قصيدة امرئ القيس
خليليَّ مُرَّا بي على أمِّ جندبِ
لتُقضي لُباناتُ الفؤاد المعذبِ
فإنكما إن تُنظرانيَ ساعةً
مِن الدهر تَنفعْني لدى أمِّ جُندبِ
ألم تَرياني كلما جئتُ طارقًا
وجدتُ بها طيبًا وإن لم تَطيَّب
عقليةُ أترابٍ لها لا دَميمة
ولا ذاتُ خلْق إن تأملْت جانب
ألا ليت شعْري كيف حادِث وصلِها
وكيف تُراعي وُصلة المتغيِّب
أقامت على ما بيننا من مَودَّةٍ
أميمةُ أم صارت لقول المُخبب
فإن تنْأ عنها حِقْبةً لا تلاقها
فإنك مما أحدثتْ بالمجرَّب
تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائن
سَوالِك نقبًا بين حَزمَيْ شَعَبْعب
عَلوْن بأنطاكيةٍ فوق عِقْمة
كجِرْمةِ نخل أو كجنَّة يثرب
فلله عيْنا من رأى من تفرُّق
أشت وأنأى من فراق المحصَّب
فريقان منهم جازعٌ بطنَ نخلةٍ
وآخرُ منهم قاطعٌ نجْدَ كبْكب
فعيناك غربَا جدولٍ في مُفاضةٍ
كمرِّ الخليج في صفيح المُصوِّب
وإنك لم يَفخرْ عليك كفاخرٍ
ضعيفٍ ولم يَغْلبْك مثل مُغلِّب
ومَرقبةٌ لا يُرفع الصوت عندها
مَضَمِّ جيوشٍ غانمين وخُيَّب
غزَرْت على أهوال أرضٍ أخافها
بجانب منفوحٍ من الحشو شَرْحب
ودوِّيَّة لا يُهتدى لِفَلاتِها
بعرفانِ أعلامٍ ولا ضوءِ كوكب
تلافيْتُها والبومُ يدعو بها الصدى
وقد أُلبست أقراطها ثِنيَ غَيْهَب
بَمُجَفْرةٍ جرف كأن قُتودها
على أَبلق الكَشْحَيْن ليس بمُغرِب
يُغرِّد بالأسحار في كل سَدفةٍ
تغرَّد ميَّاح النَّدامى المُطرَّب
أقبَّ رباعٍ من حمير عَمايةٍ
يَمجُّ لعاعَ البقْل في كل مشرب
بمَحنيَّة قد آزر الضالَ نَبْتُها
مِجَرَّ جيوشٍ غانمين وخُيَّب
وقد أغتدي قبل الشُّروعِ بسابح
أقبَّ كيَعْفور الفلاة مُجنَّب
بذي مَيْعة كأنَّ أدنى سِقاطِه
وتقريبِه هَوْنًا دآليلُ ثعلب
عظيمٍ طويلٍ مطمئنٍ كأنه
بأسفل ذي ماوان سَرْحة مَرْقب
يُباري الخَنوفَ المستقل زِماعُه
ترى شخصه كأنه عود مِشجَب
له أَيطلا ظبي وساقا نعامةٍ
وصهوةُ عيرٍ قائمٍ فوق مَرقب
كثير سواد اللحم ما دام بادنًا
وفي الضَّمر ممشوق القوائم شَوْذب
له جؤجؤ حشْرٌ كأن لجامه
سُعالى به في رأي جذع مُشذَّب
وعينان كالماويَّتين ومحجر
إلى سندٍ مثل الصفيح المُنصَّب
ويخطو على صُمٍّ صِلاب كأنها
حجارة غيْلٍ وارِساتٌ بطُحْلب
له كفَلٌ كالِّدعْص لبَّده الندى
إلى حارك مثل الغبيط المذَأَّب
ومُستْفلكُ الذِّفرى كأن عِنانه
ومَثناتَه في رأس جذع مشذب
وأَسحمُ ريَّانُ العسيب كأنه
عثاقيل قِنوٍ من سُميْحة مُرْطب
وبَهوٌ هواءٌ تحت صُلب كأنه
من الهضبة الخلقاء زُحلوقُ ملعب
يدير قَطاة كالمحالةِ أُشرفت
إلى سند مثل الغبيط المذأَّب
إذا ما جرى شأوَيْن وابتلَّ عِطفه
تقول هزيز الريح مرت بأثأب
إذا ما ركبنا قال وُلدان أهلِنا
تعالوا إلى أن يأتيَ الصيْد نَحطِب
فيومًا على سرب نقيٍّ جُلودُها
ويومًا على بيْدانةٍ أمِّ توْلب
ويخضد في الآريِّ حتى كأنما
به عُرَّةٌ أو طائف غير مُعقِب
خرجنا نُريغ الوحش حول ثُعالة
وبين رُحيَّاتٍ إلى فَجِّ أَخرُب
فآنستُ سربًا من بعيد كأنه
رَواهبُ عيد في مُلاءٍ مُهدَّب
فكان تنادينا وَعقد عِذارِه
وقال صحابي قد شأوْنَك فاطلب
فلأيًا بِلأى ما حمَلنا غلَامنا
على ظهر محبوك السراة مُحَنَّب
فقَفَّي على آثارهن بحاصب
وَغيْبةِ شؤبوبٍ من الشدِّ مُلْهب
وولَّى كشؤبوب العشيِّ بوابل
ويخرجن من جعد ثراه مُنصَّب
فللساق أُلهوبٌ وللسوط دَرَّة
وللزجر منه وقعُ أَهوج منْعب
فأدركَ لم يُجْهَد ولم يُثْن شأوْه
يَمرُّ كخذْروف الوليد المثقَّب
ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبًا
على جَدَد الصحراء من شدِّ ملهب
خفاهنَّ من أنفاقهن كأنما
خفاهُنَّ وَدْقٌ من عشيِّ مُجَلَّب
وظل لصيرانِ الصريم غماغمٌ
يُداعسها بالسمهري المعَلَّب
فكاب على حُرِّ الجبين ومُتَّق
بِمدْريَةٍ كأنها ذَلقْ مشعب
ففئنا إلى بيتٍ بعلياء مُرْدَح
سَماوتُه مِن أَتحَمِيٍّ مُعصَّب
وقلنا لفتيان كرامٍ ألا انزلوا
فعالوا علينا فضلَ ثوب مطنَّب
وأوتاده مازِيَّة وعماده
رُدَيْنِيَّةٌ فيها أسِنة قَعْضَب
وأطنابه أشْطان خوص نجائب
وصهوتُه من أتحَميٍّ مُشَرْعب
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا
إلى كل حاريّ جديد مشطَّب
فظل لنا يوم لذيذٌ بنعمةٍ
فقل في مَيلٍ نَحْسُه متغيِّب
كأن عيونَ الوحش حوْل خبائنا
وأرحُلِنا الجزْع الذي لم يُثقَّب
ورحنا كأنَّا من جُواثي عشيَّةً
نُعالِي النِّعاج بين عِدْلٍ ومِحْقَب
نمش بأعراف الجياد أكفنا
إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
إلى أن تروَّحنا بلا متَعَّتب
عليه كسيد الردهة المتأوب
وراح كتيس الربل ينغِص رأسه
أذاةً به من صائك متحلب
حبيب إلى الأصحاب غير مُلعَّن
يفدُّونه بالأمهات وبالأب
فيومًا على بُقْع دِقاق صدوره
ويومًا على سُفْع المدافع ربرب
كأن دماء الهاديات بنحره
عُصارة حناء بشيب مخضب
وأنت إذا استدبرته سد فرجَه
بضافٍ فوَيْقَ الأرض ليس بأصهب