متفرقات

في السياسة والتاريخ والاجتماع

الجامعة المصرية

(أنشأها في حفلة افتتاح منشآت الجامعة المصرية سنة ١٩٣١م.)

تاجَ البلادِ تحيةٌ وسلامُ
رَدَّتك مصرُ وصحَّتِ الأحلامُ
العلمُ والمُلكُ الرفيعُ كلاهما
لك يا «فؤادُ» جلالةٌ ومقامُ
فكأنك المأمونُ في سلطانه
في ظلِّك الأعلامُ والأقلامُ١
أهْدَى إليك الغربُ من ألقابه
في العلمِ ما تسمو له الأعلام
من كلِّ مملكةٍ وكلِّ جماعةٍ
يسعى لك التقديرُ والإعظام
ما هذه الغُرَفُ الزواهرُ كالضُّحى
الشَّامخاتُ كأنها الأعلام
من كلِّ مرفوعِ العمودِ مُنوِّرٍ
كالصبحِ مُنصدِعٌ به الإظلامُ
تتحطَّم الأُميَّةُ الكبرى على
عرَصاتِه وتُمزَّقُ الأوهام
هذا البِناءُ الفاطميُّ مَنارةٌ
وقواعدٌ لحضارةٍ ودِعام
مهدٌ تهيَّأ للوليدِ وأيكةٌ
سيَرِنُّ فيها بُلبلٌ وحَمام
شُرُفاتُه نورُ السبيلِ وركنُهُ
للعبقريَّةِ مَنزلٌ ومُقام
ومَلاعبٌ تجري الحظوظُ مع الصِّبا
في ظِلِّهنَّ وتُوهَبُ الأقسام٢
يمشي بها الفِتيانُ هذا ما له
نفسٌ تُسوِّدُه وذاك عِصامُ٣
ألقى أواسِيَه وطال برُكنِهِ
نفسٌ من الصِّيدِ الملوكِ كرامُ٤
من آلِ إسماعيلَ لا العَمَّاتُ قد
قصَّرنَ عن كرم ولا الأعمام
لم يُعْطَ هِمَّتَهم ولا إحسانَهم
بانٍ على وادي الملوك هُمام
وبنى فؤادٌ حائطَيه يُعِينُهُ
شعبٌ عن الغاياتِ ليس يَنام
انظر أبا الفاروقِ غرْسَك هل دنَت
ثمراتُه وبدَت له أعلام
وهل انثنى الوادي وفي فمه الجَنى
وأتى العراقُ مُشاطرًا والشام
في كلِّ عاصمةٍ وكلِّ مدينةٍ
شُبانُ مِصرَ على المَناهلِ حاموا
كم نستعيرُ الآخَرين ونجتدي
هَيهاتَ ما للعاريات دوام
اليومَ يَرْعى في خمائلِ أرضِهم
نشَأٌ إلى داعي الرحيلِ قِيام
حبٌّ غرَستَ بِراحتَيكَ ولم يزَل
يَسقيه من كِلتا يدَيك غَمام
حتى أنافَ على قوائمِ سُوقِهِ
ثمرًا تَنوءُ وراءه الأكمام
فقَريبُه للحاضرين وليمةٌ
وبعيدُه للغابرين طعام
عِظَةٌ لفاروقٍ وصالحِ جِيلِهِ
فيما يُنيلُ الصبرُ والإقدام
ونموذجٌ تحذو عليه ولم يزَل
بسَراتِهم يتشبَّهُ الأقوام
شيَّدتَ صَرْحًا للذخائرِ عاليًا
يأوي الجمالُ إليه والإلهام
رَفٌّ عُيونُ الكُتْبِ فيه طوائفٌ
وجلائلُ الأسفارِ فيه رُكام
إِسكندريةُ عاد كَنزُكِ سالمًا
حتى كأن لم يَلتهمْه ضِرامُ٥
لمَّته من لهبِ الحريق أناملٌ
بَرْدٌ على ما لامَسَت وسَلام
وأسَت جِراحتَكِ القديمةَ راحةٌ
جُرْحُ الزمانِ بعُرْفِها يَلتام
تَهَبُ الطريفَ من الفَخارِ وربما
بعثَت تَليدَ المجدِ وهْو رِمام
أرَأيتَ رُكْنَ العلمِ كيف يُقامُ
أرَأيتَ الاستقلالَ كيف يُرامُ
العلمُ في سُبُلِ الحضارةِ والعُلا
حادٍ لكلِّ جماعةٍ وزِمام
باني الممالكِ حينَ تنشُدُ بانيًا
ومَثابةُ الأوطانِ حينَ تُضام
قامت رُبوعُ العلم في الوادي فهل
للعبقريةِ والنبوغِ قيام
فهُما الحياةُ وكلُّ دُورِ ثقافةٍ
أو دُورِ تعليمٍ هي الأجسام
ما العلمُ ما لم يَصْنعاه حقيقةٌ
للطالبين ولا البيانُ كلام
يا مِهرجانَ العلمِ حوْلَك فرْحةٌ
وعليك من آمال مِصرَ زِحام
ما أشبهَتكَ مواسمُ الوادي ولا
أعيادُه في الدهر وهْي عِظام
إلا نهارًا في بشاشةِ صُبحِهِ
قعدَ البُناةُ وقامت الأهرام
وأطال «خوفو» من مَواكبِ عِزِّهِ
فاهتزَّتِ الرَّبَواتُ والآكام
يُومِي بتاجٍ في الحضارة مُعرِقٍ
تعنو الجِباهُ لعِزِّه والهامُ
تاجٌ تنقَّلَ في العُصورِ مُعظَّمًا
وتألَّفَت دُوَلٌ عليه جِسام
لمَّا اضطلعتَ به مشى فيه الهدى
ومراشدُ الدستورِ والإسلام
سبقَت مَواكبُك الربيعَ وحُسْنَهُ
فالنيلُ زهْوٌ والضِّفافُ وِسام
الجيزةُ الفيحاءُ هزَّت مَنكبًا
سبغَ النوالُ عليه والإنعام
لبِسَت زخارفَها ومسَّت طِيبَها
وتردَّدَت في أيْكِها الأنغام
قد زِدتَها هرمًا يُحَجُّ فِناؤه
ويُشَدُّ للدنيا إليه حِزام
تقِفُ القرونُ غدًا على درجاته
تُملِي الثناءَ وتكتبُ الأيام
أَعوامُ جهدٍ في الشبابِ وراءها
من جهدِ خيرِ كهولةٍ أعوام
بلغَ البِناءُ على يدَيك تمامَهُ
ولكلِّ ما تبني يداك تمام

بنك مصر

(أُنشِدَت في مجلس الاحتفال بوضع الحجر الأول في أساس «بنك مصر» في مايو ١٩٢٥.)

نُراوَحُ بالحوادثِ أو نُغادَى
ونُنكِرُها ونُعطيها القِيادا
ونحمَدُها وما رعَتِ الضَّحايا
ولا جزَتِ المواقفَ والجهادا
لحاها اللهُ باعَتنا خيالًا
من الأحلامِ واشترتِ اتِّحادا
مشَيْنا أمسِ نلقاها جميعًا
ونحن اليومَ نلقاها فُرادَى٦
أظلَّتْنا عن الإصلاح حتى
عجَزْنا أن نُناقِشَها الفسادا
تُلاقِينا فلا نَجِدُ الصياصي
ونَلقاها فلا نجدُ العَتادا٧
ومن لقِيَ السِّباعَ بغيرِ ظُفْرٍ
ولا نابٍ تمزَّقَ أو تفادى
خفَضْنا من عُلُوِّ الحقِّ حتى
توهَّمْنا السيادةَ أن نُسادا
ولمَّا لم ننَل للسيفِ رَدًّا
تَنازَعْنا الحمائلَ والنِّجادا
وأقبَلْنا على أقوالِ زورٍ
تجيءُ الغيَّ تَقلبُه رَشادا
ولو عُدْنا إليها بعدَ قرنٍ
رحِمْنا الطِّرسَ منها والمِدادا
وكم سحرٍ سمِعْنا منذ حينٍ
تضاءلَ بين أعيُننا ونادى
هنيئًا للعدوِّ بكلِّ أرضٍ
إذا هو حلَّ في بلدٍ تَعادى
وبُعدًا للسيادةِ والمعالي
إذا قطَعَ القرابةَ والوِدادا
ورُبَّ حقيقةٍ لا بد منها
خدَعْنا النَّشءَ عنها والسَّوادا
ولو طلعوا عليها عالَجوها
بهمَّةِ أنفُسٍ عظُمَت مُرادا
تُعِدُّ لحادثِ الأيام صبرًا
وآونةً تُعِدُّ له عِنادا
وتخلفُ بالنُّهى البِيضَ المَواضي
وبالخُلُقِ المثقَّقةَ الصِّعادا
لمَحْنا الحظَّ ناحيةً فلمَّا
بلغْناها أحسَّ بِنا فحادا
وليس الحظُّ إلا عبقريًّا
يُحِبُّ الأريحيَّةَ والسَّدادا
ونحن بنو زمانٍ حُوَّليٍّ
تَنقَّلَ تاجرًا ومشى ورادا
إذا قعد العِبادُ له بِسوقٍ
شرى في السوق أو باع العِبادا
وتُعجِبه العواطفُ في كتابٍ
وفي دمعِ المُشخِّصِ ما أجادا
يُؤمِّنُنا على الدستور أنَّا
نرى من خلفِ حَوْزتِه فؤادا
أبو الفاروقِ نرجوه لفضلٍ
ولا نخشى لِما وهبَ ارتدادا
ملَأْنا باسمه الأفواهَ فخرًا
ولقَّبْناه بالأمسِ «المكادا»٨
نُناجيه فنَسترعي حكيمًا
ونسأله فنَستجدي جوادا
ولم يزَلِ المحبَّبَ والمفدَّى
ومَرهمَ كلِّ جُرحٍ والضِّمادا
تَدفَّقَ مَصرِفُ الوادي فرَوَّى
وصابَ غمامُه فسَقى وجادا
دعا فتنافسَت فيه نُفوسٌ
بمصرَ لكلِّ صالحةٍ تُنادى
تُقدِّمُ عونَها ثقةً ومالًا
وأحيانًا تُقدِّمُه اجتهادا
وأقبلَ من شبابِ القومِ جمعٌ
كما بنَتِ الكهولُ بَنى وشادا
كأن جوانبَ الدارِ الخلايا
وهم كالنحل في الدار احتشادا
فيا دارًا من الهِمَمِ العوالي
سُقيتِ التِّبرَ لا أرْضَى العِهادا٩
تأنَّى حينَ أسَّسَكِ ابنُ حربٍ
وحينَ بنى دعائمَكِ الشِّدادا
ولا تُرجى المتانةُ في بناءٍ
إذا البنَّاءُ لم يُعْطَ اتِّئادا
بنى الدارَ التي كنَّا نراها
أمانيَّ المُخيَّلِ أو رُقادا
ولم يَبعُدْ على نفسٍ مَرامٌ
إذا ركِبَت له الهِمَمَ البِعادا
ولم أرَ بعدَ قدرتِه تعالى
كمَقدرةِ ابنِ آدمَ إن أرادا
جرى والناسُ في ريبٍ وشكٍّ
يَرومُ السَّبقَ فاخترقَ الجيادا
وعُودِيَ دونَها حتى بَناها
ومن شأنِ المُجدِّدِ أن يُعادى
يَهونُ الكيدُ من أعْدَى عدُوٍّ
عليكَ إذا الوليُّ سعى وكادا
فجاءت كالنهارِ إذا تجلَّى
عُلُوًّا في المَشارقِ وانطيادا١٠
نصونُ كرائمَ الأموالِ فيها
ونُنزِلها الخزائنَ والنِّضادا
ونُخرِجُها فتَكسبُ ثُم تأوي
رُجوعَ النَّحْلِ قد حُمِّلنَ زادا
ولم أرَ مِثلَها أرضًا أغلَّت
وما سُقيَت ولا طعِمَت سَمادا
ولا مُستودَعًا مالًا لقومٍ
إذا رجعوا له أدَّى وزادا
ومن عجبٍ نُثبِّتُها أصولًا
وتلك فروعُها تَغشى البلادا
كأن القُطْرَ من شوقٍ إليها
سما قبلَ الأساسِ بها عِمادا
ولو ملكَت كنوزَ الأرضِ كفِّي
جعلتُ أساسَها ماسًا ورادا
ولو أن النجومَ عنَت لحُكمي
فرشتُ النيِّراتِ لها مِهادا

دار بنك مصر

(نظمها لتُنشَدَ في حفلة افتتاح الدار الجديدة لبنك مصر في يونيو سنة ١٩٢٧م.)

نبذَ الهوى وصَحا من الأحلامِ
شَرقٌ تنبَّهَ بعدَ طولِ مَنامِ
ثابَتْ سلامتُه وأقْبَل صَحْوُهُ
إلا بَقايا فترةٍ وسَقامِ
صاحت به الآجامُ هُنْتَ فلم ينَمْ
أعَلى الهوانِ يُنامُ في الآجامِ
أُمَمٌ وراءَ الكهفِ جهدُ حياتِهم
حركاتُ عيشٍ في سُكونِ حِمام
نفضوا العيونَ من الكرى واستأنفوا
سَفرَ الحياةِ ورِحلةَ الأيام
من ليس في ركْبِ الزمانِ مُغبِّرًا
فاعدُدْه بينَ غوابرِ الأقوام
في كلِّ حاضرةٍ وكلِّ قبيلةٍ
هِمَمٌ ذهَبنَ يرُمنَ كلَّ مَرام
من كلِّ مُمتنِعٍ على أرسانِهِ
أو جامعٍ يعدو بنِصفِ لِجام
يا مِصرُ أنتِ كِنانةُ اللهِ التي
لا تُستباحُ وللكِنانةِ حامِ
استقبِلي الآمالَ في غاياتها
وتأمَّلِي الدُّنيا بطَرْفٍ سام
وخُذِي طريفَ المجدِ بعدَ تَليدِهِ
من راحتَي مَلِكٍ أغرَّ هُمام
يُعنى بِسُؤددِ قومِه وحُقوقِهم
ويَذودُ دونَ حِياضِهم ويُحامي
ما تاجُكِ العالي ولا نُوَّابُهُ
بالحانِثِين إليكِ في الإقسام
جرَّبتِ نُعْمى الحادثاتِ وبُؤسَها
أعلِمتِ حالًا آذنَت بدوام
عبسَت إلينا الحادثاتُ وطالما
نزلتْ فلمْ نُغلَبْ على الأحلام
وثبَت بقومٍ يَضمِدُون جِراحَهم
ويُرقِّدون نَوازيَ الآلام
الحقُّ كلُّ سلاحِهم وكفاحِهم
والحقُّ نِعْمَ مُثبِّتُ الأقدام
يَبنون حائطَ مُلكِهم في هُدنةٍ
وعلى عواقبِ شِحنةٍ وخِصام
قُل للحوادث أقْدِمي أو أحْجِمي
إنا بَنو الإقدامِ والإحجام
نحن النِّيامُ إذا الليالي سالمت
فإذا وثَبنَ فنحن غيرُ نِيام
فينا من الصبرِ الجميلِ بقيَّةٌ
لحوادثٍ خلْفَ الغُيوبِ جِسام
أين الوفودُ المُلتقونَ على القِرى
المُنزَلون مَنازلَ الأكرام١١
الوارِثون القُدْسَ عن أحبارِهِ
والخالفونَ أُميَّةً في الشَّام
الحامِلو الفُصحى ونورِ بيانِها
يَبنون فيه حضارةَ الإسلام
ويُؤلِّفون الشرقَ في بُرْهانِها
لمَّ الضياءِ حَواشيَ الإظلام
تاقوا إلى أوطانِهم فتحمَّلوا
وهوى الديارِ وراءَ كلِّ غرام
ما ضرَّ لو حبَسوا الرَّكائبَ ساعةً
وثنَوا إلى الفُسطاطِ فضْلَ زِمام
ليُضيفَ شاهدُهم إلى أيامه
يومًا أغرَّ مُلمَّحَ الأعلام
ويرى ويسمعَ كيف عادَ حقيقةً
ما كان مُمتنِعًا على الأوهام
من هِمَّةِ المحكومِ وهْو مُكبَّلٌ
بالقيد لا من هِمَّةِ الحُكَّام
مِصرُ التقَت في مِهرجانِ مُحمدٍ
وتجمَّعَت لتحيَّةٍ وسلام١٢
هزَّت مَناكبَها له فكأنه
عُرْسُ البيان ومَوكبُ الأقلام
وكأنه في الفتحِ عَمُّوريَّةٌ
وكأنني فيه أبو تمَّام١٣
أسِمُ العصورَ بحُسنِه وأنا الذي
يَروي فيَنتظمُ العصورَ كلامي
شرفًا محمدُ هكذا تُبنى العُلا
بالصبرِ آونةً وبالإقدام
هِمَمُ الرجالِ إذا مضَت لم يَثنِها
خدعُ الثناءِ ولا عوادي الذَّام
وتمامُ فضْلِكَ أن يَعيبَكَ حُسَّدٌ
يجِدُون نقصًا عندَ كلِّ تمام
المالُ في الدنيا مَنازلُ نُقْلةٍ
من أين جئتَ له بدارِ مُقام
فرفعتَ إيوانًا كرُكنِ النجمِ لم
يُضرَبْ على كِسرى ولا بَهرام
صيَّرتَ طِينتَه الخلودَ وجئتَ من
وادي الملوكِ بجَندلٍ ورَغام
هذا البناءُ العبقريُّ أتى به
بيتٌ له فضلٌ وحقُّ ذِمام
كانت به الأرقامُ تُدرَكُ حِسبةً
واليومَ جاوَز حِسبةَ الأرقام
يا طالما شغفَ الظنونَ وطالما
كثر الرجاءُ عليه في الإلمام
ما زِلتَ أنتَ وصاحباك بِرُكنِهِ
حتى استقام على أعزِّ دِعام
أسَّستُمُ بالحاسدين جِدارَهُ
وبنَيتُمُ بمَعاولِ الهدَّام
شَركاتُك الدنيا العريضةُ لم تُنَل
إلا بطولِ رعايةٍ وقيام
اللهُ سخَّر للكنانةِ خازنًا
أخذ الأمانَ لها من الأعوام
وكأن عهْدَك عهدُ يوسفَ كلُّهُ
ظلٌّ وسُنبلةٌ وقَطْرُ غَمام
وكأن مالَ المُودِعين وزرعَهم
في راحتَيك ودائعُ الأيتام
ما زِلتَ تبني رُكْنَ كلِّ عظيمةٍ
حتى أتيتَ برابعِ الأهرام

دار العلوم١٤

(أُنشِدَت في الاحتفال الخمسيني لدار العلوم، بمسرح حديقة الأزبكية، في يوليو سنة ١٩٢٧م.)

اتَّخذتِ السماءَ يا دارُ رُكْنا
وأويتِ الكواكبَ الزُّهْرَ سَكْنا
وجمَعتِ السعادتَين فباتت
فيكِ دُنيا الصلاحِ للدين خِدْنا
نادَمَا الدهرَ في ذَراكِ وفضَّا
من سُلافِ الودادِ دَنًّا فدَنَّا
وإذا الخُلْقُ كان عِقدَ ودادٍ
لم ينَل منه من وَشَى وتَجنَّى
وأرى العلمَ كالعبادة في أبـ
ـعدِ غاياتِه إلى الله أدنى
واسِعَ الساحِ يُرسِلُ الفِكْرَ فيها
كلُّ من شكَّ ساعةً أو تَظنَّى
هل سألْنا أبا العلاء وإن قلَّـ
ـبَ عينًا في عالمِ الكونِ وَسْنَى
كيف يَهْزا بخالقِ الطيرِ من لم
يَعلَم الطيرَ هل بكى أو تغنَّى
أنتِ كالشمس رفرفًا والسِّماكَيـ
ـنِ رِواقًا وكالمَجرَّةِ صَحْنا
لو تَستَّرتِ كنتِ كالكعبة الغرَّ
اءِ ذيلًا من الجلال ورُدْنا
إن تكُن للثوابِ والبِرِّ دارًا
أنتِ للحقِّ والمَراشدِ مَغْنى
قد بلَغتِ الكمالَ في نصفِ قرنٍ
كيف إن تمَّتِ الملاوة قَرْنا
لا تعُدِّي السِّنينَ إن ذُكِر العِلـ
ـمُ فما تعلَمِينَ للعلم سِنَّا
سوف تَفْنى في ساحتَيكِ الليالي
وهْو باقٍ على المَدى ليس يَفْنى
يا عكاظًا حوى الشبابَ فِصاحًا
قُرشيِّينَ في المجامعِ لُسْنا
بثَّهم في كنانةِ اللهِ نورًا
مِن ظلامٍ على البصائرِ أخْنَى
علَّموا بالبيانِ لا غُرباءً
فيه يومًا ولا أعاجمَ لُكْنا
فِتيةٌ مُحسِنون لم يُخلِفوا العلـ
ـمَ رجاءً ولا المُعلِّمَ ظنَّا
صدَعوا ظُلمةً على الريفِ حلَّت
وأضاءوا الصعيدَ سهلًا وحَزْنا
من قضى منهمُ تَفرَّقَ فِكرًا
في نُهى النَّشءِ أو تَقسَّمَ ذِهنا
نادِ دارَ العلوم إن شئتَ «يا عا
ئش» أو شئتَ نادِها «يا سُكَينا»
قُل لها يا ابنة «المُبارَكِ»١٥ إيهٍ
قد جرَت كاسمِه أمورُكِ يُمْنا
هو في المِهرجانِ حيٌّ شهيدٌ
يَجتلي غرْسَ فضلِه كيف أجْنَى
وهْو في العُرْسِ إن تحجَّبَ أو لم
يَحتجِبْ والدُ العروسِ المُهنَّا
ما جرى ذِكرُه بنادِيكِ حتى
وقفَ الدمعُ في الشئونِ فأثْنَى
رُبَّ خيرٍ مُلئتَ منه سُرورًا
ذكَّرَ الخيِّرينَ فاهتجتَ حُزْنا
أدَرَى إذ بنَاكِ أن كان يبني
فوقَ أنفِ العدوِّ للضادِ حِصنا
حائطُ المُلكِ بالمدارسِ إن شِئـ
ـتَ وإن شِئتَ بالمَعاقلِ يُبنى
انظُرِ الناس هل ترى لحياةٍ
عُطِّلتْ من نَباهةِ الذِّكرِ مَعنى
لا الغِنى في الرجال نابَ عن الفضـ
ـلِ وسلطانِه ولا الجاهُ أغْنَى
رُبَّ عاثٍ في الأرض لم تجعَلِ الأر
ضُ له إن أقام أو سار وَزنا
عاشَ لم تَرمِه بعينٍ وأوْدى
هَمَلًا لم تهَب لناعِيه أُذْنا
نظَمَ اللهُ مُلكَه بعبادٍ
عبقريِّينَ أورَثوا المُلكَ حُسْنا
شغلتْهم عن الحسودِ المعالي
إنما يُحسَدُ العظيمُ ويُشْنا
من ذكيِّ الفؤادِ يُورِثُ علمًا
أو بديعِ الخيالِ يخلقُ فنَّا
كم قديمٍ كرُقعةِ الفنِّ حُرٍّ
لم يُقلِّلْ له الجديدانِ شأنا
وجديدٍ عليه يختلف الدهـ
ـرُ ويَفنى الزمانُ قَرنًا فقَرنا
فاحتفِظ بالذخيرتَين جميعًا
عادةُ الفَطْنِ بالذخائر يُعنى
يا شبابًا سقَونيَ الودَّ مَحْضًا
وسقَوا شانئي على الغِلِّ أجْنا
كلَّما صار للكهولة شِعري
أنشَدوه فعاد أمْرَدَ لَدْنا
أُسرةُ الشاعرِ الرُّواةُ وما عَنَّـ
ـوْهُ والمرءُ بالقريبِ مُعنَّى
هم يضنُّون في الحياة بما قا
لَ ويُلفَونَ في المماتِ أضنَّا
وإذا ما انقضى وأهلُوه لم يَعـ
ـدمْ شقيقًا من الرُّواةِ أوِ ابْنا
النبوغَ النبوغَ حتى تنُصُّوا
رايةَ العلمِ كالهلالِ وأسْنَى
نحن في صورةِ الممالكِ ما لم
يُصبِحِ العلمُ والمُعلِّمُ مِنَّا
لا تُنادُوا الحصونَ والسُّفنَ وادعُوا الـ
ـعِلمَ يُنشئْ لكم حصونًا وسُفْنا
إن رَكْبَ الحضارةِ اخترقَ الأر
ضَ وشقَّ السماءَ ريحًا ومُزْنا
وصحِبْناه كالغبارِ فلا رَحْـ
ـلًا شدَدْنا ولا رِكابًا زمَمْنا
دانَ آباؤنا الزمانَ مَلِيًّا
ومَلِيًّا لحادثِ الدهرِ دِنَّا
كم نُباهِي بلَحدِ ميْتٍ وكم نحـ
ـملُ من هادمٍ ولم يبنِ منَّا
قد أنَى أن نقول «نحن» ولا نسـ
ـمعَ أبناءَنا يقولون «كُنَّا»

إسكندريةُ آن أن تتجدَّدي

(نظمها لحفلة افتتاح دار جديدة لبنك مصر في الإسكندرية، في يونيو سنة ١٩٢٩م.)

أمسِ انقضى واليومُ مِرقاةُ الغدِ
إسكندريةُ آنَ أن تتجدَّدِي
يا غُرَّةَ الوادي وسُدَّةَ بابِهِ
رُدِّي مكانَكِ في البرِيَّةِ يُردَدِ
فِيضِي كأمسِ على العلوم من النُّهى
وعلى الفنونِ من الجمالِ السَّرمدِي
وسِمِي النَّبالةَ بالملاحمِ تتَّسِمْ
وسِمِي الصَّبابةَ بالعواطف تَخلُدِ
وضعِي رواياتِ الخلاعةِ والهوى
لممثِّلين من العصورِ وشُهَّدِ
لا تجعلي حُبَّ القديمِ وذِكرَهُ
حسراتِ مِضياعٍ ودفْعَ مُبدَّد
إن القديمَ ذخيرةٌ من صالحٍ
تَبني المُقصِّرَ أو تحثُّ المُقتدي
لا تَفتنَنْكِ حضارةٌ مجلوبةٌ
لم يُبْنَ حائطُها بمالكِ واليَدِ
لو مالَ عنكِ شِراعُها وبُخارُها
لم يبقَ غيرُ الصَّيدِ والمُتصيِّد
وُجِدَت وكان لغيرِ أهلِكِ أرضُها
وسماؤها وكأنها لم تُوجَد
جاري النزيلَ وسابِقِيه إلى الغِنى
وإلى الحِجا وإلى العُلا والسُّؤدد
وابْنِي كما يَبني المَعاهدَ واشرعي
لشبابِك العرفانَ عذْبَ المَورد
إِني حَذِرتُ عليك من أمِّيةٍ
ربَضَت كجُنحِ الغيهبِ المُتلبِّد
أخِزانةَ الوادي عليكِ تحيَّةٌ
وعلى النَّدِيِّ وكلِّ أبلجَ في النَّدي
ما أنتِ إلا من خزائنِ يوسفٍ
بالقصدِ مُوحِيةٌ لمَن لم يَقصِد
قُلِّدتِ من مالِ البلادِ أمانةً
يا طالما افتقرَت إلى المُتقلِّد
وبلَغتِ من إيمانِها ورجائِها
ما يبلغُ المِحرابُ من مُتعبِّد
فلوَ انَّ أستارَ الجلالِ سعَت إلى
غيرِ العتيقِ لبِستِ مما يرتدي
إنا نُعظِّمُ فيكِ ألويةً على
جنَباتِها حشْدٌ يروحُ ويغتدي
وإذا طعِمتَ من الخلِيَّةِ شهْدَها
فاشهَدْ لقائدِها وللمُتجنِّد
لا تمنحِ المحبوبَ شُكْرَك كله
واقرِنْ به شكْرَ الأجيرِ المُجهَد
إسكندريةُ شُرِّفَت بعِصابةٍ
بِيضِ الأسِرَّةِ والصحيفةِ واليد
خدموا حِمى الوطنِ العزيزِ فبُورِكوا
خدَمًا وبُورِك في الحِمى من سيِّد
ما بالُ ذاك الكوخِ صرَّحَ وانجلى
عن حائطَي صَرْحٍ أشمَّ مُمرَّد
من كسرِ بيتٍ أو جِدارِ سقيفةٍ
رفع الثباتُ بِنايةً كالفَرقد
فإذا طلعتَ على جلالةِ رُكنِها
قُل تلك إحدى مُعجِزات «محمدِ»١٦

فِتيةَ الوادي عرَفْنا صوتكم

(يُخاطب الشاعر بهذه القصيدة شباب مصر الذين نهضوا بمشروع القرش سنة ١٩٣٢م، وهي آخر ما جادت به شاعريته، وكانت تلاوتها يوم وفاته!)

لا يُقِيمَنَّ على الضَّيمِ الأَسَدْ
نزعَ الشِّبلُ من الغابِ الوَتِدْ
كبِرَ الشِّبلُ وشبَّت نابُهُ
وتغطَّى مَنكِباهُ باللِّبَدْ
اترُكوه يمشِ في آجامِهِ
ودَعوه عن حِمى الغابِ يَذُد
واعرِضوا الدنيا على أظفاره
وابعثوه في صحاراها يَصِدْ
فِتيةَ الوادي عرَفْنا صوتَكم
مَرحبًا بالطائرِ الشادي الغَرِد
هو صوتُ الحقِّ لم يبغِ ولم
يَحمِلِ الحقدَ ولم يُخفِ الحَسَد
وخلا من شهوةٍ ما خالطت
صالحًا من عملٍ إلا فسَد
حرَّك البُلبلُ عِطفَي رَبوةٍ
كان فيها البومُ بالأيكِ انفرَد
زَنبقُ المُدْنِ ورَيحانُ القُرى
قام في كلِّ طريقٍ وقعد
باكرًا كالنَّحلِ في أسرابها
كلُّ سِربٍ قد تَلاقى واحتشَد
قد جَنى ما قلَّ من زهْرِ الرُّبا
ثم أعطى بدَلَ الزهرِ الشُّهُد
بسَطَ الكفَّ لمَن صادفَهُ
ومضى يَقصرُ خطوًا ويمُد
يجعلُ الأوطانَ أُغنيَّتَهُ
ويُنادي الناسَ من جادَ وجَد
كلَّما مرَّ ببابٍ دقَّهُ
أو رأى دارًا على الدرب قصَد
غاديًا في المُدْنِ أو نحوَ القُرى
رائحًا يسألُ قِرشًا للبلد
أيُّها الناسُ اسمعوا أصغوا له
أخرِجوا المالَ إلى البِرِّ يَعُدْ
لا ترُدُّوا يدَهم فارغةً
طالبُ العونِ لمصرٍ لا يُرَد
سيَرى الناسُ عجيبًا في غدٍ
يغرسُ القرشُ ويَبني ويَلِد
يُنهِضُ اللهُ الصناعاتِ به
من عِثارٍ لبِثَت فيه الأبد
أو يَزيد البرَّ دارًا قعدَت
لكفاحِ السُّلِّ أو حربِ الرَّمَد
وهْو في الأيدي وفي قدرتِها
لم يَضِقْ عنه ولم يَعجِزْ أحد
تلك مصرُ الغدِ تبني مُلكها
نادَتِ الباني وجاءت بالعُدَد
وعلى المالِ بنَت سلطانَها
ثابِتَ الآساسِ مرفوعَ العَمَد
وأصارت بنكَ مصرٍ كهْفَها
حبَّذا الركنُ وأعظِمْ بالسَّنَد
مَثلٌ من هِمَّةٍ قد بعُدَت
ومداها في المعالي قد بَعُد
ردَّها العصرُ إلى أسلوبِهِ
كلُّ عصرٍ بأساليبَ جُدُد
البَنونَ استنهَضوا آباءهم
ودعا الشِّبلُ من الوادي الأسد
أصبحَت مصرُ وأضحى مجدُها
هِمَّةَ الوالدِ أو شُغْلَ الولد
هذه الهِمَّةُ بالأمسِ جرَت
فحوَت في طلبِ الحقِّ الأمد
أيُّها الجيلُ الذي نرجو لِغَد
غدُك العِزُّ ودنياك الرَّغَد
أنت في مَدرجةِ السَّيلِ وقد
ضلَّ من في مَدرجِ السيلِ رَقَد
قُدْتَ في الحقِّ فقُدْ في مِثلِهِ
من نواحي القصدِ أو سُبْلِ الرَّشَد
رُبَّ عامٍ أنت فيه واجدٌ
فادَّخِرْ فيه لعامٍ لا تجِدْ
علِّمِ الآباءَ واهتِف قائلًا
أيُّها الشعبُ تَعاوَنْ واقتصِد
اجمعِ القرشَ إلى القرشِ يكُن
لك من جمعِهما مالٌ لُبَد
اطلبِ القطنَ وزاوِلْ غيرَهُ
واتَّخِذ سوقًا إذا سُوقٌ كَسَد
نحن قبل القُطنِ كنَّا أُمَّةً
تهبطُ الوادي وتَرعى وتَرِد
قد أخذْنا في الصناعات المَدى
وبنَينا في الأوالي ما خَلَد
وغزَلْنا قبلَ إدريسَ الكُسا
ونسَجْنا قبلَ داوودَ الزَّرَد
إن تكُ اليومَ لواءً قائدًا
كم لواءٍ لك بالأمسِ انعقَد

عيد الجهاد١٧

(نظمها احتفالًا بعيد الجهاد الوطني، في ١٣ نوفمبر سنة ١٩٢٦م.)

خطَونا في الجهادِ خُطًا فِساحا
وهادَنَّا ولم نُلقِ السِّلاحا
رضِينا في هوى الوطن المفدَّى
دمَ الشهداءِ والمالَ المُطاحا
ولمَّا سُلَّتِ البِيضُ المَواضي
تقلَّدْنا لها الحقَّ الصُّراحا
فحطَّمْنا الشَّكيمَ سِوى بقايا
إذا عضَّت أرَيْناها الجِماحا
وقُمْنا في شِراعِ الحقِّ نَلقى
وندفعُ عن جوانبِه الرِّياحا
نُعالجِ شدةً ونَروضُ أخرى
ونسعى السعيَ مشروعًا مُباحا
ونستولي على العقبات إلا
كَمِينَ الغيبِ والقَدَرَ المُتاحا
ومن يَصبرْ يَجِدْ طُولَ التمنِّي
على الأيام قد صار اقتراحا
وأيامٍ كأجوافِ الليالي
فقَدنَ النجمَ والقمرَ اللِّياحا
قضَيناها حِيالَ الحربِ نخشى
بقاءَ الرِّقِ أو نرجو السَّراحا
ترَكْنا الناسَ بالوادي قُعودا
من الإعياءِ كالإبلِ الرَّزاحى
جنودُ السِّلمِ لا ظَفَرٌ جَزاهم
بما صبروا ولا موتٌ أراحا
ولا تَلقى سوى حيٍّ كَمَيْتٍ
ومنزوفٍ وإن لم يُسْقَ راحا
ترى أسْرَى وما شهدوا قِتالًا
ولا اعتقلوا الأسِنَّةَ والصِّفاحا
وجَرْحى السَّوطِ لا جَرْحى المواضي
بما عمل الجواسيسُ اجتراحا
صباحُك كان إقبالًا وسعدًا
فيا يومَ الرسالةِ عِمْ صباحا
وما تألو نهارَكَ ذكرياتٍ
ولا برهانَ عِزَّتِك التِماحا
تكاد حِلاك في صفحاتِ مصرٍ
بها التاريخُ يُفتتَح افتتاحا
جلالُك عن سَنا الأضحى تَجلَّى
ونُورُك عن هلالِ الفطر لاحا
هما حقٌّ وأنت مُلئتَ حقًّا
ومثَّلتَ الضحيَّةَ والسَّماحا
بعَثْنا فيك «هارونًا وموسى»
إلى «فرعونَ» فابتَدَآ الكِفاحا١٨
وكان أعزَّ من رُوما سيوفًا
وأطغى من قياصرِها رماحا
يكادُ من الفتوح وما سقَته
يَخالُ وراءَ هيكلِه «فِتاحا»
ورُدَّ المسلمون فقِيلَ خابوا
فيا لَكِ خيبةً عادت نجاحا
أثارت واديًا من غايتَيهِ
ولامَت١٩ فُرقةً وأسَت جِراحا
وشدَّت من قُوى قومٍ مِراضٍ
عزائمَهم فردَّتها صِحاحا
كأن بِلالَ نُودِيَ قُم فأذِّنْ
فرَجَّ شِعابَ مكةَ والبِطاحا
كأن الناس في دينٍ جديدٍ
على جنَباته استبَقوا الصلاحا
وقد هانت حياتُهمُ عليهم
وكانوا بالحياةِ هُمُ الشِّحاحا
فتسمعُ في مآتمِهم غِناءً
وتسمعُ في ولائمِهم نُواحا
حواريِّينَ أوفَدْنا ثِقاتٍ
إذا تُرِكَ البلاغُ لهم فِصاحا
فكانوا الحقَّ مُنقبِضًا حييًّا
تحدَّى السيفَ مُنصلِتًا وَقاحا
لهم مِنَّا براءةُ أهلِ بدرٍ
فلا إثمًا نَعُدُّ ولا جُناحا
ترى الشَّحناءَ بينهمُ عِتابًا
وتحسبُ جِدَّهم فيها مُزاحا
جعلْنا الخُلدَ منزلَهم وزِدْنا
على الخُلدِ الثناءَ والامتداحا
يمينًا بالتي يُسعى إليها
غُدُوًّا بالندامةِ أو رَواحا
وتَعبَقُ في أنوفِ الحجِّ رُكنًا
وتحتَ جِباهِهم رَحْبًا وساحا
وبالدستور وهْو لنا حياةٌ
نرى فيه السلامةَ والفَلَاحا
أخَذْناه على المُهَجِ الغوالي
ولم نأخذْه نَيلًا مُستماحا
بنَينا فيه من دمعٍ رِواقًا
ومن دمِ كلِّ نابتةٍ جَناحا
لَمَا ملأ الشبابَ كرُوحِ سعدٍ
ولا جعلَ الحياةَ لهم طِماحا
سَلُوا عنه القضيةَ هل حَماها
وكان حِمى القضيةِ مُستباحا
وهل نظَمَ الكهولَ الصِّيدَ صَفًّا
وألَّف من تجارِبِهم رَداحا
هو الشيخُ الفتيُّ لو استراحت
من الدأبِ الكواكبُ ما استراحا
وليسَ بذائقِ النومِ اغتباقًا
إذا دار الرقادُ ولا اصطباحا
فيا لَكَ ضَيغمًا سهِرَ الليالي
وناضَلَ دونَ غايتِه ولاحَى
ولا حطَمَت لك الأيامُ نابًا
ولا غضَّت لك الدنيا صِياحا

مَعالي العهد

(نظمها في ميلاد الأمير السابق محمد عبد المنعم.)

مَعالي العهدِ قُمْتَ بها فَطِيما
وكان إليكَ مَرجعُها قديما
تنقَّلْ من يدٍ ليدٍ كريما
كرُوحِ اللهِ إذ خلفَ «الكَلِيما»٢٠
تنحَّى لابنِ مريمَ حينَ جاءَ
وخلَّى النَّجمُ للقمرِ الفَضاءَ
ضياءٌ للعيون تَلا ضياءً
يَفيضُ ميامِنًا وهُدًى عَميما
كذا أنتم بَنِي البيتِ الكريمِ
وهل مُتجزِّئٌ ضوءُ النُّجومِ
وأين الشُّهْبُ من شرفٍ صَميمِ
تألَّقَ عِقدُه بِكمُ نَظيما
أرى مُستقبَلًا يبدو عُجابا
وعُنوانًا يُكِنُّ لنا كِتابا
وكان «محمدٌ» أملًا شِهابا
وكان اليأسُ شيطانًا رجيما
وأشرقتِ «الهياكلُ» والمباني
كما كانت وأزيَنَ في الزمانِ
وأصبحَ ما تُكِنُّ من المعاني
على الآفاقِ مَسطورًا رقيما
سألتُ فقيلَ لي وضعَته طِفلا
وهذا عِيدُه في مِصرَ يُجلَى
فقلتُ كذلِكم آنستُ قَبْلا
وكان اللهُ بالنجوى عليما
ﺑ «مُنتزَهِ» الإمارةِ هلَّ فجرا
هِلالًا في مَنازلِه أغَرَّا
فباتت مِصرُ حوْلَ المهدِ «ثَغْرا»
وباتَ الثَّغرُ للدنيا نديما
لِجِيلِكَ في غدٍ جيلِ المعالي
وشعبِ المجدِ والهِمَمِ العوالي
أزُفُّ نوابغَ الكَلِمِ الغوالي
وأُهدِي حِكمتي الشَّعبَ الحكيما
إذا أقبلتَ يا زمنَ البنينا
وشَبُّوا فيك واجتازوا السنينا
فدُرْ من بَعدِنا لهمُ يَمينا
وكُنْ لوُرودِك الماءَ الحميما
ويا جيلَ الأميرِ إذا نشأتا
وشاءَ الجَدُّ أن تُعطي وشِئتا
فخُذْ سُبُلًا إلى العلياءِ شتَّى
وخَلِّ دَليلَكَ الدينَ القويما
وضِنَّ به فإن الخيرَ فيهِ
وخُذْه من الكتابِ وما يَليهِ
ولا تأخُذْه من شفتَي فقيهِ
ولا تَهجُرْ مع الدين العُلوما
وثِقْ بالنَّفسِ في كلِّ الشُّئونِ
وكُنْ ممَّا اعتقدتَ على يَقينِ
كأنك من ضميرِك عند دِينِ
فمِن شرفِ المبادئِ أن تُقيما
وإن تَرُمِ المظاهرَ في الحياةِ
فرُمْها باجتهادِك والثباتِ
وخُذْها بالمَساعي باهراتِ
تُنافِسُ في جلالتها النجوما
وإن تَخرُجْ لحربٍ أو سلامِ
فأقدِمْ قبلَ إقدامِ الأنامِ
وكُنْ كالليث يأتي من أمامِ
فيَملأُ كلَّ ناطقةٍ وُجُوما
وكُنْ شعبَ الخصائصِ والمزايا
ولا تَكُ ضائعًا بينَ البَرايا
وكُنْ كالنحلِ والدُّنيا الخلايا
يمرُّ بها ولا يمضي عَقيما
ولا تطمحْ إلى طلبِ المُحالِ
ولا تقنعْ إلى هجرِ المعالي
فإن أبطأنَ فاصبرْ غيرَ سالِ
كصبرِ الأنبياءِ لها قديما
ولا تقبَلْ لغيرِ اللهِ حُكما
ولا تحمِلْ لغيرِ الدهرِ ظُلما
ولا ترضَ القليلَ الدُّونَ قِسْما
إذا لم تَقدرِ الأمرَ المَرُوما
ولا تيأسْ ولا تكُ بالضَّجُورِ
ولا تثِقَنَّ من مَجرى الأمورِ
فليسَ مع الحوادثِ من قديرِ
ولا أحدٌ بما تأتي عليما
وفي الجُهَّالِ لا تَضَعِ الرجاءَ
كوَضعِ الشمسِ في الوَحَلِ الضيَّاءَ
يضيعُ شُعاعُها فيه هَباءَ
وكان الجهلُ ممقوتًا ذميما
وبالِغْ في التدبُّرِ والتَّحرِّي
ولا تعجَلْ وثِق من كلِّ أمرِ
وكُنْ كالأُسدِ عندَ الماءِ تجري
وليست وُرَّدًا حتى تَحوما
وما الدنيا بمَثوًى للعبادِ
فكُن ضيْفَ الرِّعايةِ والوِدادِ
ولا تَستكثرَنَّ من الأعادي
فشَرُّ الناسِ أكثرُهم خُصوما
ولا تجعلْ تودُّدَكَ ابتذالا
ولا تسمَحْ بحِلمِك أن يُذالا
وكُنْ ما بين ذاك وذاك حالا
فلن تُرضِي العدُوَّ ولا الحميما
وصلِّ صلاةَ من يرجو ويخشى
وقبْلَ الصومِ صُمْ عن كلِّ فَحْشا
ولا تحسبْ بأن اللهَ يُرشَى
وأن مُزكِّيًا أمِنَ الجحيما
لكلِّ جَنًى زكاةٌ في الحياةِ
ومَعنى البِرِّ في لفظِ الزكاةِ
وما لله فينا من جُباةِ
ولا هو لامرئٍ زكَّى غَريما
فإن تكُ عالمًا فاعمل وفطِّنْ
وإن تكُ حاكمًا فاعدِلْ وأحسِنْ
وإن تكُ صانعًا شيئًا فأتقِنْ
وكُنْ للفرضِ بعدئذٍ مُقيما
وصُنْ لغةً يَحِقُّ لها الصِّيانُ
فخيرُ مَظاهرِ الأممِ البيانُ
وكان الشعبُ ليس له لِسانُ
غريبًا في مَواطنِه مَضيما
ألمْ ترَها تُنالُ بكلِّ ضَيرِ
وكان الخيرُ إذ كانت بخيرِ
أيَنطقُ في المَشارقِ كلُّ طيرِ
ويَبقى أهلُها رَخَمًا وبُوما
فعلِّمْها صغيرَك قبلَ كلِّ
ودعْ دَعوى تَمدُّنِهم وخَلِّ
فما بالعِيِّ في الدنيا التَّحلِّي
ولا خَرَسُ الفتى فضلًا عظيما
وخُذ لغةَ المُعاصرِ فهْي دنيا
ولا تجعَلْ لِسانَ الأصلِ نَسْيا
كما نقلَ الغرابُ فضَلَّ مَشْيا
وما بلغَ الجديدَ ولا القديما
لجيلِك يومَ نشأتِه مَقالي
فأما أنتَ يا نجلَ المعالي
فتنظرُ من أبيكَ إلى مِثالِ
يُحيِّرُ في الكمالاتِ الفُهوما
نصائحُ ما أردتُ بها لأهدي
ولا أبغي بها جَدْواكَ بَعْدي
ولكنِّي أُحِبُّ النفعَ جهدي
وكان النفعُ في الدنيا لُزوما
فإن أُقرئتَ يا مولايَ شِعري
فإن أباك يعرفُه ويَدري
وجَدُّكَ كان شأويَ حينَ أجري
فأصرَعُ في سوابِقِها «تَميما»
بَنُونا أنتَ صُبْحُهمُ الأجلُّ
وعهدُكَ عِصمةٌ لهمُ وظِلُّ
فلِمْ لا نَرتجيكَ لهم وكلُّ
يعيشُ بأنْ تعيش وأن تَدوما

رسالة الناشئة

(أهداها إلى الأمير السابق محمد عبد المنعم.)

أحمدُ اللهَ وأُطرِي الأنبياءْ
مَصدرَ الحِكمةِ طُرًّا والضياءْ
وله الشكرُ على نُعمى الوجودْ
وعلى ما نِلتُ من فضلٍ وَجُودْ
اعبُدِ اللهَ بعقلٍ يا بُنَي
وبقلبٍ من رجاءِ اللهِ حي
ارْجُه تُعْطَ مَقاليدَ الفَلَكْ
واخشَه خَشيةَ من فيه هَلَكْ
انظرِ المُلكَ وأكبِرْ ما خَلَقْ
وتمتَّعْ فيه من خيرٍ رَزَقْ
أنت في الكون مَحلُّ التَّكرِمة
كلُّ شيءٍ لك عبدٌ أو أَمَة
سُخِّرَ العالَمُ من أرضٍ وماءْ
لكَ والريحُ وما تحتَ السَّماءْ
اذكُرِ الآيةَ إذ أنتَ جَنينْ
لك في الظُّلمةِ للنورِ حَنينْ
كلَّ يومٍ لك شأنٌ في الظُّلَمْ
حارَ فيه كلُّ «بقراطٍ» عَلَمْ
كان في جَنبِكَ شيءٌ من عَلقْ
حينَ مسَّته يدُ اللهِ خفَقْ
صار حِسًّا وحياةً بعدَما
كان في الأضلاعِ لحمًا ودما
دقَّ كالناقوسِ وسْطَ الهيكلِ
في انتفاضٍ كانتفاضٍ البُلبلِ
قُل لمَن طبَّبَ أو من نجَّما
صَنعةُ اللهِ ولكن زِغتُما
آمِنَا بالله إيمانَ العَجوزْ
إن غيرَ اللهِ عقلًا لا يَجوزْ
أيُّها الطالبُ للعلمِ استمعْ
خيرَ ما في طلبِ العلم جُمِعْ
هو إن أُوتِيتَه أسْنَى النِّعَمْ
هل تَرى الجُهَّالَ إلا كالنَّعَمْ
اطلبِ العلمَ لِذَاتِ العلم لا
لظهورٍ باطلٍ بينَ المَلا
عندَ أهلِ العلمِ للعلم مَذاقْ
فإذا فاتكَ هذا فافتراقْ
طلبُ المحرومِ للعلمِ سُدَى
ليس للأعمى على الضوءِ هُدى
فإذا فاتَكَ توفيقُ العليمْ
فامتنِعْ عن كلِّ تحصيلٍ عَقيمْ
واطلبِ الرزقَ هنا أو ها هُنا
كم مع الجهلِ يَسارٌ وغِنَى
كل ما علَّمكَ الدهرُ اعلَمِ
التجاريبُ علومُ الفَهِمِ
إنما الأيامُ والعيشُ كِتابْ
كلَّ يومٍ فيه للعِبرةِ بابْ
إن رُزِقتَ العلمَ زِنْه بالبيانْ
ما يُفيدُ العقلُ إن عيَّ اللسانْ
كم عليمٍ سقطَ العِيُّ بِهِ
مُظلِمٌ لا تهتدي في كُتْبِهِ
وأديبٍ فاتَه العلمُ فما
جاء بالحكمةِ فيما نَظَما
إن للعلمِ جميعًا فلسفة
من تَغِبْ عنه تفُتْه المعرفة
اقرَأِ التاريخَ إذ فيه العِبَرْ
ضاعَ قومٌ ليس يَدرون الخَبَرْ
كُنْ إلى الموتِ على حُبِّ الوطنْ
من يَخُنْ أوطانه يومًا يُخَنْ
وطنُ المرءِ حِماهُ المُفتدَى
يذكُرُ المِنَّةَ منه واليَدا
قد عرفتَ الدارَ والأهلَ بِهِ
كلُّ حُبٍّ شُعبةٌ من حُبِّهِ
هو محبوبُك بادٍ مُحتجِبْ
يعرفُ الشوقَ له من يَغتربْ
لك منه في الصِّبا مهدٌ رحيمْ
فإذا وُورِيتَ فالقبرُ الكريمْ
كم عزيزٍ عندَكَ استودعتَهُ
وعهودٍ بعدَكَ استرعيتَهُ
ودَفينٍ لك فيه كَرُما
تَذرفُ الدمعَ لذِكراهُ دَما
كُنْ نشيطًا عاملًا جمَّ الأملْ
إنما الصحةُ والرزقُ العملْ
كلُّ ما أتقنتَ محبوبٌ وَجِيهْ
مُتقَنُ الأعمالِ سِرُّ اللهِ فيهْ
يُقبِلُ الناسُ على الشيء الحَسَنْ
كلُّ شيءٍ بجزاءٍ وثمنْ
انظُرِ الآثارَ ما أزْيَنَها
قد حبَاها الخُلدَ من أتقَنَها
تلك آثارُ بني مِصرَ الأُوَلْ
أتقَنُوا الصنعةَ حتى في الجُعَلْ
أيُّها التاجرُ بُلِّغتَ الأَرَبْ
طالعُ التاجرِ في حُسنِ الأَدَبْ
بابُ حانوتِكَ بابُ الرازِقِ
لا تُفارِقْ بابَه أو فارِقِ
واحترِم في بابِه من دخلا
كلُّهم منه رسولٌ وصلا
تاجرُ القومِ صدوقٌ وأمينْ
لفظةٌ من فيه للقوم يَمينْ
إن للإقدامِ ناسًا كالأُسُدْ
فتَشبَّهْ إن من يُقدِمْ يَسُدْ
منهمُ كلُّ فتًى سادَ وشادْ
منهمُ «إسكندرٌ» و«ابنُ زيادْ»
وشجاعُ النفسِ منهم في الكروبْ
كشجاعِ القلبِ في وقتِ الحروبْ
وابلٌ «سُقراطُ» والشُّجعانُ طَل
إنما مَن يَنصرُ الحقَّ البَطَلْ
هُم جَمالُ الدهر حينًا بعد حينْ
من غُزاةٍ أو دُعاةٍ مُصلِحينْ
لهُمُ من هَيبةٍ عندَ الأُمَمْ
ما لِراعي غَنَمٍ عندَ الغَنَمْ
قُل إذا خاطبتَ غيرَ المسلمينْ
لكمُ دِينٌ رضِيتُم وَلْيَ دِينْ
خلِّ للدَّيَّانِ فيهم شانَهُ
إنه أَولى بهم سبحانَهُ
كلُّ حالٍ صائرٌ يومًا لِضِد
فدَعِ الأقدارَ تجري واستعِد
فلكٌ بالسَّعدِ والنَّحسِ يَدُورْ
لا تُعارِضْ أبدًا مَجرى الأمورْ
قُل إذا شئتَ صُروفٌ وغِيَرْ
وإذا شئتَ قضاءٌ وقدَرْ
واعمَلِ الخيرَ فإن عِشتَ لَقِي
طيِّبَ الحمدِ وإن مِتَّ بَقِي
من يمُتْ عن مِنَّةٍ عندَ يتيمْ
فرَحيمٌ سوف يُجزى من رَحيمْ
كُنْ كريمًا إن رأى جُرْحًا أسا
وتعهَّدْ وتوَلَّ البُؤَسا
واسخُ في الشدةِ وازدَدْ في الرَّخاءْ
كلُّ خُلْقٍ فاضلٍ دونَ السَّخاءْ
فبِه كلُّ بلاءٍ يُدفَعُ
لستَ تدري في غدٍ ما يَقَعُ
جامِلِ الناسَ تَحُزْ رِقَّ الجميعْ
رُبَّ قيدٍ من جميلٍ وصَنيعْ
عامِلِ الكلَّ بإحسانٍ تُحَب
فقديمًا جمَّلَ المرءَ الأدَبْ
وتجنَّبْ كلَّ خُلْقٍ لم يَرُقْ
إن ضِيقَ الرِّزقِ من ضِيقِ الخُلُقْ
وتواضَعْ في ارتفاعٍ تُعتبرْ
فهما ضِدَّانِ كِبْرٌ وكِبَرْ
كلُّ حيٍّ ما خلا اللهَ يموتْ
فاترُكِ الكِبْرَ له والجَبروتْ
وأرِحْ جَنبَكَ من داءِ الحسَدْ
كم حسودٍ قد توَفَّاهُ الكَمَدْ
وإذا أُغضِبتَ فاغضَبْ لعَظيمْ
شَرَفٍ قد مُسَّ أو عِرضٍ كريمْ
وتَجنَّبْ في الصغيراتِ الغضبْ
إنه كالنارِ والرُّشْدُ الحَطَبْ
اطلُبِ الحقَّ بِرِفقٍ تُحمَدِ
طالِبُ الحقِّ بعُنفٍ مُعتدِ
واعصِ في أكثرِ ما تأتي الهوى
كم مُطيعٍ لِهَوى النفسِ هَوَى
اذكُرِ الموتَ ولا تفزعْ فمَنْ
يَحقرِ الموتَ ينَلْ رِقَّ الزمَنْ
أحبِبِ الطفلَ وإن لم يَكُ لَكْ
إنما الطفلُ على الأرضِ مَلَكْ
هو لُطْفُ اللهِ لو تعلَمُهُ
رَحِمَ اللهُ امرَأً يَرحمُهُ
عَطْفةٌ منه على لُعبتِهِ
تُخرِجُ المحزونَ من كُربتِهِ
وحديثٌ ساعةَ الضِّيقِ مَعَهْ
يملأُ العيشَ نعيمًا وسَعَة
يا مُدِيمَ الصومِ في الشهرِ الكريمْ
صُمْ عن الغِيبةِ يومًا والنَّميمْ
وإذا صلَّيتَ خَفْ من تَعبدُ
كم مُصلِّ ضَجَّ منه المسجدُ
واجعلِ الحجَّ إلى «أُمِّ القُرى»
غِبَّ حجٍّ لِبُيوتِ الفُقرا
هكذا «طه» ومَن كان معَهْ
من وَقارِ اللهِ ألَّا تَخدعَهْ
وتَسمَّحْ وتوسَّعْ في الزكاة
إنها محبوبةٌ عندَ الإلَهْ
فرَضَ البِرَّ بها فرْضَ حَكيمْ
فإذا ما زِدتَ فاللهُ كريمْ
ليس لي في طِبِّ «جالينوسَ» باعْ
بيْدَ أن العيشَ درسٌ واطِّلاعْ
احذَرِ التُّخمةَ إن كنتَ فَهِمْ
إن «عزرائيلَ» في حلقِ النَّهِمْ
واتَّقِ البردَ فكَم خَلقٍ قَتَلْ
من توقَّاه اتَّقى نِصفَ العِلَلْ
اتَّخِذ سُكناك في طلقِ الجَواءْ
بينَ شمسٍ ونباتٍ وهَواءْ
خَيمةٌ في البِيدِ خيرٌ من قصورْ
تبخلُ الشمسُ عليها بالمُرورْ
في غدٍ تأوي إلى قفرٍ حلِكْ
يستوي الصُّعلوكُ فيه والمَلِكْ
واترُكِ الخمرَ لِمَشغوفٍ بها
لا يرى مندوحةً عن شُربِها
لا تُنادِمْ غيرَ مأمونٍ كريمْ
إن عقلَ البعضِ في كفِّ النديمْ
وعن المَيسرِ ما اسْطَعتَ ابتعِدْ
فهْو سُلُّ المالِ بل سُلُّ الكَبِدْ
وتَعشَّقْ وتَعفَّفْ واتَّقِ
ما دَرى اللذةَ من لم يَعشقِ

حَجُّ الأمير

(أرسل الأبيات الآتية في برقية إلى شريف مكة سنة حج الخديو عباس.)

دامت مَعاليك فينا يا ابن فاطمةٍ
ودامَ منكم لأُفْقِ البيتِ نِبراسُ
قُل للخديوِ إِذا وافيتَ سُدَّتَهُ
تمشي إليه ويمشي خلْفَك الناسُ
حَجُّ الأميرِ له الدنيا قد ابتهجَت
والعَودُ والعِيدُ أفراحٌ وأعراسُ
فلتَحْيَ مِلَّتُنا فلتَحْيَ أُمَّتُنا
فليَحْيَ سُلطانُنا فليَحْيَ عباسُ

إسماعيل

وقال وقد أشرف في مدينة نابلي على الدار التي كان يقيم فيها الخديو إسماعيل:

أبكيكَ إسماعيلَ مِصرَ وفي البُكى
بعدَ التَّذكُّرِ راحةُ المُستعبِرِ
ومِن القيامِ ببعضِ حقِّك أنني
أرْقَى لِعِزَّكَ والنعيمِ المُدبِرِ
هذي بُيوتُ الرُّوم كيف سَكنتَها
بعدَ القصورِ المُزرِياتِ بقَيصرِ
ومن العجائبِ أن نفسَك أقصرَت
والدهرُ في إحراجها لم يُقصِرِ
ما زالَ يُخلِي منكَ كلَّ مَحلَّةٍ
حتى دُفِعتَ إلى المكانِ الأقفَرِ
نظرَ الزمانُ إلى ديارِكَ كلِّها
نظرَ «الرشيدِ» إلى مَنازلِ «جعفرِ»٢١

حريقُ ميتْ غَمْر٢٢

اللهُ يحكمُ في المدائنِ والقُرى
يا «مِيتَ غَمْرَ» خُذِي القضاءَ كما جرى
ما جلَّ خَطبٌ ثم قِيسَ بغيرِهِ
إلا وهوَّنَه القِياسُ وصغَّرا
فسَلي «عمورةَ» أو «سدُون» تأسِّيًا
أو «مرتنيقَ» غداةَ وُورِيَتِ الثرى
مُدُنٌ لقِينَ من القضاءِ ونارِهِ
شررًا بجَنبِ نصيبِها مُستصغَرا
هذي طُلولُكِ أنفُسًا وحجارةً
هل كنتِ رُكنًا من جهنمَ مُسعَرا
قد جئتُ أبكيها وآخذُ عِبرةً
فوقفتُ مُعتبِرًا بها مُستعبِرا
أجِدُ الحياةَ حياةَ دهرٍ ساعةً
وأرى النعيمَ نعيمَ عُمْرٍ مُقصِرا
وأعُدُّ من حزمِ الأمورِ وعزمِها
للنفس أن ترضى وألَّا تَضجَرا
ما زِلتُ أسمعُ بالشَّقاءِ رِوايةً
حتى رأيتُ بكِ الشَّقاءَ مُصوَّرا
فعل الزمانُ بشملِ أهلِك فِعلَهُ
ببَنِي أُميَّةَ أو قَرابةِ جَعفرا
بالأمسِ قد سكنوا الديارَ فأصبحوا
لا يُنظَرون ولا مساكنُهم تُرى
فإذا لقِيتَ لقِيتَ حيًّا بائسًا
وإذا رأيتَ رأيتَ ميْتًا مُنكَرا
والأُمهاتُ بغيرِ صبرٍ هذه
تبكي الصغيرَ وتلك تبكي الأصغرا
من كلِّ مُودِعةِ الطُّلولِ دموعَها
من أجلِ طفلٍ في الطلولِ استأخرا
كانت تُؤمِّلُ أن تطولَ حياتُهُ
واليومَ تسألُ أن يعودَ فيُقبَرا
طلعَت عليكِ النارُ طَلعةَ شُؤمِها
فمحَتكِ آساسًا وغيَّرتِ الذُّرا
ملكَت جهاتِكِ ليلةً ونهارَها
حمراءَ يبدو الموتُ منها أحمرا
لا تَرهبُ الطوفانَ في طُغيانِها
لو قابلَته ولا تهابُ الأبحُرا
لو أن «نيرونَ» الجمادَ فؤادُهُ
يُدعى ليَنظرَها لعافَ المَنظرا
أو أنه ابتُليَ «الخليلُ» بمِثلِها
أستغفرُ الرحمنَ ولَّى مُدبِرا
أو أن سيلًا عاصمٌ من شرِّها
عصمَ الديارَ من المدامعِ ما جرى
أمسى بها كلُّ البيوتِ مُبوَّبًا
ومُطنَّبًا ومُسيَّجًا ومُسوَّرا
أسَرَتهمُ وتملَّكَت طُرُقاتِهم
من فرَّ لم يجدِ الطريقَ مُيسَّرا
خفَّت عليهم يومَ ذلك مَوردًا
وأضلَّهم قدَرٌ فضَلُّوا المَصدرا
حيثُ التفتَّ ترى الطريقَ كأنها
ساحاتُ حاتِمَ غِبَّ نِيرانِ القِرى
وترى الدعائمَ في السوادِ كهَيكلٍ
خمدَت به نارُ المجوسِ وأقْفَرا
وتشمُّ رائحةَ الرُّفاتِ كريهةً
وتشمُّ منها الثاكلاتُ العَنبرا
كثُرَت عليها الطيرُ في حَوْماتِها
يا طيرُ «كلُّ الصَّيدِ في جَوفِ الفَرا»
هل تأمنِينَ طوارقَ الأحداثِ أن
تغشى عليكِ الوَكْرَ في سِنَةِ الكَرى
والناسُ من داني القُرى وبعيدِها
تأتي لتمشيَ في الطُّلولِ وتَخبرا
يتساءلون عن الحريقِ وهَولِهِ
وأرى الفرائسَ بالتساؤلِ أجْدَرا
يا رَبِّ قد خمَدَت وليس سِواك من
يُطفِي القلوبَ المُشعَلاتِ تحسُّرا
فتحوا اكتتابًا للإعانة فاكتتِبْ
بالصبرِ فهْو بمالِهم لا يُشترى
إن لم تكن للبائسين فمَن لهم
أو لم تكن للاجئين فمَن ترى
فتولَّ جمعًا في اليَبابِ مُشتَّتًا
وارحم رَميمًا في الترابِ مُبعثَرا
فعلتْ بمصرَ النارُ ما لم تأتِهِ
آياتُكَ السبعُ القديمةُ في الورى
أوَما تراها في البلاد كقاهرٍ
في كلِّ ناحية يُسيِّر عَسْكرا
فادفعْ قضاءك أو فصيِّرْ نارَهُ
بَرْدًا وخُذ باللُّطفِ فيما قُدِّرا
مُدُّوا الأكُفَّ سَخيَّةً واستغفِري
يا أُمَّةً قد آنَ أن تستغفرا
أَولى بعطفِ المُوسِرِين وبِرِّهم
من كان مِثلَهمُ فأصبَح مُعسِرا
يا أيُّها السُّجَناءُ في أموالهم
أأمِنتُمُ الأيامَ أن تتغيَّرا
لا يملكُ الإنسانُ من أحوالِهِ
ما تملكُ الأقدارُ مهما قدَّرا
لا يُبطِرنَّكَ من حريرٍ مَوطئٌ
فلرُبَّ ماشٍ في الحريرِ تعثَّرا
وإذا الزمانُ تنكَّرَت أحداثُهُ
لأخيكَ فاذكُرْه عسى أن تُذكَرا

خُطبةُ غَلْيُوم

وخطب غليوم عاهل ألمانيا خطبة في سنة ١٩٠٦م كان لها وقعٌ عظيم، وأحدثت أزمة أوشكت أن تنتهي إلى حرب أوروبية طاحنة، فقال:

يا رَبِّ ما حُكمُكَ ماذا تَرى
في ذلك الحُلمِ العريضِ الطويلْ
قد قام غليومٌ خطيبًا فما
أعطاكَ من مُلكِكَ إلا القليلْ
شيَّد في جَنبِكَ مُلكًا له
مُلكُكَ إن قِيسَ إليه الضَّئيلْ
قد ورَّثَ العالَمَ حيًّا فما
غادَرَ من فجٍّ ولا من سبيل
فالنِّصفُ للجِرمانِ في زَعمِهِ
والنِّصفُ للرومانِ فيما يقول
يا رَبِّ قُل سيفُكَ أم سيفُهُ
أيُّهما يا رَبِّ ماضٍ ثقيل
إن صدَقَت يا رَبِّ أحلامُهُ
فإن خَطْبَ المسلمين الجليل
لا نحنُ جِرمانُ لنا حِصَّةٌ
ولا بِرُومانَ فنُعطى فَتيل
يا رَبِّ لا تنسَ رعاياك في
يومٍ رعاياك الفريقُ الذليل
جِنايةُ الجهلِ على أهلِهِ
قديمةٌ والجهلُ بئسَ الدليل
يا ليتَ لم نمدُدْ بِشَرٍّ يَدًا
وليتَ ظِلَّ السِّلمِ باقٍ ظليل
جَنى علينا عُصبةٌ جازَفوا
فحسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل

نادي الموسيقى الشرقي

وقال يخاطب الملك فؤاد الأول في حفلة افتتاح نادي الموسيقى الشرقي سنة ١٩٢٩م:

خطَّت يداكَ الرَّوضةَ الغنَّاءَ
وفرغتَ من صرحِ الفنونِ بِناءَ
ما زِلتَ تذهبُ في السُّمُوِّ بِرُكنِهِ
حتى تجاوزَ رُكنُه الجَوزاءَ
دارٌ من الفنِّ الجميلِ تقسَّمَت
للساهرين روايةً ورُواءَ
كالرَّوضِ تحتَ الطيرِ أعجبَ أيْكُهُ
لَحْظَ العيونِ وأعجبَ الإصغاءَ
ولقد نزلتَ بها فلم نرَ قبْلَها
فَلَكًا جلا شمسَ النهارِ عِشاءَ
وتوهَّجَت حتى تقلَّب في السَّنا
«وادي الملوكِ» حجارةً وفضاءَ
فتلفَّتُوا يتهامسون لعلَّهُ
فجرُ الحضارةِ في البلاد أضاءَ
تلك المَعازفُ في طُلولِ بِنائهم
أكثَرنَ نحوَ بِنائكَ الإيماء
وتمايَلتْ عيدانُهنَّ تحيَّةً
وترنَّمَت أوتارُهنَّ ثناء
يا بانيَ الإيوانِ قد نسَّقتَهُ
وحذَوتَ في هِنْدامِها «الحمراء»٢٣
أين «الغريضُ» يُحِلُّه أو «مَعبدٌ»٢٤
يَتبوَّأُ الحُجراتِ والأبهاء
العبقريةُ من ضَنائنِه التي
يحبو بها سبحانَه من شاء
لمَّا بنَيتَ الأيْكَ واستوهبتَهُ
بعثَ الهَزارَ وأرسَلَ الوَرْقاء
فسمعتَ من مُتفرِّدِ الأنغامِ ما
فاتَ «الرشيدَ» وأخطأَ النُّدَماء
والفنُّ ريحانُ الملوكِ وربما
خلَدُوا على جنَباتِه أسماء
لولا أياديه على أبنائنا
لم نُلْفَ أمجَدَ أُمَّةٍ آباء
كانت أوائلُ كلِّ قومٍ في العُلا
أرضًا وكُنَّا في الفَخارِ سماء
لولا ابتسامُ الفنِّ فيما حوْلَهُ
ظلَّ الوجودُ جَهامةً وجَفاء
جرِّدْ من الفنِّ الحياةَ وما حوَت
تَجِدِ الحياةَ من الجمالِ خَلاء
بالفنِّ عالجتِ الحياةَ طبيعةٌ
قد عالجَت بالواحةِ الصحراء
تأوي إليها الروحُ من رَمْضائِها
فتُصيبُ ظِلًّا أو تُصادِفُ ماء
نبضُ الحضارةِ في الممالكِ كلِّها
يجري السلامةَ أو يدقُّ الدَّاء
إن صحَّ فهْي على الزمانِ صحيحةٌ
أو زافَ كانت ظاهرًا وطِلاء
انظُرْ أبا الفاروق غَرْسَكَ هل ترى
بالغَرسِ إلا نعمةً ونَماء
من حَبَّةٍ ذُخِرَت وأيدٍ ثابرَت
جاء الزمانُ بجَنَّةٍ فَيْحاء
وأكنَّتِ الفنَّ الجميلَ خميلةٌ
رمَتِ الظِّلالَ ومدَّتِ الأفياء
بذلَ الجهودَ الصالحاتِ عصابةٌ
لا يسألون عن الجهود جَزاء
صحِبوا رسولَ الفنِّ لا يألونَهُ
حُبًّا وصِدقَ مودةٍ ووَفاء
دفعوا العوائقَ بالثبات وجاوَزوا
ما سرَّ من قدَرِ الأمور وساء
إن التعاونَ قوةٌ عُلْويَّةٌ
تبني الرجالَ وتُبدِعُ الأشياء
فلْيَهنِهم حازَ الْتِفاتَك سعيُهم
وكسا ندِيَّهمُ سَنًا وسَناء
لم تبْدُ للأبصار إلا غارسًا
لِخوالِفِ الأجيالِ أو بَنَّاء
تغدو على الفتراتِ تَرتجلُ النَّدى
وتروحُ تصطنعُ اليَدَ البيضاء
في مَوكبٍ كالغيثِ سار رِكابُهُ
بِشرًا وحلَّ سعادةً ورخاء
أنت اللواءُ التفَّ قومُك حَوْله
والتاجُ يجعله الشعوبُ لِواء
من كلِّ مِئذنةٍ سمعتَ مَحبَّةً
وبكلِّ ناقوسٍ لقِيتَ دُعاء
يتألَّفانِ على الهُتافِ كما انبرى
وَترٌ يُسايرُ في البَنانِ غِناء

في دار الأوبرا

(هذه القصيدة لم يتبيَّن لي — على وجه اليقين — سبب إنشادها، وأحسبه نظمها لمناسبة احتفال في دار الأوبرا أقامته جمعية من جمعيات البر بأبناء السبيل.)٢٥
حبَّذا السَّاحةُ والظلُّ الظليلْ
وثناءٌ في فمِ الدارِ جميلْ
لم تزَل تجري به تحت الثَّرى
لُجَّةُ المعروفِ والنَّيلِ الجزيلْ
صُنعُ إسماعيلَ جلَّت يدُهُ
كلُّ بُنيانٍ على الباني دليل
أتُراها سُدَّةً من بابه
فُتِحَت للخير جِيلًا بعدَ جيل
مَلعبُ الأيام إلا أنه
ليس حظُّ الجِدِّ منه بالقليل
شهِدَ الناسُ بها «عائدةً»
وشجى الأجيالَ من «فِردِي» الهديل
وائتنَفْنا في ذَراها دُولةً
ركنُها السُّؤددُ والمجدُ الأثيل
أينعَت عصرًا طويلًا وأتى
دونَ أن تُستأنَفَ العصرُ الطويل
كم ضفرْنا الغارَ في مِحرابها
وعقدْناه لسبَّاقٍ أصيل
كم بُدورٍ وُدِّعَت يومَ النَّوى
وشموسٍ شُيِّعَت يومَ الرحيل
رُبَّ عُرسٍ مرَّ للبِرِّ بها
ماجَ بالخيِّرِ والسَّمحِ المُنِيل
ضحِكَ الأيتامُ في ليلته
ومشى يستروحُ البُرْءَ العليل
والتقى البائسُ والنُّعْمى به
وسعى المأوى لأبناءِ السبيل
ومن الأرض جَديبٌ ونَدٍ
ومن الدُّورِ جَوادٌ وبخيل
يا شبابًا حُنفاءً ضمَّهم
منزلٌ ليس بمذمومِ النزيل
يصرفُ الشُّبانَ عن وِردِ القَذى
ويُنحِّيهم عن المَرْعى الوَبيل
اذهبوا فيه وجِيئوا إخوةً
بعضُكم خِدنٌ لبعضٍ وخليل
لا يَضرَّنكم قِلَّتُهُ
كلُّ مولودٍ وإن جلَّ ضئيل
أرجفَت في أمركم طائفةٌ
تُبَّعُ الظنِّ عن الإنصافِ مِيل
اجعلوا الصبرَ لهم حِيلتَكم
قلَّتِ الحيلةُ في قالَ وقِيل
أيُريدون بكم أن تجمعوا
رِقَّةَ الدينِ إلى الخُلْقِ الهزيل
خلَتِ الأرضُ من الهَدي ومن
مُرشِدٍ للنَّشءِ بالهَدي كَفيل
فتَرى الأُسرةَ فَوْضى وترى
نشَأً عن سُنَّةِ البِرِّ يَميل
لا تكُونوا السَّيلَ جَهْمًا خَشِنًا
كلَّما عبَّ وكُونوا السلسبيل
رُبَّ عَينٍ سَمحةٍ خاشعةٍ
روَّتِ العُشبَ ولم تنسَ النخيل
لا تُمارُوا الناسَ فيما اعتقدوا
كلُّ نفسٍ بكتابٍ وسبيل
وإذا جِئتُم إلى ناديكمُ
فاطرَحوا خلفكم العِبءَ الثقيل
هذه ليلتُكم في «الأوبِرا»
ليلةَ القدرِ من الشهرِ النبيل
مِهرجانٌ طوَّفَ الهادي به
ومشى بين يدَيه جَبرئيل
وتجلَّت أوجُهٌ زيَّنها
غُرَرٌ من لَمْحةِ الخير تَسيل
فكأن الليلَ بالفجر انجلى
وكأن الدارَ في ظلِّ الأصيل
أيها الأجوادُ لا نجزيكمُ
لَذَّةُ الخيرِ من الخير بَديل
رجلُ الأُمَّةِ يُرجى عنده
لجليلِ العملِ العَونُ الجليل
إن دارًا حُطْتُموها بالنَّدى
أخذتْ عهدَ النَّدى ألَّا تَميل

مَصرع بُطرس غالي باشا

حينما قُتِل بطرس غالي باشا في مصر برصاصة من يد إبراهيم الورداني في سنة ١٩١٠م هاجت النفوس، واستاء كثير من الأقباط لوقوع الجريمة على زعيم ووزير قبطي، فقال في ذلك:

بَني القِبطِ إخوانَ الدُّهورِ رُوَيدَكم
هَبُوه «يسوعًا» في البرِيَّةِ ثانيا
حمَلتُم لِحُكمِ اللهِ صلبَ «ابنِ مريمٍ»
وهذا قضاءُ اللهِ قد غالَ «غاليا»
سديدُ المَرامي قد رماه مُسدِّدٌ
وداهيةُ السُّوَّاسِ لاقى الدواهيا
وواللهِ لو لم يُطلِقِ النارَ مُطلِقٌ
عليه لأوْدَى فجأةً أو تَداويا
قضاءٌ ومِقدارٌ وآجالُ أنفُسٍ
إذا هي حانت لم تُؤخَّرْ ثوانيا
نَبيدُ كما بادت قبائلُ قبْلَنا
ويَبقى الأنامُ اثنَين ميْتًا وناعيا
تعالَوا عسى نطوي الجفاءَ وعهدَهُ
ونَنبذُ أسبابَ الشِّقاقِ نَواحيا
ألمْ تَكُ «مصرٌ» مهدَنا ثم لَحْدَنا
وبينهما كانت لكلٍّ مَغانيا
ألمْ نكُ من قبلِ «المسيحِ ابنِ مريمٍ»
و«موسى» و«طه» نعبدُ النيلَ جاريا
فهلَّا تساقَينا على حُبِّه الهوى
وهلَّا فدَيناه ضِفافًا وواديا
وما زال منكم أهلُ ودٍّ ورحمةٍ
وفي المسلمين الخيرُ ما زال باقيا
فلا يثنِكم عن ذمةٍ قتلُ «بُطرسٍ»
فقِدْمًا عرَفْنا القتلَ في الناس فاشيا

تحية غَلْيُوم الثاني لصلاح الدين في القبر

عظيمُ الناسِ من يبكي العِظاما
ويَندبُهم ولو كانوا عِظاما
وأكرَمُ من غَمامٍ عندَ مَحْلٍ
فتًى يُحيِي بمِدحتِه الكِراما
وما عُذرُ المقصِّر عن جزاءٍ
وما يَجزيهمُ إلا كلاما
فهل من مُبلِغٍ غليومَ عنِّي
مقالًا مُرضيًا ذاك المقاما
رعاكَ اللهُ من مَلِكٍ هُمامٍ
تعهَّدَ في الثَّرى مَلِكًا هُماما
أرى النِّسيانَ أظمأه فلمَّا
وقفتَ بقبرِه كنتَ الغَماما
تُقرِّبُ عهدَه للناس حتى
تركتَ الجيلَ في التاريخِ عاما
أتدري أيَّ سلطانٍ تُحيِّي
وأيَّ مُملَّكٍ تُهدي السَّلاما
وقفتَ به تُذكِّرُه مُلوكًا
تَعوَّدَ أن يُلاقوه قِياما
وكم جمَعَتهمُ حربٌ فكانوا
حدائدَها وكان هو الحُساما
كِلامٌ للبرِيَّةِ دامياتٌ
وأنت اليومَ من ضمَدَ الكِلاما
فلمَّا قلتَ ما قد قلتَ عنه
وأسمعتَ الممالكَ والأناما
تساءلتِ البرِيَّةُ وهْي كَلْمي
أحُبًّا كان ذاك أمِ انتقاما
وأنت أجلُّ أن تُزرِي بميْتٍ
وأنتَ أبرُّ أن تُؤذِي عِظاما
فلو كان الدوامُ نصيبَ مَلْكٍ
لنالَ بحدِّ صارمِه الدواما

الفَنار٢٦

سَما يُناغي الشُّهُبا
هل مسَّها فالتَهبا
كالدَّيدبانِ ألزَمُو
هُ في البِحارِ مَرقَبا
شيَّع منه مَركبًا
وقام يَلقى مَركبا
بشَّرَ بالدارِ وبالـ
أهلِ السُّراةَ الغُيَّبا
وخطَّ بالنُّورِ على
لوحِ الظلام مَرْحبا
كالبارقِ المُلِحِّ لم
يُولِّ إلا عَقَّبا
يا رُبَّ ليلٍ لم تَذُقْ
فيه الرُّقادَ طرَبا
بِتْنا نُراعيه كما
يَرْعى السُّراةُ الكوكبا
سعادةٌ يعرفُها
في الناس من كان أبا
مشى على الماء وجا
بَ كالمسيحِ العَبَبا
وقام في مَوضعه
مُستشرِفًا مُنقِّبا
يَرمي إلى الظلام طَرْ
فًا حائرًا مُذبذَبا
كمُبصِرٍ أدارَ عَيـ
ـنًا في الدُّجى وقلَّبا
كبصرِ الأعشى أصا
بَ في الظلام ونَبا
وكالسِّراجِ في يدِ الرِّ
يحِ أضاءَ وخبا
كلَمحةٍ من خاطرٍ
ما جاء حتى ذَهبا
مُجتنِبُ العالَمِ في
عُزلتِه مُجتنَبا
إلا شِراعًا ضلَّ أو
فُلُكًا يُقاسي العَطَبا

حارس الفنار ودلفين

وكان حارسُ الفَنا
رِ رجلًا مُهذَّبا
يَهوى الحياةَ ويُحبُّ
العيشَ سهلًا طيِّبا
أتَت عليه سنَوا
تٌ مُبعَدًا مُغترِبا
لم يرَ فيها زَوجَهُ
ولا ابنَه المُحبَّبا
وكان قد رعَى الخطيـ
ـبَ ووعَى ما خَطَبا
فقال يا حارسُ خَلِّ
السُّخطَ والتَّعتُّبا
من يُسعِفُ الناسَ إذا
نُودِيَ كلٌّ فأبى
ما الناسُ إخوَتي ولا
آدمُ كان لي أبا
… … …
… … …
انظُرْ إليَّ كيف أقـ
ـضي لهمُ ما وجَبا
قد عِشتُ في خدمتِهم
ولا تَراني تَعِبا
كم من غريقٍ قمتُ عنـ
ـدَ رأسِه مُطبِّبا
وكان جسمًا هامدًا
حرَّكتُه فاضطربا
وكنتُ وطَّأتُ له
مَناكبي، فرَكِبا
حتى أتى الشطَّ فبشَّ
من به ورحَّبا
وطارَدُوني فانقلبـ
ـتُ خاسرًا مُخيَّبا
ما نِلتُ منهم فِضةً
ولا مُنِحتُ ذهَبا
وما الجزاءُ لا تسَل
كان الجزاءُ عجبا
ألقَوا عليَّ شبَكا
وقطَّعوني إرَبا
واتَّخَذ الصُّنَّاعُ من
شَحميَ زيتًا طيِّبا
ولم يزَل إسعافُهم
ليَ الحياةَ مَذهبا
ولم يزَل سَجِيَّتي
وعملي المُحبَّبا
إذا سمعتُ صرخةً
طِرتُ إليها طرَبا
لا أجِدُ المُسعِفَ إلَّـ
ـا مَلَكًا مُقرَّبا
والمُسعِفون في غدٍ
يُؤلِّفون مَوكبا
يقول «رِضوانُ» لهم
هيَّا ادخُلوها مَرحبا
مُذنِبُكم قد غَفر الله
له ما أذنبا

القمر على آفاق كلازُومينَ ليلةَ المولد النبوي الأسنى

فدَيناهُ من زائرٍ مُرتقَبْ
بدا للوجودِ بمَرأًى عَجَبْ
تَهُزُّ الجبالَ تَباشيرُهُ
كما هزَّ عِطفَ الطَّروبِ الطَّرَبْ
ويُحلِي البِحارَ بِلَألائه
فمِنَّا الكئوسُ ومنه الحَبَب
مَنارُ الحُزونِ إذا ما اعتلى
مَنارُ السهولِ إذا ما انقلَب
أتانا من البحرِ في زَورقٍ
لُجَينًا مَجاذيفُه من ذهب
فقُلنا سُليمانُ لو لم يَمُتْ
وفِرعونُ لو حمَلتْه الشُّهُب
وكِسرى وما خمدَت نارُهُ
ويوسفُ لو أنه لم يشِبْ
وهَيهاتَ ما تُوِّجُوا بالسَّنا
ولا عرشُهم كان فوقَ السُّحُب
أنافَ على الماءِ ما بينَها
وبينَ الجبالِ وشُمِّ الهضب
فلا هو خافٍ ولا ظاهرٌ
ولا سافرٌ لا ولا مُنتقِب
وليس بثاوٍ ولا راحلٍ
ولا بالبعيدِ ولا المُقترِب
تَوارى بنصفٍ خلالَ السُّحُب
ونصفٌ على جبلٍ لم يَغِب
يجدِّدُها آيةً قد خلتْ
ويذكُرُ ميلادَ خيرِ العَرَب

أثينا٢٧

وأوفدته الحكومة المصرية إلى «أثينا» عاصمة اليونان لحضور مؤتمر المستشرقين، فقال يخاطبها:

إن تسألي عن مِصرَ «حوَّاءِ» القُرى
وقَرارةِ التاريخِ والآثارِ
فالصُّبحُ في «مَنفٍ» و«ثيبةَ» واضحٌ
من ذا يُلاقي الصُّبحَ بالإنكارِ
بالهيلِ من «مَنفٍ» ومن أرباضِها
مجدوعُ أنفٍ في الرِّمالِ كُفارِي٢٨
خلَتِ الدهورُ وما التقَت أجفانُهُ
وأتَت عليه كلَيلةٍ ونَهارِ
ما فلَّ ساعِدَه الزمانُ ولم ينَل
منه اختلافُ جوارفٍ وذَوار
كالدهرِ لو مَلكَ القيامَ لِفَتكةٍ
أو كان غيرَ مُقلَّمِ الأظفار
وثلاثةٍ شبَّ الزمانُ حِيالَها
شُمٍّ على مرِّ الزمانِ كِبار٢٩
قامت على النيلِ العهيدِ عهيدةً
تكسوه ثوبَ الفَجرِ وهْي عَوار
من كلِّ مركوزٍ كرَضْوى في الثَّرى
مُتطاوِلٍ في الجوِّ كالإعصار
الجنُّ في جنَباتِها مطروقةٌ
ببدائعِ البنَّاءِ والحفَّار
والأرضُ أضيَعُ حِيلةً في نَزْعِها
من حِيلةِ المصلوبِ في المِسمار
تلك القبورُ أضَنَّ من غيبٍ بما
أخفَت من الأعلاق والأذخار
نام المُلوكُ بها الدهورَ طويلةً
يجِدُون أروَحَ ضَجعةٍ وقرار
كلٌّ كأهلِ الكهف فوقَ سَريرِهِ
والدهرُ دونَ سَريرِه بهِجار
أملاكُ مصرَ القاهرون على الورى
المُنزَلون مَنازلَ الأقمار
هتَكَ الزمان حِجابَهم وأزالهم
بعدَ الصِّيانِ إزالةَ الأسرار
هَيهاتَ لم يَلمِسْ جلالَهم البِلى
إلا بأيدٍ في الرَّغام قِصار
كانوا وظَرْفُ الدهر لا يسمو لهم
ما بالُهم عُرِضُوا على النُّظَّار
لو أُمهِلوا حتى النُّشورِ بِدُورِهم
قاموا لخالِقِهم بغيرِ غُبار

ذكرى محمد فريد

(أُلقيَت في الاحتفال بالذكرى الخامسة للمغفور له محمد فريد بك سنة ١٩٢٤م.)

نُجدِّدُ ذِكرى عهدِكم ونُعِيدُ
ونُدنِي خيالَ الأمسِ وهْو بعيدُ
وللناسِ في الماضي بصائرُ يهتدي
عليهنَّ غاوٍ أو يسيرُ رشيدُ
إذا الميْتُ لم يَكرُمْ بأرضٍ ثناؤُهُ
تحيَّرَ فيها الحيُّ كيف يسود
ونحن قضاةُ الحقِّ نَرعى قديمَهُ
وإن لم يفُتْنا في الحقوقِ جديد
ونعلَمُ أنَّا في البِناءِ دعائمٌ
وأنتم أساسٌ في البِناءِ وَطيد
فريدُ ضحايانا كثيرٌ وإنما
مجالُ الضحايا أنت فيه فريد
فما خلْفَ ما كابَدتَ في الحقِّ غايةٌ
ولا فوقَ ما قاسيتَ فيه مَزيد
تغرَّبتَ عشرًا أنتَ فيهنَّ بائسٌ
وأنت بآفاقِ البلادِ شريد
تجوعُ بِبُلدانٍ وتَعْرى بغَيرِها
وتَرزحُ تحتَ الداءِ وهْو عتيد
ألا في سبيلِ اللهِ والحقِّ طارفٌ
من المالِ لم تبخلْ به وتَليد
وَجُودُكَ بعدَ المالِ بالنفسِ صابرًا
إذا جزعَ المحضورُ وهْو يَجود
فلا زِلتَ تمثالًا من الحقِّ خالصًا
على سِرِّه نبني العُلا ونَشيد
يُعلِّم نَشءَ الحي كيف هوى الحِمى
وكيف يُحامي دونه ويذود

النخيل ما بين المُنتزَه وأبي قِير

(نظمها بالإسكندرية في صيف سنة ١٩٣١م.)

أرى شجرًا في السماءِ احتجَبْ
وشقَّ العَنانَ بمَرأًى عَجَبْ
مآذنُ قامت هنا أو هناكَ
ظواهرُها درجٌ من شذَبْ
وليس يؤذِّنُ فيها الرجالُ
ولكن تَصيحُ عليها الغُرُب
وباسقةٍ من بناتِ الرمالِ
نمَت وربَت في ظلالِ الكُثُب
كساريةِ الفُلْكِ أو كالمِسلَّـ
ـةِ أو كالفَنارِ وراءَ العَبَب
تطولُ وتقصرُ خلفَ الكثيبِ
إذا الريحُ جاءَ به أو ذهب
تُخالُ إذا اتَّقدَت في الضُّحى
وجرَّ الأصيلُ عليها اللهَب
وطافَ عليها شُعاعُ النهارِ
من الصَّحوِ أو من حواشي السُّحُب
وصِيفةَ فرعونَ في ساحةٍ
من القصر واقفةً ترتقب
قد اعتصبَت بفصوصِ العَقيقِ
مُفصَّلةً بِشُذورِ الذهب
وناطت قلائدَ مَرْجانِها
على الصدر واتَّشحَت بالقَصَب
وشدَّت على ساقِها مِئزرًا
تَعقَّدَ من رأسِها للذنَب
أهذا هو النخلُ مَلْكُ الرِّياضِ
أميرُ الحقولِ عروسُ العزب
طعامُ الفقيرِ وحَلوى الغَنيِّ
وزادُ المسافرِ والمُغترِب
فيا نخلةَ الرملِ لم تبخلي
ولا قصَّرَت نخَلاتُ التُّرُب
وأعجبُ كيف طوى ذِكرَكنَّ
ولم يحتفلْ شعراءُ العرب
أليس حرامًا خُلُوُّ القصائِـ
ـدِ من وصفِكنَّ وعُطْلُ الكتُب
وأنتنَّ في الهاجراتِ الظِّلالُ
كأن أعاليَكنَّ العَبب
وأنتنَّ في البِيدِ شاةُ المُعِيلِ
جَناها بجانبِ أخرى حَلب
وأنتنَّ في عرَصاتِ القصورِ
حِسانُ الدُّمى الزائناتُ الرَّحب
جناكنَّ كالكرْمِ شتَّى المذاقِ
وكالشَّهدِ في كلِّ لونٍ يُحَب

البحر الأبيض

(نُظمَت بالإسكندرية في صيف سنة ١٩٣١م.)

أمِنَ البحرِ صائغٌ عبقريٌّ
بالرِّمالِ النواعمِ البِيضِ مُغْرَى
طاف تحت الضُّحى عليهنَّ والجو
هرُ في سُوقِه يُباعُ ويُشْرَى
جِئنَه في مَعاصمٍ ونُحورٍ
فكسا مِعصمًا وآخرَ عرَّى
وأبى أن يُقلِّدَ الدُّرَّ واليا
قوتَ نحرًا وقلَّدَ الماسَ نحرا
وترى خاتمًا وراءَ بَنانٍ
وبَنانًا من الخواتمِ صِفرا
وسِوارًا يَزينُ زَنْدَ كعابٍ
وسِوارًا من زَنْدِ حسناءَ فرَّا
وترى الغِيدَ لؤلؤًا ثَم رَطْبًا
وجُمانًا حوالَيِ الماءِ نَثْرا
وكأن السماءَ والماءَ شِقَّا
صَدَفٍ حُمِّلا رفيفًا ودُرَّا
وكأن السماءَ والماءَ عُرْسٌ
مُترَعُ المِهرجانِ لمحًا وعِطرا
أو ربيعٌ من ريشةِ الفنِّ أبْهَى
من ربيع الرُّبا وأفتنُ زَهْرا
أو تهاويلُ شاعرٍ عبقريٍّ
طارَحَ البحرَ والطبيعةَ شِعرا
يا سِوارَي فَيْروزجٍ ولُجَينٍ
بهما حُلِّيَت مَعاصمُ مِصرا
في شُعاعِ الضُّحى يعودان ماسًا
وعلى لمحةِ الأصائلِ تِبرا
ومشَت فيهما النجومُ فكانت
في حواشِيهما يواقيتَ زُهْرا
لك في الأرض مَوكبٌ ليس يألو الرِّ
يحَ والطيرَ والشياطينَ حَشْرا٣٠
سِرتَ فيه على كنوزِ «سُليما
نَ» تعدُّ الخُطا اختيالًا وكِبْرا
وترنَّمتَ في الرِّكابِ فقُلنا
راهبٌ طاف في الأناجيل يَقْرا
هو لحنٌ مُضيَّعٌ لا جوابًا
قد عرَفْنا له ولا مُستقَرَّا
لك في طيِّه حديثُ غرامٍ
ظلَّ في خاطر المُلحِّنِ سِرَّا
قد بعَثْنا تحيةً وثناءً
لك يا أرفعَ الزواخرِ ذِكرا
وغشِيناكَ ساعةً تَنبشُ الما
ضيَ نبشًا وتقتلُ الأمسَ فِكرا
وفتَحْنا القديمَ فيك كتابًا
وقرأنا الكتابَ سطرًا فسَطرا
ونشَرْنا من طيِّهنَّ الليالي
فلمَحْنا من الحضارةِ فَجْرا
ورأينا مصرًا تُعلِّمُ «يونا
نَ» ويونانَ تَقبسُ العلمَ مصرا
تلك تأتيكَ بالبيانِ نبيًّا
عبقريًّا وتلك بالفنِّ سِحْرا
ورأينا المنارَ في مَطلعِ النَّجـ
ـمِ على برقِه المُلمَّحِ يُسْرى
شاطئٌ مِثلُ رُقعةِ الخُلدِ حُسنًا
وأديمِ الشبابِ طِيبًا وبِشرا
جرَّ فَيْروزجًا على فِضَّةِ الما
ءِ وجرَّ الأصيلُ والصبح تِبرا
كلَّما جئتَه تهلَّل بِشرًا
من جميع الجهات وافترَّ ثَغْرا
انثنى مَوجةً وأقبلَ يُرخِي
كِلَّةً تارةً ويرفعُ سِترا
شبَّ وانحطَّ مِثلَ أسرابِ طيرٍ
ماضياتٍ تلفُّ بالسَّهلِ وَعْرا
ربما جاءَ وهْدةً فتردَّى
في المَهاوي وقام يَطفرُ صَخرا
وترى الرملَ والقصورَ كأيْكٍ
ركِبَ الوَكْرُ في نواحيه وَكْرا
وترى جَوْسقًا يُزيِّنُ رَوْضًا
وترى رَبوةً تُزيِّنُ مِصرا
سيِّدَ الماءِ كم لنا من «صلاحٍ»
و«عليٍّ» وراءَ مائِكَ ذِكرى٣١
كم ملأناكَ بالسَّفينِ مَواقيـ
ـرَ٣٢ كشُمِّ الجبالِ جُندًا ووَفرا
شاكياتِ السلاحِ يَخرُجنَ من مصـ
ـر بملمومةٍ ويَدخُلن مِصرا
شارعاتِ الجناحِ في ثَبَجِ الما
ءِ كنَسرٍ يشدُّ في السُّحبِ نَسرا
وكأن اللُّجاجَ حينَ تَنزَّى
وتسدُّ الفِجاجَ كرًّا وفرَّا
أجمٌ بعضُه لبعضٍ عدوٌّ
زحفَت غابةٌ لتمزيقِ أخرى
قذَفَت ها هنا زئيرًا ونابًا
ورمَت ها هنا عُواءً وظُفرا
أنت تغلي إلى القيامةِ كالقِد
رِ فلا حطَّ يومُها لكَ قِدْرا

قِف حيِّ شُبانَ الحِمى

(نظمها في الطلاب المصريين الذين يطلبون العلم في أوروبا.)

قِف حيِّ شُبانَ الحِمى
قبلَ الرحيلِ بقافِية
عوَّدتُهم أمثالَها
في الصالحاتِ الباقية
من كلِّ ذاتِ إشارةٍ
ليست عليهم خافية
قُل يا شبابُ نصيحةٌ
مما يُزوَّدُ غالية
هل راعكم أن المدا
رسَ في الكنانةِ خاوية
هُجِرَت فكلُّ خليَّةٍ
من كلِّ شُهْدٍ خالية
وتعطَّلتْ هالاتُها
منكم وكانت حالية
غدَتِ السياسةُ وهْي آ
مِرةٌ عليها ناهية
فهجرتُم الوطنَ العزيـ
ـزَ إلى البلادِ القاصية
أنتم غدًا في عالَمٍ
هو والحضارةُ ناحية
وارَيتُ فيه شَبيبَتي
وقضيتُ فيه ثمانية
ما كنتُ ذا القلبِ الغليـ
ـظِ ولا الطِّباعِ الجافية
سِيروا به تتعلَّموا
سِرَّ الحياةِ العالية
وتأمَّلوا البُنيانَ وادَّ
كِروا الجهودَ البانية
ذوقوا الثمارَ جَنِيَّةً
وَرِدُوا المَناهلَ صافية
واقضُوا الشبابَ فإنَّ سا
عتَه القصيرةَ فانية
واللهِ لا حَرَجٌ عليـ
ـكم في حديثِ الغانية
أو في اشتهاءِ السِّحرِ من
لَحْظِ العيونِ الساجية
أو في المسارحِ فهْي بالنَّـ
ـفْسِ اللطيفةِ راقية

ثنَى عِطفَيهما الهرَمانِ تِيهًا

وقال يُحيِّي الملك فؤاد في إبَّان زيارته للجيزة في ديسمبر سنة ١٩٣٠م:

بأرضِ الجيزةِ اجتازَ الغَمامُ
وحلَّ سماءها البدرُ التمامُ
وزارَ رياضَ إسماعيلَ غيثٌ
كوالدِه له المِننُ الجِسامُ
ثنَى عِطفَيهما الهرَمانِ تِيهًا
وقال الثالثُ الأدنى سلامُ
هَلُمِّي مَنْفُ هذا تاجُ خوفو
كقُرصِ الشمسِ يعرفه الأنام
نمَته من بني فِرعونَ هامٌ
ومن خلفاءِ إسماعيلَ هام
تألَّقَ في سمائِكِ عبقريًّا
عليه جلالةٌ وله وِسام
ترعرعَتِ الحضارةُ في حُلاهُ
وشبَّ على جواهرِه النظام
ونال الفنُّ في أُولى الليالي
وأخراهنَّ عِزًّا لا يُرام
مشى في جيزةِ الفسطاط ظِلٌّ
كظلِّ النيلِ بُلَّ به الأوام
إذا ما مسَّ تُرْبًا عاد مِسكًا
ونافسَ تحتَه الذهبَ الرَّغامُ
وإن هو حلَّ أرضًا قام فيها
جِدارٌ للحضارةِ أو دِعام
فمدرسةٌ لحربِ الجهلِ تُبنى
ومُستشفى يُذادُ به السَّقام
ودارٌ يُستغاثُ بها فيَمضي
إلى الإسعافِ أنجادٌ كرام
أُساةُ جِراحةٍ حِينًا وحِينًا
مَيازيبٌ إذا انفجرَ الضِّرام
وأحواضٌ يُراضُ النيلُ فيها
وكلُّ نجيبةٍ ولها لجام
أبا الفاروقِ أقبَلْنا صفوفًا
وأنت من الصفوفِ هو الإمام
إلى البيتِ الحرامِ بك اتَّجهنا
ومِصرُ وحقِّها البيتُ الحرام
طلعتَ على الصعيدِ فهشَّ حتى
علا شفتَي أبي الهول ابتسام
رِكابٌ سارتِ الآمالُ فيه
وطافَ به التلفُّتُ والزِّحام
فماذا في طريقك من كُفورٍ
أجلُّ من البيوتِ بها الرِّجام
كأن الراقدِين بكلِّ قاعٍ
هُمُ الأيقاظُ واليَقْظى النِّيام
لقد أزمَ الزمانُ الناسَ فانظُرْ
فعِندَك تُفرَجُ الإزَمُ العِظام
وبعدَ غدٍ يُفارِقُ عامُ بؤسٍ
ويَخلفُه من النَّعماءِ عام
يَدورُ بمصرَ حالًا بعدَ حالٍ
زمانٌ ما لِحالَيه دَوام
ومِصرُ بِناءُ جَدِّك لم يُتمَّمْ
أليس على يدَيك له تمام
فلَسْنا أُمَّةً قعدَت بشمسٍ
ولا بلدًا بضاعتُه الكلام
ولكنْ هِمَّةٌ في كلِّ حينٍ
يشدُّ بِناءها المَلِكُ الهُمام
نَرومُ الغايةَ القُصوى فنَمضي
وأنت على الطريقِ هو الزِّمام
ونقصرُ خطوةً ونمدُّ أخرى
وتُلجِئُنا المسافةُ والمرام
ونصبرُ للشدائدِ في مقامٍ
ويَغلبُنا على صبرٍ مقام
فقوِّ حضارةَ الماضي بأخرى
لها زَهْوٌ بعَصرِك واتِّسام
ترفُّ صحائفُ البَرْديِّ فيها
ويَنطقُ في هياكلِها الرُّخام
رعَتك وواديًا ترعاه عنَّا
من الرحمنِ عينٌ لا تنام
فإن يكُ تاجُ مصرَ لها قِوامًا
فمِصرُ لتاجِها العالي قِوامُ
لِتَهنأْ مصرُ وليَهنأْ بَنوها
فبَينَ الرأسِ والجسمِ التئام

الأميرة فتحية

وقال في برقية يهنِّئ الأميرة السابقة فتحية:

فتحيَّةٌ دنيا تدومُ وصِحةٌ
تَبقى وبهجةُ أُمَّةٍ وحياةُ
مَولايَ إن الشمسَ في عليائها
أُنثى وكلُّ الطيِّباتِ بَناتُ

تهنئة

وقال يهنئ الدكتور علي باشا إبراهيم بمناسبة الإنعام عليه برتبة الباشوية سنة ١٩٣٠م:

يدُ الملِكِ العَلَويِّ الكريمِ
على العلمِ هزَّت أخاه الأدبْ
لسانُ الكنانةِ في شكرِها
وما هو إلا لسانُ العَرَبْ
قضَت مِصرُ حاجتَها يا «عَلِيُّ»
ونالت ونال بَنوها الأربْ
وهنَّأتُ بالرُّتَبِ العبقريَّ
وهنَّأتُ بالعبقريِّ الرُّتَب
عليُّ لقد لقَّبَتكَ البلادُ
بآسِي الجِراحِ ونِعْمَ اللَّقَب
سِلاحُك من أدواتِ الحياةِ
وكلُّ سلاحٍ أداةُ العَطَب
ولفظُكَ «بِنْجٌ» ولكنِّهُ
لطيفُ الصَّبا في جُفونِ العَصب
أناملُ مِثلُ بَنانِ المسيحِ
أواسِي الجِراحِ مَواحِي النُّدَب
تُعالِجُ كفَّاكَ بؤسَ الحياةِ
فكفٌّ تُداوي وكفٌّ تَهَب
ويستمسكُ الدَّمُ في راحتَيكَ
وفوقَهما لا يَقِرُّ الذهب
كأنك للموتِ موتٌ أُتيحَ
فلم يرَ وجهَك إلا هَرَب

يا قاهر الغرب العتيد

وقال في حفل تكريم البطل العالمي في حمل الأثقال السيد نصير، في ديسمبر سنة ١٩٣٠م:

شرفًا نُصيرُ ارفعْ جَبينَك عاليًا
وتلقَّ من أوطانك الإكليلا
يَهنِيكَ ما أُعطيتَ من إكرامِها
ومُنِحتَ من عطفِ ابنِ إسماعيلا
اليومَ يومُ السابقين فكُن فتًى
لم يبغِ من قصَبِ الرِّهانِ بديلا
وإذا جريتَ مع السوابقِ فاقتحِمْ
غُرَرًا تَسيلُ إلى المَدى وحُجولا
حتى يراكَ الجمعُ أوَّلَ طالعٍ
ويرَوا على أعرافِك المِنديلا
هذا زمانٌ لا تَوسُّطَ عنده
يبغي المُغامِرُ عاليًا وجليلا
كُن سابقًا فيه أوِ ابْقَ بمَعزلٍ
ليس التوسُّطُ للنُّبوغِ سبيلا
يا قاهرَ الغربِ العتيدِ ملأتَهُ
بثناءِ مِصرَ على الشِّفاهِ جميلا
قلَّبتَ فيه يدًا تكادُ لشدةٍ
في البأسِ ترفعُ في الفَضاءِ الفِيلا
إن الذي خلقَ الحديدَ وبأسَهُ
جعل الحديدَ لِساعدَيكَ ذليلا
زحزحتَه فتخاذلتْ أجلادُهُ
وطرحتَه أرضًا فصَلَّ صليلا
لِمَ لا يلينُ لك الحديدُ ولم تزَل
تتلو عليه وتقرأُ التنزيلا
الأزمةُ اشتدَّت ورانَ بلاؤُها
فاصدِمْ بِرُكنِك رُكنَها لِيَميلا
«شمشونُ» أنت وقد رسَت أركانُها
فتَمشَّ في أركانِها لِتَزولا
قُل لي نُصيرُ وأنت بَرٌّ صادقٌ
أحَمَلتَ إنسانًا عليك ثقيلا
أحَمَلتَ دَينًا في حياتِك مَرَّةً
أحَمَلتَ يومًا في الضُّلوعِ غليلا
أحَمَلتَ ظُلمًا من قريبٍ غادرٍ
أو كاشحٍ بالأمسِ كان خَليلا
أحَمَلتَ مَنًّا بالنهارِ مُكرَّرًا
والليلِ من مُسدٍ إليك جميلا
أحَمَلتَ طُغيانَ اللئيمِ إذا اغتنى
أو نال من جاهِ الأمورِ قليلا
أحَمَلتَ في النادي الغبيَّ إذا التقى
من سامِعِيه الحمدَ والتبجيلا
تلك الحياةُ وهذه أثقالُها
وُزِنَ الحديدُ بها فعاد ضئيلا

ابن زيدون

(أنشأها ترحيبًا بديوان ابن زيدون، حين ظهر مطبوعًا لأول مرة في مصر بعناية الأستاذ الأديب كامل كيلاني.)

يا ابْنَ زيدونَ مَرْحبا
قد أطلتَ التَّغيُّبا
إن ديوانَك الذي
ظلَّ سرًّا مُحجَّبا
يشتكي اليُتْمَ دُرُّهُ
ويُقاسي التَّغرُّبا
صار في كلِّ بلدةٍ
للألِبَّاءِ مَطْلبا
جاءنا «كاملٌ» به
عربيًّا مُهذَّبا
تَجِدُ النصَّ مُعجِبًا
وترى الشرحَ أعجبا
أنتَ في القولِ كلِّهِ
أجملُ الناسِ مَذهبا
بأبي أنت هَيكلًا
من فنونٍ مُركَّبا
شاعرًا أم مُصوِّرًا
كنتَ أم كنتَ مُطرِبا
تُرسِلُ اللحنَ كلَّهُ
مُبدِعًا فيه مُغرِبا
أحسنَ الناسِ هاتفًا
بالغواني مُشبِّبا
ونزيلَ المُتوَّجيـ
ـنَ النديمَ المُقرَّبا
كم سَقاهم بشِعره
مِدحةً أو تَعتُّبا
ومن المدحِ ما جزى
وأذاعَ المَناقبا
وإِذا الهَجْوُ هاجَهُ
لِمُعاناتِه أبى
ورآه رذيلةً
لا تُماشي التأدُّبا
ما رأى الناسُ شاعرًا
فاضِلَ الخُلْقِ طيِّبا
دسَّ للناشقين في
زَنبقِ الشِّعرِ عَقربا
جُلْتَ في الخُلدِ جَولةً
هل عن الخُلدِ مِن نَبا
صِف لنا ما وراءه
من عيونٍ ومن رُبا
ونعيمٍ ونضرةٍ
وظلالٍ من الصِّبا
وصِفِ الحورَ مُوجِزًا
وإذا شئتَ مُطنِبا
قُم ترى الأرضَ مِثلَما
كنتمُ أمسِ مَلعَبا
وترى العيشَ لم يزَل
لبَني الموتِ مأرَبا
وترى ذاك بالذي
عند هذا مُعذَّبا
إن مَروانَ عُصبةٌ
يصنعونَ العجائبا٣٣
طوَّفوا الأرضَ مَشرقًا
بالأيادي ومَغربا
هالةٌ أطلعَتكَ في
ذروةِ المجدِ كوكبا
أنت للفتحِ تنتمي
وكفى الفتحُ مَنصِبا
لستُ أرضى بغيره
لك جَدًّا ولا أبا

البُلبل الغرِد الذي هز الرُّبا

(أُنشدَت في الحفلة التي أقامتها رابطة الأدب الجديد تكريمًا للشاعر الأستاذ «محمود أبو الوفا»، وكانت هذه القصيدة سببًا إلى عناية الحكومة المصرية وقتئذٍ بالشاعر — أبي الوفا — وتسفيره إلى أوروبا لعمل رِجل صناعية بدل ساقه المبتورة!)

وعصابةٍ بالخيرِ أُلِّف شمْلُهم
والخيرُ أفضلُ عُصبةً ورِفاقا
جعلوا التعاونَ والبنايةَ همَّهم
واستنهضوا الآدابَ والأخلاقا
ولقد يُداوُون الجِراحَ ببِرِّهم
ويُقاتِلون البؤسَ والإملاقا
يَسمُونَ بالأدبِ الجديدِ وتارةً
يبنُون للأدبِ القديمِ رِواقا
بعثَ اهتمامَهمُ وهاجَ حنانَهم
زمنٌ يُثيرُ العطفَ والإشفاقا
عرَضَ القُعودُ فكان دونَ نُبوغِهِ
قيدًا ودونَ خُطا الشباب وِثاقا
البُلبلُ الغرِدُ الذي هزَّ الرُّبا
وشجى الغصونَ وحرَّك الأوراقا
خلَفَ البَهاءَ على القريضِ وكأسِهِ
فسَقى بعَذبِ نسيبِه العُشَّاقا
في القيدِ مُمتنِعُ الخُطا وخيالُهُ
يَطوي البلادَ وينشرُ الآفاقا
سبَّاقُ غاياتِ البيانِ جرى بلا
ساقٍ فكيف إذا استردَّ الساقا
لو يَطعمُ الطِّبُّ الصَّناعُ بيانَهُ
أو لو يُسيغُ لِما يقولُ مَذاقا
غالى بقيمتِه فلم يَصنعْ له
إلا الجَناحَ مُحلِّقًا خفَّاقا

خليل مُطران٣٤

(نظمها لتُنشَد في حفلة أُقيمَت بدار الجامعة المصرية في ١٨ يونيو سنة ١٩١٣م لتكريم الشاعر خليل مطران؛ لمناسبة إنعام الخديو عباس حلمي الثاني عليه بوسام، وكانت الحفلة برياسة الأمير محمد علي توفيق شقيق الخديو.)

لُبنانُ مجدُكَ في المَشارقِ أوَّلُ
والأرضُ رابيةٌ وأنت سَنامُ
وبَنوك ألطفُ مِن نسيمِكَ ظلُّهم
وأشمُّ مِن هضَباتِك الأحلامُ
أخْرجتَهم للعالمين جَحاجحًا
عُرْبًا وأبناءُ الكريم كرامُ
بينَ الرياضِ وبينَ أُفْقٍ زاهرٍ
طلع المسيحُ عليه والإسلام
هذا أديبُك يُحتفى بوِسامِهِ
وبيانُه للمَشرقَين وِسامُ
ويُجَلُّ قدْرُ قِلادةٍ في صدره
وله القلائدُ سِمطُها الإلهام
صدرٌ حوالَيه الجلالُ ومِلؤُهُ
كرمٌ وخشيةٌ مُؤمِنٍ وذِمام
جلَّاه إحسانُ الخديوِ وطالما
حلَّاه فضلُ اللهِ والإنعام
لِعُلاك يا مُطرانُ أم لِنُهاك أم
لِخِلالِك التشريفُ والإكرام
أم للمواقفِ لم يَقِفْها ضَيغمٌ
لولاك لاضطربتْ له «الأهرام»
هذا مقامُ القولِ فيك ولم يزَل
لك في الضمائر مَحفِلٌ ومَقام
غالى بقيمتِك الأميرُ محمدٌ
وسعى إليك يحفُّه الإعظام
في مَجمعٍ هزَّ البيانُ لواءَهُ
بك فيه واعتزَّت بك الأقلام
ابنُ الملوكِ تلا الثناءَ مُخلَّدًا
هَيهاتَ يذهبُ للملوكِ كلام
فمَنِ البشيرُ لبَعلبكَّ وبينَها
نَسبٌ تُضيءُ بنوره الأيام
يَبْلى المَكينُ الفخمُ من آثارها
يومًا وآثارُ الخليل قِيام

غانْدي

(أنشأها تحية لغاندي الزعيم الهندي المشهور، حين مروره بمصر سنة ١٩٣١م في طريقه إلى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن.)

بَنِي مِصرَ ارفعُوا الغارَ
وحيُّوا بطلَ الهِندِ
وأدُّوا واجبًا واقضوا
حقوقَ العَلمِ الفرد
أخوكم في المُقاساةِ
وعَرْكِ الموقفِ النَّكْد
وفي التَّضحيةِ الكبرى
وفي المَطلبِ والجُهد
وفي الجُرحِ وفي الدمعِ
وفي النَّفيِ من المَهد
وفي الرحلةِ للحقِّ
وفي مرحلةِ الوفد
قِفوا حيُّوه من قُربٍ
على الفُلْكِ ومن بُعد
وغطُّوا البَرَّ بالآسِ
وغطُّوا البحرَ بالوَرد
على إفريزِ «راجْبُوتا
نَ»٣٥ تمثالٌ من المجد
نبيٌّ مِثلُ «كُونْفشيُو
سَ» أو من ذلك العهد
قريبُ القولِ والفعلِ
من المُنتظَرِ المَهدي
شبيهُ الرُّسْلِ في الذَّودِ
عن الحقِّ وفي الزُّهد
لقد علَّم بالحقِّ
وبالصبر وبالقصد
ونادى المَشرقَ الأقصى
فلبَّاه من اللحد
وجاء الأنُفسَ المَرْضى
فداواها من الحِقد
دعا الهندوسَ والإسلا
مَ للأُلفةِ والوُدِّ
بسِحرٍ من قُوى الروحِ
حَوَى السَّيفَين في غِمد
وسلطانٍ من النفسِ
يُقوِّي رائضَ الأُسْدِ
وتوفيقٍ من اللهِ
وتيسيرٍ من السَّعد
وحظٍّ ليس يُعطاهُ
سِوى المخلوقِ للخُلد
ولا يُؤخَذ بالحَولِ
ولا الصَّولِ ولا الجُند
ولا بالنسلِ والمالِ
ولا بالكدحِ والكدِّ
ولكن هِبَةُ المَولى
تعالى اللهُ للعبد
سلامُ النيل يا غَانْدي
وهذا الزهرُ من عندي
وإجلالٌ من الأهرا
مِ والكرنكِ والبَرْدي
ومن مَشيخةِ الوادي
ومن أشبالِه المُرْدِ
سلامٌ حالِبَ الشَّاةِ
سلامٌ غازِلَ البُرْدِ
ومن صَدَّ عن المِلحِ
ولم يُقبِل على الشُّهد
ومن يركبُ ساقَيهِ
من الهندِ إلى السِّند
سلامٌ كلما صلَّيـ
ـتَ عُريانًا وفي اللِّبد
وفي زاويةِ السجنِ
وفي سلسلةِ القيد
من «المائدةِ الخضرا
ءِ»٣٦ خُذ حِذرَكَ يا غَانْدي
ولاحِظْ ورَقَ «السِّيرِ»
وما في ورقِ «اللورْدِ»
وكُن أبرَعَ من يَلعَـ
ـبُ بالشِّطرَنجِ والنَّرد
ولاقِ العبقريِّينَ
لِقاءَ النِّدِّ للنِّدِّ
وقُل هاتوا أفاعيَكم
أتى الحاوي من الهند
وعُد لم تحفِلِ الذَّامَ
ولم تغترَّ بالحمد
فهذا النجمُ لا تَرْقى
إليه هِمَّةُ النقد
ورُدَّ الهندَ للأُمَّـ
ـةِ من حدٍّ إلى حدِّ

تحية أبُولُّو

أبولو: مجلة فنية لخدمة الشعر الحي، كان يُصدرها مرة كل شهر — في سنة ١٩٣٢م — الدكتور أحمد زكي أبو شادي، فقال يُحيِّيها:

أبُولُّو مَرحبًا بك يا أبُولُّو
فإنك من عُكاظِ الشعرِ ظلُّ
عُكاظُ وأنتِ للبُلغاءِ سُوقٌ
على جنَباتِها رحَلوا وحَلُّوا
ويَنبوعٌ من الإنشادِ صافٍ
صدى المُتأدِّبين به يُقَلُّ
ومِضمارٌ يسوقُ إلى القوافي
سوابِقَها إذا الشُّعراءُ قلُّوا
يقول الشِّعرَ قائلُهم رصينًا
ويُحسِنُ حين يُكثِرُ أو يُقِلُّ
ولولا المُحسِنونَ بكلِّ أرضٍ
لَمَا ساد الشُّعوبُ ولا استقلُّوا
عسى تأتينَنا بمُعلَّقاتٍ
نَروحُ على القديمِ بها نُدِلُّ
لعلَّ مَواهبًا خفِيَت وضاعت
تُذاعُ على يدَيكِ وتُستغَلُّ
صحائفُكِ المدبَّجةُ الحواشي
رُبا الوَردِ المُفتَّحِ أو أجَلُّ
رياحينُ الرِّياضِ يُمَلُّ منها
وريحانُ القرائحِ لا يُمَلُّ
يُمهِّدُ عبقريُّ الشِّعر فيها
لكلِّ ذخيرةٍ فيها مَحَلُّ
وليس الحقُّ بالمنقوصِ فيها
ولا الأعراضُ فيها تُستحَلُّ
وليست بالمجالِ لِنَقدِ باغٍ
وراءَ يَراعِه حَسدٌ وغِلُّ

أغنية

(نظمها بلبنان في صيف سنة ١٩١٣م لتغنِّيها إحدى القيان.)

بِي مِثلُ ما بِكِ يا قُمْريَّةَ الوادي
ناديتُ ليلى فقُومي في الدُّجى نادي
وأرسِلي الشَّجوَ أسجاعًا مُفصَّلةً
أو رَدِّدي من وراءِ الأيْكِ إنشادي
لا تكتُمِي الوجْدَ فالجرحانِ من شَجَنٍ
ولا الصبابةَ فالدمعانِ من وادِ
تَذكَّري هل تلاقَينا على ظمأٍ
وكيف بلَّ الصَّدى ذو الغُلَّةِ الصادي
وأنتِ في مجلسِ الرَّيحانِ لاهيةٌ
ما سِرتِ من سامرٍ إلا إلى نادي
تذكَّري قُبلةً في الشَّعرِ حائرةً
أضَلَّها فمَشَت في فَرْقِكِ الهادي
وقُبلةً فوقَ خدٍّ ناعمٍ عَطِرٍ
أبْهَى من الوردِ في ظلِّ النَّدى الغادي
تذكَّري منظرَ الوادي ومَجلسَنا
على الغديرِ كعُصفورَين في الوادي
والغُصنُ يحنو علينا رِقَّةً وجوًى
والماءُ في قدمَينا رائحٌ غادِ
تذكَّري نغماتٍ ها هُنا وهُنا
من لحنِ شاديةٍ في الدَّوحِ أو شادي
تذكَّري مَوعدًا جادَ الزمان به
هل طِرتُ شوقًا وهل سابقتُ مِيعادي
فنِلتُ ما نِلتُ من سُؤلٍ ومن أملٍ
ورحتُ لم أُحصِ أفراحي وأعيادي

يا شِراعًا وراء دجلة

(غنَّاها بين يدَي ملك العراق المغفور له فيصل الأول الموسيقار محمد عبد الوهاب بمناسبة زيارته لتلك البلاد في سنة ١٩٣١م.)

يا شِراعًا وراءَ دِجلةَ يَجري
في دموعي تجنَّبَتكَ العَوادي
سِرْ على الماءِ كالمسيحِ رُويدًا
واجْرِ في اليمِّ كالشعاعِ الهادي
وأْتِ قاعًا كرَفرفِ الخُلدِ طِيبًا
أو كفِردوسِه بَشاشةَ وادي
قِفْ تمهَّلْ وخُذ أمانًا لقلبي
من عيونِ المها وراءَ السَّواد
والنُّواسِيُّ والنَّدامى أمِنْهم
سامرٌ يملأُ الدُّجى أو نادِ
خطَرَت فوقه المِهارةُ تعدو
في غُبارِ الآباءِ والأجداد
أُمَّةٌ تُنشئُ الحياةَ وتَبني
كبِناءِ الأُبوَّةِ الأمجاد
تحتَ تاجٍ من القرابةِ والمُلـ
ـكِ على فَرقِ أريحيٍّ جواد
ملِكُ الشطِّ والفُراتَين والبطـ
ـحاءِ أعظِمْ بفَيصلٍ والبلاد

الرجل السعيد٣٧

(وهي ترجمة أبيات فرنسية عنوانها: L’ homme heureux لسمو الأمير حيدر فاضل.)
عفيفُ الجهرِ والهمسِ
قضَى الواجبَ بالأمسِ
ولم يَعرضْ لِذي حقٍّ
بنُقصانٍ ولا بَخْسِ
وعندَ الناس مجهولٌ
وفي ألسُنِهم مَنسي
وفيه رِقَّةُ القلبِ
لآلامِ بَني الجنس
فلا يَغبطُ ذا نُعْمى
ويَرثي لأخي البُؤس
وللمحرومِ والعافي
حوالَي زادِه كُرسي
وما نَمَّ ولا هَمَّ
ببعضِ الكيد والدَّسِّ
ينامُ الليلَ مسرورًا
قليلَ الهمِّ والهَجس
ويُصبحُ لا غُبارَ على
سَريرتِه كما يُمسي
فيا أسعدَ من يَمشي
على الأرضِ من الإنس
ومن طهَّره اللهُ
من الرِّيبةِ والرِّجس
أنِلْ قَدْريَ تشريفًا
وهَبْ لي قُرْبَكَ القُدْسي
عسى نفسُكَ أن تُدمِـ
ـجَ في أحلامِها نَفْسي
فألْقَى بعضَ ما تَلقى
من الغِبطةِ والأُنس

الأثَر

وجدتُ الحياةَ طريقَ الزُّمَرْ
إلى بعثةٍ وشُئونٍ أُخَرْ
وما باطلًا يَنزلُ النازلونَ
ولا عَبثًا يُزمِعونَ السَّفَر
فلا تَحتقرْ عالَمًا أنتَ فيه
ولا تجحدِ الآخَر المُنتظَر
وخُذ لكَ زادَين من سِيرة
ومن عملٍ صالحٍ يُدَّخَر
وكُن في الطريقِ عفيفَ الخُطا
شريفَ السَّماع كريمَ النظر
ولا تخْلُ من عملٍ فوقَهُ
تَعِشْ غيرَ عبدٍ ولا مُحتقَر
وكُن رجلًا إن أتَوا بعده
يقولون مَرَّ وهذا الأثَر

السِّتار

قدَّمتُ بين يديَّ نفسًا أذنبَت
وأتيتُ بينَ الخوفِ والإقرارِ
وجعَلتُ أستُرُ عن سِواك ذنوبَها
حتى عيِيتُ فمُنَّ لي بسِتارِ
١  المأمون: ابن الرشيد العباسي، وعصره من أزهى عصور الدولة الإسلامية.
٢  الأقسام: الحظوظ.
٣  يشير إلى قول النابغة:
نفسُ عصامٍ سوَّدت عصاما
وعلَّمته الكرَّ والإقداما
وعصام حاجب النعمان بن المنذر، وإليه يُنسب كل عصامي.
٤  الأواسي: الدعائم والأبنية المحكمة.
٥  يشير إلى حديث التاريخ عن حريق مكتبة الإسكندرية.
٦  يشير إلى ما كان من حدَّة الخلاف بين زعماء مصر في ذلك التاريخ.
٧  الصياصي: الحصون. والعتاد: عدَّة الحرب.
٨  الميكادو: الملك في لغة اليابان.
٩  العهاد: المطر.
١٠  الانطياد: الارتفاع.
١١  يعني وفود البلاد العربية التي اجتمعت لتكريمه ومبايعته بإمارة الشعر في مارس من تلك السنة نفسها.
١٢  هو المرحوم محمد طلعت حرب باشا مؤسس البنك.
١٣  قصيدة أبي تمام في فتح عمورية ذائعةٌ مشهورة.
١٤  زِيدَت هذه في الطبعة الثانية.
١٥  يعني مُنشئ دار العلوم المرحوم علي مبارك باشا.
١٦  محمد طلعت حرب.
١٧  زِيدَت هذه في الطبعة الثانية.
١٨  يشير إلى مقابلة سعد زغلول وصاحبَيه لممثِّل بريطانيا في مصر في نوفمبر من سنة ١٩١٨م ليطالبوا باستقلال مصر.
١٩  لامت: لأمت.
٢٠  روح الله: عيسى. والكليم: موسى، عليهما السلام.
٢١  جعفر البرمكي ونكبة البرامكة مشهورةٌ في تاريخ الرشيد.
٢٢  سنة ١٩٠٥م نُشرَت بمجلة المجلات العربية.
٢٣  من قصور بني الأحمر في غرناطة بالأندلس: «الهمبرا».
٢٤  الغريض ومعبد: من أمراء الغناء العربي.
٢٥  زِيدَت هذه في الطبعة الثانية.
٢٦  زِيدَت هذه في الطبعة الثانية.
٢٧  نُشرَت بمجلة رعمسيس سنة ١٩١٢م.
٢٨  الكفاري: العظيم الأذنَين، يشير إلى تمثال أبي الهول.
٢٩  يشير إلى الأهرام.
٣٠  ليس يألو الريح … إلخ: ليس يقصر عنها.
٣١  يريد صلاح الدين الأيوبي ومحمد علي باشا.
٣٢  مواقير، موقرة: مثقلة بما تحمل.
٣٣  يشير إلى أصله «الرومي» وإلى أيادي بني مروان على العروبة، بما فتحوا من بلاد الروم، وبما استعرب من أهلها.
٣٤  زِيدَت هذه في الطبعة الثانية.
٣٥  الباخرة التي أقلَّت غاندي من الهند إلى لندن.
٣٦  يشير إلى المؤتمر الذي كان مسافرًا إليه للبحث في دستور الهند.
٣٧  نُشرَت في مجلة الكشكول سنة ١٩٢٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤