التخميس والتشطير وما إليهما

سلف لنا كلام في باب الأوزان العربية ومقدار وفائها بالحاجة الشعرية ومبلغ معونتها في ذلك، وأن القوافي نقرات ونغمات ليس الغرض منها إلا استقامة اللحن واتفاقه مع اهتزازات الطرب، وأن الشأن في ذلك أن لا يشذُّ بها اللحن عن قاعدة الذوق التي لا قيد لها إلا ما يشعر به الإنسان في خاصة نفسه، فهي لذلك تابعة لا متبوعة، ثم هي على ما يشاء الشاعر في تقليبها، والشاعر قيِّم الصناعة، فحظ القافية منه على مقدار حظ الغرض الشعري منها، وقد بسطنا ذلك هناك وأمسكنا لهذا الموضع كلامًا نجريه الآن، وذلك في أصل التخميس والتشطير وما إليهما مما صرفه المتأخرون عن وجهه في الإمتاع، وأحالوه عن حظه من الفائدة، فجاءوا بالمشطَّر والمربَّع والمخمَّس والمسدَّس والمسبَّع والمثمَّن، ولم يَنَلْ حقيقة الشعر من كل ذلك إلا هذا المسخ من صورة إلى صورة، وهي جناية الصناعة وكم لها من جنايات.

أصل ذلك في الشعر العربي النوع الذي سموه قديمًا بالمسمَّط وقالوا فيه هو أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرَّع — ذي قافيتين — ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيمًا واحدًا من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة، والقافية اللازمة في القصيدة التي تكرر في التسميط تسمى عمود القصيدة، ويقال للقصيدة من ذلك النوع مسمَّطة وسمطية، وهو نوع محدث لم يصح وروده عن أحد من العرب، ولذلك يورد الرواة ما يسوقونه منه غير معزوٍّ، إلا ما نحلوا امرأ القيس من ذلك، ولعلهم أرادوا به التمهيد والتوطئة للثقة — وذلك سبب من أسباب الوضع كما بسطنا في بحث الرواية والرواة.

قال الجوهري: لامرئ القيس بن حجر قصيدتان سمطيتان، وقد ذكر إحداهما — وهي التي سنأتي ببعضها — ولم يذكر الأخرى وقال الصاغاني: ليس هذا المسمط في شعر امرئ القيس بن حجر، ولا في شعر من يقال له امرئ القيس سواه، وأول هذا المسمط:١
توهمت من هندٍ معالم أطلال
عَفَاهن طولُ الدّهر في الزمن الخالي
مرابع من هندٍ ومصائفُ
يصيح بمغناها صَدًى وعوازفُ
وغَيَّرها هوجُ الرياح العواطفُ
وكل مُسِفٍّ ثم آخر رادفُ
بأسحم من نوء السماكين هَطَّالِ

وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيمًا على قافية اللام، وكأن التزام اللام في هذا المسمط استدراج للتصديق بأنه لامرئ القيس حقيقةً، إذ يذكِّر بقصيدته الشهيرة التي أولها:

ألا عم صباحًا أيها الطللُ البالي

وبين النَّفَس في الشعرين ما بين ستين سنة قبل الهجرة ومائة وتسعين بعدها …

ولا يُلتزم في التسميط هذا النوع المخمس، بل قد يجاء به على ثلاثة أقسمة، كهذا الذي يروونه لغير مُسمى:

خيال هاج لي شجنا
فبِتُّ مكابدًا حَزَنًا
عميدَ القلبِ مرتَهَنا
بذكرِ اللهو والطرب
سَبَتْني ظبيةٌ عطلُ
كأنّ رضابها عَسَلُ
ينوء بخصرِها كَفَلُ
ثقيل روادف الحقب

وهي أربعة قطع أوردها في تاج العروس. وربما جاءوا في مطلع القصيدة بخمسة أبيات أو أربعة على قافية واحدة، ثم يأتون بالأقسمة الأربعة بعد ذلك ويتبعونها بالقسيم الذي فيه عمود القصيدة، كنحو الذي ينسب لامرئ القيس، ولا فائدة من التمثيل لذلك، إذ هي قطع معدودة تتنفس قوافيها بشيء من الضعف ومرض الذوق، ولم ينسحب على أذيالها إلا المتأخرون، ولكنهم خصوا التخميس بما كان على خمسة أجزاء، وسموا ما كان على أربعة مربعًا، وما كان على ستة مسدسًا، وهكذا إلى الثمانية.

وقد نقل الزبيدي في تاجه عن أبي إسحاق أن كل ما اختلطت قوافيه فهو المخمس، فالمتأخرون إنما رتبوا الأسماء، وكان ذلك لإكثارهم من هذه الأنواع، حتى يكون كل نوع مميزًا باسمه، ولكنهم هجموا من ذلك على شنعة مرذولة،٢ وهي تناولهم أشعار الناس وتخصيصها بالتشطير والتخميس، وما لذلك قصد الذين وضعوا هذه الأنواع، ولا هو شيء في أصل الفطرة الشعرية، ولكنها المنافسة في الصناعة جعلت النابغين منهم ينهجون هذا المنهج، ليظهروا أن فيهم فضلًا وبقية من المتقدمين، بما يزيدون في معانيهم التي ربما يكون صاحبها قد أماتها ولم يترك فيها مطمعًا، ويلمُّون ويشدُّون في ألفاظهم وتراكيبهم، من أجل ذلك كانوا لا يقصدون إلا القصائد الشهيرة المُجْمَع على بلاغتها، والأبيات النادرة، كما فعل الصفي الحلي وغيره.

ولكن الزمن طمس على هذا الأصل، وصارت تلك الأنواع في الشعر الجيد أشبه بالزيادة في تراب الميت: لا يجدِّد موته ولكنه وسواس وعَيْث.

أما أصل التشطير فلم نقف على كلام فيه للمتقدمين، ولا نظنهم تكلموا في ذلك، إذ هو مقصور على تعلق الشاعر بكلام غيره، وذلك من صنع المتأخرين، أما المتقدمون فكانت لهم المعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قوي جريء، وهو أدلُّ على حقيقة المقارنة والتنظير بين الكلامين — ولكنا نظن أن أصله ما يسميه العرب بالتمليط والممالطة، وذلك كالذي رواه أبو عمرو بن العلاء من أمر امرئ القيس، وكان يُدِل بشعره ويتعنت به على الشعراء، فلا يزال ينازع مَن قيل له إنه يقول الشعر، حتى نازع التوءم جد قتادة بن الحارث بن التوءم.٣ فقال له: إن كنت شاعرًا فملِّط لي أنصاف ما أقول فأجِزْها. فقال: نعم.

فقال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقًا هَبّ وَهْنَا

فقال التوءم:

كنار مجوسَ تستعر استعارا

ولم يرد التشطير في شيء من المأثور عن الأدباء الذين نبغوا في الصناعات، كالصفي ومن في وزنه إلى أواخر القرن الثاني عشر.

والعجيب أن أصحاب البديع يعرفون التشطير البديعي، وهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ثم يصدع كل شطر منهما، كقول أبي تمام:

تدبير معتصم، بالله منتقم
لله مرتقِب، في الله مرتغب
ثم لا نجد أحدًا من أصحاب الشروح والحواشي إلى الغباني الذي فرغ من حاشيته سنة ١٢١١ يشير إلى هذا النوع، مع أنهم ابتدءوا يبسطون التأليف في أنواع البديع من القرن الثامن، ومع رغبة المتأخرين في الخلوص إلى المناسبات والإفاضة فيما يكتبون، وهذا قطع في أن تسمية الطريقة المعروفة في النظم بالتشطير لم تُعرف إلا في القرن الثالث عشر، أما الطريقة نفسها فكانت معروفة في أواخر القرن العاشر وما بعده، ولكنهم كانوا يسمونها «التصدير والتعجيز» وأورد ابن معصوم في السلافة أشياء من ذلك، وذكر في ترجمة القاضي تاج الدين بن إبراهيم المالكي٤ أنه كتب تقريظًا على تصدير وتعجيز الشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة المتنبي التي مطلعها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل

ومن هذا التقريظ قوله: لعمري لقد نسَّق ذلك التصدير، نسق التسطير، وسبك ذلك التعجيز، سبك الإبريز، فتراه إذا أخرج بيتًا عن معناه، تلاعب به فيما اخترعه من مبناه، وإذا طبق المعنى بالمعنى وأبقاه على أصله، أوصله إلى غاية الإعجاب بفصله. ا.ﻫ.

فإما أن يكون المتأخرون أخذوا لفظة التشطير من النوع البديعي، أو يحتمل أن يكون بعضهم وقف على هذا التقريظ وتحرفت عليه كلمة التسطير بالتشطير، أو نبهته الأولى إلى الثانية. والله أعلم.

هوامش

(١) العمدة: ١ / ١١٨.
(٢) قلت: مرذولة: رديئة وضد الفضيلة كما في القاموس.
(٣) في رواية العمدة لابن رشيق (ص١٣٥ ج١) أنه التوءم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، والرواية التي أوردناها لصاحب تاج العروس، نقلها عن أبي عمرو، ونقل صاحب العمدة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو. والاختلاف بينهما عجيب كما ترى!
(٤) السلافة: ٢ / ١٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤