بين الحجاب والسفور

صدَّاحُ يا ملكَ الكَنا
رِ ويا أميرَ البُلبلِ١
قد فزتُ منك ﺑ «مَعبدٍ»
ورُزقتُ قربَ «الموصلي»٢
وأُتيحَ لي «داوودُ» مِز
مارًا وحُسنَ ترتُّلِ٣
فوقَ الأَسِرَّةِ والمَنا
بِرِ قطُّ لم تترجَّلِ٤
تهتزُّ كالدينار في
مُرتجِّ لحظِ الأحوَلِ٥
وإذا خطرتَ على المَلا
عِبِ لم تدَع لمُمثِّلِ٦
ولك ابتداءاتُ «الفرز
دقِ» في مقاطعِ «جروَلِ»٧
ولقد تَخِذتَ من الضُّحى
صُفرَ الغَلائلِ والحَلِي٨
وروَيتَ في بِيضِ القلا
نسِ عن عذارى الهيكلِ٩

•••

يا ليتَ شِعريَ يا أسيـ
ـرُ شَجٍ فؤادُك أم خَلِي١٠
وحليفُ سُهْدٍ أم تنا
مُ الليلَ حتى ينجلي١١
بالرغم مني ما تُعا
لجُ في النحاسِ المُقفَلِ١٢
حِرصي عليك هوًى ومَن
يُحرِزْ ثمينًا يبخلِ
والشحُّ تُحدِثُه الضَّرو
رةُ في الجوادِ المُجزِلِ١٣
أنا إن جعلتُكَ في نُضا
رٍ بالحريرِ مُجلَّلِ١٤
ولففتُه في سَوسنٍ
وحففتُه بقَرنفُلِ١٥
وحرقتُ أزكى العُودِ حو
لَيْه وأغلى الصَّندلِ
وحملتهُ فوقَ العيو
نِ وفوقَ رأسِ الجدولِ١٦
ودعوتُ كلَّ أغرَّ في
مُلكِ الطيورِ مُحجَّلِ
فأتَتك بينَ مُطارِحٍ
ومُحبَّذٍ ومُدلَّلِ١٧
وأمرت بِابني فالْتَقا
كَ بوجهِه المُتهلِّلِ١٨
بيمينِه فالوذَجٌ
لم يُهدَ ﻟ «المتوكِّلِ»١٩
وزجاجةٌ من فضةٍ
مملوءةٌ من سَلسلِ٢٠
ما كنتُ يا «صدَّاحُ» عِنـ
ـدكَ بالكريمِ المُفضِلِ
شُهْدُ الحياةِ مَشوبةً
بالرِّقِّ مِثلُ الحنظلِ٢١
والقيدُ لو كان الجُمَا
نَ مُنظَّمًا لم يُحمَلِ٢٢
يا طيرُ لولا أن يقُو
لُوا جُنَّ قُلتُ تعقَّلِ
اسمع فرُبَّ مُفصِّلٍ
لك لم يُفِدكَ كمُجمِلِ
صبرًا لِما تَشقى به
أو ما بدا لك فافعلِ
أنت ابنُ رأيٍ للطبيـ
ـعةِ فيك غيرِ مُبدَّلِ
أبدًا مَرُوعٌ بالإسا
رِ مهدَّدٌ بالمَقتلِ٢٣
إن طِرتَ عن كنفي وقَعْـ
ـتَ على النُّسورِ الجُهَّلِ٢٤

•••

يا طيرُ والأمثالُ تُضـ
ـرَبُ للَّبيبِ الأمثلِ٢٥
دنياك من عاداتِها
ألَّا تكونَ لأعزلِ٢٦
أو للغبي وإن تعلَّـ
ـلَ بالزمانِ المُقبِلِ
جُعِلَت لحُرٍّ يُبتلى
في ذي الحياةِ ويَبتلي
يَرمي ويُرمى في جِها
دِ العيشِ غيرَ مُغفَّلِ
مُستجمِعٍ كالليثِ إن
يُجهَلْ عليهِ يَجهلِ٢٧
أسَمِعتَ بالحكَمَينِ في الـ
إسلامِ يومَ «الجندلِ»٢٨
في الفتنة الكبرى ولَوْ
لا حكمةٌ لم تُشعَلِ٢٩
رضِيَ الصحابةُ يومَ ذَ
لِكَ بالكتابِ المُنزَلِ٣٠
وهمُ المصابيحُ الرُّوَا
ةُ عن النبيِّ المُرسَلِ
قالوا الكتابُ وقام كُلُّ
مُفسِّرٍ ومُئوِّلِ
حتى إذا وَسِعَت «معا
ويةً» وضاق بها «علِي»٣١
رجعوا لظلمٍ كالطبا
ئع في النفوسِ مُؤصَّلِ
نزلوا على حُكمِ القويِّ
وعندَ رأيِ الأحيَلِ٣٢
صدَّاحُ حقٌّ ما أقو
لُ حفَلتَ أم لم تَحفِلِ
جاوَرتَ أندى روضةٍ
وحللتَ أكرمَ مَنزلِ
بينَ الحفاوةِ مِن حُسَيْـ
ـنٍ والرعايةِ من علِي
وحنانِ «آمنةٍ» كأمِّـ
ـكَ في صِباكَ الأولِ٣٣
صِحْ بالصَّباحِ وبشِّر الـ
أبناءَ بالمستقبَلِ
واسأل لمصرَ عنايةً
تأتي وتهبطُ من عَلِ
قل ربَّنا افتح رحمةً
والخيرَ منك فأرسلِ
أدرِكْ كنانتَك الكريـ
ـمةَ ربَّنا وتَقبَّلِ
١  الصدَّاح: الصيَّاح الرفيع الصوت. والكنار: الكناري، طائرٌ حسن الصوت، ريشه أبيض يضرب إلى الصفرة، وقوادم جناحَيه طويلة إلى الخضرة، ويُنسَب إلى جزائر كناريا، وهي الجزائر الخالدات. والبلبل: طائرٌ صغيرٌ سريع الحركة، يُضرَب به المثل في طلاقة اللسان.
٢  معبد: مغنٍّ مشهور، كان أيام الدولة الأموية. والموصلي: يُطلَق على إسحاق الموصلي وابنه إبراهيم، وكانا مغنِّيَين، وكان لهما مع ذلك فقه وأدب.
٣  داوود: النبي. ومزاميره: ما كان يترنم به من الأدعية والأناشيد.
٤  الترجُّل: أن ينزل المرء عن ركوبته ويمشي.
٥  الأحول: مَن في عينه حول.
٦  لم تدع لممثل: أي لم تترك له ما يُجيده من التمثيل والغناء؛ لأنك أجود صوتًا وفنًّا من كلِّ مغنٍّ وممثِّل.
٧  الفرزدق: لقب همَّام بن صعصعة الشاعر المشهور، كان في صدر الدولة الأموية. وجرول: اسم الحطيئة، وهو شاعر أدرك الجاهلية والإسلام. والابتداءات: أوائل القصائد. والمقاطع: جمع مقطع، وهو آخر بيت من القصيدة.
٨  الغلائل: واحدتها غلالة، بكسر الغين، وهي شعار يُلبَس تحت الثوب. يشير بهذا المجاز إلى أن طائره الصدَّاح أصفر اللون.
٩  القلانس: جمع قلنسوة، نوع من لباس الرأس. والعذارى: جمع عذراء، وهي البِكر. والهيكل: معناه هنا الموضع في صدر الكنيسة، يُقرَّب فيه القربان كما تزعم النصارى. وفي هذا البيت أنواع من المجاز، ثم كناية عن المعنى المقصود، وهو يريد أن طائره أبيض الرأس كأنه يلبس قلنسوةً بيضاء، كالعذارى الراهبات المنقطعات لخدمة الهيكل.
١٠  الشجيُّ: المشغول. والخليُّ: الخالي من الهم.
١١  الحليف: كل شيء لزم شيئًا آخر فلم يفارقه. والسهد: الأرق وعدم النوم. وينجلي: يمضي.
١٢  ما تعالج: أي ما تزاول وتمارس. والمراد بالنحاس المقفل: القفص الذي حُبِس فيه الطائر.
١٣  الجواد: الكريم. والمجزل: المكثر من العطاء.
١٤  النضار: الذهب. والمجلل: المغطى.
١٥  السوسن، بفتح السين الأولى وضمها: نباتٌ طيِّب الرائحة.
١٦  العيون هنا: عيون الماء. والجدول: النهر الصغير.
١٧  المدلل، بفتح اللام: المُرفَّه.
١٨  المتهلل: المتلألئ.
١٩  الفالوذج: حلواء من دقيق وعسل وماء. والمتوكل: أحد الخلفاء العباسيين.
٢٠  السلسل: الخمر اللينة.
٢١  الشهد، بضم الشين وسكون الهاء: العسل.
٢٢  الجمان: اللؤلؤ.
٢٣  الإسار: الأَسر.
٢٤  الكنف: الجانب والناحية.
٢٥  الأمثل: الأفضل.
٢٦  الأعزل: مَن لا سلاح عنده.
٢٧  المستجمع: مَن يبذل غاية إمكانه. ويُجهل عليه: يتسافه عليه.
٢٨  الحكمان: هما أبو موسى الأشعري، ارتضاه الإمام عليٌّ حَكمًا له، وعمرو بن العاص، اختاره معاوية حَكمًا له، وقصة هذا التحكيم مشهورة. ويوم الجندل: وهو أحد أيام الحرب بين عليٍّ ومعاوية. والجندل: اسم مكان.
٢٩  ولولا حكمة: أي ولولا حكمة أرادها الله تعالى لم تُشعل تلك الفتنة.
٣٠  رضي الصحابة … إلخ: ذلك أن أصحاب معاوية لمَّا رأوا أن الهزيمة ستكون لهم، رفعوا المصاحف على أطراف الأسِنَّة، ونادَوا عليًّا وأصحابه أن ينزلوا وإيَّاهم على كتاب الله، فأمر عليٌّ أصحابه أن يكفُّوا عن الحرب.
٣١  حتى إذا وسعت معاوية: أي حتى إذا وسعت ولاية الأمر معاوية بسبب أن الحيلة التي فعلها عمرو بن العاص جازت على أبي موسى الأشعري، رجعوا لظلم … إلى آخر ما في البيتَين التاليَين.
٣٢  الأحيل: الأكثر حيلة.
٣٣  حسين، وعلي، وآمنة: أبناؤه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤