الفلسفة

أول ما يقع في النفس من متابعة الأطوار الدينية كما أوجزناها كل الإيجاز فيما تقدم — أن مهمة الدين هي مهمة النوع الإنساني كله، قد تلمس فيها السبيل القويم من أقصى عصور ماضيه إلى حاضره الذي نحن فيه، وأنه كلما ترقى بتفكيره وترقى بأخلاقه وأحواله تهيأ لقبول عقيدة التوحيد، وترقى في هذا الاتجاه من تنزيه إلى تنزيه، ومن كمال إلى كمال.

وتتجلى هذه الظاهرة في الأديان القديمة التي أتمت نضجها وبلغت مستقرها في زمانها واستكملت من قبل جميع شعائرها، كالديانة المجوسية التي أسلفنا تلخيصها كما اعتقدها أهلها قبيل الميلاد وبعده بقليل، فإن أبناءها قد أخذوا بعقيدة التوحيد بعد احتكاكهم بالمسلمين، وأصبح المجوس الذين يسمون اليوم بالپارسيين يؤمنون بإلهٍ واحد: هو إله الخير يزدان، ولا يشركون معه أهرمن كما فعل أسلافهم الأقدمون. قال العلامة جيمس دارمستتر Darmesteter في كلامه على زرادشت من كتاب حوادث العالم الكبرى: «إنهم قد انتهوا إلى الوحدانية، وإن الدكتور ويلسون حين كان مشغولًا بمناقشة الپارسيين منذ أربعين سنة — نعت دينهم بالثنوية، فأنكر مجادلوه هذه التهمة، وقالوا: إن أهرمن لم يكن له وجود حقيقي، وإنما هو رمز لما يجيش بنفس الإنسان من خواطر السوء، فلم يعسر على الدكتور أن يبدي لهم أنهم يناقضون بذلك كتبهم المقدسة، ولم يزل النقاد الأوربيون حينًا بعد حين يعجبون للتقدم الذي تقدمه الپارسيون في المذهب العقلي بعد مدرسة فولتير وجيبون، ولكن الواقع أنه ليس للمذاهب الأوربية تأثير وراء هذا التقدم، فإن الپارسيين قبل أن يسمعوا بأوربة والمسيحية وجد فيهم من فسر أسطورة تاموراث الذي امتطى هرمن ثلاثين سنة كما يمتطى الحصان — بأنها تعني أن ذلك الملك قد كبح شهواته وزجر نوازع الشر التي تحيك بسريرة الإنسان، وشاع فيهم هذا التفسير المثالي نحو القرن الخامس عشر للميلاد، ولا يزال شائعًا اليوم بين المفسرين، وليس في الوسع أن نقرر على التحقيق مبلغ تأثير الديانة الإسلامية في هذا التحول، فقد نلمح هنالك علامات ضعيفة على ابتدائه منذ عهود المجوس الأقدمين.»

ولا بد أن نلاحظ هنا أن المهم هو تهيؤ الذهن للتوحيد، وليس المهم هو ما قصده الإنسان في نيته وعمله فعلًا في هذا السبيل.

فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية يقدح فيها ما قصده العقل أو قصدته النوازع النفسية قبل الوصول إليها.

فإن الإنسان قصد تسيير السفن وتنظيم الملاحة فعرف الفلك ورصد ظواهر السماء، وقصد قياس المزارع فعرف الهندسة، وقصد الذهب فعرف الكيمياء، وقصد الشعوذة فعرف الطب، وبدأ بالفلسفة من بداءات أعجب من بداءات الأديان، ولم يحسب ذلك عيبًا على الحقائق التي انتهى إليها من هذا السبيل.

فالمهم في الأطوار الدينية هو الحافز الدائم الذي لزم النوع الإنساني من أقدم عصوره، وهو الوجهة القويمة التي يسعى إليها ويقترب منها، ولا تزال بداهة الفطرة سابقة فيها لأشواط العقل في مضمار الفلسفة والتفكير، وهذه هي معجزة الجهود الدينية عند الالتفات إليها وإنعام النظر فيها، فإن عقول الفلاسفة أقدر على التأمل من بداهة الجماعات، ولكن الذي رأيناه في تاريخ الفلسفة قديمًا وحديثًا أنها أخذت من بداهة الجماعات آساسها المتينة، ولم ترتفع إلى ذروة أعلى من التي ترقى إليها الضمير بعقيدة التوحيد والتنزيه، ولا نفهم هذا عقلًا إلا على اعتبار واحد، وهو أن هداية الله تأخذ بيد الإنسان خطوة فخطوة في هذا المرتقى الوعر، فيهتدي في كل مرحلة من مراحلها بمقدار.

لقد آمن الإنسان بالإله الواحد من طريق العقيدة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ولكنه لم يعرف «السبب الأول» من طريق الفلسفة إلا حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، وكان جل اعتماده في ذلك على الدين.

فمن الدين تلقى الفلاسفة فكرتهم عن الروح، ومن الدين تلقوا فكرتهم عن بطلان الظواهر المادية، ومنه تعلموا التفرقة بين العقل والمادة فتعلموا كيف ينفذون إلى ما وراء الحس ويوغلون في تصفية كنه الموجودات إلى أعماق لا تغوص فيها الأجسام وآفاق لا تدركها الأبصار.

وقد استعاروا من الأديان الأولى عقائد المؤمنين بها في تعليل أصول الكائنات والتنبؤ عن مصيرها بعد وفاء آجالها من الوجود، فقالوا: إن السماء والأرض خلقتا من الماء، وقالوا بالدورات الكونية التي تبدئ العالم وتعيده كرة أخرى على طويل الأدهار والآباد، وقالوا بالحساب والعقاب كما قال سابقوهم من المتدينين، وفهموا أن قدرة الله تخالف قدرة القوى المادية التي تعمل بالجهد والعناء، فتعلموا أن الله يخلق بالكلمة أو بالمشيئة فيفعل ما يريد، وأخذوا من الديانات القديمة صوابها وخطأها وحقائقها وأوهامها، ثم محصوها ومحضوها فلم يجاوزوا بالتمحيص والتمحيض آفاق الإيمان بوحدانية الله.

وإننا لنحسب أن الاهتداء إلى القوة الروحية أو قوة العقل هو أعلى ما ارتفع إليه فكر الإنسان وضميره، بإلهام الدين وبحث الفلسفة والعلوم، فليست القوة كثافة ولا مادة مجسمة للعينين واليدين، وإن القوة المادية نفسها حين تدخل في حساب العقل لهي أقرب إلى أن تُقاس بالأرقام والتقديرات من أن تقاس بالثقل والضخامة، بل الثقل نفسه ليس هو إلا معنى من المعاني نسميه بالجاذبية ونقيسه بالتقديرات الرياضية.

ولهذا نستكبر على البادئين بهذه الفكرة المنزهة قبل عشرات القرون أنهم وثبوا إليها وثبة واحدة وقصدوا بها ما نقصده اليوم حين نتكلم في الفلسفة تارة ونتكلم في العلوم الطبيعية تارة أخرى.

ونتخذ من تطور هذه الفكرة مثالًا للأساليب الإنسانية في الوصول إلى حقائق الأشياء، ودليلًا على القاعدة التي نقررها لوزن الأطوار الدينية بميزانها الصحيح، وهي أن العبرة بالوجهة التي نبلغها لا بالدواعي التي تحركنا إلى تلك الوجهة، وإن قصد الإنسان لا يعبر تمام التعبير عن قصد القضاء الذي يسيره ويغريه بالعمل والاجتهاد.

فنحن نرجح أن العقل الذي خطر له أن الله يخلق بكلمة ولا يخلق بجهد من جهود الحركة المادية — قد استعار هذه الفكرة السامية من شيء رآه لا من شيء بحثه واستقصاه.

وأقرب هذه الأشياء المرئية إليه هي قدرة الساحر على التأثير بكلمةٍ يقولها والسيطرة على الأجسام والأجرام الضخام بالهمهمة والتعزيم، وهي ضرب من الكلام.

والله أقدر من الساحر، فإذا قدر الساحر أن يحرك الصخور بكلمة ويكسر السلاح بكلمة، ويقتل العدو الشجاع بكلمة، فأولى بالخالق الأعظم أن يملك هذه القدرة ويملك ما هو أعظم منها وأدل على المضاء ونفاذ المشيئة، فلا جرم يشاء فيكون ما يشاء.

فلما جاءت الفلسفة وتناولت هذه الفكرة الكبرى لم تصل إلى شوطٍ أبعد من شوطها ولكنها وصلت إلى بداءة أقوم من بداءتها، فكان مثلها في هذا كمثل من وجد الكنز ورسم الدروب التي تتأدى إليه، وكان مثل الأسبقين كمثل من عثر بالكنز فوقع فيه، وبقي الكنز بجوهره ونفاسته لمن يسلك إليه منهجه القويم.

وسنرى للفلسفة — كما رأينا العقيدة — بدايات كثيرة كهذه البداية وتوفيقات كثيرة كهذا التوفيق.

بل سنرى أن بداية الفلسفة نفسها لم تخل من توفيقٍ بَيِّنٍ لا يَدَ فيه لتدبيرِ ذويه.

•••

فقد كان للتوفيق يد ملحوظة في زمان الفلسفة ومكانها، فبدأت حوالي القرن السادس قبل الميلاد في العصر الذي بلغت فيه الديانات القديمة أقصى آمادها من تصور الفكرة الإلهية والعقيدة الروحية، وكان ذلك العصر هو عصر النضج والتمام في الديانة الإسرائيلية، وهي آخر الحلقات في السلسلة القديمة وأول الحلقات في سلسلة جديدة من ديانات الوحي والأنبياء، أو الديانات الكتابية.

أما مكان الفلسفة اليونانية فهو رقعة من الأرض على اتصالٍ بأبناء كل دين قديم من تخوم الهند إلى ضفاف النيل، وزاد اتصالها بتلك الأمم زحوف الفاتحين وجموع المهاجرين، تارة من الشرق إلى الغرب وتارة من الغرب إلى المشرق، فكان اليونان في آسيا الصغرى يعرفون عبادات المجوس والبابليين والمصريين واليهود وكان روادهم ورحالوهم يتنقلون بين الأقطار فيعرفون فيها ما لا يعرف في بلادهم من الخفايا والأسرار، وساعدهم الحظ فخلت بلادهم من الكهانات الراسخة التي تستأثر بالتفكير في مسائل الكون ومسائل العقيدة؛ لأن الكهانات الراسخة إنما تقوم مع العروش العريقة على أودية الأنهار الكبار، كمصر والعراق وبعض الأقاليم الهندية، ولم يكن في أرض يونان كلها نهر تتأثل عليه دولة شامخة وكهانة مستقرة، فطرقوا أبواب الفكر أحرارًا غير محجمين عن معضلة معقدة ولا منقادين لإمامة متحكمة، فاختاروا فيما أخذوه واختاروا فيما نبذوه، وتزودوا من رسالة الإيمان لرسالة البحث في الحكمة والعلوم.

وهم — على إعفائهم من سلطان الهياكل العريقة — لم تخل فلسفة لهم قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها، ولا استثناء في ذلك لأكبرهم وأقدرهم، وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. فإن طلاقة أرسطو في مباحثه العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولى والحركة الأولى، فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلى الصورة والمادة والتفرقة بين العقل والهيولى.

وأول المشهورين من فلاسفة اليونان طاليس المليطي الملقب بأبي الحكماء، كان يقول — كما قالت الأديان — من قبله إن الماء أصل كل شيء، وإن الروح تحرك المادة، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح، ولا يستطيع المغناطيس مثلًا أن يجذب الحديد إلا بروحٍ فيه.

ويظن شارحوه أنه قال بأصالة الماء لأنه رأى النطفة سائلة ورأى النبات الرطب يدخل الجسم فينقلب فيه إلى حرارة حيوانية، ووهم أن الأرض سابحة على الماء، وأن الشمس تخرج منه وتعود إليه، فإذا غلظ فهو أرض وإذا رق فهو بخار أو نار أو هواء.

والعالم على زعمه مملوء بالأرباب، وهي التي تحرك فيه كل متحرك من الحي والجماد.

وجاء بعده أنكسماندر — ولعله أكبر الحكماء من هذا الطراز — فقال إن الأشياء كلها تخرج من مادة أولية، ولكنها ليست الماء ولا النار ولا الهواء ولا التراب؛ لأن الماء لو كان أصلًا لهذه العناصر لغلب عليها وطردها، وكذلك التراب والهواء والنار فهي إذن سواء كلها في الانتساب إلى أصل أقدم منها، وهي تتزاوج وتتمازج ويود كل عنصر منها أن يجور على حصة غيره في الوجود، فإذا خرج بها الشطط عن سواء الاعتدال عادت كلها إلى معدنها الأول وزالت الفوارق بين الأجسام والأحياء لتعود إلى الوجود من جديد، وهكذا دواليك في حركة دائمة لا انقطاع لها منذ القدم إلى غير نهاية، فهي على هذا دورات كونية كالدورات التي قال بها الهنود البابليون.

ويقول أنكسماندر بالتطهير والتكفير في دورات الخلق المتعاقبة كما يقول بهما الهنود، «فإلى المعدن الذي خرجت منه الأشياء تعود كرة أخرى كما قضي عليها، تكفيرًا وترضية عن جور بعضها على بعض، وفقًا لقضاء الزمن.»

وهو يقول بخروج الإنسان الأول من الماء وطين البحر، ولكنه يستبعد خروجه دفعة واحدة لأنه في طفولته غير مستغن عن الحضانة والكفالة، وكان الأقدمون يزعمون أن سمك «القرش» يقذف جنينه من فيه ثم لا يزال يبتلعه ويقذفه في كل مرة أكبر مما قبلها حتى يبلغ أشده، فيرسله في الماء ولا يعود إلى ابتلاعه، فخطر لأنكسماندر أن الإنسان الأول ربما خرج من جوف حيوان آخر على هذه الوتيرة، ولا يبعد أنه استعار هذا الخاطر من أساطير أهل بابل وما يروونه عن «الإنسان» المائي الذي يتألف من نصف إنسان ونصف حوت.

وظاهر من أقوال أنكسماندر أن مسألة الخلق عنده هي مسألة تحول من شكل إلى شكل ومن صورة إلى صورة، وليست مسألة إنشاء أو إحداث بعد عدم، وإن المادة الأولية التي تئول إليها جميع الموجودات هي كذلك مصدر الأرباب وأنصاف الأرباب، ومصدر الحركات والمتحركات، ولا مهرب لرب أو مربوب من الفناء آخر الأمر في معدنها الأصيل، وهذا بعينه هو مذهب الهنود كما قدمناه.

ولم يزد أناكسمين — تلميذ أنكسماندر — شيئًا يذكر عن أقوال أستاذه في باب المعرفة الإلهية، وإن كانت له تخمينات قيمة في الجاذبية والذرات وتعريفات الحركة، وقد ختمت به مدرسة مليطية ومات في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد.

•••

وكأنما كانت مدرسة مليطية نفخة في بوق مسموع في طليعة جند الحكمة، ولا سيما الحكمة الإلهية، فإن آسيا الصغرى وما حولها أنجبت في الجيل التالي لجيل طاليس وزملائه طائفة من أعظم الفلاسفة أثرًا في مذاهب الحكمة الإلهية، ومن هذه الطائفة أكسينوفان وهيرقليطس وفيثاغورث وديمقريطس وأنكسغوراس ورسالة أكسينوفان الكبرى تنحصر في إنحائه الشديد على كل تشبيه أو تمثيل توصف به الأرباب؛ لأن حقيقة الإله عنده من وراء خيال الإنسان، وإنما يتخيل الإنسان أربابه على هيئته ويعزو إليها أخلاقًا كأخلاقه وأعمالًا كأعماله، ولو كان للحصان يد تحسن التصوير وسئل أن يصور إلهه لصوره حصانًا مثله، ولو تخيل الأثيوبي ربه لتخيله أسود أفطس على مثاله، وهيهات للعقل البشري أن ينفذ إلى الحقيقة الإلهية أو يقاربها بعض المقاربة، فكل ما قيل عنها وما سيقال قد يكون فيه الصواب أو بعض الصواب، ولكنها مصادفة يجهلها القائل ولا يقيسها السامع بقياس معلوم.

أما هيرقليطس فلعله أعظم هؤلاء الأربعة أو أعظم فلاسفة آسيا الصغرى على الإطلاق.

ويرجح أن هيرقليطس اتصل ببعض الآراميين أو ببعض اليهود؛ لأن الآراميين الذين تهودوا كان من عادتهم — كما يتبين من ترجمتهم للتوراة المعروفة بالترجوميم — أن يذكروا كلمة الله «ممرا» Memra والحضور «شكينة» من السكن أو مكان الحضور، وينسبون إليها أعمال الله في مقام الإشارة والتعظيم، فيقولون حضرة الله كما يقولون كلمة الله وهم يعنون الإله، ويؤثرون الإشارة إليه تعظيمًا له عن الذكر الصريح، ومثل هذا شائع إلى اليوم في اللغات الشرقية التي تذكر الحضرة وتعني صاحب الحضرة، وتذكر الأمر والكلمة وتعني صاحب الأمر والكلمة، فكلمة الله على هذا المعنى ترادف أمر الله أو مشيئة الله عند الآراميين واليهود.
وكان هيرقليطس يقول: إن الكلمة Logos هي مِساك الوجود كله، وإنها هي النظام الذي يحيط به ويتغلغل فيه، وإنها لا تصنع إلا الصالح من الأمور «فعند الله كل شيء جميل وخير، ولكن الناس هم الذين يعتبرون بعض الأمور من الخير وبعضها من الشر.»

وتكاد الكلمة عنده أن تكون مرادفة لمعنى الله، فهي النظام الذي يضع كل شيء في موضعه. وكذلك الله: «هو النهار والليل والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والشبع والجوع، ويتخذ الأشكال والمظاهر على اختلاف، كالنار وهي تمتزج بالأبازير فيسمى كل منها باسمه لا باسم النار.»

والاختلاف هو أساس الانسجام والنظام، فلولا النقائص لما كان النغم المنسجم، ولولا التعدد لما كانت الوحدة، «فكل شيء يأتي من الأحد، والأحد يأتي من كل شيء، ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي، وذلك هو الله.»

لكن هيرقليطس لا يقول بالخالق ولا بحاجة الموجودات إلى موجد. «فهذه الدنيا التي هي سواء للجميع لم يخلقها أحد من الآلهة ولا من الناس، ولكنها كانت منذ الأزل وتكون الآن وتظل كائنة في كل زمان، نارًا خالدة تتقد بحساب وتنطفئ بحساب.»

فالنار هي أصل العناصر وهي المصدر الأول لجميع الكائنات، وهي حركة دائمة لا انقطاع لها في لحظة من اللحظات، فأنت لا ترى الشيء الواحد غير مرة واحدة، ولا ترى شمسًا واحدة كل صباح، أو أنت على تعبيره لا تنزل النهر مرتين؛ لأن أمواجه تطرد ولا تبقى كما لمستها في المرة الأولى، وهذا الجَيَشَان الدائم يستخرج من كل شيء ضده، وتتم الألفة بين الأضداد المتقابلة بميزان العدل الذي لا يغفل ولا يَنِي عن تسوية المقادير وزيادة الناقص ونقص الزائد، ولهذا الرأي في الأضداد وتناسقها شأنه في مذاهب الفلسفة الحديثة؛ لأنه رائد الثنائية التي قال بها «هيجل» واشتق منها كارل ماركس مذهبه المشهور في الثنائية المادية.

وهيرقليطس كما تقدم يقول باستغناء الموجودات عن الموجد، ولكنه يقول بحاجتها إلى العدل الإلهي الذي لا قوام لها بغيره، ويتكلم عن الله كلامه عن «ذات» مدبرة مريدة ومن ذاك قوله «إن الله لا شك مِساك العدل في الكون كله»، و«إن أعمال الإنسان خلو من العقل ولكن أعمال الله لا تخلو منه … وما الإنسان إلا كالطفل بالقياس إلى الله … وأعقل الناس كالنسناس بالنسبة إلى الإله، وهو إذا قورن بالإله كان دميمًا شأئهًا كما يشوه أجمل القردة إذا قُرن بالإنسان …»

وقد ولد فيثاغوراس في جزيرة «ساموس» على مقربةٍ من آسيا الصغرى وكان مذهبه نسخة يونانية من الديانة الهندية، فهو يقول بتناسخ الأرواح وبطلان المادة وتجدد الدورات الكونية، ولا يرى حقيقة غير الحقيقة الإلهية المنبثة في الكون كله، ويفهم من كلامه أنه يقول بوحدة الوجود كما يقول بالحلول أي حلول الروح الإلهية في الإنسان حتى يصبح أكثر من إنسان وأقل من إله، كما قال: «هناك أرباب وأناسي، وكائنات مثل فيثاغورث» وأقدم الكائنات عنده أربعة هي: الأب والصمت والعقل والحق، ومن الأولَيْنِ صدر الاثنان الآخران.

وهو يوصي بالحيوان ويحرم أكل لحمه، ويعتقد أن جسد الحيوان قد يشتمل على روح إنسان يتطهر بالتناسخ حتى يكفر عن آثامه فيلحق بالرفيق الأعلى، وتعفى روحه من عقوبة الرجعة إلى الأجساد.

وليست النار ولا عنصر من العناصر التي حصرها القدماء في النار والتراب والهواء والماء أصلًا للموجودات، ولكن العدد هو أصل كل موجود لأنه يلازم الوجود ولا ينفصل عنه كما قد ينفصل عنه اللون أو الثقل أو الحجم أو الكثافة المحسوسة، فالنسب العددية هي مناط الاختلاف بين جميع الأشياء، وهذا الرأي — على ما يبدو من سخفه — هو أقرب إلى الصواب من آراء الفلاسفة الآخرين؛ لأنه يتعزز بالكشوف العلمية عن المادة وسبب الاختلاف بين عناصرها وردها جميعًا إلى حركات تتمايز بالنسب العددية في الخلايا والذرات، وكان ديمقريطس يقول مثل قوله في تركيب الأشياء من العدد، ولكنه يخالفه في المادية ويعني بالعدد عدد الذرات الصغيرة التي تتركب منها جميع الموجودات ومنها الأرباب.

ويأتي أنكسغوراس بعد فيثاغوراس في الزمن والمكانة بين حكماء آسيا الصغرى، وهو الذي عمم كلام هيرقليطس عن الكلمة Logos وسماها Nous أي العقل، ووصفه بأنه جوهر مجرد خالد واحد لا يتعدد، وأنه هو مصدر حركة دوارة تدفع ما خفَّ إلى أعلى الكون، وتهبط بما سفل إلى مركزه، وما من شيء إلا وفيه أضداد حتى أصغر الذرات التي لا ترى بالعين، إلا العقل فإنه منزه عن التعدد والتناقض، وهو الله أو هو الصلة بين الله والعالم، ولا فرق بين العقل في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد إلا بالأداة التي يستخدمها، ولولا تفاوت الأجساد في إتقان الأداة لما اختلفت عقول البشر وعقول الحيوانات وعقول الحجارة الصماء.

والأثر الأكبر الذي يذكر لهذا الفيلسوف أنه كان أول من نقل الفلسفة من آسيا الصغرى إلى أثينا في أيام بركليس، وكانت أثينا قبل ذلك تتنكر للمباحث الفلسفية وتتهم من يبحثون فيها وينقطعون عن الشعائر الدينية، ولم يسلم أنكسغوراس من تعصب أهلها لأنهم سنُّوا قانونًا يعاقب كل من يتعرض للأشياء «التي في العلى» ويهجر عبادة الأرباب الأولمبية وما جرى مجراها، واتهموه بالكفر؛ لأنه كان يقول بأن الشمس صخر محمي، وأن القمر كالأرض من تراب، ولولا بركليس لما نجا من مصير كمصير سقراط بعده بقليل.

وقبل أن ننتقل إلى المدرسة الأثينية الكبرى — وهي مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو — نلم بمدارس ثلاث من مدارس الفلسفة التي كانت لها عناية خاصة، أو كان لها شأن خاص — بمسائل العقيدة الدينية، وهي مدرسة إيطاليا الجنوبية ومدرسة الرواقيين ومدرسة أبيقور، وبعض فلاسفة هذه المدارس لاحق للمدرسة الأثينية في الزمان.

ويرجع نشاط المدرسة الإيطالية أيضًا إلى مدارس آسيا الصغرى؛ لأن فيثاغوراس وأكسينوفان هما صاحبا الفضل الأكبر في تنبيه الأذهان إلى مباحث الفلسفة في إيليا وصقلية بعد هجرتهما من وطنهما الأول، وقد نبغ هنالك كثير من أصحاب الآراء الفلسفية أجدرهم بالذكر في هذا المقام ثلاثة: هم بارمنيد وزينون وأمبدوقليس؛ لأنهم يمثلون كل ناحية من نواحي التفكير في مدارس إيطاليا الجنوبية.

ولباب مذهب بارمنيد أنه لا وجود لغير الواحد، وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر، فلا تغيير ولا أضداد كما يقول هيرقليطس، وإنما هي حالة واحدة نراها على درجات ونحسبها لذلك من قبيل الأضداد، فالبرد قلة في درجة الحرارة، والظلام قلة في درجة الإضاءة، والمرض قلة في درجة الصحة، وقس على ذلك جميع الأضداد من هذا القبيل.

قال مدللًا على بطلان التغيير: «كيف يتأتَّى أن الشيء الذي هو كائن يفقد الكينونة؟ وكيف يتأتَّى أن يكون بعد أن لم يكن؟ فإذا أحدث هذا الشيء فلا بد قبل حدوثه من زمن لم يكن فيه. وكذلك يقال إذا كان حدوثه سيبدأ في المستقبل، وأين تبحث عن أصل الشيء الذي هو كائن؟ وكيف ومتى يحدث نماؤه؟ لا أرى لك أن تقول: إنه يأتي من لا شيء، فإن اللاشيء لا يقبل التعبير، ولا يقبل التفكير.

وما هي يا ترى تلك الضرورة التي توجده في زمن من الأزمان دون سائر الأزمان؟ كذلك يمنعك النظر الثاقب أن تصدق أن الشيء الذي هو كائن يموت إلى جانبه كائن آخر.»

ومعنى هذا أنه لا شيء يأتي من لا شيء، فالعلم قديم لم يحدث، والواحد الذي يؤمن به بارمنيد ليس خالقًا للكون بل هو حقيقة الكون، ويقول في وصفه: إنه كرة محيطة لا تقبل التجزئة؛ لأن كلها حاضر في كل جزء منها.

ويعتبر زينون الأيلي أبرع المدافعين عن مذهب أستاذه بارمنيد، فإنه أبدع تلك النقائض التي رد بها على أنصار هيرقليطس وفيثاغوراس حين أنكروا الوحدة وسخروا من مذهب بارمنيد بتلفيق الأحاجي والأماثيل، فأبدع لهم تلك النقائض البارعة التي تثبت بها الإحالة والخلف على القائلين بالتغير والكثرة، ونجتزئ منها ببعض الأمثلة للدلالة على طريقة هذه المدرسة في إثبات الوحدة الكونية ونفي التعديد والتغيير.

قال ما فحواه: إن الشيء الكثير إذا كانت كثرته بالامتداد فهو قابل للقسمة إلى شطرين، وكل شطر منهما قابل للقسمة إلى شطرين، وهكذا إلى غير نهاية، وهو مستحيل؛ لأن المحدود لا يقبل القسمة بغير حدود. أما إذا قلنا: إن الجزء الذي تنتهي إليه لا يقبل القسمة، فهو مستحيل أيضًا لأنه ذو امتداد، وكل ذي امتداد ينقسم إلى نصفين.

ويقال في الكثرة بالعدد ما يقال في الكثرة بالامتداد، فإن الأعداد منفصل بعضها عن بعض، وبين كل منفصليْنِ تقبل القسمة، ولا تزال تقبلها على النحو الذي تقدم في كثرة الامتداد.

وهو يبطل الحركة؛ لأن التغيير إنما يقوم عليها، ويبدع لذلك نقيضه من قبيل نقائض الكثرة فيقول: إن الحركة لا تنتهي إلى غايتها إلا إذا قطعت نصف المسافة ثم نصف النصف إلى غير نهاية، ومن التناقض أن يقال إن حركة تنتهي بلا نهاية، ويضرب مثلًا آخر بالمسابقة بين عدَّاءٍ وسلحفاة فيقول: إذا سبقت السلحفاة العدَّاء بأقصر مسافة فإن العدَّاء لا يلحق بالسلحفاة إلا إذا عبر المسافة التي بينهما، وفي هذه الأثناء تكون السلحفاة قد سبقته إلى مسافة أخرى لا بد له من عبورها، وهكذا إلى غير انتهاء، وهو محال.

وأكثر هذه النقائض من قبيل المغالطات؛ لأنه يعتبر فيها الزمان ولا يعتبر المكان أو يعتبر فيها المكان ولا يعتبر الزمان، ولكن كلامه عن الجزء الذي لا يتجزأ ينطوي على معنى صحيح يدل على ضلال الحس في تصور المادة والفضاء، ولعل أفضل الحلول لهذه المناقضة هو حل الأفلاطونيين الذين قالوا إن الجسم يتجزأ إلى أن ينمحق فيصير هيولى، أي مادة أولية، والمادة الأولية هي الذرة المنحلة.

ولم يأت زينون الأيلي في باب الإلهيات برأي يزيد على رأي أستاذه، فهو يؤمن بالواحد الذي لا يتعدد، ولا يجعله إلهًا خالقًا منشئًا للعالم من العدم؛ لأنه لا يؤمن بالتغيير ولا بحدوث شيء من لا شيء!

أما أمبدوقليس فهو أقرب الفلاسفة إلى زمرة الشعراء، وكان ينظم فلسفته ويعتمد فيها على الخيال، فقد تخيل العالم كرة، وقال: إن الحب هو إله العالم، والنزاع عدوه الراصد له على الدوام، وكان الحب بداءة في داخل الكرة والنزاع خارجها، فكان الناس يعبدون أفروديت ربة الحب وحدها، ويتجنبون التقرب إليها بالذبائح وسفك الدماء، ثم تطرق النزاع إلى داخل الكرة وخرج الحب منها، ولا يزالان كذلك حتى يتغلب النزاع على الحب، فتتمزق أوصال الوجود، وتنتهي دورة من دورات الأبد، ويبدأ الخلق من جديد.

وكان أمبدوقليس يدعي الحلول ويزعم أنه مشتمل على روح إله، ويروي تلاميذه معجزات له تحسب من خوارق العادات، ويلتمسون منه البركة والرضوان كأنه من القديسين.

وأبقى ما بقي من آرائه في الإلهيات والطبيعيات أن الله «حب» وأن العناصر أربعة: وهي النار والتراب والهواء والماء، وكان السابقون له يذكرونها عرضًا ولكنهم لا يعتبرونها مبادئ المادة على سبيل التحديد.

•••

أما المدرسة الرواقية فقد أوشكت أن تكون نحلة دينية؛ لأنها امتازت بعلم كعلم اللاهوت في المسيحية أو علم الكلام في الإسلام، وهي لاحقة لمدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو في تاريخ الظهور، ولكننا نفردها على حدة قبل الكتابة عن المدرسة الأثينية؛ لأنها نمط مستقل في مباحث الفلسفة على الإجمال، وبينها وبين المدرسة الأثينية فرق واضح في الطبيعة والموضوع.

وأشهر فلاسفتها المستجمعين لنواحي التفكير فيها ثلاثة: هم زينون وكليانتاس وشريسبس، وكلهم متقاربون في تاريخ الميلاد.

فزينون ولد سنة ٣٣٦ قبل الميلاد في قبرص وعاش وعلم في أثينا، وخلاصة رأيه أن الموجود هو الفاعل أو المنفعل، وأن أصل الموجودات كلها النار، وأصل النار الهيولى، والله هو العقل الفاعل والهيولى هي المادة المنفعلة، ولكنه لا يؤمن بوجود لشيءٍ غير مادي، فالله عنده «أثير» لطيف، وروى عنه جالينوس أنه يعارض أفلاطون؛ لأن أفلاطون كان يرى أن الله جوهر منزه عن المادة الجسدية، وزينون يقول: إنه جوهر ذو مادة Soma وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله، وإن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخلل العسل قرص الخلايا، وأن الناموس Nomos وهو بعبارةٍ أخرى مرادف للعقل الحق Orthos Logos أو الكلمة الحقة — هو والإله زيوس شيء واحد يقوم على تصريف مقادير الكون، وكان زينون يرى الكواكب والأيام صفة إلهية، ويعتقد أن الفلك ينتهي بالحريق، وتستكن في ناره جميع خصائص الموجودات المقبلة وأسبابها ومقاديرها، فتعود كرة بعد كرة بفعل العقل وتقديره، ويشملها قضاء مبرم وقانون محكم، كأنها مدينة يسهر عليها حراس الشريعة والنظام.
ويترادف عنده معنى الله والعقل والقدر وزيوس، فكلها وما شابهها من الأسماء تدل على وجود واحد، وقد كان هذا الوجود الواحد متفردًا لا شريك له فشاء أن يخلق الدنيا فأصبح هواء، وأصبح الهواء ماء، وجرت في الماء مادة الخلق أو كلمة الخلق Spermatikos Logos كما تجري مادة التوليد من الأحياء، فبرزت منها مبادئ الأشياء وهي النار والماء والهواء والتراب، ثم برزت الأشياء كلها من هذه المبادئ على التدريج.
وتعريف القدر عند زينون أنه القوة التي تحرك الهيولى، وهي قوة عاقلة؛ لأن ما يتصف بالعقل أعظم مما يتجرد منه، ولا شيء أعظم من الكون Cosmos، فهو عاقل لأنه عظيم.
ويفسر زينون تعدد الآلهة في معتقدات العامة بأنهم بحثوا عن الله في مظاهر الطبيعة المتكاثرة فعددوها ونسجوا حولها الأساطير من تشبيهات الخيال، ولكن هذه التشبيهات إن هي إلا رموز مجازية على حقيقة واقعية، فلما قال الأقدمون إن أورانوس إله السماء خصاه ابنه كرونوس إله زحل — كانوا يفهمون من ذلك أن كوكب زحل هو مناط النظام في السيارات وأنه قادر بذلك على تقسيم دورات الفلك وتقسيم الفصول والسنين، ومن هنا التشابه بين كلمة كرونوس Kronos إله زحل وكلمة كرونوس Chronos أي إله الزمان، كأنهم يقولون إن الزمن قد حد من حركات الأفلاك والسيارات.
ولكن زينون على بلوغه هذه المنزلة من التوحيد وإنكار التشبيهات لم يخلص من اللوثة المادية في تصور الله ولا في تصور الروح، فالروح عنده هي جوهر غازي حار، وهي مركبة من النفس «سيكي Psyche» بمعنى التنفس ومن العقل Varros وهو من عنصر الأثير، ومن نقائض المذهب الرواقي أنه يأبى إقامة الهياكل لله مع هذه المادية فيه؛ لأنها أقل من أن تبلغ مرتقاه.

ولا ينكر زينون كهانة الكهان، بل يقول: إنها لازمة عقلًا؛ لأنه لا غنى عن الكهانة مع وجود العناية التي تتكفل بالسبق إلى التقدير والهداية.

وقد ولد كليانثس Cleanthes بعد زينون بسنوات؛ لأنه ولد على الأرجح سنة ٣٣٢ق.م، وكان مولده بآسيا الصغرى.

ورأيه أن الله روح يسري في جميع أجزاء الكون، وأن الروح الإنسانية قبس من ذلك الروح، وأن الشمس هي مناط النظام في الكون؛ لأنها تنشئ الليل والنهار وتقلب الفصول والسنين.

وهو يقول بالدورات الكونية كما يقول زينون، فمن النار تبدأ جميع الأشياء وإلى النار تعود.

وقد كان إمام اللاهوتيين بين فلاسفة الرواقيين؛ لأنه أول من أسهب في إقامة الأدلة على وجود الله، ومن براهينه اللاهوتية أن اختلاف المزايا والطبائع يستدعي تمييز بعضها على بعض، وأن يكون بعضها أفضل من الجميع، فالحصان مثلًا أفضل من السلحفاة، والثور أفضل من الحمار، والأسد أفضل من الثور، وليس على الأرض ما هو أفضل من الإنسان، ولكنه مع ذلك لا يرتقي إلى المنزلة الفضلى ولا يسلم من الضعف والشر والحماقة، فليس هو مثال الكمال بين الموجودات، ولا بد أن يكون الموجود الحي الكامل شيئًا غير الإنسان، وأن يكون موجودًا مستكملًا للفضائل منزهًا عن كل سوء، ومثل هذا الموجود يطابق صفات الإله، فالإله إذن موجود.

ومن أسباب الإيمان بالله عند كليانثس أربعة أسباب يخصها بالتنويه: وهي الوحي الذي يكشف الغيب، وعظمة الخيرات التي تجود بها الأرض والسماء، ورهبة النفس أمام أسرار الوجود وظواهره الرائعة كالبروق والرعود والعواصف والأهوال والأوبئة والصواعق والبراكين، وهذا النظام المحكم الذي يبدو للنظر في حركات الأجرام السماوية ومواعيد الأفلاك والبروج، مما يرفض العقل حدوثه بالمصادفة والاتفاق.

وكانت لهذا الفيلسوف صلوات يخاطب بها الله كأحسن ما تكون الصلاة، ولكنه يذكر الله باسم زيوس كما كان معروفًا بين الإغريق.

•••

وولد شريسبس Chrisppus ثالث هؤلاء الفلاسفة بعد كليانثس بنحو خمسين سنة، وكان مولده في قليقية ومقر تعليمه في أثينا، وهو أوفرهم محصولًا وإن لم يحفظ من كتبه غير شذرات.

وقد شغل باللاهوت الرواقي كما شغل به كليانثس، ولا سيما براهين وجود الله وبراهين عدله وحكمته في قضائه.

فمن براهينه على وجود الله أن الكون أكبر من أن يخلق للإنسان وحده، فوجوده عبث إن لم يكن هناك إله أكبر من الإنسان.

ومن تلك البراهين أنه «إذا كان هناك شيء يعجز الإنسان عن صنعه فالذي يصنع ذلك الشيء أعظم من الإنسان، وأن الإنسان يعجز عن خلق الكون فلا بد أن يكون القادر على خلقه أعظم منه، وأي موجود أعظم من الإنسان غير الله؟»

ويُرد على من يتخذون الشر دليلًا على بطلان العناية الإلهية بأدلةٍ كثيرة يقول منها في كتابه عن العناية «إنه ليس أضل من أولئك الذين يتخيلون أن الخير قابل للوجود بغير وجود الشر معه؛ لأن الخير والشر ضدان يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر، فكيف يتأتَّى للعدل معنى من المعاني بغير الأخطاء والإساءات؟ وما هو العدل إن لم يكن هو منع الظلم؟ وماذا يفهم إنسان من معنى الشجاعة إلا أنها نقيض الجبن؟ أو من معنى العفة إلا أنها نقيض الشراهة؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هناك حماقة؟ وما بال هؤلاء القوم في حماقتهم يطلبون أن يكون هناك حق ولا يكون هناك باطل؟ وقل مثل ذلك في الخير والشر، والراحة والتعب، والسرور والألم، فإن هذه الأشياء آخذ بعضها برقاب بعض كما قال أفلاطون، فإن نزعت أحدها نزع معه قرينه لا محالة.»

ويعلل الفيلسوف بعض الآلام بأنها عقوبة من الله، أو أخذ من الجزء لإعطاء الكل، وحرمان للفرد لإغداق الخير على المجموع، ويقول: إن زيوس المخلص المنعم مصدر العدل والنظام والسلام يتنزه عن فعل ما لا يحسن ولا يجوز، ولكنه يصنع في الكون كما تصنع الدولة التي تضيق بسكانها، فتبعث بفريقٍ منهم إلى المستعمرات النائية أو إلى ميادين القتال.

ويجيز شريسبس وجود آلهة تتمثل في القوى الكونية دون الإله الأعظم زيوس، ولكنه يعتبرها من أهل الفناء ولا يعفيها من قضاء القيامة التي تشمل الموجودات في نهاية كل دورة كونية، فإن هذه الدورات تأتي على كل موجود غير الإله الباقي وهو مصدر النار ومعيدها إلى التركيب ليستخرج منها أجزاء كون جديد.

•••

وتأتي مدرسة أبيقور ٣٤٢–٢٧٠ في الموضع الوسط بين مدرسة الرواقيين ومدرسة أثينا الكبرى: ونعني منها على الخصوص مذهب أرسطو الذي اشتهر بمذهب المشائين.

فكان أبيقور وتلاميذه يعظمون الآلهة كتعظيم الرواقيين، وينسبون الإله والروح إلى مادة لطيفة كالأثير أو أرق من الأثير، ولكنهم يخالفون الرواقيين في الإيمان بالقيامة الإلهية ويقولون: إن الآلهة في رفيقها الأعلى سعيدة خالدة، وإن السعيد الخالد لا يكرث نفسه بأمره ولا يأمر غيره، ولكنهم يقيمون فوق الكون metakosmia في نعيمٍ وفرح صافٍ مقيم، لا يعرفون تعبًا ولا يتعبون أحدًا، وإنما تحري الأمور عفو السجية بغير تقدير ولا حاجة إلى التقدير.

وهناك مدرسة أخرى غير مدرسة أبيقور ومدرسة زينون لها شأنها في التفكير ولكن لا شأن لها في العقيدة؛ لأنها لا تنقض فيها ولا تبرم، وهي مدرسة الشكوكيين أو اللاأدريين، فلا موضع لها في هذا المقام.

•••

هذه المذاهب كلها كان لها تأثير ملحوظ في تفكير المفكرين بعدها في المسائل الإلهية، فما من مذهب منها إلا وقد أعقب فكرة قام عليها رأي فيلسوف متأخر أو دخلت في رأيه على نحوٍ من الأنحاء.

إلا أن الإجماع متفق على أن المدرسة الأثينية — مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو — هي أعظم مدارس الفلسفة بين الإغريق على التعميم، سواء منها ما نشأ قبل الميلاد وما نشأ بعده، وسواء منها ما نشأ في آسيا الصغرى أو إيطاليا الجنوبية أو مدينة الإسكندرية.

وليس هذا التمييز مرتبطًا بضخامة الأثر في المسائل الإلهية؛ لأن فلسفة الرواقيين وفسلفة فيثاغوراس لا تقل أثرًا في هذه المسائل عن مذاهب الفلسفة الأثينية، ولكنما ارتبط هذا التمييز «أولًا» بعظمة الفلاسفة أنفسهم لأنهم كانوا على اليقين أعظم فلاسفة اليونان قدرًا وأرجحهم عقلًا وأبرزهم عبقرية في شئون البحث والدراسة والحكمة على تعدد جوانبها، وارتبط هذا التمييز ثانيًا بمقياس المنطق الذي خلفوه واصطلح المفكرون بعدهم على الاحتكام إليه في إقامة الحجة وفصل الحدود وتمحيص التعريفات، فاعتمد عليه أقطاب اللاهوت كما اعتمد عليه أقطاب العلم والفلسفة، ولم يزل إلى هذه الأيام مرجعًا معولًا عليه لمن يقبله على علاته ومن يتناوله ببعض التنقيح والتعقيب.

ورأس هذه المدرسة هو سقراط ٤٦٩–٣٩٩ق.م أستاذ أفلاطون، وأسبق القائلين في القدم برد العقيدة والعبادة إلى الضمير.

وقد كان سقراط من أصحاب الهواتف الخفية، وكان يستمع إلى هاتف يخيل إليه أنه يلازمه ويوحي إليه وينفخ في روعه بما يلهمه الرشد والصواب.

ولكنه لم ينصرف إلى مباحث ما وراء الطبيعة كانصرافه إلى مباحث الأخلاق والسياسة وقواعد المعرفة والثقافة النفسية، فكان قصارى ما أثر عنه من الآراء في مسائل العقيدة أنه يؤمن بخلود الروح وسلامتها من الفساد مع الجسد بعد الموت، وأنها ترجع إلى معدنها الأول من الصفاء المنزه عن التجسيد والتركيب، وكان يتكلم عن الآلهة تارة وعن الإله تارة أخرى، إلا أنه ينزهها جميعًا عن تلك الخلائق البشرية التي تعزى إليها في قصص الرواة وأساطير الشعراء، ويؤمن برعايتها للبشر وعكوفها على الخير والسعادة، وينعي على الذين يحسبون العبادة قائمة على القرابين والضحايا وذبائح الماشية، ولا يرى الإنسان عبادة مقبولة إذا خلا من خلوص النية وصفاء الضمير.

ولعله قد أسس قواعد البحث والمنطق بتعويده تلاميذه أن يستخلصوا الحدود والتعريفات من المشاهدات والمحسوسات، وأن يجعلوا هذه الحدود أساسًا للقياس وترتيب النتائج من المقدمات.

ولا شك أن هذه الحدود قد وجهت المفكرين بعده إلى الفصل بين خصائص الأشياء ومقوماتها، وكان أرسطو يتوخاها في تقسيماته المنطقية وتطبيقاته الفلسفية، وبها أقام ذلك السد الحائل بين جميع خصائص العقل وجميع خصائص المادة الأولية أو الهيولى، فكان وضع الحد عندهم أهم من تقرير الجوامع والمقاربات.

•••

وخلفه تلميذه أفلاطون ٤٢٧–٤٣٧ق.م فتبعه في مباحث الأخلاق والسياسة والثقافة النفسية، وتبع فيثاغوراس في العقائد الروحية ومزج الفلسفة بالرياضة والدين.

ولو لم يكن أفلاطون وثني البيئة لكان أرفع الإلهيين تنزيهًا للوحدانية، ولكن البيئة الوثنية غلبته على تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات، فأدخل في عقيدته أربابًا وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد، ولا سيما عند الفلاسفة والموحدين.

فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق وطبقة المادة الأولية أو الهيولى Hule.

والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولى.

وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى.

وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب وبعضها أنصاف أرباب وبعضها نفوس بشرية، وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر والهيولى العاجزة، فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين.

وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع؛ لأنها تتغير وتتلون وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال.

وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره، وفي العقل المجرد تستقر الموجودات «الصحائح» أو المثل كما سميت في الكتب العربية، وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد.

هذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولى، فكل شجرة — مثلًا — فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية، فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم، وكل ما تلبس بالمادة من خصائص الشجرية فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى.

وبقاء هذه الموجودات هو أيضًا محاكاة لبقاء الله.

فبقاء الله بقاء أبدي لا أول له ولا آخر ولا تحول فيه ولا تقلب، ولا تعرض له الزيادة ولا النقصان.

أما بقاء هذه الموجودات فهو بقاء في الزمان، والزمان مخلوق من حركة الأفلاك، فهو مقياس لبقاء المخلوقات وليس بمقياس لبقاء الخالق، وإنما شاء الله بجوده ورحمته أن يعطي الموجودات نصيبها من البقاء فأعطاها الزمان، وهو محاكاة للأبد السرمدي الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، كما أن الموجودات المحسوسة محاكاة للموجودات المثالية التي يعقلها الله وتخرجها أنصاف الأرباب إلى حيز الوجود، فتنقص؛ لأن أنصاف الأرباب لا تعقلها كما يعقلها الله؛ ولأن التلبس بالمادة يحيطها بالحدود وينضح عليها من عوامل الفساد.

والعقل البشري يعلو فيدرك الحقائق المجردة، ويهبط فيدرك المحسوسات بالتجربة والمشاهدة، ومن أمثلة الحقائق التي تدرك بغير تجربة حسية حقائق الرياضة العليا، فإن الله مهندس، وأحكامه هي الهندسة القائمة على نسب الأعداد المجردة، ومعرفتها معرفة عقلية يدركها الإنسان بصفاء القريحة، وربما كانت هذه النسب أو الأعداد مرادفة للمثل العليا أو للصحائح في فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما ذكره عنها في أيامه الأخيرة، ورجع به إلى فيثاغوراس.

وقد رجع أفلاطون إلى فيثاغوراس في القول بتناسخ الأرواح وتجدد الآجال على حسب الحسنات والسيئات.

فالنفس البشرية إذا استلهمت القدرة من العقل الإلهي تغلبت على عجز المادة والجسد وصعدت إلى معدنها الأول، فخلصت إلى عالم البقاء الذي لا يشوبه فساد، ولكنها إذا رزحت بثقل المادة واستسلمت لعجزها ونسيت قدرتها على مكافحتها هبطت من جسد إلى جسد أحقر منه وأدنى، فكانت في جسم حيوان بعد أن كانت في جسم إنسان، وانحدرت من حيوان كريم إلى حشرة لئيمة، حتى تفيق من غشيتها وتستأنف في عالم العقل المجرد سيرتها الأولى.

فالهيولى مقاومة للعقل المجرد وليست موجودة بمشيئته من العدم، ولعل أفلاطون لم يحاول أن يردها إلى العدم، أو يقول بوجودها من العدم؛ لأنها كانت حقيقة واقعة في رأي سابقيه من فلاسفة اليونان، ولأنها ساعدته على تعليل النقص والشر والألم، فوقف بها بين الكمال المطلق الذي ينبغي للإله الأعظم، وبين عوارض القصور التي تقترن بغيره من الموجودات.

•••

وقام بعد أفلاطون تلميذه العظيم «أرسطو» فتوسع فيما بعد الطبيعة توسعًا لم يسبق إليه بين فلاسفة الأوائل، ووضع للجدل معياره الذي سمي بعد ذلك بعلم المنطق، وفصل بين الحدود فبالغ أحيانًا في الفصل بينها، ولكنه أقام القواعد الأولى على أساسٍ صحيح.

والله عند أرسطو هو العلة الأولى أو المحرك الأول.

فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولا بد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك؛ لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية.

وهذا المحرك الذي لا يتحرك لا بد أن يكون سرمدًا لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملًا منزهًا عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنيًا بوجوده عن كل موجود.

وهذا المحرك الأول سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني؛ لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه، أو كما قال: «لا يخلق العالم في زمان.»

وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين، إلا أنه يقرر في كتاب «الجدل» أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان.

وإجمال براهينه في هذه القضية أن إحداث العالم يستلزم تغييرًا في إرادة الله والله منزه عن الغير، فهو إذا أحدث العالم فإنما يحدثه ليبقى جل جلاله كما كان، أو يحدثه لما هو أفضل، أو يحدثه لما هو مفضول، وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله، فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان فذاك عبث والله منزه عن العبث، وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان فلا محل للزيادة على كماله، وإذا أحدثه ليصبح مفضولًا فذلك نقص يتنزه عنه الكمال.

وإذا كانت إرادة الله قديمة لا تتغير — فوجود العالم ينبغي أن يكون قديمًا كإرادة الله؛ لأن إرادة الله هي علة وجود العالم، وليست هذه العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب لها غيره.

فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئًا ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسيلة أو لعارض طارئ أو لعدول عن الإرادة، وكل ذلك ممتنع في حق الله.

وقد أفرط أرسطو في هذا القياس حتى قال: إن الله جل وعلا لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها.

وإنما يعقل الله أفضل المعقولات، وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو هو العاقل والعقل والمعقول، وذلك أفضل ما يكون.

والعقل بالنسبة إلى الله يخالف العقل بالنسبة إلى غيره من الموجودات الفانية، فإن الإنسان يعقل الجزئيات بعد وقوعها ثم يعقل الكليات بعد استقصاء الجزئيات، ويلزمه ذلك لأنه يعلم بعد جهل ويتوقف علمه على المعلوم، وليس علم الله متوقفًا على ما عداه.

وكل صفة من صفات الله فهي تتعلق به ولا تتعلق بغيره، وهي قائمة به ولا تقوم على غيره، ومن هذه الصفات الإرادة والعلم كما تقدم، ومنها الكرم والرحمة والخير والعدل والحكمة وسائر صفات الكمال.

فالله لا يريد العالم؛ لأنه لا يحتاج إليه.

ولكن العالم يريد الله؛ لأنه متوقف عليه.

ويسأل السائل: إذن كيف يكون هذا التوقف إن لم يكن بعملٍ من أعمال المشيئة الإلهية في الجملة والتفصيل؟

وجواب أرسطو على هذا السؤال أنه يكون بسعي الناقص إلى طلب الكمال، أو بسعي الموجودات إلى التشبه بعلتها الأولى، فالله أعطاها العقل، والعقل يبعث فيها الشوق إلى مصدرها الأول. فتتحرك وتعلو بالحركة، أو تكسب في كل حركة صورة أرفع من صورتها، وحظًّا من الكمال أرفع من حظها، تقربًا إلى الصورة التي لا تشوبها شائبة من عجز المادة أو الهيولى، وهي الصورة السرمدية الكاملة: صورة الله.

•••

ولا يفهم معنى هذا الارتفاع إلا إذا فهم معنى الصورة في مذهب أرسطو فالصورة في مذهبه هي حقيقة الشيء وماهيته التي يقوم بها وجوده، وليست هي شكله البادي للعين أو تمثاله الملموس باليدين.

فصورة العصفور هي حقيقته التي يكون بها عصفورًا، ولا يكون غير ذلك من الطيور أو الأحياء على العموم.

وصورة الدرهم هي جوهره الذي يميزه من سائر قطع الفضة وسائر قطع النقد ويجعله درهمًا وتزول عنه «الدرهمية» إذا زال.

ولا يخلو موجود في العالم من الصورة.

فكل موجود فهو صورة ومادة أو «هيولى.»

وتترقى الموجودات في شرف الوجود كلما عظم نصيبها من الصورة وقل نصيبها من الهيولى.

فالموجودات الخسيسة يوشك أن تكون هيولى محضًا خالية من كل صورة، فلا فرق بين جزء وجزء ولا بين فرد وآخر من الجنس نفسه.

وكلما ارتقت في سلم الوجود زاد نصيبها من الصورة المميزة وقل نصيبها من الهيولى المتشابهة، وربما أصبحت صورة جسم مادة لجسم آخر، كالورق الذي هو صورة مميزة لبعض الموجودات وهو في الوقت نفسه مادة للكتاب.

وأعلى الموجودات على هذا القياس هو الله؛ لأنه صورة محض لا تشوبه المادة، ومعنى مجرد لا يقوم في جسد.

وأخس الموجودات جميعًا هو الهيولى، وهي لم توجد قط منعزلة عن صورة من الصور، وإذا وجدت منعزلة عن الصورة فهي وجود بالقوة أي وجود لم يتحقق بالفعل ولا يزال في انتظار التحقيق.

والحركة هي التي تحققه.

والحركة هي التي ترتقي به من صورة إلى صورة.

ولما كان الله هو المحرك الأول كما تقدم فهو موجد العالم على هذا الاعتبار، وهو قبلته التي يرتقي إليها، شوقًا إلى مصدره منها.

وهذه هي الصلة كلها بين الله والعالم: فلا ينسب إلى الله في مذهب أرسطو أنه يهتم بالعالم أو يفكر فيه؛ لأنه تفكير فيما دونه أو تفكير لا يليق بكماله، ولا يعقل الله جل وعلا إلا أشرف معقول، وهو ذاته دون سواها.

وهذا هو الخطأ الذي جاء من الغلو في مذهب أرسطو: تناوله الحكماء الدينيون فلم ينكروا المقدمات ولكنهم أنكروا النتيجة التي تأدى إليها أرسطو من مقدماته، فقالوا: إن الله لا يعقل إلا أشرف معقول. نعم لا جدال في ذلك، ولكن أشرف معقول هو المعقول الذي يتحقق به كمال صفاته من القدرة والعلم والرحمة والجود، وإنما يتحقق جوده بإيجاد المخلوقات، ويتحقق علمه بنفي الجهل بها، وتتحقق رحمته برعايتها وتهذيبها. أما كيف يكون ذلك فالبحث فيه هو علة الخطأ في جميع تلك الفروض والأقيسة؛ لأنه سبحانه وتعالى جل عن الشبيه، فليس كمثله شيء، وليست أعمالنا كأعماله على فرض من الفروض.

ويقول أرسطو بوجود الروح ولكنه لا يقول ببقاء الروح الفردية بعد الموت، فالروح من عالم العقل، والعقل واحد في جميع الأفراد، وهم إذا اختلفوا بالأذواق الجسدية لم يختلفوا بالمدركات العقلية، فلا اختلاف بين إنسانين في إدراك الحقائق المجردة كالرياضة والمنطق وما جرى مجراها، ومؤدى هذا عند أرسطو أن العقل المجرد لا فردية فيه، وأن الروح تعود إلى العقل العام بعد فراقها للجسد، فلا فردية لها بعد الموت، ولكنها لا تفنى ولا تقبل الفناء.

•••

ذلك أوجز تلخيص مستطاع لمذهب المدرسة الأثينية في الحكمة الإلهية، وقد توخينا فيه ما يكفي لتقدير خطوتها في هذه المرحلة الإنسانية الخالدة، فليس يدخل في موضوع هذا الكتاب تلخيص آرائها في غير فكرة الإيمان بالله.

ولعلنا نقدر هذه الخطوة حق قدرها إذا قلنا: إن المدرسة الأثينية عرضت على الفهم ما أخذته من إيمان الأولين، فنقلت البناء من أساس الإيمان إلى أساس البحث والقياس، وإن موقفها من المادة كان كموقف التسليم «بالأمر الواقع» كما يقولون في لغة السياسة؛ لأنها لم تقل بقدم العالم إنكارًا لوجود العقل المستقل كما أنكره الماديون في العصور التالية، ولكنها قالت بقدم العالم رأيًا لأنها وجدته ماثلًا أمامها حسًّا، فلم تستطع أن تقاوم الحس في الماضي كما لم تستطع أن تقاومه في الحال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤