كُتُبُ الشِّعْرِ

من هذه الكتب ما يخصون فيه الكلام بالشعر نفسه، فيبينون عن وجه المعنى ويكشفون عن طريقة الصنعة، ككتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر الكاتب المتوفى سنة ٣٣٧، وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، المتوفى سنة ٤٦٣، وهو أحسن ما وُضع في صناعة الشعر ونقده وعيوبه، وقد ذكر صاحب نفح الطيب أن للأعلم الشنتمري المتوفى سنة ٥٤٩ كتابًا في مختصر العمدة والتنبيه على أغلاطه.١

ومن هذا القبيل كتب البلاغة: كالصناعتين للعسكري وما كان قبله وما وُضع من بعده — كما سنذكره عند الكلام على البديع — ومن كتب الشعر ما هو مخصوص بالطبقات والتراجم، ومنها كتب المختارات والدواوين.

الطبقات والتراجم

وهذه هي الكتب التي يخبرون فيها عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم وأسماء آبائهم ومن كان يُعرف باللقب أو الكنية منهم، ويذكرون فيها ما يستحسن من أخبار الشاعر وما يستجاد من شعره، ومن أُخذ عليه من الغلط والخطأ في ألفاظه وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون.

وعلى أن هذه هي أركان النقد فيهم لا يفيضون فيها ولا يبسطون الكلام عنها، وقليلًا ما يؤمنون إلى المهمِّ منها وخصوصًا المتأخرين؛ لأنهم لا يريدون إلا جهة التاريخ فلا ينظرون إلى الموازنة والترجيح؛ لأن هذا تأريخ عملي لا يكون إلا بين النظراء من طبقة واحدة في العصر، أو استقراء الإجادة الغالبة على شعرهم، وهم إنما يريدون مجموع العصور المختلفة، وكل ما جاء من أقوالهم وكتبهم في الموازنة والتنظير لم يعد أفرادًا معدودين، وهم جرير والفرزدق وبشار ومروان بن أبي حفصة ومسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو تمام والبحتري ثم المتنبي.

ومما ننبه عليه أن الرواة لم يكونوا يتكلمون في الشعراء إلا بعد موتهم، اتقاء لمعرة اللسان والوقوع فيه، وقد جهدوا بأبي عبيدة أن يفضل بين مسلم والنواسي فكان يقول: أنا لا أحكم بين الأحياء. وهذا الأخفش قد طعن على بشار في كلمة لم يسمع وزنها عن العرب، فهجاه بشار حتى استوهبوا منه عرضه، فكان الأخفش بعد ذلك يحتج بشعره في كتبه ليبلغه،٢ وكذلك فعل بسيبويه حتى توقَّاه واستكفَّ شره.
ولم يدون من ذلك شيء مقصود بالتأليف إلا كتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي المتوفى سنة ٦٠٨، وما كُتِبَ عن المتنبي كالرسالة الحاتمية للحاتمي، وذكر مقدمتها ابن خلكان في تاريخه، ورسالة الصاحب بن عباد في إظهار مساوئ المتنبي، وقد عمل بعدها القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، قال الثعالبي: إنه استولى بها على الأمد في فصل الخطاب٣ وسنستوفي ذلك في ترجمة المتنبي.

أما كتب الطبقات فأشهرها طبقات أبي عبيدة الراوية المتوفى سنة ٢٠٩، ومحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة ٢٣١، ومحمد بن حبيب النحوي المتوفى سنة ٢٤٥، وطبقات ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٩٦ (أو ٢٧٦) وهي المعتمَد عليها في هذا الباب، وقصد فيها إلى المشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلُّ أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو، وعدَّ من هؤلاء ١٨٠ شاعرًا، وقد جرى في ناحيته السيوطي المتوفى سنة ٩١١، فوضع كتابًا جمع فيه الذين يحتج بكلامهم من شعراء العرب.

وأما كتب الأخبار فكتاب الباهر لابن المنجم نديم المكتفي بالله المتوفى سنة ٣٠٠، هو في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين، وابتدأ فيه ببشار بن برد، وآخر من أثبت فيه مروان بن أبي حفصة؛ ولم يتمه، وتممه ولده أبو الحسن أحمد بن يحيى، وعزم على أن يضيف إلى كتاب أبيه سائر الشعراء المحدثين، فذكر منهم أبا دلامة ووالبة بن الحباب ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وأبا علي البصير.٤ وكتاب الأغاني الشهير لأبي الفرج الأصبهاني المتوفى سنة ٣٥٦، وهو نادرة الكتب جمع فيه أخبار ٣٩٥ شاعرًا بين جاهلي ومخضرم وإسلامي ومحدث، وهو منقول عن كتب كثيرة وُضعت قبله.

وأما كتب التراجم التي تجمع من التاريخ والخبر وبعض المختارات، فهي ما زالت تتصل مع الزمان، لم تنقطع إلا في القرن الثالث عشر، وأول ما وُضع منها كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين، لهارون بن علي المنجم البغدادي المتوفى سنة ٢٨٨ جمع فيه ١٦١ شاعرًا، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، وسنشير إليه في كتب المختارات، وهذا الكتاب هو الأصل الذي احتذاه مَن جاء بعده، فذيَّل عليه أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة ٤٢٩ بكتابه يتيمة الدهر الشهير، وترجم فيه شعراء عصره من بلاد كثيرة وأورد من محاسنهم، ثم ذيل على اليتيمة أبو الحسن الباخزري المتوفى سنة ٤٦٧ بكتابه دمية القصر وعصرة أهل العصر. ووضع عليه أبو الحسن بن زيد البهي كتابه وشاح الدمية، ثم ذيل عليه أيضًا الوراق الخضيري المتوفى سنة ٥٦٨ بكتابه زينة الدهر في لطائف شعراء العصر، قال ابن خلكان جمع فيه كثيرًا من أهل عصره ومن تقدَّمهم، وأورد لكل واحدًا طرفًا من أحواله وشيئًا من شعره (ص٤٥٢) ووضع معه أيضًا عماد الدين الكاتب الأصفهاني المتوفى سنة ٥٩٧ كتاب خريدة القصر وجريدة العصر، وترجم فيه الشعراء من سنة ٥٠٠ إلى سنة ٥٧٢، ثم صنع بعده كتاب السيل على الذيل، جعله ذيلًا للخريدة. ثم جاء ياقوت الحموي المتوفى سنة ٦٢٦، فوضع كتابه معجم الشعراء، وله أيضًا كتاب آخر هو إرشاد الألبَّاء في معرفة الأدباء، وهو المعروف بمعجم الأدباء، وقد طُبعت منه بعض أجزاء، ثم وضع ابن خلكان كتابه وفيات الأعيان الشهير، وعد فيه طائفة من الشعراء في كل عصر، وذيَّل عليه أقوام، حتى وضع الكتبي فوات الوفيات، ثم وضع صلاح الدين الصفدي كتابه الوافي بالوفيات، انتهى فيه إلى آخر سنة ٧٦٠ وذكره صاحب كشف الظنون وقال: إنه جمع فيه أعيان كل فن. ولا نعرف للمائة التاسعة كتبًا مفردة إلى أن وُضع كتاب سلافة العصر، ووضع الخفاجي كتابه ريحانة الألبَّاء، ووضع المحبي نفحة الريحانة وخلاصة الأثر، وكلها تترجم أدباء القرنين العاشر والحادي عشر، ثم وضع المرادي سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وهو ذيل على الخلاصة. وقد وضعت كتب أخرى مقصورة على بعض الأمصار، ككتاب الأنموذج لابن رشيق جمع فيه شعراء القيروان والكتب التي صنفها الأندلسيون وهي أبلغ ما كتب من نوعها، وسنذكرها في بحث الأدب الأندلسي إن شاء الله؛ لأنها مقصورة عليهم لم تتناول غيرهم، وكذلك صنفوا كتبًا على الأسماء ككتاب من نُسب إلى أمه من الشعراء لأبي هاشم السجستاني، وكتاب الموشح في أسماء الشعراء لغلام ثعلب المتوفى سنة ٣٤٥ وكتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء لحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة ٧٣١.

ومما يذكر في هذا الموضع ما يستوفيه المؤرخون في الكتب الخاصة ببعض البلاد؛ إذ يستوعبون شعراء البلد الذي يؤرخونه بما لا يوجد في غير تلك الكتب، ككتاب بغداد لابن أبي طاهر، وقد وُجد منه جزء واحد، وهو غير تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣، وكتاب أصبهان لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الأصبهاني فقد ذكر فيه شعراء أصبهان والكرخ وساق عيون أشعارهم وملح أخبارهم.٥
وغير ذلك مما يكون في المعجمات المطولة، وهي كثيرة، أعجب ما وقفنا عليه من أسمائها كتاب مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب لابن القوطي البغدادي المتوفى سنة ٧٢٣ ذكروا أنه في خمسين مجلدًا.٦

كتب المختارات

وهي الكتب التي وُضعت لانتقاء عيون الشعر أولًا، ثم دخلتها صناعة التبويب بعد ذلك، وقد أطنبوا في صعوبة الاختيار المرضي الذي يؤاتي الأذواق على رغائبها، ويتابع النفوس بمطالبها، حتى قالوا: دل على عاقل اختياره، واختيار الرجل مِن وفور عقله. وقالوا شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله، وحتى أنكروا فيه معارضة المختارات المجمع عليها والأخذ في سبيلها، كما أنكر محمد بن سعيد الكاتب في القرن الرابع على محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة وأعظم ذلك حتى رد عليه أبو الحسين بن فارس علامة همذان وأستاذ بديع الزمان برسالة أورد الثعالبي منها فصلًا.٧
ليس ذلك على أن الاختيار في نفسه محظور على أكثر الناس، ولا هو صناعة من الصناعات القائمة بنفسها فيكون للعقل فيه عمل يلزمه التبعة ويأخذه بالعهد، ولكن الشعر من عمل القرائح، وهي متفاوتة، فالاختيار منه لا يحسن إلا من ذي قريحة تشعر، ثم يكون له من البصر بالنقد ما يكشف له مواضع هذا التفاوت، حتى تكون قريحته التي تختار كأنها مجموع القرائح التي نظمت، وليس من شاعر سمت به طبيعته إلا وهو يتوهم في نفسه أنواعًا من القول قد لا يسمح بها الطبع إلا الْفَيْنَة بَعْدَ الْفيْنَةِ،٨ فهو إذا أصاب صفتها في أقوال الشعراء استدل عليها بطبعه وأمضى فيها اختياره ومن هاهنا كان الاختيار على التحقيق من وفور العقل.

وأول اختيار مدوَّن عند العرب القصائد المعروفة «بالمعلقات» اختارها حماد الراوية المتوفى سنة ١٥٥، ثم جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي المتوفى سنة ١٧٠.

ثم المفضليات للمفضل وهي مشهورة، قال أبو علي القالي في أماليه: إن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، ثم قرئت على الأصمعي فصارت مائة وعشرين، وقال في أصحاب الأصمعي إنهم قرءوا عليه المفضليات ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره وضموه إلى المفضليات وسألوه عما فيه مما أشكل عليه من معاني الشعر وغريبه، فكثرت جدًّا.٩ وكان المفضل يؤدب المهدي فتقدم إليه أبو جعفر المنصور أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين ويختار لفتاه لكل شاعر أجود ما قال، فاختار هذه القصائد، وهي مشهورة، وقد طبع منها كذا قصيدة.

ثم اختار الأصمعي القصائد المعروفة بالأصمعيات، وكل هؤلاء لم يختاروا في كتبهم شيئًا للمولدين، حتى جاء هارون بن علي المنجم الذي أومأنا إليه في الفصل السابق ووضع كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين، وهو الذي ينقل عنه صاحب الأغاني كثيرًا ويشير إلى ذلك بقوله: نقلت من كتاب هارون بن علي، ونحو هذا اللفظ، قال ابن خلكان: وذكروا في أوله أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبله في هذا الفن، وأنه كان طويلًا فحذف منه أشياء فاقتصر على هذا القدر، ثم قال: إنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها. ا.ﻫ. وقد تابعه على ذلك من جاء بعده ممن صنفوا في الأخبار والمختارات كما مر في موضعه.

ومما ننبه عليه أن الرواة إذا توافى اثنان منهم على اختيار قصيدة واحدة، ذهبت مثلًا في الجودة كقصيدة …

بكرت سمية غدوة فتمنعي
فإن أبا عبيدة لم يجد في وصفها أبلغ من قوله: إنها من مختار الشعر: أصمعية مفضلية.١٠

الحماسة

ولكن الذي رُزق حظ الشهرة في اختياره وجاء بما غطى على من سبقه، أبو تمام الطائي المتوفى سنة ٢٣١ فيما جمعه من كتاب الحماسة الشهير الذي قالوا: إنه في اختياره أشعر منه في شعره، وتأويل ذلك ما قدمناه من معنى إصابة الاختيار، قالوا: وسبب جمعه أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه فأجازه، وعاد يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنم أبو الوفاء بن سلم فأنزله وأكرمه، وأصبح ذات يوم وقد ثلج عظيم قطع الطريق، فغَم ذلك أبا تمام وسرَّ أبا الوفاء، فأحضره خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة، والوحشيات، وفحول الشعراء، ومختار شعراء القبائل (الخزانة) فبقي الحماسة في خزائن آل سلم يضنُّون به، حتى تغيرت أحوالهم وورد أبو العواذل همذان من دينور فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها عليه ورفضوا ما عداه مما هو في معناه من الكتب، ثم شاع حتى ملأ الدنيا.

وقد رتبه أبو تمام في عشرة أبواب هي فنون الشعر التي عددناها، واقتصر فيه على شعر العظماء مما يخلص على السبك، واحتال في تخليده بما جوَّد فيه من اختيار القطع والأبيات القليلة التي لا تكدُّ المتحفظ ولا يداخلها سقط، على غير ما ذهب إليه الذين سبقوه، فإنهم لم يختاروا إلا القصائد الطويلة، ولم يقصروا اختيارهم على المأنوس دون الغريب؛ ولهذا السبب عينه سقط الوحشيات ولم يُكتب له البقاء مع الحماسة، وإن كان كلامهما اختيارًا واحدًا، ولكن الوحشيات مبنية على اختيار القصائد والقطع الطويلة، وهي باقية إلى يومنا هذا، وقد وجد منها بعض الفضلاء نسخة في إحدى مكاتب الآستانة ورأى عليها أنها الحماسة الصغرى، وهو اسم موضوع لم يذكره أحد ممن دلوا عليه، كالتبريزي في شرح الحماسة وغيره.

وقد انتقد كتاب الحماسة حمزة بن الحسين، فزعم أن فيه تكريرًا وتصحيفًا وإيطاءً ونقلًا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها، إلى ما سوى ذلك من رايات مدخولة وأمور عليلة،١١ ولكن هذا ومثله لم يغض من الكتاب ولم يصرف المتأدبين عنه، فقد ذهبت حسناته بما دونها حتى اتخذوه أصلًا يحتذون عليه، وجعلوا من شهرة اسمه وسيلة لشهرة كتبهم، فلما اختار الخالديان كتابهما المعروف بالأشباه والنظائر، سمياه حماسة الخالدين، وألَّف البحتري قبلهما الحماسة الثانية (وقد مرَّ ذكر حماسة العجلي) وفي تاريخ ابن خلكان أن ابن الشجري اللغوي المتوفى سنة ٥٤٢ ضاهى الحماسة بكتاب غريب أحسن فيه.

ولعلي بن الحسن المعروف بشميم الحلي المتوفى سنة ٦٠١ حماسة رتبها على أربعة عشر بابًا، وللبياسي الأندلسي المتوفى سنة ٦٥٣ حماسة عارَض بها أبا تمام ولكنه اختار فيها لكل الطبقات إلى زمنه ورتب كترتيب أبي تمام، وهي عند المغاربة في شهرة الحماسة عند المشارقة، وألف قبله من الأندلسيين الأعلم الشنتمري وذكر حماسته البغدادي في خزانة الأدب، وآخر ما عُرف من هذه الكتب: الحماسة البصرية التي ألفها علي بن أبي الفرج سنة ٦٤٧ برسم الملك الناصر صلاح الدين، وفي المكتبة الخديوية الجزء الأول منها.

ولكن كل هذه الحماسات لم تنازع حماسة أبي تمام قليلًا ولا كثيرًا، فلا يعرف لإحداها شرح واحد وقد وضع لتلك عشرون كتابًا سمَّى أصحابها مُلَّا جلبي في كشف الظنون، فبعضهم عُني بذكر إعرابها، ومنهم من عُني بالمعاني وشرح المعلقات، وبعضهم تناول ذلك وأضاف إليه تراجم شعرائها وأخبارهم في أشعارهم، وأشهر هذه الكتب شرح الخطيب التبريزي، وهو متداول مشهور.

وكان الكتَّاب يتصنعون في نثر أبياتها، وربما جعلوا ذلك مرانًا على الكتابة، ولكن علي بن محمد الكاتب المتوفى سنة ٤١٤ نثرها في كتاب سمَّاه منثور البهائي؛ لأنه نثره لبهاء الدولة بن بويه، وذلك لم يتهيأ لكتاب في الشعر غير الحماسة.

مختارات أخرى

ولا سبيل إلى حصر المختارات؛ لأن التاريخ العربي ترك إلى اليوم شعرًا كثيرًا جدًّا، لا يقل المأثور عنه في الدواوين وغيرها عن بعضة ملايين من الأبيات، وقد أتت روايات كثيرة بما لا يصدق عن استطالة الشعر الجاهلي وحده، فكيف بغيره مما نظم ليدوَّن واستغرق نظمه ثلاثة عشر قرنًا؟ ولكنَّا نعيِّن أشهر كتب المختارات، ثم لا نعدو في ذلك كتب المتقدمين من أئمة الأدب؛ لأن المتأخرين قد ابتذلوا هذا النوع وقصروه على حظ أنفسهم من الحفظ، ويسمون ما يجمعونه من ذلك بالتذكرة أو المجموع، ومن أشهرها تذكرة الصفدي، وهي في عدة مجلدات لا يزال بعضها في مكاتب الآستانة، ويقال إن فيها دواوين برمتها.

فمن أشهر تلك الكتب، منتهى الطلب من أشعار العرب، لمحمد بن المبارك بن الميمون البغدادي. وهو كتاب يشتمل على أكثر من ألف قصيدة خلا المقاطيع، قال صاحب كشف الظنون: وعدة ما فيه أربعون ألف بيت. وديوان المعاني للعسكري، وهو ديوان ضخم رتبه على اثني عشر بابًا وجمعه من شعر الشعراء إلى زمنه، وقد أحسن الاختيار في كثير منه، ولا يقل فيه عن عشرة آلاف بيت. وكتاب مختارات شعراء العرب لابن الشجري المتوفى سنة ٥٤٢ جمع فيه خمسين قصيدة وقسمه ثلاثة أقسام: جعل في القسم الأول ١٢ قصيدة لشعراء مختلفين، وفي الثاني ٢٥، منها ٧ لزهير، و٦ لبشر بن أبي حازم، و١٢ لعبيد بن الأبرص، قال: وهي مختار شعره ومعظمه … ولا يذهبن عنك ما ذكرناه عن شعر عبيد في الكلام عن المقلِّين؛ والقسم الثالث مختار أشعار الحطيئة وأخباره، وهو ١٣ قصيدة غير المقاطيع. وكل هذه الكتب موجودة في المكتبة الخديوية، ولابن الشجري هذا كتاب الأمالي على نحو الأمالي المعروفة ذكر ابن خلكان أنه في ٨٤ مجلدًا.

وكان للصاحب بن عباد كتاب سماه سفينة الملح، فكلما أنشد شعرًا جيدًا وقرأ أبياتًا رائعة أثبتها فيه، على كثرة ما يتهيأ له من ذلك١٢ وأعجب من هذا الكتاب المرزمة لابن سعيد المغربي في القرن السابع، قال صاحب نفح الطيب: إنه وقر بعير من الرزم والكراريس وفيه شعر وأدب كثير. ومن هذا النوع كتاب زاملة النتف لأحمد بن محمد البغوي الكاتب، من رجال اليتيمة، قال الثعالبي: إنه يشتمل على محاسن الأخبار والأشعار، ولطائف الآداب، ويقع في ثلاثين مجلدة بخطه؛١٣ هذا إلى كثير من أمثاله مما لا فائدة في استقصائه؛ لأن أكثره عندنا كأسماء الأموات لا حقيقة لها، وإنما ذكرنا بعضه دلالة على سائره، وتوفية لفائدة هذا البحث.

هوامش

(١) نفح الطيب: ١ / ٤٣٥.
(٢) الأغاني: ٣ / ٥٤.
(٣) يتيمة الدهر: ٢ / ٢٣٩.
(٤) فوات الوفيات: ٢ / ٣١١.
(٥) يتيمة الدهر: ٣ / ١٢٥.
(٦) كشف الظنون: ٢ / ٣٨١.
(٧) يتيمة الدهر: ٣ / ٢١٥.
(٨) قلت: الفينة بعد الفينة: أي الحين بعد الحين.
(٩) الأمالي: ٣ / ١٣١.
(١٠) الأغاني: ٣ / ٨٢.
(١١) يتيمة الدهر: ٣ / ٤١٦.
(١٢) يتيمة الدهر: ٣ / ٢٠٧.
(١٣) اليتيمة: ٣ / ٦٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤