أمين بك الرافعي١

مال أحبابُه خليلًا خليلا
وتولَّى اللِّداتُ إلا قليلا
نَصلوا أمسِ من غُبارِ الليالي
ومضى وحدَه يحثُّ الرحيلا٢
سكنَت منهم الركابُ كأن لم
تضطربْ ساعةً ولم تمضِ مِيلا
جُرِّدوا من مَنازلِ الأرضِ إلا
حجرًا دارسًا ورملًا مَهيلا٣
وتعرَّوا إِلى البِلى فكساهم
خُشنةَ اللَّحدِ والدُّجى المسدولا
في يَبابٍ من الثرى ردَّه المو
تُ نقيًّا من الحقودِ غَسيلا٤
طرَحوا عندَه الهمومَ وقالوا
إن عِبءَ الحياةِ كان ثقيلا
إنما العالَمُ الذي منه جِئنا
مَلعبٌ لا يُنوِّع التمثيلا
بطلُ الموتِ في الرواية ركنٌ
بُنِيَت منه هيكلًا وفصولا
كلَّما راح أو غدا الموتُ فيها
سقط السِّترُ بالدموع بَليلا
ذكرياتٌ من الأحِبَّةِ تُمحى
بِيَدٍ للزمانِ تَمحو الطُّلولا
كلُّ رسمٍ من منزلٍ أو حبيبٍ
سوف يمشي البِلى عليه مُحيلا
رُبَّ ثُكلٍ آساكَ مِن قُرحةِ الثُّكْـ
ـلِ ورُزْءٍ نسَّاك رُزْءًا جليلا
يا بناتِ القريضِ قُمْنَ مَناحا
تٍ وأرسِلنَ لَوْعةً وعَويلا
من بناتِ الهديلِ أنتنَّ أحْنَى
نغمةً في الأسى وأشْجى هَديلا٥
إن دمعًا تَذرِفنَ إثرَ رفاقي
سوف يبكي به الخليلُ الخليلا
رُبَّ يومٍ يُناحُ فيه علينا
لو نُحِسُّ النُّواحَ والترتيلا
بمَراثٍ كُتِبنَ بالدمعِ عنَّا
أسطُرًا من جوًى وأخرى غليلا
يَجِدُ القائلون فيها المعاني
يومَ لا يأذنُ البِلى أن نَقولا
أخذ الموتُ من يدِ الحقِّ سيفًا
خالِديَّ الغِرارِ عَضبًا صقيلا٦
من سيوفِ الجهادِ فُولاذُه الحقُّ
فهل كان قَينُه جبريلا٧
لمسَته يدُ السماء فكان الـ
ـبَرقَ والرعدَ خَفْقةً وصَليلا
وإباءُ الرجالِ أمضَى من السيـ
ـفِ على كفِّ فارسٍ مَسلولا
رُبَّ قلبٍ أصارَه الخُلْقُ ضِرغا
مًا وصدرٍ أصارَه الحقُّ غِيلا٨
قيلَ حلِّلهُ قلتُ عِرقٌ من التِّبـ
ـرِ أراحَ البيانَ والتحليلا
لم يَزِدْ في الحديدِ والنارِ إلا
لَمْحةً حُرَّةً وصبرًا جميلا
لم يخَفْ في حياتِه شبَحَ الفقـ
ـرِ إذا طافَ بالرجالِ مَهولا
جاعَ حِينًا فكان كاللَّيثِ آبى
ما تُلاقيه يومَ جُوعٍ هَزيلا
تأكلُ الهِرَّةُ الصِّغارَ إذا جا
عت ولا تأكلُ اللَّباةُ الشُّبولا
قِيلَ غالٍ في الرأي قلتُ هَبُوهُ
قد يكون الغُلوُّ رأيًا أصيلا
وقديمًا بنى الغُلوُّ نُفوسًا
وقديمًا بنى الغُلوُّ عُقولا
وكم استنهضَ الشيوخَ وأذكى
في الشبابِ الطِّماحَ والتأميلا
ومن الرأيِ ما يكونُ نِفاقًا
أو يكونُ اتجاهُه التضليلا
ومن النقدِ والجِدالِ كلامٌ
يُشبِه البغيَ والخَنا والفُضولا
وأرى الصدقَ دَيدنًا لسَليلِ الرَّ
افعيِّينَ والعَفافَ سَبيلا
عاشَ لم يَغتبِ الرجالَ ولم يَجـ
ـعلْ شئونَ النفوسِ قالًا وقِيلا
قد فقَدْنا به بقيَّةَ رَهْطٍ
أيقَظوا النيلَ واديًا ونَزيلا
حرَّكوه وكان بالأمسِ كالكهـ
ـفِ حُزونًا وكالرَّقيمِ سُهولا٩
يا أمينَ الحقوقِ أدَّيتَ حتى
لم تخُن مصرَ في الحقوقِ فَتيلا
ولوِ اسْطعتَ زِدتَ مصرَ من الحقِّ
على نيلِها المُبارَكِ نيلا
لستُ أنساك قابعًا بينَ دُرجَيـ
ـكَ مُكِبًّا عليهما مشغولا
قد تواريتَ في الخُشوعِ فخالو
كَ ضئيلًا وما خُلِقتَ ضئيلا
سائِلِ «الشعبَ» عنك و«العَلمَ» الخفَّـ
ـاقَ أو سائِلِ اللواءَ الظليلا١٠
كم إمامٍ قرَّبتَ في الصفِّ منه
ومُغنٍّ قعَدتَ منه رَسيلا
تُنشِدُ الناسَ في القضيةِ لحْنًا
كالحواريِّ رتَّلَ الإنجيلا
ماضيًا في الجهادِ لم تتأخَّر
تَزِنُ الصفَّ أو تُقِيمُ الرَّعيلا١١
ما تُبالي مضَيتَ وحْدَك تحمي
حَوزةَ الحقِّ أم مضَيتَ قَبيلا
إن يفُتْ فيكَ مِنبرَ الأمسِ شِعري
إن لي المِنبرَ الذي لن يزولا
جلَّ عن مُنشِدٍ سِوى الدهرِ يُلقِيـ
ـهِ على الغابرين جيلًا فجيلا
١  أمين بك الرافعي: كان كاتبًا سياسيًّا عظيمًا، وكان في الصحفيين السياسيين يعدُّ مثالًا عاليًا، لطهارة الذمة ونبل الغاية ونزاهة الضمير، وله في تمسُّكه برأيه وصلابته على الحق الذي يعتقده مواقف تضحية، لا يصبر عليها إلا من وطَّن نفسه على احتمال جميع مكاره الحياة، وقد وقف حياتَه منذ نشأته على خدمة القضية المصرية، وظل مجاهدًا في سبيل استقلال مصر حتى مات في سنة ١٩٢٦م.
٢  نصلوا من غبار الليالي: تعبير كنائي عن الموت؛ إذ غبار الليالي عبارة عن أحداثها، وليس في إمكان الحي التنصُّل من هذه الأحداث إلا بالموت. يقول: إن أحبابه وخِلَّانه سبقوه وتنصلوا من الدنيا وحوادثها، وها هو ماضٍ على أثرهم مسرعًا ليلحق بهم، وينصل من بلاء الدنيا كما نصلوا.
٣  يصف خروج الناس من الدنيا وليس في أيديهم من ممتلكاتها إلا الحجر الموضوع تحت رءوسهم والتراب المهيل فوق قبورهم، فكأنه يقول: ليت شِعري لِمَ يتقاتل الناس، ويتكالبون على بناء القصور وشراء الضياع، وهم إذا ماتوا لا يصحبهم من هذه الممتلكات إلا حجر واحد وحفنات من تراب تداري جسومهم وتواري رممهم.
٤  اليباب: الخراب. يقول: إن هذا اليباب الذي نسمِّيه بالمقابر موضع نقَّاه الموت من الأكدار، وغسله من الأحقاد، فهو من أجل ذلك صار أرْوَح للأرواح عن المواضع الآهلة بالعمران.
٥  الهديل: الحمام، وصوت الحمام، والهديل أيضًا: فرخ قالوا إنه كان على عهد نوح، فصاده جارح من جوارح الطير، فليس من حمامة إلا وهي تبكي عليه.
٦  العضب: السيف. الغرار: حدُّ السيف. وقوله «خالدي»: نسبة إلى خالد بن الوليد. الصقيل: المصقول.
٧  القين: هو الحداد الذي يصنع السيوف.
٨  الضرغام: من أسماء الأسد. الغيل: موضع الأسد.
٩  الكهف: كالبيت المنقور في الجبل. الرقيم: يقال هو الكتاب؛ وإذن فيكون تشبيهه سهول النيل بالرقيم معناه أنها كانت وقتئذٍ مبسوطة خالية مهيأة لأن يخط فوقها حروف الحياة الأولى، ولو سُئل أحد الحكماء: ما هي الحروف الأولى للحياة؟ لأجاب على الفور: هي اليقظة. ولعَمري إن ربة الحكمة إذن هي التي ألهمت أمير الشعراء قوله في البيت السابق: «أيقظوا النيل واديًا ونزيلا.» ففي تصوره الذهني لمعنى اليقظة سبق خياله إلى تشبيه سهول وادي النيل بالرقيم.
١٠  الشعب والعلم واللواء: أسماء صحف كان الفقيد يحرِّرها مناضلًا فيها عن مبادئه.
١١  الرعيل: طائفة من الخيل. والمراد أنه كان في جيش المجاهدين في القضية المصرية يقوِّم الصفوف إذا مالت، ويردُّ الطوائف إذا نفرت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤