تكليل أنقرة وعزل الآستانة

قُم نادِ «أنقرةً» وقل يَهنِيكِ
مُلْكٌ بنَيتِ على سيوفِ بَنِيكِ
أَعطيتِه ذوْدَ اللَّباةِ عن الشرى
فأخذتِه حُرًّا بغيرِ شريكِ١
وأقمتِ بالدَّمِ جانبَيه ولم تزَل
تُبنى الممالكُ بالدمِ المسفوكِ
فعقَدتِ تاجَكِ من ظُبًا مسلولةٍ
وحللتِ عرشَك مِن قنًا مشبوكِ٢
تاجٌ ترى فيه إذا قلَّبتَهُ
جهدَ الشريفِ وهِمَّةَ الصُّعلوكِ٣
وترى الضحايا من مَعاقدِ غارِهِ
وعلى جوانبِ تِبرِه المسبوكِ٤
وتراه في صَخَبِ الحوادث صامتًا
كالصخر في عصفِ الرياحِ النُّوكِ٥
خرزاتُه دَمُ أُمةٍ مهضومةٍ
وجهودُ شعبٍ مُجهَدٍ منهوكِ
بالواجبِ الْتمَس الحقوقَ وخابَ مَن
طلبَ الحقوقَ بواجبٍ متروكِ
لا الفردُ مَسَّ جبينَكِ العالي ولا
أعوانُه بأكفِّهم لَمَسوكِ٦
لمَّا نفرتِ إلى القتال جماعةً
أصلَوك نارَ تلصُّصٍ وفُتوكِ٧
هدَروا دماءَ الأُسْدِ في آجامِها
والأُسْدُ شارعةُ القَنا تحميكِ٨
يا بِنتَ «طوروسَ» المُمرَّدِ طأطأتْ
شُمُّ الجبال رءُوسَها لأبيكِ٩
أمْعَنتُما في العزِّ واستعصَمتُما
هو في السحاب وأنتِ في أهليكِ١٠
نحَتَ الشعوبُ من الجبالِ ديارَهم
والقومُ من أخلاقِهم نحَتوكِ
فلوَ انَّ أخلاقَ الرجالِ تصَوَّرَت
لرأيتِ صخرتَها أساسًا فيكِ
إنَّ الذين بنَوكِ أشبَهُ نيَّةً
بشبابِ «خيبرَ» أو كهولِ «تَبوكِ»١١
حلفوا على الميثاق لا طعِموا الكرى
حتى تذوقي النصرَ هل نصروكِ١٢
زَعموا «الفرنسيَّ» المُحجَّل صورةً
في حَلْبةِ الفرسانِ من حاميكِ١٣
«النَّسرُ» سَلَّ السيفَ يَبني نفسَهُ
وفتَاكِ سَلَّ حُسامَه يَبنيكِ١٤
والنَّسرُ مملوكٌ لسلطانِ الهوى
ووجدتُ نَسرَكِ ليس بالمملوكِ
يا دولةَ الخُلُق التي تاهت على
رُكنِ السِّماكِ برُكنِها المسموكِ١٥
بيني وبينك مِلةٌ وكِتابُها
والشرق يَنميني كما يَنميكِ
قد ظنَّني اللاحي نطقتُ عن الهوى
وركِبتُ متنَ الجهلِ إذ أُطرِيكِ١٦
لم يُنقِذِ الإسلام أو يرفعْ له
رأسًا سوى النفرِ الأُلى رفَعوكِ
رَدُّوا الخيالَ حقيقةً وتطلَّعوا
كالحق حَصحصَ من وراءِ شُكوكِ١٧
لم أَكذبِ التاريخَ حين جعلتُهم
رُهبانَ نُسْكٍ لا عجولَ نسيكِ١٨
لم ترضَني ذنَبًا لنجمِكِ همَّتي
إنَّ البيان بنجمه يُنبِيكِ١٩
قلمي وإن جهِلَ الغبيُّ مكانَهُ
أبقى على الأحقابِ من ماضيكِ٢٠
ظفرَت بيونانَ القديمةِ حكمتي
وغزا الحديثةَ ظافرًا غازيكِ

•••

منِّي لِعَهدِكِ يا «فروقُ» تحيةٌ
كعيونِ مائكِ أو رُبا واديكِ٢١
أو كالنسيم غدَا عليك وراحَ من
فُوفِ الرياضِ ووَشْيِها المحبوكِ٢٢
أو كالأصيل جرى عليك عقيقُهُ
أو سالَ من عِقْيانِه شاطيكِ٢٣
تلك الخمائلُ والعيونُ اختارها
لك من رُبا جنَّاتِه باريكِ٢٤
قد أَفرَغَت فيك الطبيعةُ سِحرَها
مَن ذا الذي مِن سِحرِها يَرقيكِ
خلعت عليكِ جمالَها وتأمَّلَت
فإذا جمالُكِ فوقَ ما تكسوكِ
تالله ما فَتَنَ العيونَ ولذَّها
كقلائدِ الخُلجانِ في هاديكِ
عن جِيدِكِ الحالي تلفَّتَت الرُّبَى
واستضحكَت حُورُ الجِنانِ بفيكِ
إن أنسَ لا أنسَ الشبيبةَ والهوى
وسوالفَ اللذاتِ في ناديكِ٢٥
ولياليًا لم ندرِ أين عِشاؤُها
مِن فجرِها لولا صياحُ الديكِ
وصَبُوحَنا من «بَندِلارَ» وشِرْشرٍ
وغَبُوقَنا ﺑ «تَرابِيا» و«بُيوكِ»٢٦
لو أنَّ سلطانَ الجمالِ مُخلَّدٌ
لمليحة لَعذَلتُ مَن عذلوكِ
خلعوكِ من سلطانهم فسَلِيهمُ
أمِنَ القلوبِ ومُلكِها خلعوكِ
لا يَحزُننَّكِ من حُماتِكِ خطةٌ
كانت هي المُثلى وإن ساءُوكِ
أيُقالُ فتيانُ الحِمى بك قصَّروا
أو ضيَّعوا الحرماتِ أم خانوكِ
وهُمُ الخفافُ إليك كالأنصار إذ
قلَّ النصير وعزَّ مَن يفديكِ
المُشتَروكِ بمالِهم ودمائِهم
حين الشيوخُ بجُبَّةٍ باعوكِ
هدروا دماءَ الذائدين عن الحِمى
بلسانِ مفتي النارِ لا مُفتيكِ٢٧
شربوا على سرِّ العدوِّ وغرَّدوا
كالبُومِ خلفَ جِدارِك المدكوكِ٢٨
لو كنتِ «مكةَ» عندهم لرأيتِهم
ﮐ «محمدٍ» و«رفيقِه» هجروكِ٢٩

•••

يا راكبَ الطامي يجُوبُ لَجاجَهُ
مِن كلِّ نيِّرةٍ وذاتِ حُلوكِ٣٠
إن جئتَ «مرمرةً» تحثُّ الفُلْكَ في
بَهِجٍ كآفاقِ النعيم ضَحُوكِ٣١
وأتَيتَ «قرنَ التبر» ثَم تحفُّهُ
تُحَفُ الضحى من جوهرٍ وسلوكِ٣٢
فاطلع على «دار السعادة» وابتهِلْ
في بابها العالي وأدِّ أَلوكي٣٣
قُل للخلافةِ قولَ باكٍ شمسَها
بالأمس لمَّا آذنَت بدُلوكِ٣٤
يا جذوةَ التوحيد هل لكِ مُطفِئٌ
واللهُ جلَّ جلالُه مُذْكِيكِ٣٥
خلَتِ القرونُ وأنت حربُ مُمالكٍ
لم يغفُ ضدُّك أو ينَم شانيكِ٣٦
يرميكِ بالأممِ الزمانُ وتارةً
بالفردِ واستبدادِه يرميكِ
عُودي إلى ما كنتِ في فجرِ الهدى
عُمَرٌ يسوسُك و«العتيقُ» يليكِ٣٧
إن الذين تَوارَثوكِ على الهوى
بعد «ابنِ هندٍ» طالما كذبوكِ٣٨
لم يلبسوا بُردَ النبي وإنما
لبِسوا طقوسَ الروم إذ لبِسوكِ
إني أُعيذُكِ أن تُرَيْ جبَّارةً
كالبابَويَّة في يدَيْ «رُدريكِ»
أو أن تزُفَّ لك الوراثةُ فاسقًا
ﮐ «يزيدَ» أو كالحاكمِ المأفوكِ٣٩
فُضِّي نُيوبَ الفردِ ثم خذي به
في أيِّ ثَوبَيهِ به جاءُوكِ٤٠
لا فرقَ بين مُسلَّطٍ مُتتوِّجٍ
ومُسلَّطٍ في غيرِ ثوبِ مليكِ
إني أرى الشورى التي اعتصموا بها
هي حبلُ ربِّكِ أو زمامُ نَبِيكِ
١  الذود: مصدر ذاده عن الشيء؛ دفعه عنه. واللباة: أنثى الأسد. والشرى: مكان في جانب الفرات تكثر فيه الأسود، ويُضرَب به المثل في ذلك.
٢  الظُّبا: جمع ظبة، وهي حدُّ السيف والسنان ونحوهما.
٣  الجهد، بضم الجيم وفتحها: الطاقة، وقيل المشقة.
٤  المعاقد: مواضع الانعقاد. والغار: شجرٌ عظيم، واحدته غارة، وكان الإغريق الأقدمون والرومان أيضًا يضفرون منه أكاليل لأبطالهم المنتصرين في الحروب. والتبر: الذهب غير المضروب. المسبوك: المذوب المفرغ في القالب.
٥  الصخب. الصوت شديدًا. وعصف الرياح: اشتدادها. والنوك: نوكاء، وهي الحمقاء.
٦  لا الفرد: أي لا الفرد المستبد بالحكم، والخطاب لأنقرة، ويريد بالفرد السلطان محمد وحيد الدين. وأعوانه: وزراؤه الذين أرادوا أن يُخمِدوا حركة الأناضول ضد اليونان والإنجليز.
٧  نفرت إلى قتال: ذهبت إليه مسرعة. وأصلَوك: أحرقوك؛ أي أولئك الأعوان. والتلصص: أن يصير الإنسان لصًّا، وأن يتخلق بأخلاق اللصوص. والفتوك: مصدر فتك؛ أي بطش، وفتك فلان في الخبث إذا بالغ فيه.
٨  الأجمة: الشجر الكثير الملتف، جمعها أجم بفتح الجيم، وجمع الجمع آجام، وهو الوارد في البيت. وهو يشير إلى فتوى شرعية كانت حكومة الآستانة قد أذاعتها في أول أمر الفاتحين في الأناضول تحلِّل بها قتالهم.
٩  طوروس: جبلٌ عظيم في آسيا الصغرى. والممرد: المطول المملس.
١٠  أمعنتما: أبعدتما. واستعصمتما: امتنعتما.
١١  خيبر: اسم مكان كان به سبعة حصون، غزاه النبي . وتبوك: أرض بين المدينة والشام نُسبت إليها غزوة من غزوات النبي أيضًا.
١٢  الميثاق: أمورٌ كان القائمون بدعوة القتال قد أخذوا على أنفسهم أن يقاتلوا حتى تتمَّ للأمة.
١٣  الفرنسي: نابليون بونابرت.
١٤  النسر: لقب نابليون. يريد بفتَاكِ — في هذا البيت — وبحاميك — في البيت قبله — مصطفى كمال.
١٥  السماك: كوكبٌ معروف. والمسموك: المرفوع.
١٦  اللاحي: اللائم. متن الجهل: ظهره.
١٧  حصحص الحق: بان بعد كتمانه.
١٨  النسيك: الذهب والفضة.
١٩  يُنبيك: يُخبِرك.
٢٠  الأحقاب: جمع حُقب، بضم الحاء، قيل هو ثمانون عامًا، وقيل هو الدهر.
٢١  فروق: هي الآستانة.
٢٢  فوف الرياض: زهرها، تشبيهًا لها بفوف الثياب، وهي نوع من بُرود اليمن. والوشي: نمنمة الثوب وتحسينه، وهو أيضًا نوع من الثياب الموشية، تسميةً لها باسم المصدر. والمحبوك: مِن حبك الحائك الثوب؛ حسَّن أثر الصنعة فيه.
٢٣  الأصيل: هو ما بعد العصر إلى المغرب. والعقيان: الذهب الخالص.
٢٤  الخمائل: جمع خميلة، وهي الشجر الكثير الملتف.
٢٥  إن أنس لا أنس: أي إن نسيت شيئًا فلست أنسى الشبيبة … إلخ.
٢٦  الصبوح: شراب الصباح. والغبوق: شرابُ العشيِّ. وبندلار وترابيا وبيوك: أسماء أمكنة في الآستانة.
٢٧  الذائدين عن الحمى: جمع ذائد، وهو المُدافع. ومفتي النار: شيخ الإسلام الذي أفتى بقتالهم.
٢٨  شربوا: أي الشيوخ.
٢٩  عندهم: عند فتيان الحمى الذين اشترَوك بمالهم ودمائهم.
٣٠  الطامي: البحر. واللجاج: جمع لجة. من كل نيرة: أي كل لجة نيرة بيضاء، يكنِّي بذلك عن البحر الأبيض المتوسط. وذات حلوك: أي ومن كل لجة سوداء ذات حلوك، يكنِّي بذلك عن البحر الأسود.
٣١  مرمرة: هو بحر مرمرة تدخله من مضيق الدردنيل، ويصله بالبحر الأسود مضيق البسفور.
٣٢  قرن التبر: هو القرن الذهبي، وهو جزء من البسفور.
٣٣  دار السعادة: هي الآستانة. والألوك: الرسالة.
٣٤  الدلوك: غروب الشمس.
٣٥  مُذْكيك: مُوقِدك.
٣٦  لم يغفُ: لم ينم. والشانئ: المُبغِض.
٣٧  يشير إلى ترك الملك المحصور في أسرةٍ واحدة، والرجوع إلى جعله حقًّا يتولاه من تبايعه الأمة، كما كان لعهد الخلفاء الراشدين.
٣٨  ابن هند: هو معاوية بن أبي سفيان أوَّل الخلفاء من بني أمية.
٣٩  يزيد: هو يزيد بن الوليد، من ملوك بني أمية، كان من أصحاب الدعارة والفسوق. والحاكم: هو الحاكم بأمر الله أحد الملوك الفاطميين في مصر، كان فاسقًا مختبلًا، وكانت له بدع وضلالات يحمل الناس عليها قسرًا.
٤٠  فُضِّي نيوب الفرد: انثريها، ومنه قولهم فضَّ اللهُ فمَ فلان؛ أي نثر أسنانه. والنيوب: جمع ناب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤