المسيحية

لما ولد المسيح عليه السلام — والأرجح أنه ولد قبل التاريخ المشهور بأربع سنوات — كان كل ما في الشرق ينبئ برسالة مرتقبة واعتقاد جديد.

كان اليهود يترقبون المسيح المنتظر على رأس الألف الخامسة للخليقة، وهي عندهم مبدأ التقويم؛ لأن الاعتقاد العام كما قدمنا في تاريخ فارس وما بين النهرين كان يتجه إلى انتظار الخلاص في مطلع كل ألف سنة على يد رسول من السماء.

فجاش الأردن وما حوله بدعوة يحيى بن زكريا أو يوحنا المغتسل المشهور بالمعمدان، وراح هذا النبي يدعوهم إلى التوبة والاغتسال من الذنوب، ويرمز إلى التطهر من الدنس بالتطهر في بحر الأردن على يديه، ويبشرهم أو ينذرهم بقرب «ملكوت الله» أو ملكوت السماء، وهو الملكوت الموعود منذ قرون.

وكان اليهود قد فهموا «ملكوت الله» على معنى غير الذي فهموه وتوارثوه من أيام السبي وزوال مملكة داود وسليمان.

فقد كانوا ينتظرون ملكا «مسيحا» من قبيل ملوكهم الذين كانوا يمسحونهم بالزيت المقدس ويسمونهم من أجل ذلك بمسحاء الرب أو المسحاء.

وكانوا يترقبون رجعة الدولة على يد فاتح ظافر من أبناء داود يجرد الكتائب ويجتاح القلاع والدساكر، ويقمع أعداءهم بالنار والحديد.

وتجدد رجاؤهم في مسيح من هذا القبيل بعد سقوط أعدائهم الأقوياء وذهاب دولة البابليين والمصريين، فلما تطاول الزمن ووقعت بلادهم في قبضة الدولة الرومانية — وهي في قوتها وعجز اليهود عن مقاومتها لا تقل في الدولتين الذاهبتين — يئسوا من الخلاص على أيدي الفاتحين الظافرين وتحولوا إلى الرجاء في قيام مسيح غير مسحاء العروش والتيجان، فترقبوه مسيحًا في عالم الروح، وعلم الصالحون منهم أن الخلاص المنتظر إنما هو خلاص النفوس والضمائر بالتوبة والتطهير.

وكان أنبياؤهم قد بشروا بذلك المسيح قبل عصر الميلاد ببضعة قرون، فإذا هم يتدرجون من وصفه بالقوة والبأس إلى وصفه بالرحمة والحنان، ويتمثلونه وديعًا رضيًّا يتجافى صهوات الخيل ويمتطي في موكبه حمارًا ابن أتان.

هذا في نطاق الديانة الإسرائيلية.

أما في نطاق البحث والحكمة فإن الفلسفة كانت في ذلك العصر قد أوفت على غايتها، وأطلعت أعظم أعلامها وأكبر مدارسها، وشاعت في البلاد الفينيقية على الخصوص؛ لأن هذه البلاد كانت منشأ الرواقيين السابقين وكانت على اتصالٍ دائم بآسيا الصغرى من جهة وبالإسكندرية من جهة أخرى، وهي يومئذ قبلة الفلاسفة والحكماء.

ومن هؤلاء الفلاسفة من بشر بالكلمة الإلهية وقال إن هذه الكلمة — ويعني بها العقل الإلهي — هي مبعث كل حركة ومصدر كل وجود.

ومنهم من قال إن الحب هو أصل جميع الموجودات ومِساك جميع الأكوان، ومنهم من وعظ بالنسك والعفة وأوصى بالشفقة على الإنسان والحيوان وحرم ذبحه وزعم له روحًا كانت تعقل في حين مضى وستعود إلى العقل بعد حين.

وليس أدل على تهيؤ الجو للرسالة الجديدة من التمهيد لها في نطاق الفلسفة ونطاق الديانة في وقتٍ واحد.

فكانت دعوة «يوحنا المعمدان» تقابلها دعوة فيلون الفيلسوف الإلهي الذي ولد بالأسكندرية قبل مولد السيد المسيح بنحو عشرين سنة، وكان فيلون يجمع حكمة العصر من جميع أطرافها؛ لأنه كان يهوديًّا محيطًا بثقافة قومه وفيلسوفًا محيطًا بمذاهب الفلسفة اليونانية، ووطنيًّا مصريًّا محيطًا بالحكمة الدينية التي نبعت من معين التاريخ المصري القديم، وامتزجت بالعقائد السرية الأخرى في بلاد الرومان واليونان وآسيا الصغرى، وأهمها عقيدة إيزيس وعقيدة أوزيريس سرابيس التي تأسست بالإسكندرية وتفرعت في أثينا وبومبي ورومة وبعض الموانئ الآسيوية، وكانت لهذه الديانة مراسم خفية يترقى فيها المريد على أيدي الكهان والرؤساء في المحاريب السرية، وأول هذه المراسم صلاة القبول — التطهير — أو هي صلاة البعث التي يتقدم إليها المريد، كأنه ميت بالروح يطلب الحياة بالروح أو يطلب الخلاص من أرهاق الجسد وخبائث الشهوات، ويعتبر بعدها من الواصلين إلى حظيرة الرضوان.

وكان لتفسير هذه الرموز أثر في تفسير فيلون لرموز الديانة الإسرائيلية، فتجاور النصوص والمراسم إلى ما وراءها من الدلالات الروحية كما تكشفت له على أضواء الفلسفة اليونانية، ووصل من ثم إلى الإيمان بالعقل الإلهي أو الكلمة Logos كأنها «ذات» لها صفات الذات الإلهية.

بل وجد من وعاظ بني إسرائيل أنفسهم قبيل عصر المسيح من مزج الأقاويل اليونانية بالعقيدة الإسرائيلية، فكان أصحاب الرؤى في كتب أخنوخ يعلمون تلاميذهم أن الحكمة خلقت الإنسان من سبعة عناصر، فخلقت اللحم من التراب والدم من الندى والبصر من نور الشمس والعظام من الحجارة والذكاء من السحب والملائكة، والعروق من العشب، والروح من أنفاس الله، وإن خلق الأرواح سابق لخلق الدنيا بأرضها وسمائها؛ لأنها عنصر خالد لا يزول.

•••

في هذا الجو المتطلع إلى الرسالة الروحية ولد السيد المسيح صلوات الله عليه، وكان يستمع العظات من يوحنا المعمدان ويتقبل «العمادة» من يديه، فلما قتل يوحنا لم يرهبه مصرعه الأليم، ونهض بأمانة الدعوة بعده في بلاد الجليل ثم في بيت المقدس، وفي الهيكل الأكبر معقل الأحبار والكهان وعاصمة «الدولة الدينية» في بني إسرائيل.

وكانت بشارته أعظم فتح في عالم الروح؛ لأنها نقلت العبادة من المظاهر والمراسم إلى الحقائق الأبدية، أو نقلتها من عالم الحس إلى عالم الضمير.

فلم ينتظر ملكوت الله في حادث من الحوادث الدنيوية الكبرى أو الصغرى، بل علم الناس أن ملكوت الله قائم في ضمائرهم وموجود في كل حقبة وكل مكان: «ولا يأتي على موعد فرتقب، ولا يقولون هو ذا هنا أو هو ذا هناك؛ لأن ملكوت الله فيكم.»

ولم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولًا رفع الضمير الإنساني كما رفعه، ورد إليه العقيدة كلها كما ردها إليه.

فقد جعله كفؤًا للعالم بأسره بل يزيد عليه؛ لأن من ربح العالم وفقد ضميره فهو مغبون في هذه الصفقة الخاسرة. «وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟»

والطهر كل الطهر في نقاء الضمير، فمناط الخير كله فيه ومرجع اليقين كله إليه: «فليس شيء من خارج الإنسان يدنسه، بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يدنس الإنسان.»

وهناك حياته وبقاؤه: «فليس حياته من أمواله …»

وهناك قوامه وطعامه: «فليس بالخبز وحده يحيا … بل بكل كلمةٍ من كلمات الله …» و«… الحياة أفضل من الطعام.»

وكان ينعي على القراء والعاكفين على التلاوات ومراسم العبادة فرط الولع بظواهر الأفعال دون حقائق الإيمان، ويقول لهم: «نقوا الكأس من داخلها» فظاهرها لا يضير ما فيها.

وكان ينكر كل ما يراد به الظاهر ولا ينبعث من أعماق الوجدان، فلا إحسان عنده لمن يتراءى بالإحسان؛ لأنه تاجر أخذ ربحه، فلا حق له عند الله: «احترزوا من صدقة تصنعونها أمام الناس، وإلا فلا أجر لكم عند أبيكم الذي في السموات، وإذا بذلت الصدقة فلا تنفخ أمامك بالأبواق كما يفعل المراءون تفاخرًا بين الناس، فالحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك، فأبوك الذي يراك في الخفاء يجزيك في العلانية.»

وكل شيء في عالم الحس ينقاد لقوة الضمير: «فلو كان لكم إيمان كحبة خردل لأمرتم هذه الشجرة أن تخرج من منبتها وتنغرس في ماء البحر فتطيع.»

وعلى تبشيره بالرحمة والمحبة لم يكن ينكص عن الثورة في عالم الروح؛ لأنها هي الثورة التي تستحق أن تثار: «جئت لألقي نارًا فماذا علي لو اضطرمت النار؟»

فجانب الضمير هو الجانب الذي توجهت إليه رسالة السيد المسيح، ورعاية الله لروح الإنسان هي الملاذ الذي رأى الناس منصرفين عنه فعاد بهم إليه.

وكانوا يؤمنون بالله الخالق وبالله الذي ينزل عليهم الشرائع ويحاسبهم على الطاعة والعصيان، ولكنهم نسوا رعاية الله ولم يريدوا أن يحبوه كما أرادوا أن يطيعوه، فعلمهم أن الله محبة، وأن أقرب الناس إلى الله من أحب الله وأحب خلق الله، ومنهم المطرودون والعصاة، ولا يستحق غفرانه من لم يتعلم كيف يغفر للمسيئين إليه: «… إن أخطأ إليك أخوك فوبِّخه، وإن تاب فاغفر له، وإن أخطأ إليك سبعًا في اليوم وتاب إليك سبعًا في اليوم فاقبل توبته واغفر له.»

وقد وجد عند بني إسرائيل كفاية وفوق الكفاية من كلامهم عن إله الشرائع وإله الخلق وإله هذا الشعب من الشعوب دون سائر بني الإنسان، فذكرهم بالله الذي يرعاهم فوق رعاية الأب الرحيم، وعليهم أن يثقوا به فوق الثقة بسعيهم في طلب المال والحيلة في تحصيل المعاش: «أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماوي يقوتها … ألستم أنتم أحرى بالتفضيل عليها؟ من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو وهي لا تتعب ولا تغزل، وسليمان في كل مجده لا يلبس كواحدة فيها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدًا في التنور يلبسه الله ذلك اللباس أفليس أحرى أن يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟!»

وعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم قول السيد المسيح حين قال: «ما جئت لأنقض على الناموس بل لأكمله»، وحين جاءوه بالزانية فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر»، فإنه لم يأت بإلغاء الشريعة ولا بإسقاط الجزاء، ولكنه نقل الإيمان بالله من الحرف إلى المعنى، ومن القشور إلى اللباب، ومن ظواهر الرياء إلى حقائق الخير الذي لا رقابة عليه لغير الضمير، ورأى عند اليهود ما هو حسبهم من شرائع الأنبياء وشرائع الرومان فقال لهم: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وذكرهم بجانب الرحمة والإحسان وقد نسوه، ولم يذكروا غير جانب الغضب والقصاص.

وقد أشار السيد المسيح إلى نفسه بتعريفاتٍ كثيرة رواها عنه كتاب الأناجيل، فكان إذا تكلم عن نفسه قال: «أنا ابن الإنسان» أو: «أنا نور العالم» أو: «أنا خبز الحياة» أو: «أنا الطريق والحق والحياة» أو: «أنا القيامة والحياة» أو: «أنا الراعي الصالح، وأنا المعلم والسيد» أو: «أنا الكرمة الحقيقية.» ولم يذكر نفسه باسم المسيح ولكنه بارك الحواري بطرس حين سماه به، وقال له إنه اهتدى إلى حقيقته بنفحةٍ من نفحات الروح.

ولم تكتب هذه الأناجيل في عصر السيد المسيح بل بعد عصره بجيلين، ولكن مواضع الاتفاق فيها تدل على رسالة واحدة صدرت من وحي واحد، ويؤكد لنا وحدة هذه الرسالة أن فكرة الله فيها لا تشبهها فكرة أخرى في ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية، فقد كانت هناك ديانات طافحة بالشعائر الخفية والمراسم التقليدية، وكانت هناك ديانات تفهم العلاقة بين الله والإنسان كأنها ضرب من علاقة الحاكم بالمحكوم أو الصانع بالمصنوع أو العلة بالمعلول، ولكن الفكرة المسيحية التي قررتها الأقوال المتفقة في الأناجيل تتميز كل التميز عن مجمل الأفكار الإسرائيلية أو الأفكار الهندية والمجوسية أو أفكار المؤمنين بعقائد الفلسفة أو العقائد السرية، فالعلاقة بين الإنسان وخالقه في بشارة السيد المسيح هي العلاقة بين الروح ومصدرها وبين الحياة وينبوعها، بين المكفول وكافله، وبين الرعية وراعيها، ولم تتفق هذه الصفة في ديانة واحدة من ديانات ذلك العصر كما اتفقت في الديانة المسيحية، وهي في رأينا علامة جوهرية لا تقل في قوتها عن أسانيد التاريخ التي تبطل شكوك المترددين في وجود السيد المسيح.

وإنما طرأت الشبهة على أذهان أولئك المترددين من تماثل بعض الشعائر على النحو الذي أجملناه في نقدنا لكتاب إميل لدفج عن السيد المسيح حيث نقول: إن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها، حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة المثرية؛ إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلًا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث، وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح، على أن هذا اليوم أيضًا كان عيد الإله ديونيسيس عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد أوزيريس عند المصريين، ولا يزال متخلفًا في العادات المصرية إلى اليوم، ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة — وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم — كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم، ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم عيد الغطاس، وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارًا لآلام السيد المسيح قبل الصلب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله أتيس إله الرعاة المولود من نانا العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.

وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسمًا مختارًا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين مثل أدونيس ابن ميرة وهرمز ابن مايا وفيروش ابن مريانا وموسى ابن مريم وبوذا ابن مايا وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذاتٍ معينة.

ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حوريس كانت رمزًا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس Stella Maris فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان بعض الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس والمصريون يعتقدون في رع والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى؛ إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها. وقال ترتوليان إن شعاعًا سماويًّا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح. أما التفكير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى مواطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات فكن يندبنه على باب الهيكل وأنَّبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلًا يسمى يسوع قُتل وعُلِّق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.

والعشاء الرباني كان معروفًا في عبادة مترا على الطريقة التي عرف بها في المسيحية، بل الخبز الذي يتناوله عباد مترا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أَسِف جوستن مارتر في سنة ١٤٠م لهذه المشابهة وعدَّها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.

والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرًا معروفة في عبادة ديونيس إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الحمل والحمار، وعلى الحمار كان ركوبه حتى قيل إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيس في ركوب الأتان وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المذود الذي وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينته الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود؛ إذ لم يكن لها موضع في المنزل.» أما الإحصاء في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس ولم تجر العادة قط في دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها أجدادهم الأسبقون ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من عدة جهات.

ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ولد فيه، فمن قائل أنه ولد في الناصرة، ومن قائل أنه ولد في بيت لحم، والذين يقولون أنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا في الناصرة، وجاء في إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات كهذه عن النمرود وفرعون مصر وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم. فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد على التاريخ ولم تكتب هي ولا كتب غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين. أما الذين عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئًا ولم يدونوا له خبرًا، حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات فوجده غفلًا من ذكره، وهو مولود حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمةٍ واحدة إلى الخوارق التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة. وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص.

وقد جمعنا فيما تقدم جميع الملاحظات التي أوردها المتشككون في وجود السيد المسيح، وهي جديرة بالتمحيص لأنها وثيقة الصلة بأسانيد المقارنة بين الأديان، ويتوقف على تقرير قيمتها تقويم الكثرة الغالبة من تلك المقارنات.

وأول ما نرى أن أصحاب هذه الملاحظات قد نسوه وأغفلوه ولم يقدروا قيمته أن السيد المسيح هو صاحب الدين الذي كان أكثر الأديان نعيًا على ظواهر المراسم والشعائر والنصوص، فمن الغريب أن يجعلوا تشابه المراسم والشعائر والنصوص مبطلًا لوجود من أنكرها وأقام دعوته الكبرى على إنكارها.

وأغرب من هذا أن يتخذوا تشابه المراسم والأخبار دليلًا على تلفيق تاريخ السيد المسيح، مع أن التواريخ جميعًا حافلة بأسماء الأبطال المحققين الذين نسب إليهم كل عمل من نوع أعمالهم وكل خليقة من نوع خلائقهم، فإذا اشتهروا بالشجاعة رويت عنهم كل أخبار الشجعان، ما ثبت منها لهم وما لم يثبت منها إلا لغيرهم، وإذا اشتهروا بالفكاهة نسبت إليهم فكاهات المعروفين والمجهولين، ولا تزال تنسب إليهم على ممر السنين، وهكذا يصنع الرواة بأخبار كل مشهور سواء كانت شهرته بالمحمود أو بالمذموم من الصفات.

فإذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح فليس في هذا الاختلاط بدع ولا دليل قاطع على الإنكار، وقد قلنا في تعليقنا على تلك الملاحظات: إنه «لو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل لوجب أن نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي أحياها على سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية، وفي مقدمتها انتظار الإمام أو المهدي أو المسيح، وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية والإسرائيلية ووثنية المجوس.»

ومما فات أصحاب الملاحظات المتقدمة أن آباء الكنائس الأولى لم يحتفلوا بتلك الأعياد وهم يجهلون تواريخها، ولكنهم بدأوا بالاحتفال بها لاعتبارهم أن إكرام السيد المسيح فيها أجدر بالمسيحيين من إكرام الشمس والكواكب وسائر الأرباب الوثنية، وكانوا يرون أتباع الكنيسة يندفعون إلى محافل الوثنيين في تلك الأيام فيصرفونهم عنها بإحياء المحافل التي تقابلها وتمجيد السيد المسيح فيها بديلًا من تمجيد الأوثان، وعلى هذه السنة خصصوا يوم الأحد للعبادة لأنه كان يوم الشمس في ديانة عبادها الأقدمين، واسم هذا اليوم بالإنجليزية Sunday يدل على بقايا ذلك الدين المهجور.

وأقطع من هذا في استضعاف تلك الملاحظات أن روح المسيحية في إدراك فكرة الله هي روح متناسقة، تشف عن جوهر واحد لا يشبهه إدراك فكرة الله في عبادة من تلك العبادات.

فالإيمان بالله على تلك الصفة فتح جديد لرسالة السيد المسيح لم يسبقه إليها في اجتماع مقوماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين، ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا وهناك، بل كانت كُلًّا متجانسًا من وحي واحد وطبيعة واحدة، وإن وجدت هذه الأجزاء متفرقة هنا وهناك قبل ذاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤