرقه واختلاف الرواة فيه، بحيث تتضح علل الحديث المصطلح عليها بينهم — وسيأتي شيء منها — ومنهم من رتب على أبواب الفقه ونوعه أنواعًا وجمع ما ورد في كل نوع وفي كل حكم إثباتًا ونفيًا بابًا فبابًا، إلى غير ذلك مما يخرجنا بسط الكلام فيه عن الكلام فيما نريد أن نبسطه؛ فنجتزئ بالإيماء إليه.

الإسناد في الحديث

بعد أن دُوِّنت أوائل الكتب ورأوا ما دخل على الحديث من الشُّبَه والتأويلات، وما هُجِّن به من التزيد والاختلاق، صار لا بد من حياطة الصحيح منه بأسماء الذين صح نقله عنهم وصح نقلهم عن رسول الله وهذا هو الإسناد.

وقد كانت أحوال النقلة من الصحابة معروفة، وكان الجميع مشهورين في أعصارهم، فلم يكن من باعث على الإسناد المصطلح عليه في الرواية.

وكان منهم أفراد بالحجاز، ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر، فلما أدركهم التابعون أدركوا منهم عددًا، وربما كان عند الواحد ما ليس عند الآخر، وربما جاء الحديث الواحد عن طائفة منهم، فاضطر الآخذون أن يضبطوا أسانيد ما حملوه؛ ولقد أدرك الشعبي وحده ٥٠٠ من الصحابة، وهو عامر الشعبي رأس الأدباء والمؤدِّبين، ولد في سنة ٢١ على الأكثر، وتوفي سنة ١٠٧ على أوسع الأقوال، وكان يُعدُّ عالم الكوفة بين التابعين ويُقرَن به ابن المسيب في المدينة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام.

ولما أمعن الناس في الرحلة إلى أفراد الصحابة المتفرقين في الأمصار، ومَن اشتهر من التابعين من بعدهم، تعددت طرق الرواية فمن ثم تعيَّن على الرواة أن يبينوا إسناد كل طريقة، وابتدأ ذلك من عهد الإمام مالك بن أنس، وهو سند الطريقة الحجازية بعد السلف (رضي الله عنهم)، ثم كثر طالبوا الحديث ورواته، فتشعبت الأسانيد، وصار لا بد من تعديل الرواة وبراءتهم من الجرح والغفلة، وذلك لا يتهيأ إلا بمعرفة طبقات الرجال على مراتبهم من العدالة والضبط، وكيفية أخذ بعضهم عن بعض؛ ومن ذلك نشأ علم الرواية؛ وأول من قرر شروطه الزهري كما قدمنا، واستمر بعده زمنًا لا يعمل به إلا الثقات كما رأيت فيما ذكروه عن شيوخ مالك.

ولما كانت الأحاديث معروفة، وكان لا مطمع لمتأخر أن يستدرك شيئًا منها على المتقدمين، انصرفت عناية العلماء من المتأخرين إلى تمحيص ما يُروى، وتصحيح الأمهات المكتوبة: كالموطأ، وصحيحي البخاري ومسلم، وضبطها بالرواية عن مصنِّفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها، وانصرف جماعة منهم إلى الاتساع في الإسناد، فطلبوا الحديث الواحد من طرق مختلفة قد تبلغ إلى عشرين طريقًا بأسانيدها؛ وكان من ذلك أن استبحروا في الحفظ واشتغلوا به، وتبسطوا في فنون الرواية وجهاتها، بما لا تتعلق بقليله أمة من الأمم؛ ولكل ذلك تاريخ طويل أمسكنا عن كثيره وسيأتي قليل منه فإننا لا نقصد مما قدمناه إلا أن نتصل بما يلي:

هوامش

(١) ويقال: إن أول من بحث في القدر وتعمق وانحرف، رجل من أهل القرآن يقال له بيسريس، كان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصر، فأعانه معبد وأخذ غيلان عنه؛ أما أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد بعد الإسلام، فهو الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار آخر ملوك المروانية، وله مذاهب أخذها عن بعض اليهود وقال بها، ولا محل هنا للإفاضة فيها؛ وكان الجعد أول من خالف السنة والجماعة أيضًا.
(٢) وذكروا مع هذه الطبقة تصنيف هشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن حميد بالري، وابن المبارك بخراسان؛ وكلهم في عصر واحد، فلا يدرى أيهم أسبق.
(٣) ذكروا أن مالكًا (رضي الله عنه) روى عن ٣٠٠ شيخ من التابعين و٦٠٠ شيخ من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفهمه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وأنها ترك الرواية عن أهل دين وصلاح كانوا لا يعرفون الرواية. وسيمر بك الزمن الذي دوِّن فيه علم الرواية.
(٤) وكذلك كان مالك أول من صنف في تفسير القرآن بالإسناد على طريقته في الموطأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤