مقدمة الطبعة الأولى

بقلم الدكتور محمد حسين هيكل

(١) كانت مصر إلى حين قدوم الحملة الفرنسوية إليها في سنة ١٧٩٨م بعيدةً عن الاحتكاك بدول أوروبا، خلا ما كان من مرور بعض التُّجار والمَتاجر بأرضها في ذهابهم وعودتهم بين الغرب والشرق. وكانت بحكم خضوعها لاستبداد المماليك — تحت سيادة تركيا — تسُود فيها الدسائس، ويعمل كلٌّ من أمرائها لما يجرُّ إليه النفع، وكانت الحركة العلمية والأدبية خامدةً فيها خمودَها في سائر بلاد الدولة العثمانية، وبلغ من ذلك أن تدلَّى علماء الفقه الإسلامي، الذين كانوا في مختلف العصور فخرَ مصر وزينتها، وفتر نشاطهم وفسد نتاجهم في ذلك العصر، فأما الأدب من شعر ونثر فلم تقُم له إلى ذلك العصر قائمةٌ منذ امتدَّ سلطان الأتراك على مصر، وإنك لتعجب حين تقرأ كاتبًا كالجبرتي، أو ابن إياس؛ لضعف تأليفه ولغته، ولسقم ما فيه من آثار الأدب، شعرًا كانت هذه الآثار أم نثرًا.

فلما جاء الفرنسيون إلى مصر، وتغلغلوا فيها، وسارت مع حملة الجنود حملة العلماء، رأى المصريون مظهرًا جديدًا من مظاهر الحياة لم يكن لهم في تاريخهم الأخير به عهد. ولما جاء محمد علي في سنة ١٨٠٦م، وقام بما قام به من الإصلاح في مصر بأن بعث البعوث من أبنائها إلى أوروبا، وبعث إلى جوانب الحياة من صور النشاط ما حرَّك النفوس وأثار طلعتها، هبَّ على البلاد نسيمٌ صالح لعله أول بشائر البعث لأمم الشرق العربي كافة. ثم لما عاد المرسَلون من أوروبا، وكانوا قد شهدوا فيها نشاطًا ضاعفه ما خلَّفته الثورة الفرنسية وراءها من حِمى الفكر والقلب والعاطفة، كانوا هم طلائع هذا البعث والعاملين عليه.

كان من بينهم الأطباء والمهندسون والصُّناع والقُواد، ومن بينهم قام رفاعة بك رافع وتلاميذه يُحيُون عهد الأدب العربي في مصر، ولكنها كانت حياةً تحيط بها ظلمات ماضٍ طويل؛ لذلك كان سريان نورها ضئيلًا قصير المدى، لكنها مع ذلك كانت بدءًا له ما بعده. فلما كان عهد إسماعيل سارت في سبيل النضج والقوة، ثم كانت الثورة العرابية وما تلاها من الحوادث مثارًا لشاعرية أكابر الشعراء، من أمثال سامي باشا البارودي وإسماعيل باشا صبري، ووحيًا لخيال شُبانٍ كان روح الشعر آخذًا بنفوسهم، مُتهيئًا ليفيض منها ما ينفخ في الأدب العربي روحًا وقوة.

وكانت الفترة التي انقضت ما بين الحملة الفرنسية في مصر سنة ١٧٩٨م واحتلال الإنجليز إياها على أثر الثورة العرابية في سنة ١٨٨١م، فترةَ تقلُّباتٍ سياسية عجَّت بين الشرق والغرب والمسلمين والنصارى؛ فقد كانت تركيا من قبل ذلك التاريخ في عهد تدهورها، وكانت مطمح أطماع روسيا، فلم تكن تمرُّ حقبة من الزمن من غير أن تشبَّ بينهما حرب تنقص من أطراف المملكة العثمانية. وضعف تركيا هو الذي دفع محمد علي إلى غزوها، لكنه ما كاد يقترب من الآستانة حتى تألَّبت عليه إنكلترا وفرنسا وروسيا؛ مخافة أن يُزعِجهم قيامُه في عاصمة آل عثمان بين الدول الأوروبية بعد ما كان من انتصاراته الباهرة في الشرق، ومن سعيه لتوطيد قوة السيف وقوة العلم في مصر. وكأن ما قامت به الثورة الفرنسية من نشر مبادئ حرية الرأي والعقيدة لم يغيِّر من نفس تلك الدول التي جعلت من الإسلام والمسيحية والشرق والغرب خصمَين لا يتهادنان من غير أن تنطوي الضلوع على حفيظة.

فأما المسلمون في أقطار الأرض فلم يشتدَّ حقدهم على محمد علي؛ ذلك بأن الدول الأوروبية كافةً، وروسيا خاصةً، كانت لا تفتأ تشنُّ الغارة على الأتراك، وتزيدهم ضعفًا على ضعفهم؛ فقد انتهت حروب الإمبراطورة كاترينا في سنة ١٧٩٢م بمدِّ الحدود الروسية إلى الدنيستر، ثم تحالفت روسيا وإنكلترا وفرنسا في سنة ١٨٢٨م، وسلخنَ اليونان من جسم الدولة العثمانية، وأقَمنَها مملكةً مستقلة، وفي سنة ١٨٥٣م كانت حرب القرم. ولولا خوف إنكلترا وفرنسا من طغيان روسيا، ومن اكتساح الجنس السلافي أوروبا، لَنال الروس من تركيا أكثر مما نالوا من قبل، ولَنفَّذوا برنامجهم بإجلاء الأتراك عن أوروبا.

وهذا الضعف والاضمحلال الذي أُصيبت الدولة التركية به هو الذي جعل المسلمين لا يحقدون على محمد علي حين غزا الأتراك، متمسِّكين بقول الشاعر:

فإن كنتُ مأكولًا فكُن أنت آكِلي
وإلا فأدرِكني ولَمَّا أُمزَّقِ

على أن الحرب التي شبَّت نارها بين روسيا وتركيا في سنة ١٨٧٧م، والتي خلَّد فيها الغازي عثمان باشا انتصار الترك بدفاعه المجيد عن «بلفنا»، أحيت في نفوس المسلمين آمالًا في دولة الخلافة التي كانت تُوشِك أن تنهدم وتنهار.

ولقد كان المصريون إلى ذلك العهد يعطفون على تركيا عطفَ غيرهم من المسلمين، ولكنهم كانوا أبدًا يفكِّرون في استقلالهم عنها ويريدون تحقيقه، ولم يكن الأمل في ذلك بعيدًا بعد الفرمان الذي استصدره إسماعيل باشا في سنة ١٨٧٣م، واستقلَّ فيه بإدارة الدولة، وبالتشريع لها، وبإنشاء الجيش الذي يقوم بحاجاتها ومطامعها؛ لذلك كان عطفهم على تركيا مُنبعثًا عن شعورٍ دينيٍّ بحتٍ لا أثر للتبعية السياسية فيه. فلما حطَّمت إنكلترا وفرنسا آمال إسماعيل، وقضتا عليه باسم ديون مصر، ودفعتا تركيا إلى خلعه، وانتهت إنكلترا باحتلال مصر بعد الثورة العرابية، ونكثت بعد الاحتلال وُعودها بالجلاء، وأحسَّ المصريون بتدخلها في شئونهم، اشتدَّ عطفهم على تركيا، وضعُف تبرُّمهم بسيادتها عليهم، وثبت عندهم اليقين بأن دول النصرانية تُطارِد دول الإسلام، وقوِيت فيهم النزعة الدينية؛ وكان من ذلك ما زاد النشاط في بعث الحضارة الإسلامية والأدب العربي في مصر.

(٢) وسط هذه العوامل السياسية والاجتماعية وُجد «أحمد شوقي بك»، وُلد ﺑ «باب إسماعيل»، وشبَّ في جواره، ونشأ في حماه؛ فكان طبيعيًّا أن تتأثَّر نفسه بالبيئة الاجتماعية والسياسية، وأن تكون أكثر تأثرًا بها لقربها من المسرح الذي تشتبك فيه أصول هذه العوامل وأسبابها، وتضطرب فيه اضطرابًا يُخفيه ما تقضي به حياة القصور، ثم تصدر إلى الحياة بعد أن تكون قد نُظِّمت وهُذِّبت. وشوقي خُلِق شاعرًا، والشاعر يتأثر أضعاف ما يتأثر سائر الناس؛ لذلك كان لكل هذه العوامل أثرٌ بادٍ في شعره وفي حياته.

ومع أن شوقي درس في مصر، ثم أتمَّ دراسته في أوروبا، وتأثَّر بالوسط الأوروبي وبالحياة الأوروبية وبالشعر الأوروبي تأثرًا كبيرًا، فقد ظلَّ تأثُّره بالبيئة التي وصفنا ظاهرًا في حياته وفي شعره، كما ظلَّ تأثُّره بالبيئة الأوروبية ظاهرًا فيهما كذلك.

وإنك لتكاد تشعر حين مراجعتك أجزاء ديوانه — بعد أن يتمَّ نشرها جميعًا — كأنك أمام رجلَين مختلفين جدَّ الاختلاف لا صِلة بين أحدهما والآخر، إلا أن كلَيهما شاعرٌ مطبوع يصِل من الشعر إلى عليا سمواته، وأن كلَيهما مصري يبلغ حبه مصر حدَّ التقديس والعبادة. أما فيما سوى هذا فأحد الرجلَين غير الرجل الآخر؛ أحدهما مؤمنٌ عامر النفس بالإيمان، مسلمٌ يقدِّس أُخوَّة المسلمين، ويجعل من دولة الخلافة قدسًا تفيض عليه شئونه وحوادثه وحي الشعر وإلهامه، حكيمٌ يرى الحكمة ملاك الحياة وقوامها، مُحافظ في اللغة يرى العربية تتسع لكل صورة ولكل معنًى ولكل فكرة ولكل خيال. والآخر رجلُ دنيا يرى في المتاع بالحياة ونعيمها خير آمال الحياة وغاياتها، مُتسامحٌ تسَع نفسه الإنسانيةَ وتسَع معها الوجود كله، ساخر من الناس وأمانيهم، مجدِّد في اللغة لفظًا ومعنًى. وهذا الازدواج ظاهر في شعر شوقي من أول شبابه إلى هذا الوقت الحاضر، وإن كان لتأثُّره بالقديم الغلبة اليوم، وكانت آثار الرجل الآخر لا تظهر اليوم في شعر شوقي إلا قليلًا.

ولا تقُل إن الازدواج النفسي شأن الشعراء، وإن أبا نواس الذي كان يقول:

ألا فاسقِني خمرًا وقُل لي هي الخمرُ
ولا تسقِني سرًّا إذا أمكن الجهرُ

والذي كان يقول:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ
وداوِني بالتي كانت هي الداءُ

هو أبو نواس الذي كان يقول:

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفت
له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ

فليس هذا من أبي نواس ازدواجًا في الروح، وما الحكمة الزاهدة عنده إلا فتور نفس أجهدَتها اللذَّة فأضعفتها، فأخافها الضعف، فألجأها إلى حِمى الحكمة والزهد، وإلى استغفار الله والتوبة إليه؛ لذلك لا تلبث نفسه أن تُعاودها القوة حتى تعود إلى نعيم الترف والإباحة. وذلك هو السر في أنك لا ترى الزهد في شعر أبي نواس إلا عرَضًا واستثناءً، وذلك شأن الشعراء جميعًا إلا قليلًا منهم، وشوقي من هذا القليل؛ ففي شعره صورتان من صور الحياة تقوم كلٌّ منهما مستقلة، كأنما صاحبها غير الآخر، فأنت تقرأ:

حفَّ كأسَها الحبَبُ
فهْي فضةٌ ذهبُ

أو تقرأ:

رمضان ولَّى، هاتِها يا ساقي
مُشتاقةً تسعى إلى مُشتاقِ

فتراك في حضرةِ شاعرٍ مُغرَم بالحياة وبمتاعها ونعمتها، شاعرٍ تختلف روحه جدَّ الاختلاف عن صاحب نهج البردة التي مطلعها:

ريمٌ على القاع بين البان والعَلمِ
أحلَّ سفكَ دمي في الأشهُر الحُرمِ

وصاحب الهمزية النبوية الذي يقول:

وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ
وفمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ

وهذان الروحان، أو هاتان الصورتان من صور الحياة، تتجاوران في نفس شوقي، وتصدران عنها وهي في كل قوتها وسلطانها؛ وأنت لذلك حين تقرأ القصيدتَين الأُوليَين تمتلئ إعجابًا بالحياة ومتاعها ولذَّتها، وحين تقرأ الثانيتَين تكون أشدَّ إعجابًا بكلمة الإيمان وروح الحق ورسالته. وأنت لا تشعر في أي الحالَين بضعفٍ نفساني عند الشاعر دفع به إلى لبوسِ روحٍ غير روحه، بل أنت فيهما جميعًا يَبهَرك شوقي بقوة شاعريته الممتلئة حياةً وخيالًا، والتي تفيض بمتاع العيش فيضَها بنور الإيمان.

كيف كان هذا الازدواج؟ كيف جمع شوقي في نفسه بين هذَين الشاعرَين؛ شاعر الحياة العربية بحضارتها الإسلامية وبما فيها من قِدم وإيمان، وبين شاعر الحياة الغربية الخاضعة لحُكم العلم وما يكشف عنه كل يوم من جديد؟

مسألةٌ تبدو للنظرة الأولى دقيقةً معقَّدة؛ فقد تزدوج في نفسٍ واحدة حياتان بينهما من الصِّلة ما يُبيح الازدواج، فيكون الرجل الواحد فيلسوفًا وشاعرًا، كما كان المعري أو كما كان فولتير، فأما أن يكون الرجل شاعرًا، وحدة حياته الشعر، ثم تكون نفسه مقسَّمة مع هذه الوحدة قسمةَ ازدواج على نحو شوقي، فذلك عجب في شاعرٍ مطبوع يفيض عنه الشعر كما يفيض الماء من النبع، وكما ينهمل المطر من الغمام.

على أن لهذا الازدواج سببًا لم يكن مفرٌّ من أن يؤدي إليه؛ ذلك أن شوقي كان في طبع شبابه رسول الحياة، كان شاعرَ:

حفَّ كأسَها الحبَبُ
فهْي فضةٌ ذهبُ

لكن هذا الشباب لم يكن في ملك نفسه؛ فقد بعث به المغفور له الخديو توفيق باشا ليُتمَّ علومه في أوروبا، وكان من قبل ذلك شاعرًا متفوقًا، وكان في تفوُّقه ككلِّ شاعرٍ شابٍّ يُرسل القول كما تُلهمه إياه نفسه. فلما عاد إلى مصر اتَّصل بالأمير الشاب عباس حلمي باشا، وصار كلمته، ورأى يومئذٍ صنوًا له على العرش جعلته روحه الشابة مقدامًا لا يَهاب. ومع ما فُوجئ به أولَ ولايته في حادث عرض الجيش في السودان — ممَّا اضطره للاعتذار — قد بقي شبابه يدفعه إلى ما كان يندفع إليه جدُّه إسماعيل من مغامرة، لكن قيام الاحتلال الإنجليزي في مصر جعل الخصومة بينه وبينهم وليست بينه وبين الأتراك، بل لقد كان منظورًا إليه أكثر الأحيان بشيءٍ غير قليل من العطف في بلاد آل عثمان؛ لذلك كانت عواطفه متَّفِقة وعواطفَ المسلمين الذين كانوا بعد انتصار الأتراك يرَوْن في الخليفة المَوئل الأخير لأمم الإسلام جميعًا.

اتصل الشاعر الشاب بالأمير الشاب؛ فحتَّم عليه ذلك أن يكون المعبِّر عن الميول والآمال الكمينة في نفوس المسلمين جميعًا، لا في نفوس المصريين وحدهم؛ وبذلك اجتمع في نفسه من أوَّل حياته مَيلُه للحياة وحبُّه إياها، وحرصه على المتاع بها، مع إيمان المسلمين جميعًا وحرصهم على وحدتهم وعلى كيانهم، بإزاء الأمم الغربية التي كانت تنظر إليهم بعينٍ صليبيةٍ بحتة، وكانت هذه الناحية التي تمثِّلها نفسه من ظروف الحياة ومن البيئة المحيطة به أكثرَ استيحاءً لشعره من الناحية الأولى التي هي طبيعة نفسه؛ فكان بذلك كالرجل القوي الذي يرى وطنه في خطر، ويصبح جنديًّا، وجنديًّا باسلًا، ويتفوق في كل مواقف الحرب، ويصبح القائد الأعظم، ولو أن وطنه لم يكن في خطر لرأيته صديق النعمة، السعيد بها غاية السعادة.

(٣) وهذا الجزء الأول من ديوان شوقي فيه طائفة من شعره أُوحي إليه بها على أنه ممثِّل المصريين والعرب والمسلمين، وأُولى قصائده التي مطلعها:

همَّت الفُلك واحتواها الماءُ
وحَداها بمَن تُقِلُّ الرجاءُ

هي رواية من الروايات الخالدة لتاريخ مصر منذ الفراعنة إلى عهد أبناء محمد علي، وقف فيها الشاعر وقفةَ مصري صادق العاطفة تفيض عليه ربَّة الشعر تاريخ بلاده منذ عرَفها التاريخ؛ أي منذ عرف الناس شيئًا اسمه التاريخ. وأنت تراه في عرضه هذا التاريخ ممتلئ النفس فخرًا بمجد مصر حين يرتفع بها المجد إلى عليا ذُراه، آسفًا حزينًا حين تمرُّ بمصر فترات ظلم وذلة، مستفزًّا للهمم حافزًا لعزائم أهل جيله والأجيال التي بعده كي يُعِيدوا مجد الماضي وعظمته.

وتراه في انتقاله من الفخر إلى الأسف إلى الاستفزاز يسير مع الحوادث مُتدفقًا، مُندفعًا فوق موج الماضي، آتيًا من لا نهايات القِدم، كأنما هو قيثارة آلهة ذلك الزمان البعيد، يدفع إليها كل جيل نسائمه، فتتغنَّى وتشدو بأهازيج النصر تارة، وبترانيم المسرَّة طورًا، وبشَجوِ الألم أحيانًا.١

وللقِدم وللماضي على نفس الشاعر أثرٌ يذهب إلى أعماقها، وليس لمِثل الآثار المصرية من القِدم نصيب؛ فهذه الأهرام ما تزال تحتوي من الطلاسم ما يَحارُ العقل في حَلِّه، وهذا أبو الهول في مجثمه بين رمال الصحراء أكثر ثباتًا من الليل والنهار ومن الشمس والقمر، وهو في روعة صمته ينطق كل خط خطَّته الدهور على صحائف جثمانه، بما حوته من عِبرٍ أيسرُها دوام انهيار الأشياء لدوام تجدُّدها. وهذا الملك الشاب «توت عنخ آمون» نبش قبرَه النابشون باسم العلم، فإذا فيه من طُرَف الفن ما يُزري بكل فن وعلم. هذه وسواها من الآثار تُثير في النفس — إلى جانب صورتها الظاهرة، وما يدل عليه إبداع صُنعها ودقة فنها من حضارة كمُلت لها كل أنواع الحضارة — صورةَ الماضي الذاهب في القِدم إلى أغوار الأزل، وتُثير من شاعرية شوقي معانيَ بالغة في الموعظة والعبرة مبلغَها من السمو والعظمة.

وأنت إذ تقرأ قصائده «على سفح الأهرام»، و«أبو الهول»، و«توت عنخ آمون»، يهزُّك الشعور بصورة هذا الماضي في قداستها ومَهابتها، وتمتلكك نفس الشاعر فترتفع بك من مستوى الحياة الدنيا إلى سموات الخلد؛ ذلك بأن شوقي يُهديك المعنى الذي كانت تلتمسه نفسك فلا تقع عليه، ويرسم أمامك — بوضوح وقوة وسموِّ خيال ونُبل عاطفة — كلَّ ما ينبض به قلبك ويهتزُّ له فؤادك.

خلَع القِدم على هذه الآثار معنى البقاء والثبات؛ لذلك كان ما يفيض من الوحي إلى روح شاعر الشرق ثابتًا باقيًا، لا تُزعزِعه الحوادث، ولا تعصف به الغِيَر، فأما ما سوى ذلك من شئون هذه العصور الحديثة فشوقي فيه هو كلمة الأمة. وفي هذه العصور الحديثة تغيَّر قدر الناس للحوادث إصغارًا وإكبارًا، بمبلغ رجائهم فيها، أو خشيتهم آثارَها. وقد تعجَب إذ ترى قصيدتَين من أبدع قصائد شوقي وأحراها بالخلود مُتجاورتَين في هذا الجزء الأول من الديوان؛ إحداهما في وداع لورد كرومر، ومطلعها:

أيامُكم أم عهدُ إسماعيلا
أم أنت فرعونٌ يسوس النيلا

والثانية في ارتقاء السلطان حسين كامل على أريكة مصر، ومطلعها:

المُلك فيكم آلَ إسماعيلا
لا زال بيتكم يُظِلُّ النيلا

فترى الشاعر ينظر في كلٍّ من القصيدتَين إلى الحوادث والأشخاص بغير ما ينظر إليها في الأخرى، ثم تجد مثل هذا في غير هاتَين القصيدتين؛ وليس لذلك من علة إلا الاضطراب الذي أصاب العالم قبل الحرب وبعدها، والذي ما يزال عظيم الأثر على تفكير المفكِّرين وكتابة الكُتاب وشِعر الشعراء.

على أن هذا التأثر بالحوادث في بعض الشئون التي لا يستقرُّ للناس فيها عادةً رأيٌ قبل أن يُصدِر التاريخ عليها حكمًا خاليًا من الغرض؛ لا يؤثِّر بشيء في روعة القصائد التي كان فيها، وهو بعدُ لا يشغل من هذه القصائد إلا حيِّزًا ضيقًا؛ فإن شوقي لا يزيد في القصائد التي تُقال لمناسبة حادث من الحوادث على أن يُشير لهذا الحادث بأبياتٍ خلال القصيدة وفي آخرها، فأما أكثر أبيات القصيدة فحِكمٌ غوالٍ، أو وصفٌ رائع، أو ما سوى ذلك مما يلذُّ عقل شوقي أو خياله أن يفكر فيه أو يلهو به. وهذه الحِكم لم يتغير تقدير شوقي لها؛ فهو يرى أن الأمم لا تقوم على دعامةٍ غير دعامة الأخلاق، وهو يرى ذلك برغم ما قد يبدو في بعض الأمم القوية من تدهور الأخلاق؛ فالعلم عنده حسن وله فائدته، والغنى حسن كذلك، وسائر أدوات الحضارة تُصلِح الأمم، لكنها جميعًا لا فائدة من رُقيِّها وغزارتها إذا انحطَّت أخلاق الأمة، فأما إن قوِيت هذه الأخلاق فقليل من ذلك كله كافٍ ليرتفع بالأمة إلى ذروة المجد والسؤدد.

وليس معنى هذا أن شوقي يحقِّر من شأن ما سوى الأخلاق؛ فله عن العلم والفن والعمل والترحال وغيرها آياتٌ بيِّنات، لكنما معناه أن الأخلاق عنده في المحلِّ الأول، وهو لا يملُّ من أن يكرِّر الدعوة إلى الخلُق الصالح على أنه قِوام حياة الأمم في كل قصيدة يقولها عن مصر، أو عن غير مصر، وكثير من أبياته في هذا المعنى قد أصبح مَثلًا يتداوله كل كاتب، وكل أستاذ، وكل تلميذ، ويردِّده الجميع على أنه الحكمة لا يأتيها باطل من بين يدَيها ولا من خلفها، أوَلا ترى قوله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقِيت
فإن همُ ذهبَت أخلاقُهم ذهبوا

قد بلغ من تواتُره على الألسن أن أصبح الكثيرون لا يعرفون إن كان لشوقي أو لشعراء العصور الزاهرة في أيام العرب، إلا لأنهم يريدون أن يكون فخر هذا البيت وغيره من مثله لهم، بنسبته لشاعر مصر والشرق في عصرهم.

(٤) إلى جانب مقام العاطفة الوطنية التي هي قوةٌ متسلِّطة على نفس شوقي، تقوم عاطفةٌ أخرى لا تقلُّ عنها قوة، وربما كانت أشدَّ أخذًا بهذه النفس وإثارةً لشاعريتها، تلك هي العاطفة الإسلامية؛ فشوقي شاعر الإسلام والمسلمين، كما أنه شاعر مصر وشاعر الشرق، وعاطفة المسلم تتَّجه حتى العصور الأخيرة إلى جهتَين، ثم إلى قومَين؛ فهي تتجه صوْبَ مكة مَسقط رأس النبي ومقام إبراهيم كعبة المسلمين وقِبلة أنظارهم، ومكة في بلاد العرب، والنبي عربي، والقرآن عربي. وهي تتجه — أو كانت تتَّجه — صوْبَ الآستانة، مَقرِّ الخلافة الإسلامية، ومقام الخليفة من آل عثمان، والآستانة عاصمة التُّرك، وخليفة المسلمين كان تركيًّا؛ فكل مسلم تَعنيه وحدة المسلمين كان يتجه ببصره — إلى حين أُلغيت الخلافة — نحو مكة ونحو الآستانة؛ يستمد من الأولى المَدد الروحي، ومن الثانية مَدد السيف والمدفع.

إلى جانب ما يرجوه المسلم من أهل بلاد الشرق العربي في مكة من مددٍ روحي، تحرِّك نفسَه إلى هذه الأنحاء عاطفةٌ أخرى هي العاطفة العربية؛ هي عاطفة هذه اللغة التي تربط اليوم أكثر من سبعين مليونًا أكثرهم مسلمون، وكلهم خاضع لما يخضع له غيره من بطش القوة وسلطان التحكم. واللغة في حياة الأمم ليس شأنها هيِّنًا؛ فأمةٌ لا لغة لها لا حياة لها، ورُقيُّ اللغة في أمة آيةٌ صادقة من آيات رُقيِّها. وما دام العرب مصدر اللغة، وعلى رجلٍ منهم هبط الوحي، وبينهم قام صاحب الشريعة، فلهم — عند المسلمين كافةً، وعند الذين يتكلمون العربية خاصةً — حُرمةٌ تدفعهم إلى التغنِّي بآثارهم، والإشادة بقديم مجدهم، وتمنِّي خير الأماني لهم.

لذلك كان العرب ومكة والوحي والقرآن والإسلام والرسول، كلها مَعانٍ لها من الأثر في نفس شوقي ما ليس لسواها من آثار الماضي؛ ولذلك لم يكن شوقي يُشِيد بذِكر المسلمين وبخلافتهم لغايةٍ سياسيةٍ صِرفة، بل إنه لَيؤمن بهذه المعاني إيمانًا يتجلى في الكثير من قصائده على صورةٍ تتركنا في حيرة؛ كيف يبلغ الإيمان من نفس هذا المُحِب للحياة كل هذا المبلغ؟! فلا نجد لحيرتنا جلاءً إلا من الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.»

وبحسبك أن تقرأ الهمزية النبوية، ونهج البردة، وقصيدته في ذكرى المولد التي مطلعها:

سلُوا قلبي غداةَ سلا وتابا
لعل على الجمال له عِتابا

لترى في غير إبهامٍ أنه إنما أملَت هذه القصائدَ قوةٌ غلَبت طبع الشاعر؛ هي قوة الإيمان.

لكنك قد يُدهِشك — مع تجلِّي الإيمان في هذه القصائد وغيرها — أن يكون شوقي أكثر تحدثًا عن التُّرك وعن الخليفة منه عن العرب وعن الرسول؛ فهذا الجزء الأول من ديوانه يشتمل ثلاث قصائد عن العرب ومكة والرسالة، ويشتمل ثماني عشرة قصيدة عن الخلافة وعن التُّرك، وأنت تلمس في هذه القصائد الثماني عشرة جميعًا حسًّا أدقَّ من العاطفة، وفيضًا أغزر من الشِّعر، وقوةً تكاد تعتقد معها أن شوقي إذ يتحدث عن التُّرك إنما يُملِي ما يُكنُّه فؤاده، وإنما يندفع بقوةٍ كمينة هي قوة دم الجنس، أو إن اتصاله بالبيت المالك في مصر كان قويَّ الأثر في نفسه إلى حدٍّ جعله يفيض من ذِكر التُّرك بما ينبض به قلب سلالة محمد علي.

وليس عليك إلا أن تقرأ أيًّا من قصائده التركية لتقتنع بما نقول. اقرأ قصيدته العظيمة العامرة عن الحرب العثمانية اليونانية التي مطلعها:

بسيفك يعلو الحق والحق أغلَبُ
ويُنصَر دين الله أيَّانَ تضربُ

أو قصيدته في رثاء أدرنة، أو تحيته للتُّرك أيام حرب اليونان. اقرأ أيًّا من هذه القصائد التي قِيلت قبل الحرب الكبرى، أو اقرأ غيرها مما قيل بعد الحرب على أثر انتصار الأتراك على اليونان، كقصيدته التي مطلعها:

الله أكبر! كم في الفتح من عَجبِ
يا خالدَ التُّرك جدِّد خالدَ العربِ

وإنك لَمؤمنٌ حقًّا بأن هذه القصائد التركية هي أقوى قصائده عن الحوادث وأصدقها حسًّا وعاطفة.

ولعل مرجع ذلك أن قد اجتمعَت في الأتراك عوامل كثيرة كان لشوقي اتصال بها؛ فكانت لذلك تهزُّه أكثر مما تهزُّ سواه؛ فالتُّرك — فوق أنهم كانوا مَقرَّ الخلافة وقِبلة المسلمين الزمنية، وأصحاب السيادة على مصر سيادةً يشلُّها الاحتلال الإنجليزي — يجري من دمهم في عروق الشاعر الكبير، ومنهم أصحاب عرش مصر الذين ببابهم وُلد شوقي، وفي حِماهم شبَّ ونشأ.

وقد بلغ مِن حُب شوقي للتُّرك أن كان يعتبرهم مجموعة فضائل لا تشُوبها نقيصة.

(٥) على أن شوقي — وإن كان شاعر مصر وشاعر العرب وشاعر المسلمين، وكان فيه الازدواج بين حُب الحياة ومتاعها والإيمان ونعيمه — له ذاتيته التي لا تخفى؛ فهو شاعر الحكمة العامة، وهو شاعر اللغة العربية السليمة. وإنك لَتعجَب أكثر الأحيان حين ترى عنوان قصيدة من قصائده ثم لا تجد في القصيدة غير أبياتٍ معدودة تدخل في موضوع العنوان، بينا سائرها حكمة أو غزل أو وصف، أو ما شاء لشوقي هواه. وما أحسب شاعرًا بالَغ في ذلك ما بالَغ شوقي، ولست أضرب لك مَثلًا لذلك مما في هذا الجزء الأول من الديوان إلا بقصائد ثلاث: لجان التموين، والانقلاب العثماني، وبين الحجاب والسفور. هذا وإنك واجدٌ في غير هذه القصائد الثلاث ما يُظهِر لك منه ما ألقينا به إليك؛ فشيطان شوقي أشدُّ حرصًا على متاعه بالشعر للشعر منه بموضوعٍ خاص. أما القصائد التي يملك موضوعُها أبياتَها جميعًا فهي القصائد التي ملك موضوعُها شوقي فأنساه نفسه بما كان له في هذا الموضوع من لذة ومتاع، وما أفاضه على شاعريته من وحي وإلهام.

وحكمة شوقي، وما يصدر عنه من وصف وغزل، وما يميِّز شعره جميعًا، يبدو كأنه شرقيٌّ عربيٌّ لا يتأثر بالحياة الغربية إلا بمقدار. وهذا طبيعيٌّ ما دام شوقي شاعر العرب والمسلمين، وما دام يجد في الحضارة الشرقية القديمة ما يُغنِيه عن استعارة لَبوس المدنية الغربية إلا بالمقدار الذي تحتاج إليه أمم الشرق في حياتها الحاضرة لسيرها في سبيل المنافسة العامة. ولقد ترى شوقي يغلو في شرقيته وعربيته أحيانًا، ولقد تراه يتعمد ذلك في لفظه ومعناه؛ وسبب ذلك هو ما يراه من ضرورة مقاومة النزعة القائمة بنفوسٍ كثيرة تصبو إلى نسيان ما خلَّف السلف من تراث، والأخذ بكل ما يلمع به الحاضر من وراء الغرب.

وقد يكون غُلوُّ شوقي أكثر وضوحًا في جانب اللغة منه في جانب المعاني؛ فهو بمعانيه وصُوَره وخيالاته يُحيط مما في الغرب بكل ما يُسيغه الطبع الشرقي وترضاه الحضارة الشرقية، أما لغته فتعتمد على بعث القديم من الألفاظ التي نسيها الناس، وصاروا لا يُحبُّونها لأنهم لا يعرفونها. ولعل سر ذلك عند شوقي أن البعث وسيلة من وسائل التجديد، بل لقد يكون البعث آكَدَ وسائل التجديد؛ نتيجةَ ما يُوجَد من أرباب اللغة ممَّن يفيضون على الألفاظ القديمة روحًا تكفل حياتها. والبعث له إلى جانب ذلك من المزايا أنه يصِل ما بين مدنيةٍ دارسة ومدنيةٍ وليدة، يجب أن تتصل بها اتصالَ كلِّ خلَفٍ بسلفه.

ومَن ذا ترى من أرباب اللغة قديرًا قدرةَ شوقي على أن يبعث في الألفاظ القديمة روحًا تكفل حياتها في الحاضر، وتفيض عليها من ثوب الشعر ما يجعلها تتسع لما لم تكن تتسع له من قبلُ من المعاني والأخيلة والصور؟ إن اليونانية ما تزال موضع دراسة العلماء واللغويين؛ لأن هومير كتب بها إلياذته، واللاتينية ما تزال حياتها كمينة وإن تدثَّرت بحُجُب الماضي أن كتب بها فرجيل شعره، واللغة العربية هي حتى اليوم لغة التفاهم بين سبعين مليونًا من أهل هذا الشرق العربي، وهي حية وستبقى أبدًا حية، ولكن كمال حياتها يحتاج إلى أن يبعث الله لها أمثال شوقي؛ ليزيدوا تلك الحياة قوة وروعة وجمالًا.

وما أنا بحاجة إلى أن أدلَّ على هذه القوة وتلك الروعة وذلك الجمال؛ فكل أديب أو متأدب يعرف منها ما أعرف، وها هي ذي مَجلوَّة في هذا الديوان بكل ما لشوقي على اللغة والأدب والشعر من سلطان.

١  انظر الانتقال في هذه الأبيات التي اخترناها:
قُل لبانٍ بنى فشادَ فغالَى
لم يجُز مصرَ في الزمان بِناءُ
أجْفل الجنُّ عن عزائم فرعو
ن ودانت لبأسها الآناءُ
زعموا أنها دعائمُ شِيدَت
بيدِ البغْي مِلؤها ظلماءُ
إن يكُن غيرَ ما أتَوه فخارٌ
فأنا منك يا فخار براءُ
لا رعاك التاريخ يا يوم قمبيـ
ـز ولا طنطنَت بك الأنباءُ
جيء بالمالك العزيز ذليلًا
لم تُزلزِل فؤادَه البأساءُ
بنتُ فرعون في السلاسل تمشي
أزعجَ الدهرَ عريُها والحفاءُ
والأعادي شواخصٌ وأبوها
بيدِ الخَطب صخرةٌ صمَّاءُ
فأرادوا لينظُروا دمع فرعو
نَ وفرعونُ دمعُه العنقاءُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤