التصوف

لا بُدَّ من فصل خاص عن التصوف بين فصول الكلام على الفكرة الإلهية؛ لأنه ينفرد بتفسيرات في هذا الموضوع لا تتواتر في العقائد العامة ولا تشبه المذاهب العقلية التي يذهب إليها الفلاسفة.

وهو ملكة فردية يستعد لها بعض الآحاد ولا تشيع في الجماعات، وقد توصف «بالعبقرية الدينية» إذا بلغت مرتبة التأصل والابتكار.

ومن لغو القول أن يقال إن هذه العبقرية هي نوع من التسامي بالغريزة النوعية أو الجنسية، لكثرة ما يرد في أقوال المتصوفة من عبارات الغزل وكنايات الوجد والشوق والهيام.

فهم في الواقع يكثرون من هذه العبارات والكنايات، ويتكلمون في الوصل والهجر والشوق والدلال كما يتكلم العشاق في قصائد الغزل والمناجاة.

فيقول الحلاج مثلًا: «يا أهل الإسلام! أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه.»

وتقول رابعة العدوية:

أحبك حبَّيْنِ حب الهوى
وحب لأنك أهل لِذَاكَا
ويبرز هذا المعنى كل البروز حيث يقول ابن عربي في حلمٍ رآه:

رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذَّةٍ عظيمة روحانية، ثم لما أكملت نكاح النجوم أُعْطِيتُ الحروف فنكحتها، وعرضتُ رؤياي هذه على من عرضها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، فقال: صاحب هذه الرؤيا يُفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون لأحدٍ من أهل زمانه.

فهذا وأشباهه كثير من أقوال أهل التصوف الذين امتازوا بالعبقرية الدينية هذا الامتياز.

ولكنهم لا ينفردون بهذه الحالة بين أصحاب العبقريات؛ فإن ما يصدق عليهم يصدق على عباقرة الفن وعباقرة الحرب وعباقرة المعرفة على التعميم، فما من أحدٍ من أصحاب هذه العبقريات إلا لوحظ في تكوين مزاجه اختلاف قوي يمس الغريزة النوعية أقوى مساس، فمنهم من يفرط فيها ومنهم من يهملها، ومنهم من يصاب بالعقم ومن يولد له أولاد يموتون في الطفولة أو يولد له الإناث دون الذكور، ومنهم من يرتبط وحيه الفني بعاطفة من عواطف الحب تشغله في الحقيقة والخيال، فإذا قلنا إن العبقرية كلها نوع من التسامي بالغريزة النوعية بقي أن نعرف دواعي التمييز بين عبقرية المتصوف وعبقرية الفنان وعبقرية العالم وعبقرية القائد الفاتح والسياسي القدير، وإنما نذكر الواقع فنفهم الحقيقة في هذا الأمر على وجهه المستقيم، والواقع من جهة هو أن العبقرية «يقَظةٌ وتَنَبُّهٌ» وأن الغريزة النوعية عميقة القرار في تركيب كل بنية حية، فلا تتيقظ النفس في أعماقها إلا تنبهت معها تلك الغريزة فبرزت بتعبيراتها على نحوٍ من الأنحاء، والواقع من جهة أخرى أن العبقرية خدمة للنوع كله من جانب الخلق العقلي أو الروحاني لا من جانب الخلق الحيواني أو جانب التوليد، فلا عجب أن تنازع الغريزة مكانها وأن تنمو واحدة منهما «على حساب» الأخرى، ولا عجب أن تتلاقيا على حالٍ من الأحوال وكلتاهما مرهونة بطلب التجديد والدوام في نوع الإنسان.

فالتسامي بالغريزة النوعية لا يفسر لنا التصوف أو العبقرية الدينية، ولا يفسر لنا البراعة الحربية أو القدرة على نظم الشعر ونحت التماثيل وتنسيق الألحان وكشف القوانين العلمية أو الرياضية، وإلا لكانت كل هذه العبقريات سواء في المعدن والقدرة، ولم يكن هنالك فَرْق بين الشاعر والفاتح والرياضي والموسيقار، وليس ذلك بتفسير وتوضيح، بل هو الإبهام كل الإبهام.

إنما التصوف — أو العبقرية الدينية — قدرة على الشعور بحقائق الدين والعبادة، وهو كجميع العبقريات قلق يتطلب الراحة بالتعبير عن نفسه، والتوفيق بين النقائض التي تعتريه والشكوك التي تساور الضمير فيما يجب عليه.

وقد أصاب الغزالي حين سمى هذه العبقرية بالذوق والسلوك، ولا نحسب أننا نختار في وصف قلق النفس ونوازعها إلى التصوف كلامًا هو أصدق من كلامه في التعبير عن هذه الحالة، حيث قال في كتابه المنقذ من الضلال:

ثم تفكرتُ في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنتُ أني على شفا جرفٍ هارٍ، وأني قد أشفيتُ على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يومًا، وأحل العزم يومًا، وأقدم فيه رِجلًا وأؤخر عنه أخرى، لا تَصْدُقُ لي رغبة في طلب الآخرة بُكْرَةً إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيُفْتِرُها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل؛ فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها؛ فإنها سريعة الزوال، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حَدَّ الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى اعتُقِل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أُدرِّس يومًا واحدًا تطبيبًا لقلوب المختلفين إليَّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب بطل معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي شربة ولا يهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم، فلا سبيل إلى العلاج إلا بأن يتروح السرُّ من الهم المُلِمِّ، ثم لما أحسست بعجزي وسقط اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أوري في نفسي سفر الشام، ففارقت بغداد وفرقت ما كان معي من مالٍ ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال.

ويختلف المخرج من هذه الحيرة باختلاف مزاج الصوفي وتكوينه، فإذا غلب عليه الشعور طلب سلام النفس بالزهد والتخلي عن العلاقات واستراح إلى سكينة التسليم، وإذا غلب عليه العقل والبحث طلب سلام النفس من طريق المعرفة التي ترفع النقائض، وتجمع الخواطر إلى وحدة يطيب للعقل أن يستقر عليها.

وهؤلاء هم الذين يقولون مع معروف الكرخي: إن التصوف هو معرفة الحقائق الإلهية، يكثر فيهم الاشتغال بالفلسفة وتأويل مذاهبها، ولكنهم ينقلونها من الفكر إلى الشعور ويحاولون أن «يحسوها» كإحساس المرء بالكائنات التي يتعلق بها الحب ويشهد عليها الجمال.

وكل فكرة يؤمن بها الصوفية تنطوي في فكرة واحدة أصيلة شاملة لكل ما عداها: وتلك هي بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها.

فمن قديم الزمن قال الفلاسفة إن هذه المادة المتغيرة خداع من الحس وإن جوهر الوجود الصادق إنما هو العقل السرمدي الذي لا تغير فيه، أو هو الروح السرمدي كما يرى بعض الفلاسفة الذين يوحدون العقل والروح.

ولكن التصوف هو الشعور بهذه الحقيقة لا مجرد التفكير فيها، وسبيل المتصوف إلى ذلك هو الإعراض عن هذه الظواهر بالزهد فيها والتنصل منها، فهي الحجب التي تستر الحقيقة الإلهية عن النفس البشرية، وكلها باطل تتكشف عن وهمٍ زائل؛ إذ لا موجود كما قال ابن عربي: «إلا الله، ولا يعرف الله إلا الله.»

ومنهم من يغلو فيقول بوحدة الوجود، ويقول: إن الله هو جميع هذه الموجودات، وإنها ليست فيه على سبيل التجزئة والتفرقة، ولكنها تكمن فيه كما يكمن الربع والنصف في الواحد، فليس هو كله، وليس هو منفصلًا عنه، وليس هو موجودًا على التحقيق، ولكنه موجود بالإضافة إلى وجود الله، أو أن وجوده كوجود الفرد بالنسبة إلى حقيقة النوع، فهو ليس بمعدومٍ، ولكنه لا يزيد تلك الحقيقة ولا ينفصل عنها.

وليس في الكون قبح أو شر عند هؤلاء المتصوفة إلا بالمقابلة بين بعض الموجودات وبعضها دون الوجود المطلق الذي لا يقبل التعيين والمقابلة، ولا توجد الأشياء بالنسبة إليه وجود الانفصال والتخصص والموافقة والنفور، كما قال بهاء الدين العاملي: «إن نجاسة الأشياء وتَقَذُرَها ليست وصفًا ثابتًا في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر، وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة، والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة، فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها، لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق.»

والمتصوفة في النظر إلى هذه الأشياء فريقان: فريق يرى أن «الكشف» حاضر يتحقق باحتجاب هذه الموجودات الباطلة، ومنها معالم الشخصية الإنسانية، فإذا غاب الإنسان عن حسه وعن محسوساته فهو في حضرة الله، وإذا استولى الحق على قلب أخلاه من غيره كما قال الحلاج: «وإذا لازم أحدًا أفناه عمن سواه»، وذاك هو الفناء في الله بلغة أبي يزيد البسطامي، أو حب الذات للذات كما يقول ابن الفارض:

وما زلتُ إيَّاها وإياي لم تَزَلْ
ولا فرق، بل ذاتي لِذَاتي أحبَّتِ
ويستوي في هذا الشعور متصوفة الشرق والغرب من جميع الأديان، فانتفاء الشعور بالموجودات الباطلة هو الشعور بالله عندهم؛ لأن الشعور بالبطلان هو الذي يحجب الشعور بالحقيقة. قالت القديسة تريزا St. Teresa: «في الفترة التي تتحد فيها الروح تتجرد الروح من كل شعور، وإذا استطاعت أن تشعر فهي لا تشعر بشيءٍ معين، فلا حاجة بها إلى حيلة لحجز العقل عن التفكير؛ لأنها تظل مأخوذة في سكينتها حتى لتجهل ما تحب وما تريد، أو هي بالإيجاز في حكم الميتة، بالنظر إلى أشياء هذه الدنيا، ولا تعيش إلا في الله.»
وكان إكهارت Eckhart يسمي الله الذي يشعر به في هذه الحالة: «باللاشيء الذي لا يسمى»، ولا يقصد باللاشيء نفي الوجود، بل يقصد به نفي الأشياء المعينة التي تحمل الأعيان والأسماء.
قالت كرستيان شلدرب Schilderups في وصف هذه الحالة: «هي السعادة بغير شاغل ولا علاقة، في انسجام مطلق، لا تفكير فيه، ولست فيه نفسًا فردية، بل أنا إذا مشيت مشيت ولا شيء غير مجرد المشي هناك، لا رغبة، لا حاجة في كل ما هناك، وإنما هو شعور واضح بأنك أنت شيء واحد مع كل شيء. «فأنا» في تلك الحالة ليست إلا كل شيء آخر، أنا النور، أنا الثلج، أنا ما أسمع وما أرى.»
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حَلَلْنَا بَدَنًا

وليس جميع المتصوفة من هذا الفريق، أي من الفريق الذي يغيب عن الموجودات لينفذ إلى حقيقة الوجود، فإن فريقًا غيرهم من كبار المتصوفة يرى أن نفي الحس لا يكفي للوصول إلى الله، وأن الله ظاهر في موجوداته، فالوصول إليه عمل وعلم بتلك الموجودات.

وفي كل شيء له آية
تدلُّ على أنه الواحد

وهناك طريقة إلى الحقيقة الإلهية من داخل النفس وطريقة إليها من داخل العالم، ولا تغني واحدة منهما عن الأخرى كل الغناء.

ولكن الفريقين يتفقان في طريقة واحدة هي طريقة «الحب الإلهي» الذي يشمل العقل والشعور، فكلهم يلتمس في الحب شفاء من الحيرة وحلًّا للنقائض واقترابًا من الحقيقة التي تحول دونها نوازع البغضاء ومطامع العيش وانحصار النفس في النفس انحصارًا يسد عليها منافذ الوجود المطلق العظيم.

كانت لقلبي أهواء مفرقة
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

والمعول في جميع العبقريات — لا في العبقرية الدينية وحدها — على المعنى المعبر عنه لا على التعبيرات اللفظية التي ترد على لسان هذا العبقري أو ذاك.

فالشاعر الذي يستهويه صفاء الماء فيقول لنا إن في جوف البحر عرائس تغويه باللمح وتغريه بالوثوب إليه — يعبر لنا عن حقيقة نحسها وإن كذبنا ألفاظه وحروفه.

والموسيقيُّ الذي تستهويه بهجة الربيع ينقلها إلينا بألحانه وأصواته، وإن كانت الرياحين والنسمات والأمواه شيئًا غير الأصداء والأصوات.

والعبقرية الدينية ظاهرة في الآحاد — مع ظهور الأديان في الجماعات — فلا شك في دلالتها الجوهرية وإن كانت عباراتها اللفظية محلًّا للخلاف بل للإنكار في كثيرٍ من الأغراض؛ لأننا لم نعرف في نفس الإنسان عبقرية قائمة على العدم، خلوًا من المعاني والقيم، فلا يسعنا أن نصرف العبقرية الدينية من عالم الحقيقة أو نصرف دلالتها التي تلح بها على عقولنا وضمائرنا؛ لأن بعض أصحابها تعوزه سلامة البنية أو دقة التعبير أو يشذ بأعماله وأقواله عن عادات الجماعات والأمم، فكل العبقريات — وليست العبقرية الدينية وحدها — سواءٌ في هذه الخصلة، وتبقى دلالة العبقرية في النهاية بعد كل تعقيب وتعليل، ودلالتها التي تلزم من وجودها: أنها تعبر عن حقيقة إلهية من وراء المجاز والرمز والكناية وتعدد الصور والأساليب في التصوير والتعبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤