الأسطول العثماني١

هزَّ اللواءَ بعزِّك الإسلامُ
وعنَتْ لقائمِ سيفِك الأيامُ٢
وانقادت الدنيا إليك فحسْبُها
عذرًا قيادٌ أسلسَت وزِمامُ٣
ومشى الزمانُ إلى سريرك تائبًا
خَجِلًا عليه الذُّلُّ والإرغامُ
عرشُ النبيِّ محمدٍ جنَباتُهُ
نورٌ ورَفرَفُه الطَّهورُ غمامُ٤
لمَّا جلستَ سما وعزَّ كأنما
هارونُ وابناه عليه قِيامُ٥
البحرُ محشودُ البوارجِ دونه
والبرُّ تحتَ ظِلالِه آجامُ٦
نَعَمَ الرعيةُ في ذَراكَ، ونضَّرَت
أيامَهم في ظِلِّك الأحكامُ٧
في كلِّ ناحيةٍ وكلِّ قبيلةٍ
عدلٌ وأمنٌ مُورِفٌ ووِئامُ٨
حمل «الصليبُ» إليكَ من فتيانه
جندًا وقاتَلَ دونكَ «الحاخامُ»٩
والدِّينُ ليس برافعٍ مُلكًا إذا
لم يَبدُ للدنيا عليه نظامُ
باللهِ قد دان الجميعُ وشأنُهم
باللهِ ثم بعرشِك استعصامُ١٠

•••

يا ابنَ الذين إذا الحروبُ تتابعت
صلَّوا على حدِّ السيوفِ وصامُوا١١
المُظهِرينَ لنورِ «بدرٍ» بعدما
خِيفَ المحاقُ عليه والإظلامُ١٢
عشرون خاقانًا نمَوك وعَشرةٌ
غرُّ الفتوحِ خلائفٌ أعلامُ١٣
نسبٌ إذا ذُكِر الملوكُ فإنه
لِرَفيعِ أنسابِ الملوكِ سنامُ١٤
لا تحفلنَّ من الجِراحِ بقيةً
إن البقيةَ في غدٍ تلتامُ١٥
جرَت النحوسُ لغايةٍ فتبدَّلَت
ولكلِّ شيءٍ غايةٌ وتمامُ
تعِبَت بأُمَّتِك الخطوبُ فأقصرَت
والدهرُ يُقصِر والخطوبُ تنامُ١٦
لبثَت تنُوشُهم الحوادثُ حقبةً
وتصدُّها الأخلاقُ والأحلامُ١٧
ولقد يُداسُ الذئبُ في فلواته
ويُهابُ بين قيودِه الضِّرغامُ١٨
زِدْهم أميرَ المؤمنين من القُوى
إن القُوى عزٌّ لهم وقِوامُ
المُلكُ والدُّولاتُ ما يَبني القنا
والعِلمُ لا ما تَرفعُ الأحلامُ١٩
والحقُّ ليس، وإن علا، بمُؤيَّدٍ
حتى يُحوِّطَ جانبَيه حسامُ٢٠
خطَّ النبيُّ براحتَيه خندقًا
ومشى يُحيط به قنًا وسِهامُ٢١

•••

يا بربروسُ على ثراكَ تحيةٌ
وعلى سَميِّكَ في البِحارِ سلامُ٢٢
أعَلِمتَ ما أهدى إليك عصابةٌ
غرُّ المآثر من بَنِيك كرامُ٢٣
نشروا حديثَك في البريَّة بعدما
همَّت بطيِّ حديثِك الأيامُ
خصُّوك من أسطولِهم بدعامةٍ
يُبنى عليها ركنُه ويُقامُ٢٤
شمَّاءُ في عُرضِ الخِضَمِّ كأنها
برجٌ بذاتِ الرجعِ ليس يُرامُ٢٥
كانت كبعضِ البارجاتِ فحفَّها
لمَّا تحلَّت باسمِك الإعظامُ
ما مات من نُبلِ الرجال وفضلِهم
يحيا لدى التاريخِ وهْو عِظامُ
يمضي ويُنسى العالَمون وإنما
تبقى السيوفُ وتَخلُدُ الأقلامُ٢٦
وتلاك «طرغودٌ» كما قد كنتُما
جَنبًا لجَنبٍ والعُبابُ ضِرامُ٢٧
أَرسى على بابِ الإمام كأنه
للفُلكِ من فرطِ الجلالِ إمامُ٢٨
جمَعَتكما الأيامُ بعدَ تفرُّقٍ
ما للِّقاءِ وللفراقِ دوامُ
سيشدُّ أزْرَك والشدائدُ جمَّةٌ
ويُعِزُّ نصرَك والخُطوبُ جِسامُ٢٩
ما السُّفْنُ في عددِ الحصى بنوافعٍ
حتى يهزَّ لواءَها مِقدامُ
لمَّا لمحتُكما سكبتُ مدامعي
فرحًا وطال تشوُّفٌ وقِيامُ٣٠
وسألتُ هل من «لؤلؤ» أو «طارقٍ»
في البحرِ تخفقُ فوقَه الأعلامُ٣١

•••

يا معشرَ الإسلامِ في أسطولِكم
عزٌّ لكم ووقايةٌ وسلامُ
جُودوا عليه بمالِكم واقضوا له
ما تُوجِبُ الأعلاقُ والأرحامُ٣٢
لا الهندُ قد كرُمَت ولا مصرٌ سخَت
والغربُ قصَّر عن ندًى والشامُ
سيلُ الممالكِ جارفٌ من شدةٍ
وقُوًى وأنتم في الطريق نِيامُ٣٣
حُبُّ السيادةِ في شمائلِ دينِكم
والجِدُّ رُوحٌ منه والإقدامُ٣٤
والعِلمُ من آياتِه الكبرى إذا
رجعَت إلى آياتِه الأقوامُ٣٥
لو تُقرِئون صِغارَكم تاريخَهُ
عرِفَ البَنونَ المَجدَ كيف يُرامُ
كم واثقٍ بالنفس نهَّاضٍ بها
سادَ البريَّةَ فيه وهْو عِصامُ٣٦
١  كان صاحب الديوان في الآستانة، وشاهد البارجتَين اللتين اشترتهما الدولة العليَّة من ألمانيا، فأخذته هزَّة الطرب، وعزَّ عليه أن يرى المسلمين في أقطار الأرض قاعدين عن إعانة أسطول الدولة، فجرى لسانه بهذه القصيدة.
٢  عنت: خضعت وذلت، والخطاب في هذا البيت والبيتَين بعده للخليفة محمد رشاد.
٣  القياد: ما يُقادُ به، ويُستعمل بمعنى الطاعة. وأسلست: جعلته سلسًا؛ أي سهلًا لينًا. والزمام: مقود البعير.
٤  الجنبات: النواحي، مفردها جنبة. والرفرف: كل ما فضل فثني. والطهور: هو الطاهر في نفسه والمطهِّر غيرها.
٥  سما: ارتفع. وهارون: هو هارون الرشيد الخليفة العباسي. وابناه: هما الأمين والمأمون.
٦  البوارج: سفن القتال الكبيرة، واحدتها بارجة. والآجام: جمع أجم، والأجم جمع أجمة، وهي الشجر الكثير الملتف، والأُسود تتخذها مأوًى لها. والضمير في «دونه» و«ظلاله»: للعرش في البيت المتقدِّم؛ يعني أنه مصون، تحميه سفن القتال المحشودة في البحر، والجيوش المقيمة في البر كأنها الأُسود في آجامها.
٧  نعم الرعية: رفهوا وأخصبوا. والذرا: الملجأ. ونضَّرت أيامهم الأحكام: جعلها ناضرة، والناضرة: الحسنة.
٨  مورف: متَّسِع وممتد.
٩  حمل الصليب … إلخ: يريد أن رعاياك من النصارى واليهود مُخلِصون، يقاتلون من دونك لِما أظللتهم به من العدل والأمن.
١٠  بالله قد دان الجميع: أي آمنوا به. والاستعصام: الاستمساك.
١١  صلوا على حدِّ السيوف وصاموا: أي لزموها كما يلزم المتعبِّد صلاته وصيامه.
١٢  بدر: اسم الغزوة المشهورة في صدر الإسلام؛ سُمِّيت باسم المكان الذي وقعت فيه. والمحاق (مثلث الميم): قيل هو آخر الشهر حيث يُمحَق نور القمر، وقيل هو ثلاثُ ليالٍ من آخره.
١٣  الخاقان: هو كل ملك من الأتراك. ونمَوك: أي رفعوك بالانتساب إليهم. وعشرة غرُّ الفتوح: أي ونماك أيضًا عشرة خواقين، امتازوا بالفتح والتوسُّع في الملك، فاختصُّوا بوصف الفاتحين، فلا يقال هذا الوصف لغيرهم من سلاطين آل عثمان. وخلائف: جمع خليفة.
١٤  السنام: اللحم المرتفع على ظهر البعير.
١٥  لا تحفلن بقية: أي لا تُبالِ بها، فهي ستبرأ وتلتحم. يشير بذلك إلى حوادث كانت تشغل الدولة التركية يومئذٍ.
١٦  أقصرت: أي انتهت وأمسكت عنها.
١٧  تنوشهم: تتناولهم. وتصدُّها: أي تصدُّ الحوادث. والأحلام: العقول.
١٨  الضرغام: الأسد.
١٩  القنا: الرماح. والأحلام هنا: جمع حُلم، وهو ما يراه النائم.
٢٠  يحوط جانبَيه، بواوٍ مشدَّدة: أي يحفظهما ويتعهدهما. والحسام: السيف.
٢١  الخندق: حفير حول أسوار المدينة.
٢٢  بربروس: هو خير الدين بربروس من أبطال العثمانيين، جعلت الحكومة التركية اسمه علمًا لبارجة هي الأولى في الأسطول العثماني.
٢٣  عصابة غرُّ المآثر: هم رجال الحكومة العثمانية الذين أوجدوا البارجة بربروس.
٢٤  الدعامة: عماد البيت.
٢٥  شمَّاء: مرتفعةٌ عظيمة. والخضم: البحر. والبرج: واحد بروج السماء. وذات الرجع: هي السماء. والرجع: المطر بعد المطر.
٢٦  وإنما تبقى السيوف: أي يبقى ما تفعله السيوف، ويخلد ما تسطره الأقلام.
٢٧  تلاك: أي جاء تاليًا لك. وطرغود: هو أيضًا من أبطال البحر العثمانيين، جعلت الحكومة التركيَّة اسمه كذلك علمًا لبارجةٍ أخرى. والعباب: كثرة السيل وارتفاعه، والمراد به هنا كثرة ماء البحر. والضرام: اشتعال النار. والمعنى: أن البارجة التي سُمِّيَت باسم طرغود، هي مع البارجة المُسمَّاة باسمك، فهما في البحر كما كنتما فيه من قبل، حين كانت تشتعل نار القتال فوق عبابه.
٢٨  أرسى: وقف وثبت. والفلك: السفن، يُستعمل للمفرد وللجمع بلفظٍ واحد. وفي البيت إشارة إلى أن مَرسى البارجتَين كان أمام قصر الخليفة.
٢٩  الأزر: الظهر. والجمَّة: الكثيرة. والجسام: العظام، جمع جسيم.
٣٠  سكبت: صببت. والتشوُّف: التطلُّع.
٣١  لؤلؤ: هو حسام الدين لؤلؤ، أمير الأسطول المصري في الحروب الصليبية. وطارق: هو طارق بن زياد بطل الأندلس المشهور.
٣٢  الأعلاق: نفائس الأشياء.
٣٣  جارف: من جرف الشيء؛ ذهب به كله أو أكثره.
٣٤  الجدُّ: الاجتهاد في الأمر. وروح منه: أي من دينكم.
٣٥  والعلم من آياته: أي من آيات الدِّين.
٣٦  النهَّاض: مبالغة من النهوض، وهو القيام. وهو عصام: أي كعصام، وهو رجلٌ شرُف بنفسه وعمله، لا بنسبه وآبائه، حتى قيل فيه «نفس عصام سوَّدَت عصامًا»، فضُرِب به المثل في ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤