إلى عرفات

إلى عرفاتِ الله يا خيرَ زائرٍ
عليك سلامُ الله في عرفاتِ١
ويومَ تُولِّي وجهةَ البيت ناضرًا
وسيمَ مَجالي البِشرِ والقسَماتِ٢
على كلِّ أُفْقٍ بالحجازِ مَلائكُ
تزُفُّ تحايا اللهِ والبرَكاتِ٣
إذا حُدِيَت عيسُ الملوك فإنهم
لِعيسك في البيداءِ خيرُ حُداةِ٤
لدى «الباب» جبريلُ الأمين بِراحِهِ
رسائلُ رحمانيَّةُ النَّفَحاتِ٥

•••

وفي الكعبةِ الغرَّاءِ ركنٌ مُرحِّبٌ
بكعبةِ قُصَّادٍ ورُكنِ عُفاةِ٦
وما سكبَ المِيزابُ ماءً وإنما
أفاض عليك الأجرَ والرَّحَماتِ٧
«وزمزمُ» تجري بين عينَيك أعيُنًا
من الكوثرِ المعسولِ مُنفجِراتِ٨
ويرمون إبليسَ الرجيمَ فيَصطلي
وشانِيكَ نيرانًا من الجمَراتِ٩
يُحيِّيك «طه» في مَضاجعِ طُهرِهِ
ويعلَم ما عالَجتَ من عقباتِ١٠
ويُثنِي عليك «الراشدون» بصالحٍ
ورُبَّ ثناءٍ من لسانِ رُفاتِ١١
لك الدِّينُ يا ربَّ الحَجيجِ جمعتَهم
لبَيتٍ طَهورِ السَّاحِ والعَرَصاتِ١٢
أرى الناسَ أصنافًا ومن كلِّ بقعةٍ
إليك انتهَوا من غُربةٍ وشتاتِ١٣
تساوَوا فلا الأنسابُ فيها تفاوتٌ
لديك ولا الأقدارُ مختلِفاتِ
عنَت لك في التُّرْبِ المقدَّسِ جبهةٌ
يَدينُ لها العاتي من الجبهاتِ١٤
مُنوِّرةٌ كالبدر شمَّاءُ كالسُّها
وتُخفَض في حقٍّ وعندَ صلاةِ١٥
ويا رَبِّ لو سخَّرتَ ناقةَ «صالحٍ»
لعبدِك ما كانت من السَّلِساتِ١٦
ويا رَبِّ هلْ سيارة أو مَطارةٌ
فيَدنو بعيدُ البِيدِ والفَلَواتِ١٧
ويا رَبِّ هل تُغنِي عن العبد حَجَّةٌ
وفي العمر ما فيه من الهفواتِ١٨
وتشهدُ ما آذيتُ نفسًا ولم أُضِرْ
ولم أبغِ في جَهري ولا خطَراتي١٩
ولا غلبتني شِقوة أو سعادةٌ
على حكمةٍ آتيتَني وأناةِ٢٠
ولا جال إلا الخيرُ بين سرائري
لدى سُدَّةٍ خيريَّةِ الرغَباتِ٢١
ولا بِتُّ إلا كابن مريم مُشفِقًا
على حُسَّدي مستغفِرًا لعُداتي٢٢
ولا حُمِّلَت نفسٌ هوًى لبلادها
كنفسيَ في فِعلي وفي نفَثاتي٢٣
وإني ولا مَنٌّ عليك بطاعةٍ
أُجِلُّ وأُغلي في الفروض زكاتي٢٤
أُبالغُ فيها وهْي عدلٌ ورحمةٌ
ويتركها النُّسَّاك في الخلواتِ٢٥
وأنت وليُّ العفو فامحُ بناصعٍ
من الصفح ما سوَّدتُ من صفَحاتي٢٦
ومَن تَضحكِ الدنيا إليه فيغتَرِرْ
يمُتْ كقتيلِ الغِيدِ بالبسَماتِ٢٧
ورَكبٍ كإقبالِ الزمانِ مُحجَّلٍ
كريمِ الحواشي كابرِ الخطواتِ٢٨
يسيرُ بأرضٍ أخرَجَت خيرَ أُمةٍ
وتحتَ سماءِ الوحي والسُّوراتِ٢٩
يُفيضُ عليها اليُمنَ في غدواتِهِ
ويُضفِي عليها الأمنَ في الرَّوحاتِ٣٠

•••

إذا زرتَ يا مولايَ قبرَ محمدٍ
وقبَّلتَ مَثوى الأعظُمِ العَطِراتِ٣١
وفاضت مع الدَّمع العيونُ مَهابةً
لأحمدَ بين السِّتر والحُجُراتِ٣٢
وأشرقَ نُورٌ تحتَ كلِّ ثنِيَّةٍ
وضاعَ أريجٌ تحتَ كلِّ حَصاةِ٣٣
لمُظهِرِ دينِ الله فوقَ تَنُوفةٍ
وباني صروحِ المجدِ فوقَ فلاةِ٣٤
فقُل لرسولِ الله يا خيرَ مُرسَلٍ
أبثُّك ما تدري من الحسراتِ٣٥
شعوبكُ في شرقِ البلادِ وغربِها
كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سُباتِ٣٦
بأيمانهم نُورانِ ذِكرٌ وسُنَّةٌ
فما بالُهم في حالِكِ الظلماتِ٣٧
وذلك ماضي مَجدِهم وفَخَارِهم
فما ضرَّهم لو يعملون لآتي٣٨
وهذا زمانٌ أرضُه وسماؤهُ
مَجالٌ لمِقدامٍ كبيرِ حياةِ٣٩
مشى فيه قومٌ في السماءِ وأنشَئوا
بَوارجَ في الأبراجِ مُمتنِعاتِ٤٠
فقُل رَبِّ وَفِّقْ للعظائم أُمتي
وزيِّنْ لها الأفعالَ والعزَماتِ٤١
١  عرفات: اسم موضع وقوف الحاج، على مقربة من مكة، وهو اسمٌ واحد في صورة الجمع.
٢  تولِّي وجهة البيت: تستقبلها. والوجهة: المكان الذي يستقبله الإنسان. ناضرًا: من النُّضرة، وهي الحُسن. وسيم: جميل مجالي البشر، والمراد الوجه. والبشر: طلاقة الوجه. القسمات: جمع قسمة، وهي الوجه، وقيل ما بين الوجنتَين والأنف.
٣  الأفق: الناحية. ملائك: جمع ملَك. التحايا: جمع تحية.
٤  حديت: من الحداء، وهو سَوق الإبل والغناء لها. والعيس: الإبل البِيض التي يُخالط بياضَها شيءٌ من الشقرة. والبيداء: المفازة. الحُداة. جمع حادٍ.
٥  جبريل: هو أمين الوحي. والراح: جمع راحة، وهي الكف.
٦  مرحِّب: مِن رحَّب به؛ أي قال له مرحبًا. وقُصَّاد: جمع قاصد. وعفاة: جمع عافٍ، وهو طالب المعروف.
٧  سكب الماء: صبَّه. الميزاب، ويقال له مِئزاب ومرزاب ومزراب: ما يسيل منه الماء من مكانٍ عالٍ، قالوا: ومنه ميزاب الكعبة؛ أي مَصبُّ ماء المطر من فوقها، وهو المراد هنا. أفاض: أفرغ.
٨  زمزم: بئر عند الكعبة. والكوثر: نهر في الجنة، والكثير من الماء. والمعسول: الحلو.
٩  إبليس: عَلَم جنس للشيطان. والرجيم: هو المطرود، والملعون، والمرجوم بالحجارة. ويصطلي نيرانًا: يحترق بها. والشاني: المُبغِض. والجمرات: الحصيات، واحدتها جمرة.
١٠  يحيِّيك: من حيَّاه إذا قال له حيَّاك الله؛ أي أطال عمرك. وطه: اسم النبي عليه الصلاة والسلام. ومضاجع: جمع مضطجع، وهو مكان الاضطجاع. العقبات: واحدتها عقبة، وهي الطريق الصعب في أعلى الجبل، والمراد هنا صعاب الأمور.
١١  يثني عليك الراشدون: يذكُرونك بخير. والراشدون: الخلفاء الأربعة بعد النبي، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. والرفات: ما بلِي من جسم الإنسان بعد موته.
١٢  الحجيج: جمع حاج، وهم الحجاج. والساح: جمع ساحة، وهي ساحة الدار. والعرصات: جمع عرصة، وهي البقعة من بين الدور ليس فيها بناء.
١٣  الأصناف: الأنواع. والغربة: الاغتراب. والشتات: التفرُّق.
١٤  عنت لك: خضعت وذلَّت. والترب: التراب. ويدين لها: يطيعها. والعاتي من الجبهات: أي الجبهة العاتية التي تجاوزت الحدَّ في الاستكبار والجبروت. والخطاب لله تعالى. يريد أن جبهة الممدوح عنت لله، وهي التي أطاعها العتاة المتكبِّرون.
١٥  منوَّرة: صفة للجبهة في البيت السابق. وشمَّاء: مرتفعة، صفة للجبهة أيضًا. والسها: كوكب من بنات نعش الصغرى. وتخفض: من الخفض ضد الرفع.
١٦  سخَّرت: من التسخير، وهو تذليل الدابة وركوبها بغير أجرة. والسلسات: جمع سلسة، وهي المنقادة.
١٧  السيَّارة: صيغة مبالغة من السير، جعله المتأدبون اسمًا ﻟ «الأتومبيل». المطارة: سمَّى بها المَركبة التي تطير في الجو بالوسائل الصناعية. يدنو: يقرب. والبيد والفلوات: جمع بيداء وفلاة.
١٨  هل تغني عن العبد حجة: أي هل تنفعه حجة في مهم أمره عند الله. والهفوات: الزَّلَّات.
١٩  وتشهد أنت يا رب ما آذيت نفسًا؛ أي لم أصِل إليها بأذًى. ولم أضر: لم أفعل ما يضرُّ. ولم أبغِ: لم أرتكب البغي. والجهر: العلانية. والخطرات: واحدتها خطرة، وهي ما يلوح للإنسان في فكره.
٢٠  الشقوة: ضد السعادة. والحكمة: العدل، والحِلم، وقيل ما يمنع الجهل، وقيل هي كل كلام واقع الحق، وقيل هي وضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده. والأناة: الحِلم.
٢١  جال: طافَ غير مستقر. والسرائر: جمع سريرة، وهي ما أسرَّه الإنسان من أمره. والسدَّة: الباب.
٢٢  ابن مريم: عيسى عليه السلام. ومشفقًا على حُسَّدي: حريصًا على صلاحهم. والحُسَّد: جمع حاسد. مستغفرًا لعداتي: طالبًا لهم المغفرة. والعداة: جمع عدُو.
٢٣  الهوى: الحب. والنفثات: جمع نفثة، تُطلَق على الشعر مجازًا، فيقال: ما أحسنَ نفثاتِ فلان؛ أي ما أحسنَ شعره!
٢٤  المنُّ: الامتنان بتعداد الصنائع. وأجلُّ زكاتي: أُعظمها. وأُغليها: أجعلها غالية. والفروض: ما فرضه الله من العبادات الخمس، والزكاة أحد هذه الفروض.
٢٥  أبالغ فيها: من بالغ في الأمر؛ أي اجتهد فيه ولم يُقصِّر. والنُّسَّاك: جمع ناسك، وهو العابد المتزهِّد. في الخلوات: متعلق بالنُّسَّاك.
٢٦  وليُّ العفو: أي متولِّيه وصاحبه. والعفو: ترك العقوبة والإعراض عن المؤاخذة. امحُ: أزِل. الناصع: الخالص الصافي. والصفح: ترك الشيء والإعراض عنه.
٢٧  يغترُّ: يُخدَع بالشيء ويظنُّ به الأمن فلا يتحفظ. والغيد: جمع غيداء، وهي المرأة الطويلة العنق، والتي تنثني لينًا، والتي لطُفَت بشرتها وكمُل حُسنها. والبسمات: واحدتها بسمة، وهي الضحكة من غير صوت.
٢٨  المحجَّل من الخيل: ما في قوائمه بياض. والمعنى ركب مطاياه محجَّلة، أو هو محجل، ويكون المراد «مُشرِق مُضيء» على سبيل المجاز، كقولهم: يومٌ أغرُّ محجَّل. والحواشي: الجوانب والنواحي. والكابر: رفيع الشأن.
٢٩  يسير بأرض: يريد أرض الحجاز، ويريد بخير أمة العربَ خاصة والمسلمين عامة. والوحي: أصله كل ما ألقيته إلى غيرك، ثم غلب على ما يُلقى للأنبياء من عند الله. والسورات: هي سورات القرآن، جمع سورة.
٣٠  يُفيض: يُسيل. واليمن: الخير والبركة. والغدوات: جمع غدوة، وهي المرة من الغدو. ويضفي عليها الأمن: يُسبِغه عليها. والروحات: جمع روحة، وهي المرة من الرواح. والغدوُّ والرواح على إطلاقهما: الذهاب والمجيء في أي وقت. وضمير «عليها» للأرض في البيت السابق.
٣١  إذا زرت يا مولاي: الخطاب للخديو. والمثوى: المقام. والأعظم: جمع عظم. والعطرات: المتطيِّبات بالعطر.
٣٢  فاضت: سال ماؤها. والمهابة: الخوف والتوقير. وأحمد: اسم النبي أيضًا. الستر: ما يُستَر به. والحجرات: جمع حجرة، وهي البيت الصغير في الدار.
٣٣  الثنية: طريق العقبة. وضاع: فاح. والأريج: الرائحة الطيِّبة.
٣٤  مُظهر دين الله: مُعلِنه والجاهر به. والتنوفة: المفازة، وهي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف. والصروح: جمع صرح، وهو القصر، وكل بناء عالٍ. والفلاة: أي الصحراء القفر الواسعة.
٣٥  أبثك: أُطلِعك. وما تدري: ما تعلم. والحسرات: جمع حسرة، وهي أشد التلهُّف على الفائت.
٣٦  شعوبك: جمع شعب، وهو القبيلة العظيمة من الناس. والكهف: البيت الواسع المنقور في الجبل. والعميق: البعيد الغَور. والسُّبات: النوم.
٣٧  أيمانهم: جمع يمين، وهي الجهة المُضادَّة لليسار، والجارحة أيضًا، وهي المرادة هنا. والمعنى معهم نوران … إلخ. والذِّكر: القرآن. والسنة: الشريعة، وقد تُطلَق عند الفقهاء على جملة أحاديث النبي . والبال: الحال والشأن. أي ماذا غيَّر حالهم حتى صاروا في الظلمات الحالكة؟ والحالك: الشديد السواد. والظلمات: جمع ظلمة، وهي ذهاب النور.
٣٨  المجد: العزُّ والرفعة. والفخار: المباهاة بالمناقب والمكارم.
٣٩  المجال: مكان الجوَلان، وهو الطواف في غير استقرار. المقدام: أصله الكثير الإقدام على العدُو، والمراد هنا الكثير الإقدام على عظائم الأمور.
٤٠  مشى فيه: أي في هذا الزمان. وأنشئوا: أحدثوا. وبوارج: جمع بارجة، وهي سفينةٌ كبيرة للقتال. والأبراج: جمع برج، وهو في السماء بابها، وقيل منزلة القمر، وقيل الكوكب العظيم. وممتنعات: محتميات. والمعنى أن قومًا بلَغوا من العزَّة في هذا الزمان أن مشَوا في جوِّ السماء؛ يريد: طاروا فيه، وأنشئوا طياراتٍ ترتفع حتى تكاد تصل إلى السماء.
٤١  وفق للعظائم أمتى: ألهِمها إياها. والعظائم: جمع عظيمة، وهي ما عظُم من الأمور. وزين لها الأفعال: اجعلها زينة عندها؛ أي غير مَشينة. والعزمات: جمع عزمة، وهي الثبات والصبر فيما يُعزَم عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤