استقبال

يا راكبَ الريح حيِّ النيلَ والهرَما
وعظِّمِ السفحَ من سيناءَ والحُرَما١
وقِفْ على أثَرٍ مرَّ الزمانُ به
فكان أثبَتَ من أطوادِه قِمَما٢
واخفض جناحَك في الأرض التي حمَلَت
موسى رضيعًا وعيسى الطُّهرَ مُنفطِما
وأخرَجَت حكمةَ الأجيالِ خالدةً
وبيَّنَت للعبادِ السيفَ والقلما٣
وشُرِّفَت بملوكٍ طالما اتَّخذوا
مَطيَّهم من ملوك الأرض والخدما٤
هذا فضاءٌ تُلِمُّ الريحُ خاشعةً
به ويمشي عليه الدهرُ مُحتشِما٥
فمرحبًا بكِما من طالعين به
على سوى الطائرِ الميمونِ ما قدِما٦

•••

عاد الزمانُ فأعطى بعدما حرَما
وتاب في أُذُنِ المحزونِ فابتسما
فيا رَعى اللهُ وفدًا بين أعيُننا
ويرحم اللهُ ذاك الوفدَ ما رَحِما٧
هم أقسموا لتَدِينَنَّ السماءُ لهم
واليوم قد صدَّقوا في قبرِهم قسَما٨
والناسُ باني بِناءٍ أو مُتمِّمُهُ
وثالثٌ يتلافى منه ما انهدَما
تعاونٌ لا يحلُّ الموتُ عُروتَهُ
ولا يُرى بيَدِ الأرزاءِ مُنفصِما٩

•••

يا صاحبَي «أدرميدَ» حسْبُها شرفًا
أن الرياحَ إليها ألقَت اللُّجُما١٠
وأنها جاوَزَت في القدس مِنطَقةً
جرى البساطُ فلم يجتَزْ لها حَرَما١١
مشَت على أُفُقٍ مرَّ البُراقُ به
فقبَّلَت أثرًا للخُفِّ مُرتسِما١٢
ومسَّحَت بالمُصلَّى فاكتسَت شرفًا
وبالمُغار المُعلَّى فاكتسَت عِظَما١٣
وكُلَّما شاقَها حادٍ على أُفُقٍ
كانت مزاميرُ داوودٍ هي النغما١٤
جشَّمْتُماها من الأهوالِ أربعةً
الرعدَ والبرقَ والإعصارَ والظُّلَما١٥
حتى حوَتها سماءُ النيل فانحدرَت
كالنَّسرِ أعْيَا فوافى الوَكرَ فاعتصما١٦

•••

يا آلَ عثمانَ أبناءَ العمومةِ هل
تشكُون جُرحًا ولا نشكو له ألما١٧
إذا حزِنتم حزِنَّا في القلوب لكم
كالأمِّ تحملُ من همِّ ابنها سَقَما
وكم نظَرْنا بكم نُعمى فجسَّمها
لنا السرورُ فكانت عندنا نِعَما١٨
ونبذل المال لم نُحمَل عليه كما
يقضي الكريمُ حقوقَ الأهلِ والذِّمَما١٩
صبرًا على الدهر إن جلَّت مصائبُهُ
إن المصائب ممَّا يُوقِظُ الأُمَما
إذا المَقاتلُ من أخلاقِهم سلِمَت
فكلُّ شيءٍ على آثارها سَلِما
وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقِيَت
فإن تولَّت مضَوا في إثْرِها قُدُما٢٠
نِمتُم على كلِّ ثارٍ لا قرار له
وهل ينامُ مُصيبٌ في الشعوبِ دما
فنال من سيفِكم مَن كان ساقِيَهُ
كما تنالُ المُدامُ الباسلَ القَدَما٢١
قال العذولُ خرَجْنا في مَحبَّتِكم
من الوقارِ فيا صِدقَ الذي زعما
فما على المرء في الأخلاق مِن حرجٍ
إذا رعى صِلَةً في اللهِ أو رَحِما
ولو وهبتُم لنا عُليا سيادتكم
ما زادنا الفضلُ في إخلاصنا قَدَما
نحنو عليكم ولا ننسى لنا وطنًا
ولا سريرًا ولا تاجًا ولا عَلَما
هذي كرائمُ أشياءِ الشعوبِ فإن
ماتَت فكلُّ وجودٍ يُشبِه العَدَما
١  السفح: عرض الجبل المضطجع. والحرم: ما لا يحلُّ انتهاكه.
٢  الأطواد: الجبال. والقمم: واحدتها قمة، وهي أعلى كل شيء.
٣  الحكمة: صواب الأمر وسداده. والأجيال: جمع جيل، وهم أهل الزمن الواحد. والخالدة: الدائمة الباقية.
٤  طالما اتَّخذوا مطاياهم وخدمهم من ملوك الأرض: أولئك هم ملوك مصر الأقدمون، حين كانوا يأسرون في حروبهم ملوك الأقطار الأخرى.
٥  المحتشم: المستحي.
٦  على الطائر الميمون: مأخوذ من قولهم في الدعاء للمسافر: سِرْ على الطائر الميمون.
٧  كانت الدولة العليَّة قد ندبت للقيام برحلةٍ جوية بين الآستانة والقاهرة اثنين من ضبَّاطها الطيارين، فسقطت طيارتهما في الطريق وماتا، فندبت الدولة غيرهما، فوصلا سالمَين، وإلى هذا يشير بالوفدَين في البيت.
٨  لتديننَّ: أي لتخضعنَّ وتذلَّنَّ.
٩  العروة: كل ما يُوثَق به. والمنفصم: المنقطع
١٠  أدرميد: اسم الطيارة التي ركباها إلى مصر.
١١  القدس: مدينة بيت المقدس في الشام. والبساط: هو بساط سليمان، وفي التاريخ الديني أنه كان يتَّخذ مع الريح بساطًا يُجريه حيث يشاء.
١٢  البراق في اللغة الدينية: دابة كان يركبها الأنبياء، وقد ركبها النبي محمد ليلة إسرائه من مكة إلى بيت المقدس. والخفُّ: أي خفُّ الرسول، ويقال إن أثره مرتسم هناك.
١٣  المصلى: مكان الصلاة. والمغار (بفتح الميم وضمها): الكهف. والمعلَّى: المرفوع.
١٤  شاقها: هاجَها وشوَّقها. والحادي: سائق الإبل الذي يغنِّي لها. ومزامير داوود: ما كان يرتِّله في صلاته من الأناشيد والترانيم.
١٥  جشَّمتماها: كلَّفتماها. والأهوال: جمع هول، وهو المخافة من أمر لا يُعرَف ما يهجم منه على الإنسان. والإعصار: ريح ترتفع بتراب بين السماء والأرض، أو تستدير كأنها عامود. والظُّلَم: جمع ظلمة.
١٦  حوتها: أي حازتها. وانحدرت: هبطت. والنسر: طائر من الجوارح وكلها تخافه، وهو حادُّ البصر، وأشدُّ الطيور ارتفاعًا، وأقواها جناحًا. وأعيا: تعب. ووافى الوكر: أتاه. والوكر: عشُّ الطائر أينما كان في شجر أو في غيره. فاعتصم به: أي لزمه.
١٧  العمومة. مصدر من العم، كالخئولة من الخال.
١٨  النُعمى: ما أُنعِم به.
١٩  الذمم: جمع ذمة، وهي العهد.
٢٠  القدم (بضم القاف والدال): أي يمضي الإنسان فلا يعرِّج على شيء، ولا ينثني.
٢١  المدام: الخمر. والباسل: البطل الشجاع. والقدم (بفتح القاف والدال): الشجاع أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤