نوع مِن حَلِّ المنظوم

حل المنظوم نوع من الإنشاء يلتزمون فيه المعنى الشعري لا يزيدون عليه شيئًا إلا ما هو من قبيله وفي سبيله، وقد يحلون الشعر بألفاظه وببعض ألفاظه وبغير ألفاظه، ولكن الصفي ذكر من ذلك نوعًا غريبًا لسنا نستطيع أن نزيد في شرحه وتاريخه شيئًا على هذا الذي سننقله عنه، فهو بيان له، وأما بعد الصفي فلم نجد الأدباء يذكرون هذا النوع ولا يستعملونه.

قال: مما اقترحه عليَّ الشيخ الإمام العالم القدوة المحقق الفاضل الكامل زين الدين فتى شيخ العينية الموصلي حين وقف على بعض مقامات أنشأتها كالتوءمية … فقال أيده الله: إن من أصنع ما أنشأه الشيخ شمس الدين معد بن نصر الجذري في مقاماته الزينية حل المنظوم الذي في المقامة الثانية، وهو أنه عمد إلى ثمانية أبيات من الحماسة فجمع حروفها وبسطها رسالته ثم أعادها وجمَّعَها أبياتًا على الوزن والروي من غير زيادة حرف ولا نقصان حرف. فاعتذرت له بأن الوقت يضيق عن المقام إلى حين إنشائها، فلما رحلت من فنائه وحضرت بعض أندية الأدب جرى ذكر الإنشاء فشرحت لهم الحكاية وما اقترحه الشيخ العلَّامة الفاضل زين الدين المذكور رحمه الله تعالى، فقالوا جميعًا هذه صنعة كبيرة، وهي غاية في الإنشاء تحتاج إلى معرفة علم السياقة، لضبط الحروف والتصرف في إبدالها، ونحن جميعًا نقترح عليك ذلك، فإنه الغاية التي إن بلغتها لا يعجزك شيء من إنشاء المقامات، حيث قد سمعنا لك أشياء من ذلكن ولم أجد بُدًّا من إجابة دعوتهم لارتفاع موانع الاعتذار؛ فقلت: قد ملكتم زمام التخيُّر فاختاروا من الشعر ما تأمرون نثره، فقالوا: إن حد القصيدة سبعة أبيات؛ ولذلك سومح بعدها في الإيطاء وعد ما دونها من الأخطاء، ونحن مقتصرون على السبعة الأول من فاتحة السبع الطُّوَل، فقلت اسطروها ليسهل اعتبارها إذ تسبرونها، فسطروا هكذا:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها كأنها حب فلفل
كأني غداة البين لما تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيعهم
يقولون لا تهلك أسي وتحمل
وإن شفائي عبرة مُهَراقة
فهل عند رسم دارس من معوِّل
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل
قال الشيخ: فقلت لهم: هذه الأبيات قد تبين تخييرها ولا يمكن تغييرها، فاختاروا الرسالة في أي معنى وعلى أي المقاصد تُبنى، فقال أحدهم: تكون في مخدوم له، آثر بُعدي ومطل وعدي. والمعنيُّ تعتَّب واذكرني سالف ذنب، وأوثر أن تخطب ودّه وتستنجز وعده، فكتبت:

الكريم مرتجى؛ وإن كان بابه مرتجا، والندب يلتقى وإن كان بأسه يتقى، والسحب تؤمل بوارقها وإن رهبت صواعقها. ولحلم سيدنا أعظم من العتب بسالف ذنب، فماحي شرف الله بلثم كفوفها أفواه العباد، يغفر الخصية، ويوفر العطية. والملوك مقر عرف أنه رب حق، بل مالك رق، ومقتض من جوده العميم، نجاز وعده الكريم، بسالف كرمه المقيم، لا برح إحسانه شاملًا مدى السنين. إن الله يحب المحسنين.

فلما سطروها ونظروها، وعدوُّا حروفها واعتبروها، فرأوها وما قبلها كفَّتي ميزان، عرية من الزيادة والنقصان، سألوا أن أجعل ربعها مأهولًا، وأعيدها سيرتها الأولى، فأجبت إلى ما طلبوا، وأمليت وكتبوا:

قفا نبك من أطلال ليلى فنسأل
دوارسها عن ركبها المتحمل
وننشد من أدراسها كل مَعْلمِ
محاه هبوب الراسيات ومجهل
ونأخذ عن أترابها من ترابها
صحيح مقال كالجمان المفصل
معاني هوى أقوى بها دأب بينهم
كدأبي من تبريح قلب مقلقل
عفت غير سبع من رواكد جثم
تحف بشفع من رواكض جفل
ورسم أواري بحبل مديدها
لملى سقاه حَولَ نؤدي معطل
فرفقا بها رفقًا وإن هي لم تبح
بلفظ ولا تأوي لسائل منزل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤