علم الرواية

ذلك بدءُ الرواية وسببها ومعناها وخطرها، أما اعتبارها على أنها علم بأصول قد أفردوه بالتدوين، فلم يكن إلا في الحديث خاصةً، وكانوا يسمونه قديمًا «علم أصول الحديث»، وسماه المتأخرون «مصطلح الحديث»١ وكانت أصوله مقررة في منتصف القرن الثاني كما علمت مما أوردناه عن رواية الإمام مالك بن أنس (رضي الله عنه)، ولكنهم اكتفوا من ذلك بالاصطلاح ومعنى العُرف؛ لأن من العرف ما يكون علمًا.

وأول من قرر شروط الرواية، ابن شهاب الزهري الذي جمع الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز كما مَرّ، ثم كان أول من تكلم في الرواة جرحًا وتعديلًا شعبة ابن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠، وذلك بعد أن دوَّنوا الحديث والتزموا فيه بالإسناد، وكان شعبة هذا يرى أنه في الشعر أسلم منه في الحديث حتى قال لأصحابه: «لو أردت الله ما خرجت إليكم، ولو أردتم الله ما جئتموني، ولكنا نحب المدح ونكره الذم» فمن ثَم تنبّه إلى أسباب الجرح والتعديل في الرواة على ما نظن، وكثيرًا ما تجود عيوب النوابغ بالقواعد التي تُعَدُّ من محاسن العلوم.

ثم كان أول من صنف في هذا العلم القاضي أبو محمد الرامَهُرْمُزي المتوفَّى سنة ٣٦٠، وضع فيه كتاب «الفاصل بين الراوي والواعي»، واستوعب فيه أكثر ما يتعلق بعلوم الحديث، قال ابن حجر: وهذا في غالب الظن؛ وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه. ولعله يشير بهذه الأشياء إلى ما كتب عن الزهري وشعبة، ثم إلى مصنف الإمام مسلم صاحب الصحيح المتوفى سنة ٢٦١ في علل الحديث، ونحو ذلك مما ذهب علمُه عن المتأخرين.

وجاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٥؛ فتصدى للتأليف في معرفة علوم الحديث، وتناول روايته ورواته، وأبدع في ذلك ما شاء الله، واحتذى مثاله أفراد ممن جاءوا بعده، ولكنهم لم يبتدعوا شيئًا جديدًا.

أما في الأدب فلم تكن الرواية علمًا متميزًا، وإنما كانوا يُجْرُون عليه ما يناسبه من علوم الحديث، وتكلموا في ذلك، وأكثر ما ورد منه مدونًا كان في كتب أصول النحو التي دُوِّنت في القرن الرابع وما بعده، ككتاب الخصائص لابن جني المتوفى سنة ٣٩٢، ولُمَع الأدلة لكمال الدين بن الأنباري المتوفى سنة ٥٧٧، وهو أجمع الكتب في ذلك؛ ثم كتاب اللمع الجلالية في كيفية التحدث في علم العربية لعثمان بن محمد المالقي المتوفى سنة ٦٣٥ وغيرها، إلى أن جاء العلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١، فحاكى علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، ووضع في ذلك كتابه المزهر في علوم اللغة؛ وهو متداول مشهور.

ولما أوجبوا الإسناد قديمًا في نقل اللغة لوجوبه في الحديث، إذ بها معرفة تفسيره وتأويله، وكانت اللغة قائمة بالشعر والخبر وهما يرويان عن الرجال والصبيان والعبيد والإماء من العرب — كان لا بد من أن يتناولوا مصطلحات الحديث؛ فاشترطوا في ناقل اللغة العدالة بحسب ما يناسب اللغة؛ ولذا قبلوا نقل أهل الأهواء والمبتدعين ممن لا تكون بدعتهم حاملة لهم على الكذب، ورفضوا المجهول الذي لم يعرف ناقله، كما رفضوا الاحتجاج بشعرٍ لا يُعرفُ قائله؛ خوفًا من أن يكون مولّدًا فتدخل به الصنعة على اللغة.

واعتبروا من اللغة متواترًا وآحادًا ومرسلًا ومنقطعًا وأفرادًا، ونحو ذلك مما بوّب عليه السيوطي في المزهر، ولا بد لفهمه من الرجوع إلى ما اصطلح عليه أهل الحديث؛ ونحن نورد بعض ذلك عنهم بما قلّ ودلّ مكتفين بما يجري على اللغة مما جرى على الحديث.

تقاسيم الرواية:

  • (١)

    (المُتواتِر): وهو الذي يرويه عدد من الناس تُحيل العادةُ تواطأهم على الكذب.

  • (٢)

    (والمُسْنَد): وهو ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه؛ أما ما انقطع سنده فهو (المرسل).

  • (٣)

    (والمنقطع): ما سقط من رواته واحد.

  • (٤)

    (والمُعْضِل): ما سقط من رواته أكثر من واحد.

  • (٥)

    (والمُعَنْعَن): الذي قيل فيه: «عن فلان عن فلان» من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار.

  • (٦)

    (والمُؤَنَّن): قول الراوي: «حدثا فلانًا أن فلانًا قال.» ويشترط فيه وفيما قبله أن يكون المسند إليهم قد لقي بعضهم بعضًا مع السلامة من التدليس.

  • (٧)

    (والغريب): ما انفرد أحد الرواة بروايته، وينقسم باعتبار حالة راويه إلى غريب صحيح، وضعيف، وحسن. وتسمى الكلمات التي ينفرد بها الراوية بالأفراد والآحاد.

  • (٨)

    (والمعلَّل): وهو ما كان ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة لكن فيه علة خفية غامضة تظهر لأهل النقد عند التخريج.

  • (٩)

    (والشاذُّ): ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات.

  • (١٠)

    (والمُنْكَر): الذى لا يعرف من غير جهة روايه، فلا متابع وله ولا شاهد.

  • (١١)

    (والموضوع): ما كان كذبًا واختلاقًا، وهو المصنوع أيضًا، وسنفرد للكلام عليه فصلًا يأتي إن شاء الله.

وظائف الحفاظ في اللغة:

وقد أخذ أهل اللغة في هذه الوظائف أخذ المحدِّثين، واتبعوا سنتهم فيه؛ لتعلق ما كان في اللغة بما كان في الحديث كما علمت، ولأن هذه العلوم كانت سواءً في طلبها لقوام الدين والتماسِها لفضل الاستبانة.

وتلك الوظائف أربع كلها ترجع إلى بث العلم ونشره، وهي:
  • (١) الإملاء: وهذه هي الوظيفة العليا عند المحدثين واللغويين، وطريقتها واحدة عند الطائفتين: يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا٢ في يوم كذا … ويذكر التاريخ، ثم يورد المُمْلَى بإسناده كلامًا عن العرب الفصحاء فيه غريب يحتاج إلى التفسير، ثم يفسره ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره. وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيًا كثيرًا لتحقق معنى الرواية به، ثم مات الحفاظ، وانقطعت الأسانيد، وبطلت أسباب الرواية، واعتمد الناس على الدواوين والكتب المصنفة، فانقطع إملاء اللغة، واستمر إملاء الحديث لوجود الإسناد فيه وتحقق السماع.
    قال السيوطي: ولما شرعت في إملاء الحديث سنة ٨٧٢، وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ أبو الفضل بن حجر٣ أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلسًا واحدًا، فلم أجد له حمَلة ولا من يرغب فيه فتركته. قال: وآخر من عَلِمته أملى على طريقة اللغويين: أبو القاسم الزجاجي؛ له أمالي كثيرة في مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة ٣٣٩، ولم أقف على أمالي لأحد بعده. ا.ﻫ.

    هكذا قال في المزهر؛ وهو بعيد؛ لأن مجالس الإملاء بقيت آهلة إلى منتصف القرن الخامس، وقد أملى كثيرون بعد الزجاجي، وأورد السيوطي نفسه في (بغية الوعاة) في ترجمة الأديب محمد بن أبي الفرج الصقلي المعروف بالذكي، وكان قيمًا باللغة وفنون الأدب، قال: إنه ورد إلى بغداد وخراسان، وجال في تلك البلاد حتى وصل إلى الهند … وحضر مرة (مجلس إملاء) محمد بن منصور السمعاني فأملى المجلس، فأخذ عليه الذكي أشياء، وقال: ليس كما تقول، بل هو كذا؛ فقال السمعاني: اكتبوا كما قال فهو أعرف به، فغيروا تلك الكلمة وكتبوا كما قال الذكي؛ فبعد ساعة قال: يا سيدي، أنا سهوتُ والصواب ما أمليتَ؛ فقال: غيّروه واجعلوه كما كان. فلما فرغ من الإملاء وقام الذكي قال السمعاني: ظن المغربي أني أنازعه في الكلام حتى يبسط لسانه فيَّ كما بسطه في غيري، فسكتُّ حتى عرف الحق ورجع إليه!

    ولكن يمكن أن يقال: إن خاتمة أهل الإملاء على طريقة المتقدمين هو إمام العربية في عصره أبو السعادات بن الشجري المتوفى سنة ٥٤٢، وله كتاب الأمالي في فنون الأدب يقع في أربعة وثمانين مجلسًا.

  • (٢) الإفتاء في اللغة: أي الإجابة عما يسأل عنه اللغوي، وهي وظيفة أدبية لا مجال فيها للتاريخ، وإنما ألبسوه هذا التعبير لأنها تناظر وظيفة من وظائف المحدِّثين والفقهاء؛ ومن أدب المفتي في اللغة أن يقصد التحري والإبانة والإفادة والوقوف عند ما يعلم والإقرار بما لا يعلم، وأن لا يحدث برأيه من غير سماع، وأن يصير في الشيء الذي لا يعرفه إلى من يعرفه غير مستنكف، وأن لا يصرَّ على غلطه إذا أخطأ في شيء ثم بَانَ له الصواب من بعدُ؛ فإن الرجوع عن الخطأ خروج إلى الصواب، وقد وصفوا الذي يصرُّ على خطئه ولا يرجع عنه بأنه (كذاب ملعون). ومتى سُئل عن شيء من الدقائق التي مات أكثر أهلها فلا بأس أن يسكت عن الجواب إعزازًا للعلم وإظهارًا للفضيلة. قالوا: وإذا فسر غريبًا وقع في القرآن أو في الحديث فليتثبت كل التثبت، وليتقصَّ كل الاستقصاء؛ فإنما هو علم لا يراد للمناقشة والشهرة ولا يبتغى به عَرَضُ الدنيا.

    وليس يخفى أن تلك الآداب هي جملة الأخلاق العلمية وجماع الفضائل الأدبية، ولا تكون إلا في العالم الذي يطلب علمه لفضيلته وكرمه، وقد أخذ بها أفاضل المحدِّثين وأماثل الرواة، وبها مُحِّص هذا العلم العربي ونما وطرح الله في ألسنة أهله البركة، وله سبحانه الحمد والمنة.

  • (٣ و٤) الرواية، والتعليم: والمراد بهما أن يتعلم ويعلّم، فيُخْلص النية في طلب العلم والتماسه، ولا يبتغي من تعليمه المنالة والكسب، وإنما يقصد إلى نشره وإحيائه، فيلزم جانب الصدق، ولا يفتأ يتحرى لنفسه وينصح لغيره، وإذا كبر ونسي ولم يجد له عزمًا وخاف التخليط أمسك عن الرواية ليتحقق إخلاصه؛٤ وقد نقلوا أن الرياشي رأى أبا زيد الأنصاري وقد قارب من سنِّه المائة؛ فاختلَّ حفظه وإن لم يختل عقله، فأراد أن يقرأ عليه كتابه في الشجر والكلأ، فقال له أبو زيد: لا تقرأه عليّ فإني أُنسيته.

تلك وظائف الحفاظ، وهي متداخلة ترجع إلى معنى واحد، غير أن بينها فروقًا في آداب الرواية، وأدناها كلها عندهم التعليم؛ لتعلق الحفاظ عليه، ولابتغائهم به الوسيلة إلى الرزق في الأعمّ الأغلب، وذلك ما لا ينبغي أن يتواضع له شرف العلم الإلهي، بيد أن كل ما مر إنما ينزل على حكم العرف ويُعتبر بالسنّة المألوفة، فالتعليم اليوم إذا كان على حقه كما نراه في أوربا وأمريكا وفي تلك الوظائف كلها في معنى الفائدة.

طرق الأصل والتحمل

والمراد بهذه الطرق، الاصطلاحات التي تثبت بها اللغة لمن يأخذها وتصح روايته عند الأداء، وهي أيضًا من أوضاع المحدِّثين، ولهم فيها كلام مستفيض، وعندهم لها علامات خاصة بالأسانيد والصَّبْغ لم تجر على اللغة ولا محل لبسط الكلام عليها.

وطرق الأخذ في اللغة ست، نذكرها توفيةً للفائدة، وليتبين بها القارئ مواقع الأخبار من درجات الرواية فيما يقرؤه منشورًا في كتب الأدب، ثم ليعلم ما كان يرمي إليه العلماء بهذه الاصطلاحات التي يراها متشابهة في الدلالة وبينها عندهم اختلاف؛ وهي:
  • (١)

    السماع من لفظ الشيخ أو العربيّ، وللمتحمّل بهذه الطريقة عند الأداء صِيَغٌ تتفاوت بحسب منزلة الرواية، فأعلاها أن يقول: أملى عليّ فلان، ويليها: سمعت فلانًا، ويلي ذلك أن يقول: حدثني أو حدثنا فلان، ثم أخبرني أو أخبرنا فلان، ثم قال لي فلان، ثم قال فلان (بدون الإضافة إلى نفسه)، ومثله زعم فلان؛ ويلي ذلك قول الراوي عن فلان، ومثلها إن فلانًا قال.

    وهذا في اللغة والخبر، أما في الشعر فيقال: أنشدني وأنشدنا، وقد تستعمل فيه بعض تلك الاصطلاحات أيضًا.

    والسماع أصل الرواية؛ ولكن علماء البصرة كانوا يأنفون أن يأخذوا عن علماء الكوفة أو يسمعوا من أعرابهم٥ قالوا: وأول من أحدث السماع بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية (وهو كوفي) فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه.
  • (٢)

    القراءة على الشيخ، ويقول عند الرواية: قرأت على فلان.

  • (٣)

    السماع على الشيخ بقراءة غيره، ويقول عند الرواية: قرأ عليّ فلان وأنا أسمع، أو أخبرني قراءة عليه وأنا أسمع.

  • (٤)

    الإجازة: وهي في رواية الكتب والأشعار المدوّنة، وقد أشرنا إلى أصلها في الكلام على معنى الصحفي، وتكون الإجازة بكتاب معيَّن وتكون بغير معيَّن، كقول الشيخ: أجزْتُك بجميع مسموعاتي ومروياتي.

    وعند المحدِّثين أنواع من الإجازة يبطلونها ولا يعملون بها، كإجازة الراوي من يولَد له أو إجازته بما لم يتحمله بوجه صحيح في الرواية كالسماع ونحوه.

    ولما بطلت الرواية صارت النسبة إلى الشيوخ محصورة في الإجازة؛ فتهافت الناس عليها، وصار الأمراء يطلبونها للمباهاة، وكبار العلماء في الأقطار المتباعدة يُقارض بها بعضهم بعضًا، وتفنّن العلماء في كتابتها وتجويد إنشائها، وقد بقي العمل بها في كتب الحديث والعربية إلى قريب من هذه الغاية حين قامت مقامها «الشهادات».

    ومن أراد أن يقف على صورة من أحسن ما كتب فيها فليقرأ إجازة حافظ عصره الإمام أثير الدين بن حيان الأندلسي المتوفَّى سنة ٧٤٥، للصلاح الصفدي الأديب البارع؛ وقد ساقها برمتها صاحب (نفح الطيب) في الجزء الأول من كتابه في ترجمة أثير الدين المُومَأ إليه.

  • (٥)

    المكاتبة: وذلك أن يكتب الراوية الثقة إلى غيره أبياتًا أو خبرًا فيروي ذلك عنه.

  • (٦)

    الوجادة: وهي أن يسوق ما يرويه على أنه وجده في كتاب؛ وهذا هو أضعف وجوه الأخذ؛ لأنه لا ضمان فيه لعهدة المرويّ، وإنما اضطروا إليه حين كثرت الكتب.

هذه هي طرق الرواية، وكان الرواة إلى آخر القرن الرابع يبالغون في بيانها، ويقرنون كل خبر بطريقته؛ انتقاءً من الظنة، وقيامًا بحقوق العلم، وحياطة لهذا الأدب الذي اصطلحوا عليه؛ ثم ضعف الأمر في القرن الخامس، ثم صار العلم كله (وِجادة)، وعاد أولُ هذا الأمر آخره.

هوامش

(١) أخذوا التسمية الأولى من أصول الفقه، وهو العلم الذي استنبطه إمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله (١٥٠–٢٠٤). أما الثانية فقد أخذها المتأخرون عن الكتاب؛ لأنهم كانوا يطلقون منذ القرن الثامن لفظ «المصطلح» على ما اصطلحوا عليه من آداب الكتاب الديوانية وآلاتها.
(٢) كان العلم كله مسجديًّا، وأول من بنى المدارس في الإسلام نظام الملك، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من الكتاب، ثم بنيت دور خاصة بعلم الحديث، وأول من بناها نور الدين صاحب دمشق المتوفى سنة ٥٦٩، وقد بنى غيرها مدارس كثيرة لأهل المذاهب، ثم حذا حذوه السلطان الصالح بمصر، فهو أول من بنى دار الحديث فيها.
(٣) ابن حجر هو إمام الحفاظ في زمنه، انتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث، فلم يكن في الدنيا بأسرها من يذكر معه في ذلك، وتوفي سنة ٨٥٢، وأملى أكثر من ألف مجلس؛ وكانت سنة الإملاء في الحديث قد دثرت قبله أيضًا؛ فأحياها حافظ عصره الإمام زين الدين العراقي المتوفى سنة ٨٠٦، وقد ابتدأ الإملاء من سنة ٧٩٦. وهو أحد الخمسة الرؤساء الذين انفردوا في العالم العربي على رأس المائة الثامنة، وهم: العراقي هذا بالحديث، والشيخ سراج الدين البلقيني بفقه الشافعي، وشمس الدين الغماوي بالنحو والاطلاع على العلوم، ومجد الدين صاحب القاموس، باللغة؛ وسراج الدين بن الملقن، بكثرة التصانيف والفقه في الحديث.
وكان آخر من مات من هؤلاء الرؤساء، صاحب القاموس، فإنه توفي سنة ٨١٧.
ولم نعلم أحدًا جدد إملاء الحديث بمصر بعد السيوطي على سنّة المتقدمين غير الزبيدي شارح القاموس المتوفى بمصر سنة ١٢٠٥؛ أما إملاء اللغة فلم يبقَ له وجه بعد أن وضعت فيه المعاجم الواسعة، ولذا لم يشرح فيه أحد ولا يمكن أن يسمى ما يزاول من مثل ذلك إملاءً بعد انقطاع الأسانيد. والله أعلم.
(٤) هذا إذا نسي الراوية أكثر علمه، أما إن نسي خبرًا أو بعض أخبار فلا. ومن أرقى آداب الرواية أن الحافظ ربما نسي الخبر فيذكره به أحد من رواه عنه عن تلامذته أو غيرهم، فإذا صح عنده وعرف أن هذا الخبر من روايته، رواه ثانيةً، ولكن لا عن شيوخه بل عمن ذكّره به وإن كان تلميذه، إقرارًا بالحق وقيامًا بما اصطلحوا عليه مما سموه شكر العلم، فيقول الشيخ عند رواية ذلك الخبر: حدثني فلان (يعني تلميذه) عني، وحدثني فلان (يعني شيخه الذي روى عنه في الأصل) إلى آخر السند، وذلك شرط عند أهل الحديث، وقد صنفوا كتبًا فيه سموها (رواية الأكابر عن الأصاغر).
(٥) سنفصل هذا المعنى بعد، فإن له موضعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤