شهيد الحق١

إلامَ الخُلْفُ بينكمُ إلاما
وهذي الضجَّةُ الكبرى علَاما
وفِيمَ يكيدُ بعضُكمُ لبعضٍ
وتُبدُون العداوةَ والخِصاما
وأين الفوزُ لا مصرُ استقرَّت
على حالٍ ولا السودانُ داما
وأين ذهبتُمُ بالحقِّ لمَّا
ركبتُم في قضيته الظلاما
لقد صارت لكم حُكمًا وغُنمًا
وكان شِعارُها الموتَ الزُّؤاما
وثِقتُم واتَّهمتم في الليالي
فلا ثقةً أدَمنَ ولا اتهاما
شبَبتُم بينكم في القُطرِ نارًا
على مُحتلِّه كانت سلاما
إذا ما راضَها بالعقل قومٌ
أجَدَّ لها هوى قومٍ ضِراما
ترامَيتُم فقال الناسُ قومٌ
إلى الخذلانِ أمرُهمُ تَرامَى
وكانت مصرُ أوَّلَ مَن أصَبتُم
فلم تُحصِ الجِراحَ ولا الكِلاما٢
إذا كان الرُّماةُ رماةَ سوءٍ
أحَلُّوا غيرَ مَرماها السهاما
أبَعدَ العُروةِ الوثقى وصَفٍّ
كأنيابِ الغضنفرِ لن يُراما
تباغَيتم كأنكمُ خلايا
من السرطانِ لا تجدُ الضِّماما٣
أرى طيَّارَهم أوفى علينا
وحلَّقَ فوقَ أرؤسنا وحاما
وأنظرُ جيشَهم من نصفِ قرنٍ
على أبصارِنا ضرَبَ الخياما
فلا أُمناؤنا نقَصوه رمحًا
ولا خُوَّانُنا زادوا حساما
ونُلفِي الجوَّ صاعقةً ورعدًا
إذا قصْرُ الدُّبارةِ فيه غاما
إذا انفجرَت علينا الخيلُ منه
ركِبْنا الصمتَ أو قُدْنا الكَلاما٤
فأُبْنا بالتخاذل والتلاحي
وآبَ بما ابتغى مِنَّا وراما٥

•••

ملكْنا مارِنَ الدنيا بوقتٍ
فلم نُحسِن على الدنيا القياما٦
طلعْنا وهْي مُقبِلةٌ أُسودًا
ورُحْنا وهْي مُدبِرةٌ نَعاما
وَلِينا الأمرَ حزبًا بعد حزبٍ
فلم نَكُ مُصلِحين ولا كِراما
جعلْنا الحُكمَ توليةً وعزلًا
ولم نَعْدُ الجزاءَ والانتقاما
وسُسْنا الأمرَ حين خلا إلينا
بأهواءِ النفوس فما استقاما
إذا التصريحُ كان براحَ كفرٍ
فَلِمْ جُنَّ الرجالُ به غراما٧
وكيف يكون في أيْدٍ حلالًا
وفي أخرى من الأيدي حراما
وما أدري غداةَ سُقِيتُموه
أَتِرْياقًا سُقِيتُم أم سِماما٨

•••

شهيدَ الحق قُم ترَه يتيمًا
بأرضٍ ضُيِّعَت فيها اليَتامَى
أقام على الشِّفاهِ بها غريبًا
ومرَّ على القلوب فما أقاما٩
سقِمتَ فلم تَبِتْ نفسٌ بخيرٍ
كأن بمهجةِ الوطنِ السَّقاما
ولم أرَ مِثلَ نعشِك إذ تَهادى
فغطَّى الأرضَ وانتظم الأناما١٠
تحمَّلَ هِمَّةً وأقَلَّ دِينًا
وضمَّ مروءةً وحوى زماما١١
وما أنساكَ في العشرينَ لمَّا
طلعتَ حِيالَها قمرًا تماما
يُشارُ إليك في النادي وتُرمى
بعينَي مَن أحَبَّ ومَن تَعامَى
إذا جِئتَ المنابرَ كنتَ قُسًّا
إذا هو في عُكاظَ علا السناما١٢
وأنت ألَذُّ للحق اهتزازًا
وألطَفُ حين تنطقه ابتساما
وتحملُ من أديمِ الحق وجهًا
صُراحًا ليس يتَّخِذ اللِّثاما١٣
أتذكُر قبل هذا الجيل جيلًا
سهِرْنا عن مُعلِّمهم وناما١٤
مِهارُ الحق بغَّضَنا إليهم
شكيمَ القيصرية واللجاما١٥
لواؤك كان يَسقِيهم بجامٍ
وكان الشِّعرُ بينَ يدَيَّ جاما١٦
من الوطنيةِ استبَقوا رحيقًا
فضَضْنا عن مُعتَّقِها الختاما١٧
غرَسْنا كَرْمَها فزَكَا أصولًا
بكلِّ قرارةٍ وزَكَا مُداما١٨
جمعتَهمُ على نبراتِ صوتٍ
كنفخِ الصُّورِ حرَّكَت الرِّجاما١٩
لك الخُطَبُ التي غَصَّ الأعادي
بسَورتِها وساغت للندامى٢٠
فكانت في مرارتها زئيرًا
وكانت في حلاوتها بُغاما٢١
بك الوطنيةُ اعتدلَت وكانت
حديثًا من خرافة أو مَناما٢٢
بنَيتَ قضيةَ الأوطانِ منها
وصيَّرتَ الجلاءَ لها دِعاما٢٣
هزَزتَ بني الزمانِ به صبيًّا
ورُعتَ به بني الدنيا غلاما
١  نظمها صاحب الديوان بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المرحوم مصطفى كامل باشا، وقد تناول فيها وصف ما أصاب البلاد في سنة ١٩٢٤م من انقسام وتشاحن وتناحر، وأشار إلى تصريح ٢٨ فبراير وموقف بعض الزعماء حِيالَه، ثم انتقل من ذلك إلى ذكرى فقيدِ البلاد المرحوم مصطفى كامل فوفَّاه حقه، واستطرد من ذلك إلى البحث فيما تحتاج إليه البلاد من وسائل الإصلاح.
٢  الكلام (بكسر الكاف): الجروح.
٣  الضمام: ما ضممت به شيئًا آخر. والسرطان: ورمٌ سوداوي تظهر عليه عروقٌ حمر وخضر متشعِّبة.
٤  ركبنا الصمت: أي وجدناه خيرًا. وقدنا الكلام: استرسلنا فيه.
٥  التلاحي: التلاعن والتلاوم.
٦  المارن: الأنف، أو ما لان منه، والمراد بمارن الدنيا ذروتها وأعلاها.
٧  البراح: الصراح. والتصريح: تصريح ٢٨ فبراير، يشير إلى موقف بعض الزعماء منه.
٨  السمام: جمع سم. والترياق: ما يدفع السموم من الدواء.
٩  أي تلفظه الأفواه ولا تحسُّ به القلوب.
١٠  تهادى: تمايل على الأعناق.
١١  زمام القوم: مقدَّمهم وصاحب أمرهم.
١٢  قسُّ: هو قسُّ بن ساعدة الإيادي، ويُضرَب به المَثل في بلاغة الخطباء، ويُروى عنه أنه كان يخطب الناس في عكاظ وهو على ظهر بعير.
١٣  الأديم: الوجه والصفحة.
١٤  سهرنا عن معلمهم: أي تركنا هذا المعلم ينام، وقمنا نحن على تهذيبهم وإنشائهم.
١٥  المِهار: جمع مهر، والمراد بالمِهار هنا الشباب. والشكيم: جمع شكيمة، وهي من اللجام حديدة تعترض فم الفرس، والمراد بشكيم القيصرية ولجامها قسوة الاحتلال وجبروته.
١٦  الجام: إناء من فضة. والمعنى أنك كنت تغذوهم بما كنت تنشر عليهم من لوائك من ثمر الأدب، وكنت أنا أيضًا أغذوهم بما أُزجي لهم من زهور الشعر والبيان.
١٧  استبقوا الرحيق: تسابقوا إليه. والرحيق: الخمر. والمعتَّق: القديم، وقِدَم الخمر يحسِّنها ويزيد لذة شاربها. وفضضنا الختام: فتحناه.
١٨  الكرم: العنب. وزكا: نما. والمدام: الخمر.
١٩  الرجام: القبور.
٢٠  السورة: الحدة والشدة. وغصَّ بالشيء: اعترض في حلقه فمنعه التنفُّس، والمراد بغصَّة الأعادي غضبهم. والندامى: جمع ندمان، وهو نديم الشَّراب، والمراد بهم الشيعة والأصدقاء.
٢١  البغام: صوت الظبي.
٢٢  خرافة: رجلٌ عذري اختطفته الجن فيما زعموا، ثم رجع إلى قومه، وأخبر بما رأى منها، فكذَّبوه، وأصبح حديثه مثلًا لكلِّ حدثٍ باطل.
٢٣  الدعام: العماد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤