القوافي المشتركة

من الكلام ألفاظ تشترك في معانٍ كثيرة، وهي هي في الدلالة على كل تلك المعاني المختلفة، وقد اختلف أهل اللغة في سبب ذلك، ولكنهم اتفقوا على أنه: «لا خلاف أن الاشتراك على خلاف الأصل» وهذا الموضوع مما لا سبيل إلى تحقيقه وبيان وجه الصواب فيه؛ لأن الألفاظ المشتركة سماعية إلا ما استخرج منها بالقياس، كالخال مصدر خالَ مثلًا، وقليل ما هو، فلا يمكن ردها إلى لغة واحدة ولا إلى لغات مختلفة من لغات العرب، لذهاب أصولها.

وقد تناول المتأخرون تلك الألفاظ واستعملوها قوافي للشعر على طريقة الجناس التام، وأشهرها الذي تخرج منه القصائد، ألفاظ معدودة، وهي العين، والخال، والغرب، والهلال، والعجوز، ولم يَرِد للمتأخرين قصائد على غيرها، وقد زاد بعضهم في معانيها ما لم يسمع ولم يجئ به نص في اللغة ليبلغ من ذلك مبلغ الكثرة، ولكن الشأن إنما هو في سهولة انقياد القافية وتمكينها على غير تكلف.

وأول ما جاء من الشعر في ذلك ثلاث أبيات للخليل، وهي:

يا ويح قلبي من دواعي الهوى
إن رَحَلَ الجيران عند الغروب
أَتْبَعْتُهُم طَرْفي وقد أزمعوا
ودمع عينيَّ كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلةٌ حرةٌ
تَفْتَرُّ عن مثل أقاحِي الغروب

فلفظ «الغروب» الأولى غروب الشمس، والثاني جمع غرب، وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث جمع غرب، وهو الوهاد المنخفضة.

ثم نظم الحريري في إحدى مقاماته خمسة أبيات أولها:

سَلَّ الزمان عليَّ عَضْبَهْ
لِيَرُوعني وأَحدَّ غرْبَهْ

ولكن النظم على هذا النوع لم يشتهر إلا في القرن الحادي عشر؛ قال الزبيدي لبديع الزمان علي بن تاج الدين القلعي المكي ما نصه: في سانحات دمى القصر للعلامة درويش أفندي الطالوي رحمه الله: كتب إليَّ الأخ الفاضل داود بن عبيد خليفة نزيل دمشق عن بعض المدارسة في لفظ مشترك الغرب طالبًا مني أن أنسج على منوالها وأحذو على مثالها، وهي «أربعة أبيات» قال: فكتب إليه هذه الأبيات التي هي لا شرقية ولا غربية … ونقل الزبيدي ٢٧ بيتًا أولها:

أَمِنْ رَسْمِ دارٍ كان يشجيك غَرْبُهُ
نزحت ركيَّ الدمع إذ فاض غَرْبُهُ

ولكن الشهاب الخفاجي أورد هذه القصيدة في آخر ريحانته — وهي هناك ٢٩ بيتًا — وقال هناك: إن الطالوي عارض بها أبيات الحريري، والطالوي هذا من أدباء القرن الحادي عشر، وكذلك نقل الزبيدي أيضًا في شرح مادة «عجز» عن شيخه أن الأدباء أكثروا في جمع معاني العجوز في قصائد كثيرة لم يحضره منها وقت تقييد كلماته إلا قصيدة واحدة للشيخ يوسف بن عمران الحلبي وساقها هناك، ومطلعها:

لحاظ دونها غول العجوز
وشكَّت ضِعف أضعاف العجوز

العجوز في الأولى: المنية وفي الثانية: الإبرة. وهي ستون بيتًا فيها تكلف كثير، والشيخ يوسف هذا من المترجمين في الريحانة، ولكن الشهاب لم يشِر في ترجمته لهذه القصيدة. ثم قال الزبيدي بعد أن أورد هذه القصيدة: قال شيخنا: وكنت رأيت أولًا قصيدة أخرى كهذه للعلامة جمال الدين محمد بن عيسى بن أصبغ الأزدي اللغوي … وهي طويلة وأعظم انسجامًا وأكثر فوائد من هذه … وهناك قصائد غيرها لم تبلغ مبلغها. ا.ﻫ.

وقال الشهاب الخفاجي في ترجمته السيد عبد الله الوفائي المصري: وقصيدته التي التزم فيها تجنيس قوافي الخال، مشهورة. وأولها:

يا سلسلة الصدغ مَن لواك على الخال (كذا)

ولم يذكر منها غير هذا الشطر، فلعله أول من نظم في الخاليَّات.

ثم نظم نفر من أدباء القرن الثالث عشر في العينيات والهلاليات وتابعوا من قبلهم في الخاليات والغربيات وأهملوا العجوزيات، ولعل العجوز ماتت قبل أن تلد قرائحهم …

ومهما يكن فالنظم في هذه الأنواع مما يجوز أن يحاضر به في اللغة على وجه المعاياة؛ وكان هذا من فائدته قبل أن يشيع، أما بعد ذلك فهو لغو يحسبونه لهوًا، وعناء يظنونه غَنَاءً؛ وصناعة من الباطل يرون فيها صياغة لتحلية العاطل، وإنما الفرق بين ذلك فرق بين الأضداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤