المُقلُّون والمُكثِرون

من الشعراء شاعر نفسه الذي يقول على مؤاتاة السجية١ والطبع دون أن يستكره على الشعر أو يرهق بالأغراض المتنوعة، وهذا إنما جهده أن يصيب حظ نفسه أقلَّ أو أكثر؛ ولكن منهم شاعر الناس الذي يحرث حياته الأرضية على أقفيتهم، فهم إن تركوه أو تركهم مات، ومثل هذا لا يصيب حظ روحه من القول إلا بعد أن يصيب حظ جسمه منه، فهو مكثر أبدًا من الشعر، يقلبِّه على أغراض الناس ليأخذ به مكانًا على الأفواه ينزل فيه بضاعته من سوق الكلام، ولا يعرف المقل من المكثر في شعراء الجاهلية إلا بهذا التقسيم؛ لأنهم قد استووا في ضياع كثير من شعرهم وسقوطه من أيدي الرواة المصححين، بحيث لو اعتبرت شهرة أحدهم بقيمة ما يصح له من الشعر لنبا٢ به موضعه حيث وُضع من الشهرة والتقدم. فقد عُدوا من المقلين طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس، وهؤلاء الثلاثة فيما رووا عن أبي عبيدة أشهر المقلين في الجاهلية باتفاق، وعدُّوا منهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معديكرب، والأشعر بن حمران الجعفي، وسهيل بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر؛ ومن أولئك من يُعرف بالقصيدة الواحدة كطرفة، ومنهم من يُعرف بثلاث قصائد كعلقمة، ومنهم من يُعرف بالأربع كعدي بن زيد، ومنهم من يُعرف بالأبيات المتفرقة ولا عبرة بما يُنسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير، وهو يتفاوت في هذه الكثرة بحسب صنعة الشاعر المحمول عليه وتلاحم كلماته وامتلاء أعطافها، ولذلك قالوا: إن عدي بن زيد لقربه من الريف وسكناه الحيرة في جيرة النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وقد ذكر ابن رشيق بعض مطالع القصائد المشهورة في أيدي الناس التي صحت نسبتها لبعض هؤلاء المقلين.٣
ولا يبعد أن يشتهر الشاعر الجاهلي بالقصيدة الواحدة، بل بالأبيات القليلة، بل بالبيت المفرد؛ لأنهم يزنون الكلمة بمقدار ما تحرك من ميزانها الطبيعي الذي هو القلب، وكانوا يسمون البيت الواحد يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة، فهي نتفة، وإلى العشرة تُسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحسن أن يسمى قصيدًا؛ قال ثعلب: وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضدَّ الراد، ومثله الرئيد؛٤ وهذا أصح مما ذهب إليه المتأخرون من أن أدنى حدّ القصيدة سبعة أبيات؛ لأنه لم يلتئم مع وجه الاشتقاق الذي رواه ثعلب كما ترى. وكانوا يستحبون الإطالة عند الإعذار والإنذار والترهيب والترغيب والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير والحارث بن حلزة وغيرهما، والقطع أطير في بعض المواضع كالمحاضرات. والمنازعات والتمثيل والملح وغيرها مما ليس من المواقف المشهورات.
وكان العرب يعرفون للإكثار من الشعر صفة طبيعية، وهي قرع روثة٥ الأنف بطرف اللسان، كأن اللسان إذا طال كان ذلك أدعى إلى رقته ولينه ومؤاتاته على التغليب فيبعث من الصغر على الارتياض للكلام والحمل في شعابه وفنونه؛ ولا نعرف أصل هذه الصفة ولا تاريخها فيهم، ولكن ذكر الجاحظ في البيان أن النبي قال لحسان بن ثابت: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أنفه، ثم قال: والله إني لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شَعر لحلقه، وما يسرني به مِقْول من مَعَدِّ! فهذا يدل على أن الصفة كانت معروفة فيهم، وإلا فلا أسقَطَ من هذا الكلام. قال الجاحظ: وأبو الصمت مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة وأبوه وابنه في نسق واحد: يقرعون بأطراف ألسنتهم أطراف أنوفهم.٦ والعجيب في أمر الإقلال والإكثار أنك تجد شعراء من المطبوعين لا يُقدَر على جمع شعرهم لكثرته،٧ وقد عدوا من هؤلاء بشار العقيلي، والسيد الحميري، وأبا العتاهية، وابن أبي عيينة، وكان بشار يقول: إن له اثني عشر ألف قصيدة، قال الجاحظ: وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل، وسلما الخاسر، وخلف بن خليفة، قال: وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء، وبشار أطبعهم كلهم.
وتجد شعراء آخرين لا يزيدون في شعرهم الجيد عن البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، وقد يتعمدون ذلك في أغراض معلومة، كعقيل بن عُلّفة الذي كان يقصر هجاءه ويقول في الاحتجاج لذلك: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، وأبي المهوس أيضًا وكان يقول محتجًّا: لم أجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا.٨
وكان ابن الزهري يقصر أشعاره ويقول: إن القصار أولج٩ في المسامع، وأجول في المحافل، ويكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة، وقد يكون الإقلال في بعض أولئك عامًّا في جميع الجيد من شعرهم كالجماز، وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة! وهو القائل:
أقول بيتًا واحدًا أكتفي
بذكره من دون أبيات١٠
وكابن لنكك البصري «من شعراء القرن الرابع» قال الثعالبي في اليتيمة: وما أشبِّه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة إلا بشعر كنيَّة أبي الحسن بن فارس، وأقدر أنه في الجبال كهو في العراق؛ وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمح بزوجيه قتل!١١ وكذلك ابن لنكك: إذا قال البيت والبيتين والثلاثة أغرب بما جلب وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد القصيد فقلما يفلح.١٢ واشتهر بجودة القطع من المولدين قبل هؤلاء؛ بشار بن برد، وعباس بن الأحنف، والحسين بن الضحاك، وأبو نواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المدل، وابن المعتز، وإن كان بعضهم يحسن في الإطالة؛ كبشار وأبي نواس وابن الجهم؛ ومن الإسلاميين قبلهم الفرزدق، حتى قال الجاحظ: إن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعرًا لم يُسمع بمثله فالتمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق، فإنك لم ترَ شاعرًا قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره. وقد قيل للكميت: الناس يزعمون أنك لا تقدر على القصار، قال: من قدر على الطوال فهو على القصار أقدر. وهذا الكلام يخرج في ظاهر الرأي والظن، ولم نجد ذلك عند التحصيل على ما قال.١٣

أما المعروفون بالإطالة فهم كثير، وأشهرهم ابن الرومي، وهو على إطالته محسن، وربما تجاوز حتى يسرف.

هوامش

(١) قلت: السجية: الطبيعة والخُلُق (جمعها) سجايا.
(٢) قلت: نبا: قبح، فلم تقبلها العين كما في القاموس.
(٣) العمدة: ١ / ٦٦.
(٤) إعجاز القرآن: ص١١٩.
(٥) قلت: روثة طرف اللسان حيث يَقْطُرُ الرُّعانُ.
(٦) البيان: ج١.
(٧) سرح العيون: ص٣٢٠.
(٨) البيان: ج١.
(٩) قلت: أولج: دخل فيه.
(١٠) العمدة: ١ / ١٧٥.
(١١) في العمدة: كانوا يقولون: إياكم ومنصورًا إذا رمح بالزوج، وكان ربما هجا بالبيت الواحد. وفي بعض النسخ: إذا رمى، وهو خطأ.
(١٢) اليتيمة: ٢ / ١١٧.
(١٣) الحيوان: ٣ / ٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤