مقدمة

بقلم  محمد سعيد العريان

كان شوقي — رحمه الله — شاعرًا مِلءَ سمع الشرق، ما يلفظ من قولٍ إلا لقفته الآلاف عن الآلاف من أبناء الأمة العربية، تُنشده وتتغنى به وتضربه مثلًا، وما أحسب شاعرًا في الأمة العربية منذ كانت وكان الشعر، قد ذهب صيته في الناس حيًّا مذهبَ شوقي أو بلغ مبلغه، وقد كان حقيقًا بما بلغ، لا من أنه شاعر العربية الأول، ولا من أن الأمة العربية قد عقمت فلم تُنجب مثله في تاريخها المتطاول، ولكنه جاء على فترةٍ انقطع فيها أمل الآمل في نهضة الشعر العربي بعد ما ناله من الانحطاط والركة وضيق المذهب وسوء التناول، وكأنما كان البارودي من قبله إرهاصًا له ودعوةً إليه وتنبيهًا إلى فضله ومكانه. وقد كان البارودي بما اجتمع له من أدوات الشعر، وبما تهيأ له من أسبابه العامة والخاصة، أول من بعث الحياة في هذا الجسد الهامد، ونفخ فيه من قوَّته، وخلع عليه من شبابه، فكان تصديرًا بليغًا لهذا الفصل الجديد في تاريخ الشعر العربي، فلما خلا مكانه تلفَّت الناس ينظرون على حذر وخشية يريدون أن يسمعوا نغمًا صافيًا كهذا الذي عوَّدهم البارودي أن يسمعوه من إنشاده وتطريبه، وما منهم إلا من ظنَّ أن الشعر بعده منتكسٌ بعلَّته، وأن الرجل الذي كان يمده بأسباب الحياة والقوة قد ذهب فلا سبيل إليه بعدُ ولا أمل، وفي هذه الفترة ظهر شوقي.

على أن ذلك ليس هو كل السبب في ذهاب صيت شوقي، وامتداد شهرته التي تأمَّر بها على شعراء الجيل، وحلَّ في الصدر من ناديهم؛ فقد انتدب والشرق على أبواب نهضة قد تهيأت له أسبابها واكتملت وسائلها، وإن آمالًا قوية لَتجيش في نفوس أهله وتصطرع في خواطرهم؛ فإنهم لَيُحسُّون أثرها فيما تنفعل به عواطفهم ولا يُحسنون لها تعبيرًا ولا بيانًا، فختار شوقي أن يكون لسان هذه الأمة فيما تحب وتكره، وفيما تأمل وتحذر، وفيما تنفعل به عواطفها من ذكريات وحوادث، وكان لسانَ صدق في التعبير عن كل أولئك في بيان ساحر ولفظ رصين، فلم تلبث الأمة العربية أن رأت فيه شاعرها، فألقت إليه مقاليد الإمارة وبايعته عن رضًا.

وقد ذهب شوقي إلى ربه منذ أكثر من عشر سنين،١ وما زال صدى ألحانه يتردد عذبًا مُطربًا، وما زال مكانه من ديوان العربية خاليًا لم يتأهل بعدُ شاعرٌ من شعراء الجيل أن يقتعد ذروته.

بلى، في مصر وفي سائر بلاد العربية شعراء، وإن منهم لمَن بلغ في فنه ما لم يبلغ شوقي، ولكنهم فيما اختاروا لأنفسهم من مذاهب الشعر لم يبلغ واحدٌ منهم أن يكون من الأمة ما كان لها شوقي؛ لسانَها المعبِّر عن كل ما يُلم بها من الأحداث، وما يهمس في ضميرها من الأماني.

أمِن عجزٍ أم من قوةٍ كان شوقي شاعر الأمة وكان هؤلاء شعراء أنفسهم؟ سؤال لست أجد اليوم جوابه، وإن العربية لتدخل في تاريخ جديد، فلعل هذا التاريخ أن يجيب في غدٍ عن هذا التساؤل حين يرسم للشاعر مهمته، ويحدد مكانه من نفسه ومن أمته، وأيًّا ما كان الجوانب فلن يضيع حق هذا الشاعر الذي خط هذه الصفحات الأولى من التاريخ، فحفظ للشعر العربي شبابه، وخطا به خُطاه إلى القوة والمجد والخلود.

وبعدُ، فهذا هو الجزء الرابع من الشوقيات، دفعه إليَّ مَن دفعه قُصاصاتٍ من صحف، وجزازاتٍ من ورق، وبقيةً من مطبوعات أو مخطوطات أكلها البِلى؛ لأنظر في ترتيبها وتبويبها وإخراجها ديوانًا.

ومن التجوُّز أن نسمِّي ذلك جزءًا؛ فما هو إلا بقية أو شيء من البقية التي لم تُنشر في الأجزاء الثلاثة الأولى من الديوان؛ فليس يجمعها باب ولا تضمُّها وحدة، ولا تميِّزها خصيصة من خصائص شعر شوقي، وإن منها لآخِرَ ما قال وأوائل ما نظم من شعر الصِّبا، ولقد تكون هذه وحدها خصيصةً لهذه المجموعة من شعر شوقي؛ فإن الباحث لَيجد فيها مادة تُعِينه على الموازنة بين ما كان هذا الشاعر في أولاه وما صار في آخرته، وإنها بذلك لحقيقة أن تُعِينه على باب من القول لعل أسبابه لا تتهيأ له من غير أن ينظر في هذا الجزء من ديوانه.

على أن ذلك الجزء ليس هو كل ما بقي من شعر شوقي بعد الأجزاء الثلاثة الأولى، ولكنه كل ما دُفع إليَّ مما تهيأ لجامعه أن يجمعه، وأرى شيئًا ما قد فاته أو هو قد أغفل نشره استجابةً لبعض الدواعي العامة أو الخاصة، أو لعل الشاعر — رحمه الله — كان له رأي في إغفال شيء من نظمه لجِدَّة أسباب أو زوال أسباب، ومهما يكن من شيء فهذه حقيقة ينبغي أن أذكُرها لعل سائلًا يسأل من بعد أو لعل مدَّعيًا أن يدعي.

وقد رتبت هذا الجزء على ستة أبواب:

الباب الأول منها «متفرقات في السياسة والتاريخ والاجتماع»، وهو اثنان وأربعون وثمانمائة بيت في ثلاث وثلاثين قطعة،٢ وإن منها آخر ما أنشأ،٣ وإن منها القديم الذي تطاولت عليه السنون وتراكمت الحوادث حتى ليوشك أن ينساه التاريخ.٤
والباب الثاني «الخصوصيات»، وهو ستة وخمسون ومائة بيت في عشرين قطعة،٥ أكثرها في الحديث عن نفسه وولده وبعض خاصته، وإنه فيما تحدث عن ولده من هذا الباب ليهيئ للباحث النفسي أن يقول قولًا في الشاعر الأب، وفي أُبوَّة الشاعر.
والباب الثالث «الحكايات»، وهو تسعة وسبعمائة بيت في خمس وخمسين قطعة،٦ أكثرها مما نشره من قبل في طبعة «الشوقيات» الأولى، ولغة الشاعر في هذا الباب غير لغته في سائر شعره، وإنه لباب يُسمح فيه للشاعر أن يترخَّص، وأحسبه في بعض ما قص من الحكايات في هذا الباب كان يرمز لبعض ما مر به من كيد الناس في حياته ويعرِّض.٧

والباب الرابع «ديوان الأطفال»، وهو ثلاثة وعشرون ومائة بيت في عشر قطع، وأكثره من الأناشيد العامة التي نظمها لمناسباتها، ثم أرادها لتكون مما يُنشده الناشئة.

والخامس «من شعر الصِّبا»، وهو تسعة وتسعون بيتًا في ثماني قطع من أوَّليات شعره.

أما الباب السادس «محجوبيات»، فهو باب طريف يشير إلى ما كان من ود بين الشاعر وصديقه الدكتور محجوب ثابت، وعِدَّته ثلاثة وستون بيتًا في أربع قطع، ولا أحسب ذلك كل ما كان من «محجوبيات» شوقي، ولكنه كلُّ ما أُلقيَ إليَّ.٨

فهذا هو الجزء الرابع من «الشوقيات» كما هو بين يدي قارئه، ولعلني كنت مسئولًا وقد حملت تبعة نشره أن أشرح أو أعلِّق على بعض ما قد يحتاج إلى التعليق والشرح من أبياته، ولكني آثرت والكتابُ في طبعته الأولى أن أجعله خالصًا لشعر شاعره، وألا أستأثر بالتوجيه في الشرح كما يقول صديقي الأستاذ محمود أبو الوفا في كلمته بالجزء الثالث من الديوان.

على أن بعض كلمات قد اقتضاني موضوعها أن أجلِّيها ببعض الشرح، فاكتفيت من ذلك بالنزر في بعض الصفحات، مكتفيًا بما أثبتُّ في رأس كل قصيدة من ذكر السبب والحادثة وبعض التاريخ إن دعا إلى ذلك موضوعها.

وإني لأرجو بذلك أن أكون قد أدَّيت واجبي على وجه يُعذِرني عند الناقد من بعض ما قد يراه في هذا الجزء من هنات، وما أبرِّئ نفسي.

١  ظهرت الطبعة الأولى من هذا الجزء سنة ١٩٤٣م.
٢  زِيد إليها في الطبعة الثانية اثنان وتسعون ومائة بيت في خمس قطع.
٣  انظر «فتية الوادي عرفنا صوتكم»، يخاطب بها الشباب الذين نهضوا بمشروع القرش في سنة ١٩٣٢م، وكانت تلاوتها يوم وفاته.
٤  انظر «معالي العهد» و«رسالة الناشئة».
٥  زِيد إليها في الطبعة الثانية ثلاثة عشر بيتًا في قطعة.
٦  زِيد إليها في الطبعة الثانية واحد وعشرون بيتًا في قطعة.
٧  انظر «نديم الباذنجان» و«الثعلب والأرنب في السفينة» وغيرهما.
٨  وليس يفوتني أن أشير إلى قطعتَين لم تُنشرا في هذا الجزء؛ إحداهما بعنوان «دنشواي» والأخرى بعنوان «الرقيب»، وكنت قيد هيأتهما للنشر في الطبعة الأولى في موضعهما من باب «المتفرقات»، ولكن رقيب المطبوعات لم يأذن في نشرهما لظروف اقتضت هذا المنع في ذلك التاريخ (سنة ١٩٤٣م)، ثم غاب عني أصلهما فلم يتهيأ لي نشرهما في هذه الطبعة كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤