الفخر والحماسة

يقول ابن رشيق: إن الفخر هو المديح نفسه، ولكن الشاعر يخص نفسه وقومه. ونحن كذلك نراه قد يكون شطرًا من الهجاء؛ إذ يقصد به التفضيل والترجيح بين الصفات الممدوحة التي يعتز بها والصفات المهجوّة التي يفتخر عليها، أما في الهجاء فهو طبيعي كما ترى؛ لأنه بعض مادته، ولكن مدح النفس مرذول، يدل على سقوط الهمة، وعلى فُسُولَة الرأي،١ وعلى أن المرء يزور من نفسه لسانًا غير مخلوق، وهذا أدخل في باب المذلة والضعة منه في باب الفخر والحمية؛ والصحيح أن هذا الفخر الذي عناه ابن رشيق إنما هو الفخر الصناعي الذي تزيَّد فيه المتأخرون واستظرت به طبيعتهم، فصنعته مديحٌ صرف، وكل من قدر على أن يقول حاتم كريم، فهو قادرٌ بديًّا على أن يقول أنا كريم، وقس على ذلك؛ لأن التاريخ يعتبر دائمًا ميتًا موتًا حقيقيًّا إذا أريد تقليد أعماله الخالدة بالأقوال، فلو كان ذلك يقول: أنا كريم كرم حاتم؛ إنما قال هذا القول في الناس الذين شهروا حاتمًا بالكرم؛ لكان قد وجد التاريخ حيًّا فإما يكذبه أو يصدقه، على مقدار عمله الذي يساوي به عمل حاتم، ولا يكون لكلمته معنى إلا التنبيه على هذه الفضيلة فيه.

فحقيقة الفخر إذن ليست مدحًا كما قيل، ولكنها تأريخ، وسواء في معنى التاريخ فضيلة الفرد وفضيلة الجماعة؛ لأنه كما يكون ظفر الجيش في الحرب نتيجة حوادث كثيرة، كذلك تكون فضيلة الكرم عن حوادث معروفة أنتجت هذه التسمية، والمرء لا يكون كريمًا في العرب بلا شيء، ولا بشيء قليل.

وعلى هذا التأويل نرى الفخر فطرة في العرب، فلا يكاد السيد منهم يأتي عملًا إلا تناوله شاعر قبيلته وفخر به؛ لأنه لسان القبيلة ومؤرخ أحسابها، وإذا فخر أحدهم بفضيلة في نفسه كالشجاعة أو الكرم أو غيرهما، فإنما يكون ذلك في معرض التذكير بهذه الفضيلة واستشهاد التاريخ الحي عليها، أو يكون توطينًا لنفسه وتحميسًا لها بما يهيج من كبريائها، كما يغنِّي الشجاع في الحرب، وكما ينبه عن نفسه عند الضربة القاضية والطعنة النافذة؛ وهذا هو باب الحماسة.

وفيما عدا ذلك فلا يكون في الفخر معنى المديح إلا لأنه فيه معنى الهجاء، كالمنافرات المشهورة في العرب، وكانوا إذا تنازع الرجلان منهم وادعى كل واحد أنه أعز من صاحبه، تحاكما إلى عالم من حكمائهم المحيطين بالأنساب والتاريخ، فمن نفَّر منهما — أي فضل نفره على الآخر — لا يفلح الثاني بعدها أبدًا. والأصل في هذا كما ترى الهجاء لا المدح؛ لأن الذي يقارع الآخر عن حسبه ويكاثره بالأحياء والأموات من أشراف قومه، إنما يريد الغض منه، ليظهر هو وقبيلته بهذه المقابلة، ولو أراد معنى التمدح وحده لقد كان في حسب قومه غنى.

وثمَّ نوع آخر من الفخر عند العرب هو شبيه بالفخر المصنوع في ظاهره لا في حقيقته، وذلك أن العربي يعاف الشيء ويهجو به غيره، فإن ابتَلَى به ملأ ماضغيه فخرًا، ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هَجا به صاحبه، قال الجاحظ: فافهم هذه، فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يَهْجُون به، وهذا باطل، فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين وإذا ذموا ذكروا أقبح الوجهين.٢ ويدخل في هذا النوع باب العيوب الخِلقية كالبرص فإنهم يهجون به، ولكن من ابتُلِي به من شعرائهم ضرب له المثل الذي يستغرقه ويشغل عنه كقول ابن حبناء:
إني امرؤ حنظلي حين تنسبني
لا من عتيك ولا أخوالي العوق
لا تحسبن بياضًا فيَّ منقصة
إن اللهاميم في أقرانها البلق٣

وقس على ذلك، فهذا المدح المصنوع، ولكن عذرهم فيه أنهم اضطروا إليه فرارًا من معنى الهجاء، ومن هذه الجهة اكتسب المديح.

فكيفما أدرنا القول لا نجد هذا الباب خالصًا عند العرب غير مقصود به إلا صنعة الكلام وحدها كما يفعل المولدون، ولذلك لم يغلب هذا النوع على قول الشاعر منهم كما يغلب المديح الهجاء والوصف، بل لم يكد يتميز به بعضهم على بعض، واعتبر ذلك بالأبيات التي يعدونها أفخر الشعر، وقد روى منها ابن رشيق طائفة، فإنك لا تجد لجاهلي بيتًا يبرعها أو يكون منها بمنزلة في الصنعة، وإنما تجد أكثر ذلك للإسلاميين والمولدين.

أما الإسلاميون فقد شاع الفخر في أيامهم، للخلافات التي كانت بين بني هاشم وبني أمية، وبين هؤلاء وبني العباس، ولكنه بُني على الهجاء كما مرّ في منافرات العرب، ولذلك استغرقته الخطب، والكتب ولم تكن سُهمة الشعر منه إلا القليل، وكان منهم من يغري بين الوجوه من الناس وبين العلماء بالأنساب، يحب أن يعرف حالات الناس وعيوب الأشراف، كعبد الله بن عامر، ومصعب بن الزبير؛ قال الجاحظ: فلا جرم أنهما كانا إذا سبَّا أوجعا٤ وسنلم بشيء من هذا الباب في بحث الخطابة.
وكان فيهم قوم متميزون دون سائر القبائل بالكِبْر، أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولم يكن في قوى عقولهم وديانتهم فضل على قوى دواعي الحمية فيهم، وهم من قريش بنو مخزوم، وبنو أمية. ومن العرب بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عُدس خاصة،٥ فلا جرم كان من هؤلاء ديوان مفرد لمعاني الفخر والحماسة. وقد ذهب بشهرة الفخر في الإسلاميين من الشعراء جرير والفرزدق؛ لذهابهما بشهرة الهجاء.

أما في المولدين فالذين برعوا في صنعة الفخر والحماسة كثيرون، وقد صارت الإجادة في ذلك على حسب قوة الشاعر وبمقدار ما تؤتي القريحة من التصرف؛ لأن هذا الشعر لا يُصنع لرغبة ولا لرهبة وليس وراء معانيه ظل، فلا يجيده إلا مجيد، ولكن شهرته أكثر ما تعلق بالأمراء والشجعان وأهل النسب، كالشريف الرضي، وهم يقصدون إلى هذا النوع في شعرهم قصدًا، ويتخذون منه لسانًا للسياسة والتاريخ. ثم هو شيء في طباعهم، لا يتكلفون منه الكثير كما يفعل مَن دونهم. ولذلك لا يَعْدوه وَشْي الطبيعة ورونق الغريزة، وذلك شائع فيهم. وأول هذه الطبقة في الإسلام شعراء الخوارج، وأشهرهم قطري بن الفجاءة، ثم الأمراء والوزراء. كأمراء بني حمدان، وأشهرهم أبو فراس الحمداني، وكالوزير الطغرائي، وكثيرين من وزراء الأندلس، وسنذكرهم في موضعهم، وكان آخر من أداه إلينا الزمان من هذه الفئة، المرحوم محمود سامي البارودي.

وقد استحدث المتأخرون طريقة صناعية في الحماسة، وهي مزجها بالغزل والافتنان في ذلك، وأخذوا هذه الطريقة عن عنترة في البيتين المنسوبين إليه:

ولقد ذكرتُك والرماح نواهل

وكان يتفق ذلك في الأبيات من القصيدة؛ حتى صنع فيه القاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى
وغيري يهوى أن يكون مخلَّدا

وقسمها على الحماسة والغزل، وهي أشهر القصائد في هذا النوع.

هوامش

(١) قلت: الفسولة: قلة المروءة، وضعف الرأي.
(٢) الحيوان: ٥ / ٥٧.
(٣) الحيوان: ٥ / ٥٤.
(٤) البيان: ج١.
(٥) الحيوان: ٦ / ٢١، ٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤