اتصال الرواية بالأدب

ولقد جرت العرب في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها؛ لأن الإسلام لم يهدم مما قبله إلا ما كان شركًا أو داعية إلى الشرك، فاستمرت الرواية للشعر والخبر والنسب والأيام والمقامات ونحوها، مما أثروه عن أسلافهم في أعقاب الجاهلية، بل توسعوا في بعض هذه الفنون أول عهدهم بالإسلام، لمعالجة الحجة في الرد على شعراء المشركين ممن كانوا يهاجون شعراء النبي — كما سنفصله في موضعه — وقد علموا أنهم لا يئولون من مفاخر العرب وحكمتها إلا إلى ما يحفظونه عنهم؛ فإذا هم أغفلوا رواية ذلك والتعلق به وارتباط ما بقي منه، لم يأمنوا أن يذهب على من بعدهم، فيفوت الناس علم ظهرت حاجتهم إليه بعد ذلك في تفسير القرآن والحديث …

وكان أحفظ الصحابة للأنساب أبو بكر الصديق، وأرواهم للشعر عمر بن الخطاب؛ أما أبو بكر فخبره مع دغفل النسابة مشهور، وسنومئ إليه، وأما عمر فقد نقل المبرد في الكامل في سياق المناظرة التي جرت بين ابن عباس ونافع بن الأزرق من زعماء الأزارقة (قتله المهلب سنة ٦٥ وسنأتي على ذكر هذه المناظرة في باب القول في القرآن) أن ابن عباس بعد أن ملَّ من مساءلة نافع وأظهر الضجر، طلع عمر بن أبي ربيعة عليه فأنشده من شعره قصيده في ثمانين بيتًا، فحفظها ابن عباس ولم يكن سمعها إلا ساعته تلك، وقال: لو شئت أن أرددها لرددتها، ثم أنشدها١ فقال له نافع: ما رأيت أروى منك قط! قال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي، وكان عمر مع ذلك غاية من الغايات في الأنساب وقيافة الناس، وستعلم شرح ذلك في بابه.

بيد أن كل ما حفظوه وتناقلوه لم يدوَّن منه شيء ولم يكن فيه إسناد؛ لأنه لا خطر له ولا يتعلق به أمر من أمور الدين، بل هو لا يعدو أن يكون أدبًا ونافلة وبابًا من التطوُّع؛ ومضوا على ذلك وهم يضيفون إليه رواية أشعار المخضرمين — الذين أدركوا الجاهلية والإسلام — حتى انقضى عهد الراشدين، دون أن تكتب قصيدة أو يدوَّن خبر من أخبار العرب، وهم قد تركوا ذلك في السنَّة كما علمت. فلأن يتركوه في هذا ونحوه أولى.

أولية التدوين في الأدب

وهذا موضع بعيد المنزع منتشر الجهات، أَمْعَنَّا له في البحث وأبعدنا في الطلب عن فسحة في الرأي وبسطة في الذرع ورويَّة وأناة، حتى أمد الله بعونه وسنَّى لنا ويسَّر، فظهرنا من ذلك على مقدار يغني شيئًا في تبين نسق التاريخ ويعين على تأمله بما تتهيأ معه السلامة في الحكم ويستقل به عمود الرأي إن شاء الله.

وقد رأينا أنه لم يُكتب شيءٌ مما يكون بسبيل من العلوم — غير ما سبقت الإشارة إليه من كتابة بعض الحديث — إلا في عهد كبار التابعين؛ وأول ما عُرف من ذلك أن ابن عباس كان يكتب الفتاوى التي يُسأل فيها، ثم كان أول ما كتب في الأدب صحيفة أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٩ (وقيل: إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز بين سنة ٩٩ و١٠١ عن ٨٥ سنة)، وهي المعروفة عند النحاة بتعليقة أبي الأسود، وفيها اختلاف بينهم نذكره في محله.٢
ثم كان زمن معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية (توفي سنة ٦٠ بعد أن ولي عشرين سنة)، فوفد عليه عُبيد بن شَرْيَةَ الجُرْهُمي النسابة الأخباري،٣ وكان استحضره من صنعاء اليمن، فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وافتراق الناس في البلاد ونحو ذلك؛ فلما أجابه أَمَرَ معاوية أن يدوَّن قوله وينسب إلى عُبيد هذا؛ وكان ذلك أول ما دوِّن في الأخبار. ولما استلحق معاوية زيادًا بن أبيه (مات سنة ٥٣) وهو من الموالي، وكان قد ادَّعى أبا سفيان أبًا وأنِفَت العرب لذلك ونافروه فظفروا عليه وعلى نسبه، عمل (أي زياد) كتابًا في المثالب ودفعه إلى ولده وقال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفُّون عنكم؛٤ وكان هذا أول كتاب وُضع في المثالب. وقد رأينا في الفهرست لابن النديم أن أبا محنف، من أصحاب علي كرم الله وجهه، ألف كتابًا ضمَّنه بعض التراجم؛ فإذا صحَّ هذا يكون أبو محنف أول من دوَّن في ذلك؛ وكان هذا الرجل صاحب أخبار وأنساب، والأخبار عليه أغلب.

ويقال: إن أول من ألف في السير عروة بن الزبير المتوفى سنة ٩٣، وألف وهب بن منبه، صاحب الأخبار والقصص (وهو من أبناء الفرس المولدين باليمن وتوفي سنة ١١٦ عن تسعين سنة) كتابًا في الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم؛ فكان أول من دوَّن هذه الموضوعات التاريخية، ووضع بعد ذلك محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة ١٢٤ كتابًا في المغازي، فكان أول من دوَّنها؛ وكتب بعده محمد بن إسحاق المتوفى سنة ١٥١ كتابه الشهير في السيرة ومزجه بالخرافات والموضوعات على نحو ما فعل ابن منبه، وجعل كل ذلك عربيًّا، وعدوه أول من ألف في السيرة؛ لأنه وضع كتابه للمنصور، ولأنه اتسع فيه بما لم يحمل عن أحد غيره كما رأيت. ثم جاء ابن النطاح من الأخباريين في أواخر القرن الثاني، وهو أول من ألف في الدولة الإسلامية وأخبارها كتابًا. ثم وضع الخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٦٠ (وقيل ١٧٠ و١٧٥) كتاب العين في اللغة، وهو أول كتاب جمعت فيه. وجاء ابن الكلبي النسابة المتوفى سنة ٢٠٤ فدوَّن أنساب العرب، وكان أول من فعل ذلك؛ ثم كان أبو عبيدة الراوية المتوفى سنة ٢١١ (وقارب المائة) فصنف في أيام العرب، وهو أول من صنف فيها.

هذا ما وقفنا عليه من الخبر في أولية التدوين في الأدب خاصةً، دون ما استفاض بعد ذلك، ودون هنات تركناها وستأتي في أخبار الرواة. وكل تلك الكتب لا إسناد لها على نحو ما كان في كتب الحديث.

وأول من صنف الكتب مسندة في الحديث، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي المتوفى سنة ١٥٠، ولذا عدُّوه أول من صنف الكتب في الحجاز، كما أن سعيد بن أبي عمرو أول من صنف بالعراق؛ لأنهم لا يعتبرون من الكتب إلا ما كان مسندًا؛ أما غير ذلك فلا يَعْدون به شأن ما كان يكتبه العلماء قديمًا لأنفسهم أو لمريديهم؛ فإن بعضهم كانوا يكتبون ما يحدِّثون به في صحيفة ويعطونها للمريدين فيحدثون منها، ولذلك يقال مثلًا: إن فلانًا ثقة وبعض روايته صحيفة. ومن هنا نشأت لفظة الصُحفيِّ كما سيأتيك.

على أن العلماء في أواخر القرن الأول كانوا يكتبون عن العرب ما يصيبونه من الشعر والخبر ونحوهما، ولكنهم لا يعدُّون مثل هذا تأليفًا؛ وقد ذكروا أن كتب أبي عمرو بن العلاء (٧٠–١٥٩ على الأكثر في التاريخين) التي كتبها عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا إلى قريب من السقف؛٥ ومع ذلك فلم يذكروا له تصنيفًا واحدًا.

ونظن أن أول من كتب عن العرب هو الحافظ الزهري الذي دون الحديث؛ فقد نقل الجاحظ في البيان عن أبي زياد قال: كنا لا نكتب إلا سنَّة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما احتيج إليه عُرفَ أنه أوعى الناس.

تاريخ الإسناد في الأدب

قد علمت كيف كان بدء الإسناد في الحديث وما أمر الحاجة التي بعثت عليه، وكيف انتهى إلى التدوين. أما تأريخ اتصال ذلك بالأدب فقد دللناك على أن العرب إنما جرت في إسلامها من أمر الشعر والخبر والنسب ونحوها على مثل عاداتها في جاهليتها، فلا جرم أنهم كانوا ينسبون أكثر ما يتناقلونه إلا أن النسبة غير الإسناد فيما اصطلح عليه الرواة؛ لأن الإسناد لا يراد به إلا شهادة الزمن على اتصال النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المرويِّ، حتى يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة، كالدعوى التي تُتلقى بثبتها من البينة، وهذا لا يستقيم إلا إذا صارت الرواية صناعة علمية، ولم يكن في العرب شيء من ذلك بالتحقيق، إلا بعد قيام دولة بني مروان حين اتخذوا المؤدِّبين لأولادهم؛ وذلك هو العهد الذي تسلسل فيه إسناد الحديث أيضًا لتشعُّب طرقه كما أومأنا إليه من قبل.

وأول إسناد عرف في الأدب كان علميًّا بحتًا، وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه في العربية وأشرنا إليه. ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لا بد فيها من الإسناد وإن كان قصيرًا لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خِيفَ على لسان العرب من الفساد ومَسّت الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والاستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك — نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها: كحماد الراوية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما. وصارت الرواية علمية محضة. وبهذا تحقق معنى الإسناد في الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب.

ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعًا إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشتبه من غريب القرآن والحديث، حتى لا تجد فيهم ألبتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدّثون يرون أنه ليس براوٍ عندهم من لم يرو من اللغة؛٦ لأن موضوع الحديث أقوال النبي ، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا بما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مرويًّا بسنده أو مأخوذًا عمن يسنده؛ انتفاءً مما عسى أن يُرموا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالفقه والبراعة في الفُتيا مفتقرةً إلى الأصلين: الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي رحمه الله قال: إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه.

وقد رأت الطبقة التي أشرنا إليها أن ما بعث على الإسناد في الحديث قد تحقق في الأدب، من افتعال اللغة والتزيُّد في الأخبار والصنعة في الشعر وأرادوا أن يطرد علمهم من ينبوع واحد، فجعلوا الصنفين سواءً في الرواية وأوجبوا الإسناد فيهما جميعًا.

ولم يكن الإسناد واجبًا قبل ذلك على نحو ما هو في الحديث، وأنت تعتبر هذا بأن كل أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم إنما تنتهي إلى الطبقة الأولى فحسب، كأبي عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وغيرهما ممن تصدَّروا للرواية وكانوا ظهور هذه الصناعة في السماع والتدوين، ولا تكاد تجد رواية واحدة يتصل سندها إلى الجاهلية في شيء من الشعر والخبر، وإنما يكتفون بالنسبة إلى أولئك، لأنهم في أول تاريخ الرواية، ولأنهم جميعًا يزعمون أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية أو نقلوا عمن أدركهم.٧ ولم يكن من سبيل إلى ردِّ ما تناقلوه عن الجاهلية، لأنه كان كل ما في أيدي الرواة.

ولم نعثر في كل ما وقفنا عليه على سند في إحدى الروايات يتصل بالجاهلية، وإنما وقفنا من ذلك على شيء لبعض الشعراء، كالذي نقله علي بن حمزة في كتاب أغاليط الرواة. قال: إن رؤبة بن العجاج الراجز (توفي سنة ١٤٥ عن سن عالية) سئل عن قول امرئ القيس:

نطعنهم سُلكَى ومَخْلوجَةً
كرّك لامَيْن على نابِلِ٨

فقال: حدثني أبي عن أبيه، قال: حدثتني عمتي؛ وكانت في بني دارم، قالت: سألت امرأ القيس وهو يشرب طلى (خمرًا) له مع علقمة بن عبيدة: ما معنى قولك كرَّك لامين؟ قال: مررت بنابل وصاحبه يناوله، فما رأيت أسرع منه فشبهت به.

وخبر آخر، وهو ما نقلوا عن حماد الرواية أنه قال: كانت للكميت (الشاعر المتوفى سنة ١٢٦) جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية: فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه؛ فمن هناك كان علمه.

والله أعلم بأمر هاتين الروايتين وأين تقعان من الصحة.

فائدة الإسناد إلى الرواة

مما تقدم تعلم أنه لولا الحديث لما خلصت اللغة، ولجاءت مشوبة بالكذب والتدليس، ولفسد هذا العلم وما بُني عليه، وذلك قليل من بركة رسول الله ونضرته، غير أنا رأينا قومًا ممن يَرُدُّون على الراوية ويتحكمون على السماع بالغرض مجردًا من النصفة، وبالرأي مستهترين به دون أن يجعلوا له نصيبًا من التثبت والتوقي — يجحدون فائدة الإسناد ولا يرون له خطرًا كبيرًا، ثم لا يجدون في سلسلة تلك الأسماء التي تُوصَّل بها الأخبار إلا لغوًا تاريخيًّا. ومنهم من يرى أن ذلك إنما جاء من أثرة الرواة ومحبتهم أن تبقى أسماؤهم مذكورة متدارسة، فكأنهم دسوا تراجمهم في العلوم لتبقى ببقائها، وأن ذلك من حبائل ثقفهم وفطنتهم … إلى آخر ما يعقدون فيه أعناقهم من مثل هذه الآراء التي يموهون بها على قصار النظر وذوي العقول المدخولة؛ وهؤلاء وأشباههم كمن ينظرون إلى الدوحة الباسقة من أعلاها فيحسبونها قد نبتت من السماء، لأنهم لم يستقْروا تاريخ الإسناد، ويظنون أن هذه العلوم المسندة قد دُفعت للناس على الكفاية ووقعت إليهم على قريب من التمام، فهي هي في الكتب وفي الصدور، لم يعترضها عارض ولا دخل عليها وهن ولا فساد.

وفريق آخر رأيناهم ينكرون كل ما جاءت به الروايات ويتهمون الكتب ويطعنون على الإسناد، ومن غريب التناقض في أمر هؤلاء أن في نفس اعتراضهم الجواب عليه، فهم يقولون: إن الخبر من الأخبار لا يثبت إلا عن رؤية حتى تكون حكايته على يقين، فإذا عارضتهم بخبر وناظرتهم فيه قالوا لك: هل رأيت؟ هل شهدت؟ هل لقيت صاحب الخبر، وليت شعري، هل غاية الإسناد إلا أن تكون كأنك رأيت وشهدت ولقيت صاحب الخبر الذي تسنده؟ وهل هو — الإسناد — إلا تحقيق المعاصرة التي هي الشرط في ثبوت الرواية حتى كأنك أشهدت الزمان على صحة ما ترويه؛ لأن كل رجل في سلسلة الإسناد إنما هو قطعة من الزمن تتصل بقطعة إلى قطعة حتى يتهيأ من ذلك مسلك التاريخ ويتضح نهجه كأنك تبصره على رأي العين ويقين الخبرة.

حفظ الأسانيد في الحديث

وقد عني المحدّثون بعلم الرجال أتم عناية وأكملها، بحيث لا يتعلق بغبارهم في ذلك الشأو مؤرخو الأمم جمعاء، حتى جعلوا الإسناد عاليه ونازله كأنه علم الأخلاق التاريخي، قد رتبوا فيه الرجال على طبقاتهم، وأنزلوهم على المراتب المتفاوتة من العدالة والضبط، ووزنوهم في كفتي التجريح والتعديل،٩ وحاسبوهم على كل دقيق وجليل، وبحثوا فيما كان من أمرهم على العزيمة وما كان على الرخصة، وحفظوا أسماءهم وتبينوا صفاتهم، وتصفحوا على أخلاقهم، كما يعرف الرجل الحكيم مثل ذلك من بنيه وأقرب الناس إليه.

وهذا شأن لا تصوره الكلمات، ولا يصفه إلا النظر في كتبه المدونة، كالكتب الموضوعة للطبقات والموضوعات وشروح الأمهات من كتب الحديث، كصحيح البخاري ونحوه.

وقد قال دغفل بن حنظلة: «إن للعلم أربعًا: آفة، ونكدًا، وإضاعة، واستجاعة؛ فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لم تشبع منه.» قال الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرواة، ولأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبُّر ما قد دوَّنوه، كان ذلك الازدياد داعيًا إلى النقصان، وذلك الربح سببًا إلى الخسران … ا.ﻫ. والازدياد الذي وصفه كان شأن طائفة من العلماء انصرفوا إلى حفظ الأسانيد وطلبوا الحديث الواحد من طرق كثيرة، رغبةً في تنوُّع أسانيدها، لا لفائدة إلا التميز بهذا النوع من الحفظ، فإنه بعد أن اتسعت فنون الرواية أخذ أهلها في مذاهب التخصيص، فبعضهم كان أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ لمتون الألفاظ؛ وكل طائفة إنما تشارك غيرها فيما تعلمه وتنفرد دونها بما عرفت به، ليكون إليها المرجع فيه. ولكن أغرب ما وقفنا عليه مما يتعلق بالاتساع في حفظ الأسانيد، ما ذكروه من أن ابن الأنباري المتوفى سنة ٣٢٧ كان يحفظ ١٢٠ تفسيرًا للقرآن بأسانيدها،١٠ وهو الذي قيل فيه: إن من جملة تصانيفه كتابًا في غريب الحديث يقع في خمسة وأربعين ألف ورقة، وله أخبار أخرى من نوادر الحفظ نذكر بعضها في محله. وهذا الرجل لو سمع أو قرأ مائتي تفسير بأسانيدها لحفظها؛ فإنه كان آية من آيات الله في الوعي وقوة الحافظة.

وبعد أن ضعف علم الرواية واقتصروا في الحديث على ما لا بد منه، كان لا ينبغ من حفاظ الأسانيد المتسعين فيها إلا الأفذاذ الذين تعقم بهم الأزمنة المتطاولة؛ ومن أشهرهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية الأندلسي المتوفى سنة ٦٣٣ وقد انفرد هذا الرجل بحفظ حوشي اللغة، حتى صار عنده مستعملًا، وامتاز بذلك في المتأخرين، كما انفرد بحفظ الأسانيد، حتى إنه لما حضر إلى مصر في دولة بني أيوب — أيام الملك الكامل — جمعوا له علماء الحديث فذكروا له أحاديث بأسانيد حوَّلوا متونها ليعرفوا مبلغ حفظه فأعاد المتون المحولة وعرّف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية وردها إلى أسانيدها الصحيحة.

وكان مثل هذا يعد غريبًا في القرن الثالث، والحفاظ متوافرون، والأسانيد قريبة الأطراف، فإن علماء مصر الذي امتحنوا أبا الخطاب إنما حذوا في ذلك حذو علماء بغداد في امتحان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح المتوفى سنة ٢٥٦ رحمه الله؛ فقد نقل كثير أنه لما قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا من هذا الإسناد آخر، وإسناد هذا لمتن آخر، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس؛ امتحانًا لحفظه، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من العشرة التي حفظها؛ فقال: لا أعرفه! واستمروا يسألونه وهو يقول: لا أعرف! حتى أتوا على المائة! فلما علم أنهم فرغوا، التفت إلى الأول: فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت فيه كذا وصوابه كذا؛ واستمر حتى أتى على تمام العشرة، ثم فعل بالآخرين مثل ذلك، ما يخطئ ترتيب حديث على غير ما ألقي عليه، ولا في نسبة حديث إلى غير صاحبه الذي ألقاه، وهو في كل ذلك يردّ كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه؛ فأقرّ الناس له بالحفظ. وقيل: إنه كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطته، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن؛ فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة، لا في الإسناد ولا في المتن؛ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.١١

حفظ الأسانيد في الأدب

ذلك شأن الإسناد في الحديث وعنايتهم بحفظه، أما الإسناد في الأدب فلا يراد منه إلا توثيق الرواية وإثبات صحتها وضمان عهدتها، لا أن يطلب الرواية بذكر الإسناد حكاية ما يرويه على أنه عن معدل، وإثبات ما يسنده على أنه إلى مقنع؛ فإن اللغة ترجع إلى أقيسة معروفة، وإن ما شذَّ عن هذه الأقيسة موضوع قطعًا إلا أن يحمل عن الثقة، أو ينفرد به أهل الكفاية فيوردونه على أنه من الأفراد والنوادر؛ وإن الشعر والخبر قد فشا فيهما الكذب والتوليد منذ القرن الأول، ونشأ كثيرون من الرواة يشدون من العلوم الموضوعة، وينفقون من الأخبار المكذوبة، ويموِّهون بمزج هذه الأمور على الناس، ويخترعون الأشعار الكثيرة عند مناقلة الكلام وموازنة الأمور؛ ومع ذلك فلم يُعْنَ بأمرهم أهل التفتيش والتحقيق من العلماء، إلا حيث يكون الخبر أو الشعر مظنة الشاهد وموضع المثل، فهناك يضربون دونه بالإسناد؛ مخافة أن يجري في شيء من العلوم التي هي قوام الأصلين من الكتاب والسنة؛ فحيث وجدت المعنى الديني تجد التثبت والتحقيق الذي لا مساغ فيه إلى خطرات الظنون، فضلًا عن فرطات الأوهام؛ ومتى انتفى هذا المعنى عن شيء فأمره عندهم بحساب ما يدور عليه. وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبره بما وضعه العلماء من ترجمة الإمام البخاري ونقد كتابه؛ فما رأينا في الإسلام كتابًا استوفى شروط النقد الصحيح كلها كهذا الكتاب،١٢ ولو أنهم تناولوا ببعض تلك العناية كبار الرواة وفحول الشعراء ونوابغ الكتاب، لكانت العربية اليوم أغنى اللغات آدابًا وأمتنها أسبابًا وأوسعها في تاريخ الآداب كتابًا؛ ولكن الأدباء لم يجنوا من ذلك إلا ثمرة المراء ونكد الخلاف، ولم يُحصِّلوا إلا الأشياء القليلة مما يتعلق باللغة، لأنها موضع الشاهد؛ وذلك من أمرهم كما أومأنا إليه، بل كان أهل الشعر منهم يرون أنهم أضاعوا العمر في الباطل، ولم يحلوا من ثواب الأعمال بطائل.١٣

والأسانيد في الأدب قصيرة؛ لأن الرواة ما زالوا يحملون عن العرب قرونًا بعد الإسلام على ما سبق لنا بيانه في الباب الأول، ومن حمل شيئًا فهو سنده؛ ثم إن الرواية قد درست بعد القرن الخامس على أبعد الظن، ولم يبق إلا بعض الأسانيد العلمية كما سيجيء فكان عُمْر الإسناد ثلاثة قرون على الأكثر؛ دع عنك ما كان من شأنهم في هذا الإسناد؛ فإن الصدور منهم يكتفون بالنسبة غالبًا — وهي بعض طرق الرواية كما ستعرفه — فيقولون: روينا عن فلان، وحُدِّثنا عن فلان، ويكون بين الراوي والمروي عنه جيلان وأكثر.

بيد أن كل ذلك لا يدفع الثقة بما يرويه أهل الضبط والتحصيل منهم، وهم قوم معدودون يعرفونهم بالعدالة، ثم لأنهم يأخذون عن الثقات، ولأن أكثر ما يروونه لا وجه للخلاف فيه، وإذا اختلفوا في شيء فلا يكون ذلك قادحًا فيهم؛ لأن مظنة الخلاف إنما تكون في ضعف الرواية أو الراوية، وسيأتي شرح ذلك فيما يأتي.

أصل التصحيف

وقد قلنا: إن الإسناد في الحديث استتبع الإسناد في الأدب، وذكرنا في أخذ المحدِّثين عن الصحف أنهم يُغْمَزُون بذلك، وإن كان ما في الصحيفة صحيحًا، فيقولون مثلًا: إن فلانًا ثقة وبعض روايته صحيفة،١٤ وقد جرى أهل الأدب في أمر الإسناد على ذلك أيضًا. وأصل التصحيف رواية الخطأ عن قراءة الصحف باشتباه الحروف؛ فقد كانوا يكتبون في القرن الأول بدون نقط ولا شكل، يفعلون ذلك في المصاحف وغيرها؛ فكان الذي يأخذ القرآن من المصحف ولا يتلقّاه من أفواه القراء تشتبه عليه الحروف فيصحِّف، وغَبَر الناس على ذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان، ففزع الحجاج إلى كتّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات؛ فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط، فغبر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلا منقوطًا، وكان أبو الأسود قد وضع النقط قبل نقط نصر لضبط الحروف — شكلها — فاشتبه الأمر واستمر يقع التصحيف؛ فأحدثوا الإعجام — أي الشكل بالحركات على ما أرادوه في أول التعبير بذلك — فكانوا يتبعون النقط بالإعجام. ولكن ذلك لم يكن مستقصى في كل ما يكتب ولا كان كل من يقرأ يستقصي ضبط الكلمة ونقطها،١٥ فلم يزل يعتري التصحيف؛ فالتمسوا حيلة فلم يقدروا على غير الأخذ من أفواه الرجال؛ وكان ذلك كله قبل أن تستبحر فيهم الرواية؛ فلهذا وأشباهه قالوا: لا تأخذوا القرآن من مُصحفيّ، ولا العلم من صُحُفيّ!
ولما استجرّت لهم أطراف الرواية وكثر التدين، كان أشد ما يهجى به الراوية إسناده إلى الصحف؛ لأن ذلك غميزة في ضبطه وتحصيله، ولأن الرواة كانوا يتفاوتون بمقدار ما يُصحِّفون أو يصححون؛١٦ ولا يكون التصحيح إلا بلقاء العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم المتقنين لما حفظوه والإسناد إليهم؛ وقد هجا بعض الشعراء أبا حاتم السجستاني المتوفى سنة ٢٥٠، وهو واحد عصره في فنه، فلم يزد على أن قال في عيبه والزراية عليه:
إذا أسند القوم أخبارَهم
فإسناده الصُّحْف والهاجِسُ

وأورد العسكري في موضع من كتابه (التصحيف) شرح بيت لابن مقبل، فنبه قبل إيراده على أنه كتبه من كتاب لبعض العلماء، قال: «ولا أضمن عهدته، لأني لا أعتد إلا بما أخذته روايةً من أفواه الرجال أو قرأته عليهم.»

فلما كان القرن الخامس وابتدأت الرواية تعفو وتجود بأنفاس أهلها، بعد أن تميزت العلوم ووضعت فيها الكتب الكثيرة، ودُوِّنت روايات الصدور المتقدمين — ضعف أمر الإسناد شيئًا غير قليل، ولكن بقيت فيه بقية يتماسك بها، حتى إن أبا محمد الأعرابي المعروف بالأسود العلَّامة النسابة الذي تصدر في القرن الخامس للرد على العلماء والأخذ على القدماء كان لا يستطيع أن يروي بغير إسناد؛ فكان يُسند إلى رجل مجهول يسميه (محمد بن أحمد أبا النداء)، وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيِّره بذلك ويقول: من أبو النداء في العالم؟ لا شيخ مشهور ولا ذو علم منشور!١٧

إسناد الكتب

ومن يومئذ صار أمر الإسناد مقصورًا على تلقِّي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها؛ لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل، وكان أمرهم قد اختلّ، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئًا، وذلك ما سميناه آنفًا بالأسانيد العلمية. وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفًا من أول عهد التأليف، ولكنه لم يكن مما يُتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفَّى سنة ٣٣٥ يتباهى عظيمًا بكتبه وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع! وقد هُجِيَ بذلك لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد.١٨

ومن ثم صاروا يطلقون لفظ (الصُّحُفي) على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي (في أواخر القرن الخامس)، وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحُفيًّا.

وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة ٥٨٥ آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحلّ مُشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حسِّه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور، وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال: أنت صحفي! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من إربل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السّرّاج وكثيرًا من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجةً به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام.١٩
ومن كان ثقة مسنِدًا للكتب، وفاته إسناد كتاب مما يعدّه الناس من الأمهات والأصول، عدّوه متساهلًا في الرواية، وقد نقل ياقوت أن عليّ بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلِّيّ (من صقلية) إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة ٥١٥، لما قدم إلى مصر سأله نُقَّاد المصريين عن كتاب الصّحاح، فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركَّب لهم إسنادًا وأخذه الناس عنه مقلِّدين له.٢٠ ولهذا قلما كان يظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد؛ وقد ذكروا أن بعضهم كأن يقرأ المقامات على الحريري (توفي سنة ٥١٦) فوصل إلى قوله:
يا أَهْلَ ذا المَغْنَى وُقِيتُمْ شرًّا
ولا لَقِيتُم ما بَقِيتُم ضَرًّا
قد رفع الليلُ الذي اكفهرّا
إلى ذَراكم شَعثًا مُغبرًّا
فقرأها (سَغِبًا مُعْتَرًّا) ففكر الحريري ساعةً ثم قال: «والله لقد أَجَدْتَ التصحيف، فرب شَعْث مُغْبَرّ٢١ غير سَغِب مُعْتَرّ، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت عليّ لغيَّرته كذلك!»

ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب العربية معروفًا عند كتاب العلماء إلى اليوم.

هوامش

(١) وقد ذكر صاحب الأغاني هذا الخبر من رواية عمر بن شبة. ثم قال: وفي غير رواية عمر بن شبة أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، أو ما سمعها قط إلا تلك المرة صفحًا، فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط! فقال: لكني ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب عليه السلام!
(٢) لم يكتب أبو الأسود إلا هذه الصحيفة، وكان أصحابه يكتبون عنه، ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أنه رأى في مكتبة عند بعضهم قمطرًا كبيرًا في نحو ٣٠٠ رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصري وورق صيني وورق تهامي وجلود أدم وورق خراساني، وفيها خطوط بعض الصحابة؛ وبينها أربعة أوراق قال: «أحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر.» ويحيى هذا من أبرع أصحاب أبي الأسود، وسنذكره أمره بعد. أما أول كتاب وضع في النحو على التحقيق، فهو الكتاب الذي وضعه نصر بن عاصم الليثي النحوي من أصحاب أبي الأسود، وتوفي سنة ٨٩ — ذكره ياقوت.
(٣) في طبقات الأدباء: روي هشام بن الكلبي قال: عاش عبيد بن شربة ٣٠٠ سنة؛ وأدرك الإسلام فأسلم، ثم ساق له خبرًا مع معاوية ما نحسبه إلا حديث خرافة، وقد ذكر ابن قتيبة (في التأويل) ما تناقلوه في عمر لقمان صاحب النسور الذي زعموا أنه عاش أعمار سبعة أنسر، وكان مقدار ذلك ٢٤٥١ سنة، فقال: وهذا شيء متقادم لم يأت فيه كتاب ولا سنة وليس له إسناد، وإنما هو شيء يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النسابين … على أن ابن قتيبة بعد هذا الذي أنكره (صحح) بإسناده إلى أبي عمرو بن العلاء أن المستوغر بن ربيعة عاش ٣٢٠ سنة …
(٤) لم يؤلف أحد في مثالب العرب كعلان الشعوبي، وأصله من الفرس. وكان ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة. فقد عمل كتاب (الميدان) في المثالب هتك فيه العرب وأظهر مثالبها وفضح أشهر قبائلها.
أما قبل علان فقد كان كتاب زياد أول كتاب من نوعه، ثم ثنى عليه الهيثم بن عدي، وكان دعيًّا، فأراد أن يعر أهل الشرف تشفيًا منهم، ثم لما كان هشام بن عبد الملك بن مروان أمر النضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي أن يبينا مثالب العرب ومناقبها، وقال لهما ولمن ضم إليهما: دعوا قريشًا بما لها وما عليها، فوضعا كتابًا ليس فيه لقريش ذكر. وقد وضع قوم آخرون كأبي عبيدة وابن غرسية الأندلسي كتبًا في المثالب، ولكنهم لم يبلغوا من النسبة التاريخية مبلغ من ذكرنا، وسنأتي على شيء من هذا المعنى وتفصيل أسبابه في بعض الفصول من باب الشعر.
(٥) قالوا: إن أبا عمر تنسك في آخر أيامه فأحرق هذه الكتب، وكان ذلك دأب طائفة من العلماء: يتورعون أن يأخذ الناس عنهم ما عدوه من سيئات أنفسهم فيسندوه إليهم، وقد يكون فيه الباطل والموضوع والمنكر وما لا يعرفه إلا صاحبه؛ ومنهم من كان يغسل كتبه لأنها جلود، وأغرب ما وقفنا عليه أن حافظ أهل الكوفة ومحدثها محمد بن العلاء بن كريب المتوفى سنة ٢٤٣ (أي بعد أن نضجت العلوم) أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت … فإن لم يكن هذا الحب الميت فلا ندري ماذا يكون. وقد ظهر لمحمد هذا بالكوفة ٣٠٠ ألف حديث، قالوا: وكان ثقة مجمعًا عليه.
(٦) ورواة الأدب هم الذين جعلوا غريب الحديث علمًا وخصوه بالتدوين، وأول من فعل ذلك منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة ٢١١ وقد ناهز المائة؛ فإنه جمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابًا صغيرًا ذا أوراق معدودة، لبقية من المعرفة كانت في الناس يومئذ، ولأنه مبتدئ مثالًا جديدًا؛ ثم جمع النضر بن شميل المتوفى سنة ٢٠٤ كتابًا أكبر من ذاك شرح فيه وبسط، ثم الأصمعي المتوفى سنة ٢١٣، ثم قطرب المتوفى سنة ٢٠٦، ثم وضع أبو عبيدة القاسم بن سلام المتوفى سنة ٢٢٤ كتابه الذي قرر به هذا الفن، جمعه في أربعين سنة وكان خلاصة عمره، لأنه تتبع الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين فجمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها وحفظ رواتها، ثم تعقبه ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ فتتبع ما أغفله في كتاب ذي مجلدات عدة؛ وتتابع أهل اللغة بعد ذلك على التصنيف في هذا الفن مما لا محل لبسطه في هذا الموضع.
(٧) رأينا في كثير من الكتب أن أبا عمرو بن العلاء روى عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية؛ وذلك خطأ ركبه النساخ، والصواب أنه روى عن أعراب قد أدركوا أعراب الجاهلية؛ بأن أبا عمرو ولد سنة ٧٠ وتوفي سنة ١٥٩ على الأكثر في التاريخين، وكان لا يأخذ إلا عن العرب؛ قال الأصمعي: جلست إليه عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي.
(٨) اختلف علماء الشعر في شرح هذا البيت، حتى تحدث الأصمعي عن أبي عمرو قال: كنت أسأل منذ ثلاثين سنة عن هذا البيت فلم أجد أحدًا يعلمه، حتى رأيت أعرابيًّا بالبادية فسألته عنه ففسره لي. ومعنى نطعنهم سلكى: أي طعنًا مستويًا، وقيل: السلكى: على القصد أمام وجهك، والمخلوجة: المعوجة عن يمين وشمال، والكر: أي الرد، واللامان: السهمان، والنابل: صاحب النبل.
وقال القتيبي: إنما هو «كر: كلامين» أي تكرير كلام، بمعنى قول القائل للرامي: ارم ارم، أي ليس بين الطعنة إلا بمقدار اللفظتين، وقال زيد بن كندة: يريد أنه يطعن طعنتين مختلفتين ويوالي بينهما كما يوالي هذا القائل بين هاتين الكلمتين.
(٩) مما يشترطونه في راوية الحديث: أن يكون عدلًا ضابطًا، وقد اختلفوا في تعريفهما اختلافًا كثيرًا يناسب خطر ما يبنى عليهما، حتى ردوا العدالة مرد الملكات الثابتة في النفس، لأن مبناها على الأخلاق التي تعصم من الكذب والابتداع، واصطلحوا على أن الضابط هو الذي يقل خطؤه في الرواية ووهمه فيها بحيث يوافق الثقات فيما يرويه، ويسمون ذلك إتقانًا أيضًا، أما الثقة فهو الذي يجمع بين العدالة والضبط. ولا يقبلون من مجهول العدالة، كما لا يقبلون من مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء؛ ولكل ذلك شروط وأقسام كان المتقدون يتشددون فيها، فلما تأخر الزمن وتشعبت طرق الإسناد وكثر الرجال وقت شروط العدالة البالغة، وذلك حوالي المائة العاشرة، ترخص المحدثون في تلك الشروط، واكتفوا بأن يعتبروا في راوي الحديث الإتقان وحسن الأحدوثة ونحو ذلك، حتى لا تنفصم سلاسل الإسناد إذا فرض أنه لم يكن بد من إحلال أحد رجالها المتأخرين بما اشترطه المتقدمون.
ولألفاظ التعديل عندهم مراتب: أعلاها قولهم:
  • (١)

    ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة.

  • (٢)

    خير صدوق مأمون لا بأس به.

  • (٣)

    شيخ.

  • (٤)

    صالح الحديث.

ولألفاظ التجريح مراتب أيضًا: أدناها:
  • (١)

    لَيِّن الحديث.

  • (٢)

    ليس بقوي، وليس بذلك.

  • (٣)

    مقارب الحديث، أي رديئه.

  • (٤)

    متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواه. وواه بمرّة، أي قولًا واحدًا لا تردد فيه ‎…‎

وبعض هذه الألفاظ يستعمله الأدباء، ولذلك ذكرناها حتى تعرف مراتبها. ومتى انتهينا إلى الكلام في علم الرواية وتدوينه نذكر أول من تكلم في الرجال جرحًا وتعديلًا.
(١٠) مر بك أن أول من صنف التفسير بالإسناد، مالك بن أنس (رضي الله عنه)، ثم صار من بعده طريقة المحدثين، حتى ليقِلّ أن تجد حافظًا منهم لا تفسير له.
(١١) سورة الحديد: ٢١.
(١٢) قالوا: إن الذين سمعوا كتاب البخاري من مؤلفه روايةً، تسعون ألف رجل، كلهم روى عنه وأسند إليه؛ فتأمل!
(١٣) سيأتي لهذا المعنى مزيد من البيان في موضع آخر.
(١٤) أصل تجويزهم الرواية من الصحيفة والإسناد بها إلى صاحبها، أن رسول الله أملى صحيفة الزكاة والديات، وهي التي كانت عند أبي بكر (رضي الله عنه) — وقد أشرنا إليها — ثم صار الناس يخبرون بها عنه، لأنها انتهت إليهم بطريق المناولة، وهذا هو أصل الإجازة التي هي من طرق الرواية كما سنبينه. وقد وقفنا على أخباره مما يتعلق بالصحف المروي منها أضربنا عن ذكرها اختصارًا.
(١٥) وقفنا على أسماء بعض علماء ذكروا أنهم كانوا يخطئون إذا قرأوا القرآن نظرًا؛ فمن أشهرهم أبو صالح مولى أم هانئ، أخذ عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وكان مفسرًا؛ فكان الشعبي يراه فيقول: تفسِّر القرآن ولا تحسن أن تقرأه نظرًا! وحماد الراوية: ذكر العسكري أنه كان يصحف نيفًا وثلاثين حرفًا من القرآن. وأبو عبيدة الراوية، قال ابن قتيبة في المعارف: وكان يخطئ إذا قرأ القرآن نظرًا؛ فإذا كان هذا بعض شأنهم في القرآن وهم يحفظونه ويفسرونه، فالشأن في غير القرآن أعجب، ولم يزل هذا التصحيف من أمر من لم يعتادوا القرآن إذا قرأوا.
(١٦) أحصى العسكري المتوفى سنة ٣٨٢ في كتابه (التصحيف والتحريف) ما وهم فيه جلة العلماء وأفراد الرواة من البصريين والكوفيين، وكتابه أجمع ما وضع في هذا الباب، وقد طبعت منه قطعة في مصر.
(١٧) قال ياقوت (عن أبي محمد الأعرابي): كان علامة نسابة عارفًا بأيام العرب وأشعارها وأحوالها … وكان لا يقنعه أن يرد على أهل العلم ردًّا جميلًا، إنما يجعله من باب السخرية والتهكم وضرب الأمثال … وقال: رأيت في بعض تصافيه وقد قرئ عليه سنة ٤٢٨. والعجيب أن ياقوتًا ترجم أبا النداء المجهول وقال: واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها … ثم صرح أنه استدل على ذلك برواية الأسود عنه في كل كتبه … مع أنه لا يعرف له شيخًا ولا تلميذًا غير الأسود هذا!
(١٨) المحدثون يشترطون مع سماع الكتب مقابلة ما يكتبه المحدث بأصل شيخه الذي كتب عنه، أو بأصل أصل شيخه المقابل به، بشرط أن يكون الأصل الثاني قوبل على الأول، أو بفرع مقابل بأصل السماع، وليس من هذا شيء في الأدب.
(١٩) كان موفق الدين مفتنًا في العلوم، ولكنه كان الآية الكبرى في العربية، وقالوا: إنه لما رحل إلى بغداد أخذ معه جملة لينفقها على النحو، فلم يجد من يرضيه علمه فأنفقها على تعلُّم الضرب بالعود … وكان مكي الذي انتمى إليه يراجعه في المسائل المشكلة يرجع إلى رأيه في أجوبة ما يورد عليه.
(٢٠) أول من أدخل كتب اللغة والنحو إلى مصر ورواها بأسانيدها هو الوليد بن محمد التميمي النحوي المشهور بولاد، وأصله من البصرة، ولكنه نشأ بمصر ثم رحل وأخذ عن المهلبي تلميذ الخليل بن أحمد وغيره، وروى كتب اللغة والنحو ولم يكن بمصر قبله شيء منه، وتوفي سنة ٢٦٣، وسنذكر في تاريخ الأدب الأندلسي أول من أدخل كتب الأدب إليها.
(٢١) وهو معنى الحديث الذي رواه مسلم في البر والصلة والآداب (٢٦٢٢/١٣٨)، والحاكم (٤/٣٢٨)، وفيه «رب أشعث أغبر …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤