الشعراء الفلاسفة

ولم ينشأ من الفلاسفة شعراء مجيدون قدر من نشأ منهم بالأندلس وحدها، ولم يكن للفلسفة تأثير على شعرهم إلا من جهة معانيه الشعرية، فإنها صارت من سموّ الخيال وقوة التصور وبراعة الابتكار بحيث تدل على عقل صاحبها دلالة المطابقة، وبذلك زادوا في محاسن الشعر، ولكن غيرهم يخلط بين معاني الفلسفة الفنية وبين معاني الشعر، فيجيء به فلسفة ركيكة ساقطة، أو يجعل فلسفته التزام نوع واحد من مذاهب الشعر، كالحكمة مثلًا، وبذلك يبرد شعره ويثقل، ولا تكاد تجد في غير الأندلسيين من يتحقق بأجزاء الفلسفة فيكون فيلسوفًا، ويبرز في الشعر فيكون شاعرًا، ويجمع في شعره الجمال الروحي في المعنيين فيكون شاعرًا وفيلسوفًا معًا، ومن هؤلاء يحيى الغزال، وأبو الأفضل بن شرف — وكان عند المعتصم وابنه — وابن باجة، ومالك بن وهب، وكان عند يوسف بن تاشفين، وأبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة ٥٩٣ المعدود من مفاخر الأندلسيين، ويلقبونه بشاعر الحكماء وحكيم الشعراء، وله كتاب شذور الذهب، منظوم في الكيمياء وقيل في بلاغته التي خضعت لها مادة الفن: إن لم يعلِّمك صناعة الذهب علَّمك الأدب١ وأبو الصلت أمية بن عبد العزيز الإشبيلي المتوفى سنة ٥٢٣ وجَّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فحُبس بها عشرين سنة في خزانة الكتب، فخرج إمامًا في العلوم وأتقن علوم الفلسفة والطيب والتلحين وقد مر آنفًا، وأبو الحكم العربي المتبحر في الفلسفة والأدب وهو الشاعر الهزلي سنة ٥٤٩، وأبو بكر بن زهير المتوفى سنة ٥٩٦ صاحب الموشحات التي امتاز بها، وأبو زكريا يحيى بن هذيل المتوفى سنة ٧٥٣، وكان أعجوبة في الاطلاع على علوم الأوائل، وأبو الحسين علي بن الحمارة الغرناطي، وقد برع خاصةً في التلحين ويقولون فيه إنه آخر فلاسفة الأندلس.٢

ولكن واحد من هؤلاء وأمثالهم النظم المُرقص المطرب الذي يقلب النفس على جانبي الطرب من الفلسفة والشعر، ولو اتسع لنا المقام لجئنا بالكثير منه، ولكن الاختيار ليس من شرطنا في هذا الكتاب، وقد اختار الأندلسيون من شعر شعرائهم كتبًا ممتعة، منها كتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج، عارض به كتاب الزهرة لأبي بكر بن داود، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائةُ بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرَّر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئًا، وأحسنَ الاختيار ما شاء، وأجاد فبلغ الغاية وأتى الكتاب فردًا في معناه، وهذه الأبواب جميعها إنما هي في الرقائق وأنواع الوصف، كما يدل على ذلك كتاب الزهرة الموجود قسم منه في المكتبة الخديوية بمصر.

ولأبي الحسن علي بن محمد الكتاب من أهل القرن الخامس كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، ولم تَسْمُ همة أحد إلى جمع مثله من شعر قومٍ بعينهم وإنما يجمعون من كل شعر وقع إليهم، كما فعل أبو سعيد نصر بن يعقوب في كتاب روائع التوجيهات في بدائع التشبيهات٣ فقد ضمنه ما اتفق من ذلك لشعراء الشام والعراق والري وأصبهان وغيرها.
وقد جاء كتاب الذخيرة لابن بسَّام كالذيل على كتاب الحدائق لابن فرج، وهي موجودة، وفي عصرها صنف الفتح بن خاقان كتاب القلائد، ذكر فيه المعاصرين من الوزراء والكتَّاب والشعراء، ثم ألَّف المطمح، وهو نسختان: كبير وصغير، وهذا الأخير هو المطبوع في الآستانة ومصر، وقلما تنبه قارئوه إلى ذلك فلا يزالون يرمونه بالتقصير عن القلائد. ولم يلتزم الفتح في المطمح ما التزم في القلائد، بل أورد فيه مشاهير الأندلس من كل طبقة في كل عصر، ثم جاء أبو عمر بن الإمام من أهل المائة السادسة، فوضع كتابه سمط الجمان وسفط المرجان، ذكر فيه من أخلت القلائد والذخيرة بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، ثم ذيل عليه أبو بحر بن صفوان البرسي بكتاب زاد المسافر، ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة، ولابن هانئ اللخمي المتوفى سنة ٧٣٣ كتاب الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، وقد مرَّ بنا ذكر كتاب ابن خنيس، وكتاب شعراء ألبيرة الذي أُلِّف للحكم المستنصر، وكتاب الكتيبة الكامنة في أهل المائة الثامنة للسان الدين بن الخطيب، وقد رأينا في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي في ترجمة ابن خنيس القرطبي المتوفى سنة ٣٤٣، أنه ألَّف كتابًا في شعراء الأندلس — إلى عهده — بلغ فيه الغاية؛٤ هذا إلى كتب أخرى لم تُقيد بالتراجم ولا بالاختيار، وإنما استوعبت فنونًا كثيرة مما يحاضر به من الأدب والتاريخ ككتاب المسهِب٥ في فضائل المغرب، ألَّفه ستة أشخاص في ١١٥ سنة، آخرها سنة ٦٤٥، وكتاب فلك الأدب لابن سعيد، من شعراء القرن السابع، وكان رحالة إلى المشرق، وهو صاحب كتاب عنوان المرقصات المطبوع في مصر، وقد ألَّف يحيى الخدج المرسي، وقد أدرك المائة السابعة، كتاب الأغاني الأندلسية، على منزع كتاب أغاني أبي الفرج الأصبهاني، فلا بد أن يكون قد ألمَّ فيه بتراجم طائفة كبيرة من مشهوري أدبائهم، ولمحمد بن عاصم النحوي، من علماء القرن الرابع، كتاب في طبقات الكتَّاب بالأندلس. ولو بقيت هذه الكتب جميعها لأمكن استخراج تاريخ واسع للأدب الأندلسي يشرق على الدنيا بذلك النور الذي أسدلت عليه حجب الغيب وترك مكانه في التاريخ فراغًا مظلمًا.
والأندلسيون يختارون من شعرائهم من يقابلون بهم طبقة بشار وحبيب والمتنبي، أي الطبقة العالية من شعر الشام والعراق، ويعدون من هؤلاء الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وأحمد بن عبد الملك بن مروان، وابن دراج القسطلي، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي٦ فهذه هي الطبقة الثانية عندهم، والطبقة الأولى يقابلون بها جريرًا والفرزدق والأخطل ومَن معهم، ويعدُّون منها أبا الأجرب جعونة بن الصمة، ويحيى الغزال وغيرهما، والطبقة الثالثة يقابلون بها سائر المولدين ممن لم يبلغ مبلغ أولئك في الاشتهار وبُعد الصيت، وقد ذكرنا أسماء الكثيرين من فحولهم.

هوامش

(١) نفح الطيب: ٢ / ٣٤٢.
(٢) نفح الطيب: ٢ / ٤١٤.
(٣) يتيمة الدهر: ٣ / ١٢٣.
(٤) طبقات اللغويين والنحاة: ص٦٧.
(٥) قالوا في صحة هذا الضبط إنه خاص بحالة الإكثار في صواب، وأما المسهب (بالفتح) على ما يقتضيه نصهم فهو على المكثر إطلاقه في لغو أو صواب.
(٦) نفح الطيب: ٢ / ١٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤