تكريم١

بأبي وروحي الناعماتِ الغِيدَا
الباسماتِ عن اليتيمِ نضِيدَا٢
الرانياتِ بكلِّ أحوَرَ فاترٍ
يذَرُ الخليَّ من القلوب عميدَا٣
الراوياتِ من السُّلاف مَحاجرًا
الناهلاتِ سوالفًا وخدودَا٤
اللاعباتِ على النسيم غدائرًا
الراتعاتِ مع النسيم قُدودَا٥
أقبَلنَ في ذهبِ الأصيلِ ووشْيِهِ
مِلءَ الغلائلِ لؤلؤًا وفريدَا٦
يَحدِجنَ بالحدَقِ الحواسِدِ دُميةً
كظِباءِ وجْرةَ مُقلتَين وَجِيدَا٧
حوَت الجمالَ فلو ذهبتَ تزيدُها
في الوهمِ حُسنًا ما استطعتَ مزيدَا
لو مرَّ بالوِلْدان طيفُ جمالِها
في الخُلدِ خرُّوا رُكَّعًا وسُجودَا
أشهى من العُودِ المرنَّمِ مَنطقًا
وألذُّ من أوتارِه تغريدَا
لو كنتَ سعدًا مُطلِقَ السجناءِ لم
تُطلِق لساحرِ طَرْفِها مصفودَا٨
ما قصَّر الرؤساءُ عنه سعى له
سعدٌ فكان مُوفَّقا ورشيدَا
يا مصرُ أشبالُ العَرينِ ترعرعَت
ومشَت إليك مِن السجون أُسودَا
قاضي السياسة نالَهم بعقابِهِ
خَشِنَ الحكومةِ في الشباب عَتيدَا٩
أتَت الحوادثُ دونَ عقدِ قضائِهِ
فانهار بيِّنةً ودُكَّ شهيدَا١٠
تقضي السياسةُ غيرَ مالكةٍ لِما
حكَمَت به نقضًا ولا توكيدَا
قالوا أتَنظِمُ للشباب تحيةً
تَبقى على جِيدِ الزمان قصيدَا
قلتُ الشبابُ أتمُّ عقدِ مآثرٍ
من أن أزيدهمُ الثناءَ عُقودَا
قبِلَت جُهودَهم البلادُ وقبَّلَت
تاجًا على هاماتهم معقودا١١
خرَجوا فما مدُّوا حناجرَهم ولا
مَنُّوا على أوطانهم مجهودَا
خفِيَ الأساسُ عن العيون تواضعًا
من بعد ما رفع البناءَ مَشيدَا
ما كان أفطنَهم لكلِّ خديعةٍ
ولكلِّ شرٍّ بالبلاد أُريدَا
لمَّا بنى اللهُ القضيةَ منهمُ
قامت على الحقِّ المُبينِ عَمُودَا١٢
جادُوا بأيامِ الشبابِ وأوشكوا
يتجاوَزُون إلى الحياةِ الجُودَا
طلبوا الجلاءَ على الجهادِ مَثوبةً
لم يطلبوا أجرَ الجهادِ زهيدَا١٣
واللهِ ما دون الجلاءِ ويومِهِ
يومٌ تُسمِّيه الكِنانةُ عيدَا
وجَدَ السجينُ يدًا تُحطِّمُ قيدَهُ
مَن ذا يُحطِّمُ للبلاد قيودَا
ربحَت من «التصريح» أن قيودها
قد صِرنَ من ذهبٍ وكُنَّ حديدَا١٤
أوَما ترَون على «المنابع» عُدَّةً
لا تنجلي وعلى الضِّفافِ عديدَا١٥
يا فِتيةَ النيلِ السعيدِ خُذوا المَدى
واستأنِفوا نفَسَ الجهادِ مَديدَا
وتنكَّبوا العدوان واجتنِبوا الأذى
وقِفوا بمصرَ الموقِفَ المحمودَا١٦
الأرضُ أليَقُ منزلًا بجماعةٍ
يبغُون أسبابَ السماءِ قُعودَا
أنتم غدًا أهلُ الأمور وإنما
كنَّا عليكم في الأمور وُفُودَا
فابنُوا على أُسُسِ الزمانِ وروحِهِ
رُكنَ الحضارة باذخًا وشديدَا
الهدمُ أجمَلُ من بنايةِ مُصلِحٍ
يَبني على الأُسُسِ العتاقِ جديدَا
وجْهُ الكنانةِ ليس يُغضِبُ ربَّكم
أن تجعلوه كوجهِه معبودَا
ولُّوا إليه في الدُّروس وجُوهَكم
وإذا فرغتُم واعبدوه هُجودَا١٧
إنَّ الذي قسَمَ البلادَ حبَاكمُ
بلدًا كأوطانِ النجومِ مَجيدَا١٨
قد كان والدنيا لُحُودٌ كُلُّها
للعبقريةِ والفنونِ مُهودَا
مَجدُ الأمورِ زوالُه في زَلَّةٍ
لا تَرجُ لِاسمِكَ بالأمور خُلودَا
الفردُ بالشُّورى وبِاسم نَديِّها
لُفِظَ «الخليفةُ» في الظلام شريدَا١٩
خلَعَتهُ دون المسلمين عِصابةٌ
لم يجعلوا للمسلمين وُجودَا
يقضون ذلك عن سوادٍ غافلٍ
خُلِق السوادُ مُضلَّلًا وَمَسُودَا٢٠
جعلوا مَشيئتَهُ الغبيَّةَ سُلَّمًا
نحوَ الأمورِ لمَن أراد صُعودَا
إني نظرتُ إلى الشعوب فلم أجِدْ
كالجهل داءً للشعوب مُبيدَا
الجهلُ لا يلدُ الحياةَ مَواتُهُ
إلا كما تَلدُ الرِّمامُ الدودَا٢١
لم يخلُ من صُوَرِ الحياةِ وإنما
أخطاه عُنصرُها فمات وليدَا٢٢
وإذا سبى الفردُ المُسلَّطُ مجلسًا
ألفَيتَ أحرارَ الرجالِ عبيدَا
ورأيت في صدرِ النَّديِّ مُنوَّمًا
في عُصبةٍ يتحرَّكون رُقودَا
الحقُّ سهمٌ لا ترِشْهُ بباطلٍ
ما كان سهمُ المُبطِلين سديدَا٢٣
والعَبْ بغيرِ سلاحه فلَربَّما
قتلَ الرجالَ سلاحُهُ مردودَا
١  في وزارة سعد زغلول باشا سنة ١٩٢٤م أُطلِقَ سجناء كانت المحاكم العسكرية الإنجليزية قد أدانتهم في مؤامرةٍ شاعَ يومئذٍ أنها مُبالَغ فيها، وقد احتفل شباب البلاد بنجاة إخوانهم، فرجَوا صاحب الديوان أن يشاركهم في هذا الاحتفال؛ فنظم هذه القصيدة، مُشيرًا فيها إلى أهم ما كان يشغل بال الناس في ذلك العهد من الحوادث.
٢  بأبي وروحي: أي أفتدي بهما. والغِيد: جمع غيداء، وهي الجارية الليِّنة الأعطاف. واليتيم من كل شيء: ما لا نظير له، والمراد هنا الأسنان. والنضيد: المنضود المتَّسِق.
٣  الرانيات: اللاتي يُدِمنَ النظر بطرفٍ ساكن. والأحور: من الحور، وهو شدَّة سواد العين في شدَّة بياضها. والعميد من القلوب: ما هدَّه العشق.
٤  السلاف: أطيب الخمر، ويراد به هنا سحر العيون. والناهل: الريَّان. والسوالف: صفحات الأعناق.
٥  الغدائر: جمع غديرة، وهي الذؤابة من الشعر. والقدود: جمع قدٍّ، وهو القامة.
٦  الوشي: النمنمة والتحسين. والغلائل: الأثواب الرقيقة. والفريد: الدُّر المنظوم.
٧  حدجه بنظره: حدَّد النظر إليه. والحدَق: الأحداق. والدمية: الصورة المنقَّشة المزيَّنة، فيها حمرة كالدَّم، ويُضرَب بها المثل في الحسن، ويراد بها هنا الحسناء. ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، تسكنه الظباء والوحوش. والمراد في هذا البيت أن أولئك الجميلات على ما أسبغ الله عليهنَّ من نعمة الجمال، وقفنَ ينظرنَ إلى هذه الحسناء التي ابتدأ الشاعر في وصفها، يحسدْنَها على ما أُوتيَت من سحر؛ ويدلُّك هذا الحسد على أن حظها من الحسن عظيم.
٨  المصفود: الموثق المغلل. وهنا يتخلص الشاعر من هذا الغزل الرقيق؛ ليسوق إليك ما أراد من تعزية السجناء عما نالهم من ظلم، وتهنئتهم بما أتيح لهم من نجاة، ثم شكر المحسنين إلى هؤلاء السجناء.
٩  خشن الحكومة: أي قاسيًا. والعتيد: الجسيم، وهو هنا الجسيم من الظلم.
١٠  الشهيد: الشاهد. وانهيار البينة: ثبوت بطلانها. وسقوط الشهود: ثبوت تزويرهم.
١١  الهامات: الرءوس.
١٢  القضية: السياسة المصرية.
١٣  يريد بالجلاء: جلاء الجنود الإنجليزية المحتلَّة عن أرض البلاد.
١٤  تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢م.
١٥  منابع النيل.
١٦  تنكَّبوا العدوان: أي تجنَّبوه.
١٧  الهجود: جمع هاجد، وهو النائم، أو المصلِّي بالليل.
١٨  حباه: أعطاه. وأوطان النجوم: كناية عن السماء.
١٩  الندى: المجمع. ولفَظَه: رمى به وطرحه.
٢٠  سواد الناس: عامتهم.
٢١  موات الجهل: الخراب الذي يحدث بسببه. والرمام: جمع رمَّة، وهي العظام البالية، والمراد بها هنا الجيفة. ومعنى البيت أن الجاهل ميت، والميت بطبعه لا يلد ولا يأتي بعظيم، فإن ولد فكالجيفة المستحيلة لا ينشأ منها إلا الدود.
٢٢  الإشارة إلى الدود في البيت السابق.
٢٣  راش السهم يريشه: ألصق عليه الريش حتى يكون أكثر نفاذًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤