روما١

صديقي المحترم

صدرتُ٢ عن باريس وكأنها بابلُ ذات البرج والجسر وهي في دولتها؛ أو طِيبة٣ في الزمن الأول، إلا أنها مدينة الشمس، وباريس مدينة النور؛ أو روما٤ مقرُّ القياصر، ومُزدحم الأجناس والعناصر، وهي في رِفعة مُلْكها الفاخر، تموج بالأمم كالبحر الزاخر؛ أو الإسكندريةُ٥ ذات المسلَّة — والمسلَّة في باريس — وهي في ذروة سعدها وأوج كمالها، تُغير الشمس في سرير مجدها بجلالها وجمالها؛ أو «بغدادُ»٦ في إبَّانِ إقبالها، وسلطان أقيالها، وأيمنِ أمرها، وأسعدِ حالها، فسبحان المُنعِم، أعطى «مدينة المَعرِض» الأسماءَ كلها، وجلَّت قدرته، بعث المدائن في واحدة.
رحلتُ عنها في اليوم الذي أسفر صباحُه عن ليلة الاحتفال بتوزيع الجوائز على العارضين، وقد نالها منهم ستون ألفًا أو يزيدون، كلهم من مشهوري الصُّناع، وكبار المخترعين، شيَّعوا في ذلك جنازة القرن التاسع عشر، ومشى الخلائق فيها حتى دفنَّاه، وكأنه نهارٌ مرَّ أو ليلةٌ تقضَّت بالسَّمر،٧ ثم انقلبنا ننفض الأنامل من ترابه، ونذكر من محاسنه أنه جيلٌ واضح الغُرر والتحجيل،٨ يذكره التاريخ بالتعظيم والتبجيل، قام العلمُ فيه على أمتن بنيان، ورُفِعت الحُجب بين الحقائق والإنسان، ضُربت له أطولُ سماء من ضروب العرفان، واستمدَّ من القادر٩ مبالغ الإمكان، فاقتاد البَرَّ بشعرة، وزمَّ البحر بإبرة،١٠ وفرَق١١ الأرض وبلغ الجبال، وأوشك أن يمدَّ إلى السماء بحبال، ونفذَ على النجم المدى، ووجد على القطب هدًى، وغاص على الحروب الماء، وركب إلى الوقائع الهواء، وكسر شِرَّة الداءِ١٢ وقتل قتَّاله وراضَ العياء، ودخل بصره على الجسم الأحشاء، وأنطق الآلة الصمَّاء، ونقل الحديث من فضاءٍ إلى فضاء، على انقطاع الصلَّة بين النطق والإصغاء، وحرَّك الصُّوَر وهي هباء، إذا رأيتها حسبتها جماعة الأحياء، ونال سرائر الحوباء،١٣ وخاض في الطبائع١٤ والأهواء، فانكشف له الغِطاء وبرح الخفاء،١٥ ونثرَ فكاد يُوحى إليه في الإنشاء، ونظم فلم يدَعْ من آية في الأرض ولا في السماء.
كل هذا أيها الأستاذ عرضَته «باريسُ» للناس في خيرِ مَعرِض أُخرِج لهم، فواهًا١٦ له من سوق ثم ينفضُّ، ويا أسفًا على بنيانه يومَ ينقضُّ.
برحتُها وهي تجرُّ الذيلَ على المدائن الكُبَر،١٧ وتُزري بالحضارات ما حضر منها وما غبر،١٨ وقصدت إلى روما لعلِّي أردُّ النفس إلى الخشوع، وأداوي الفؤاد من نشوة اغتراره بما رأى، فبلغتها وإذا أنا بين أثر يكاد يتكلَّم وحجرٍ كاد لكرامته يُستلَم،١٩ فوقفتُ أتأمل ذا الجدارَ وذا الجدار،٢٠ وأنشُد٢١ ذلك القصر وتلك الدار، إلى أن ثار الشِّعر — والشعر ابن أبوَين: «التاريخ والطبيعة» — فنظمت، وكأني بها في يدَيك تقرأ.

أحَبُّ التوفيق إليَّ — أيها الأستاذ — إكرام العالِم وإجلال الصديق، وأنت لي — بحمد الله — هذان كلاهما، فهل تمنُّ بقبول هدية هي إلى التاريخ أدنى منها إلى الشعر؟

قِفْ بروما وشاهِدِ الأمرَ واشهَدْ
أن للمُلكِ مالكًا سبحانَهْ
دولةٌ في الثرى وأنقاضُ مُلكٍ
هدَمَ الدهرُ في العُلا بُنيانَهْ٢٢
مزَّقَت تاجَه الخطوبُ وألقَت
في الترابِ الذي أرى صولجانَهْ٢٣
طللٌ عندَ دِمنةٍ عندَ رسمٍ
ككتابٍ مَحا البِلى عُنوانَهْ٢٤
وتماثيلُ كالحقائقِ، تزدا
دُ وضوحًا على المدى وإبانة٢٥
مَن رآها يقولُ هذي ملوكُ الدَّ
هرِ هذا وقارُهم والرزانة٢٦
وبقايا هياكلٍ وقصورٍ
بينَ أخذِ البِلى ودفعِ المتانَة٢٧
عبثَ الدهرُ بالحواريِّ فيها
وﺑ «يليوس» لم يهَبْ أرجوانَهْ٢٨
وجرَت ها هنا أمورٌ كبارٌ
واصَلَ الدهرُ بعدها جَرَيانَهْ
راحَ دينٌ وجاءَ دينٌ وولَّى
مُلكُ قومٍ وحلَّ مُلكٌ مكانَهْ٢٩
والذي حصَّلَ المُجدُّون إهرا
قُ دماءٍ خليقةٍ بالصيانَة٣٠
ليتَ شعري إلامَ يقتتل النا
سُ على ذي الدَّنِيَّةِ الفتَّانَة٣١
بلدٌ كان للنصارى قتادًا
صار مُلكَ القُسوس عرشَ الديانَة٣٢
وشعوبٌ يمحون آيةَ عيسى
ثم يُعلُون في البرِيَّةِ شانَهْ
ويُهينون صاحبَ الروح ميْتًا
ويُعِزُّون بعدَه أكفانَهْ٣٣
عالَمٌ قُلَّبٌ وأحلامُ خَلْقٍ
تتبارى غباوةً وفطانَة٣٤
رومةَ الزهوِ في الشرائعِ والحكـ
ـمة في الحُكمِ والهوى والمجانَة٣٥
والتناهي فما تعدَّى عزيزًا
فيكِ عِزٌّ ولا مَهينًا مهانَة٣٦
ما لحيٍّ لم يُمسِ منكِ قبيلٌ
أو بلادٌ يُعدُّها أوطانَهْ٣٧
يصبحُ الناسُ فيك مولًى وعبدًا
ويرى عبدُكِ الورى غِلمانَهْ٣٨
أين مُلكٌ في الشرقِ والغربِ عالٍ
تحسُدُ الشمسُ في الضحى سلطانَهْ٣٩
قادرٌ يمسخُ الممالكَ أعما
لًا ويُعطي وَسِيعَها أعوانَهْ٤٠
أين مالٌ جَبَيتِه ورعايا
كلُّهم خازنٌ وأنتِ الخِزانَة٤١
أين أشرافُكِ الذين طغَوا في الدَّ
هرِ حتى أذاقهم طغيانَهْ٤٢
أين قاضيكِ ما أناخ عليه
أين ناديكِ ما دَهى شِيخانَهْ٤٣
قد رأينا عليكِ آثارَ حزنٍ
ومن الدُّورِ ما ترى أحزانَهْ
أقْصِري واسألي عن الدهرِ مصرًا
هل قضَت مرَّتَين منه اللُّبانَة٤٤
إنَّ مَن فرَّقَ العِبادَ شعوبًا
جعلَ القِسطَ بينها ميزانَهْ٤٥
هبْكِ أفنيتِ بالحدادِ الليالي
لن تَرُدِّي على الورى رومانَهْ٤٦
١  نظم صاحب الديوان هذه القصيدة، وقدَّمها بكتاب إلى صديقه المؤرِّخ الأستاذ إسماعيل بك رأفت.
٢  صدرت عن باريس: رجعت وانصرفت. وبابل: مدينةٌ قديمة بناها «بختنصر» في آسيا الصغرى، وكان بها بِناءٌ عظيم ذو طبقات بعضها فوق بعض، وهو ما يُسمَّى برجًا، وقالوا في صفته إنه كان ذا طبقات، طول كل من جوانب الطبقة الأولى بلغ ٢٧٢ قدمًا وارتفاعها ٢٦ قدمًا، وفوقها طبقةٌ ثانية طولُ كل من جوانبها ٢٣٠ قدمًا وارتفاعها ٢٦ قدمًا، كانت مائلة فوق الطبقة الأولى إلى الطرف الجنوبي الغربي، وكانت الطبقات الباقية موضوعة هذا الوضع، وكان طول الثالثة ١٨٨ قدمًا وارتفاعها ٢٦ قدمًا، وكان طول الرابعة ١٤٦، والخامسة ١٠٤، والسادسة ٦٢، والسابعة ٢٠، وكان ارتفاع كل من هذه الطبقات الأربع الأخيرة ١٥ قدمًا. ويقولون إنه كانت هناك قنطرة أو قبة تغطِّي رأس الطبقة السابعة أو معظمه، وكان ارتفاعها ١٥ قدمًا أيضًا، وكان يتألف من ذلك كله هرمٌ مُنحنٍ، أضعف ميله إلى الشمال الشرقي، وأشده إلى الجنوب الغربي، وكان لكل طبقة لونٌ مخصوص، ويزعمون أنه كان فوق هذا كله مذبحٌ فيه مائدةٌ ذهبية وفراشٌ نفيس، وكان ارتفاعه ١٥ قدمًا. وأما جسر بابل فيذكرون عنه أنه كان هناك نهر يشقُّ المدينة من الشمال إلى الجنوب، وكان على كل من جانبَي النهر سورٌ له باب عند منتهى كل سوق من أسواق المدينة، وكان فوق هذا النهر جسرٌ واحد، هو الجسر المنسوب إلى بابل. ويذكرون لها عجائب أخرى، كالبساتين المعلقة وسواها.
٣  طيبة: مدينةٌ مصريةٌ قديمة كانت مقرَّ الملك في بعض الأزمنة، وكانت بها عبادة الشمس؛ ولهذا سمَّاها مدينة الشمس.
٤  روما: عاصمة الدولة الإيطالية في هذا الزمن، وكانت مقرَّ مُلك الرومان في الزمن القديم. والقياصر: جمع قيصر، وهو لقب لكل ملك من ملوك الروم.
٥  الإسكندرية: المدينة الثانية في الدولة المصرية، مشهورة في التاريخ القديم بمسلاتها العجيبة، والمسلَّة التي في باريس نقلها الفرنسيون حين أغاروا على البلاد المصرية منذ نحو قرن.
٦  بغداد: عاصمة العراق العربي، كانت مقرَّ ملك الدولة العباسية. وسلطان أقيالها: قوَّة ملوكها. وأيمن أمرها: أي أتم أمرها يُمنًا وبركة.
٧  السمر: حديث الليل.
٨  الغرر: جمع غُرة، وهي بياضٌ قدرَ الدرهم في جبهة الفرس. والتحجيل: بياض في قوائم الفرس أيضًا.
٩  القادر: اسم من أسماء الله تعالى.
١٠  زمَّ البحر: من قولهم زمَّ الشيء، إذا شدَّه وجمعه.
١١  فرق الأرض، بتخفيف الراء: فصلها وأبان مسالكها.
١٢  الداء العياء: الذي لا برء منه.
١٣  السرائر: جمع سريرة، وهي السرُّ الذي يُكتَم. والحوباء: النفس.
١٤  الطبائع: جمع طبيعة، وهي السجيَّة التي جُبِل عليها الإنسان، وقيل هي القوة السارية في الأجسام التي بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي.
١٥  برح الخفاء: أي وضح.
١٦  واهًا: كلمة للتعجُّب من طيب كل شيء؛ أي ما أطيَبَه، وتكون للتلهُّف وللتفجُّع أيضًا، يقال: واهًا على ما فات.
١٧  الكبر: جمع كبرى.
١٨  تُزري: تضع منها أو تصغِّر شأنها. وما غبر: ما مضى.
١٩  استلم الحجر: لمسه بالقُبلة أو باليد.
٢٠  الجدار: الحائط.
٢١  أنشُد ذلك القصر … إلخ: أسأل عنه أو أطلبه.
٢٢  الثرى: التراب. والأنقاض: جمع نقض، بضم النون، وهي ما انتقض من البنيان. والعلا: الرفعة والشرف.
٢٣  الصولجان: هو المحجن، وهو عصًا منعطفة الرأس.
٢٤  الطلل: ما شخص من آثار. والدمنة: آثار الدِّيار أيضًا. والرسم: ما كان لاصقًا بالأرض من آثار الدار.
٢٥  تماثيل: جمع تمثال، بكسر التاء. والإبانة: الإيضاح.
٢٦  الوقار والرزانة: بمعنًى واحد، وهو الحِلم والعظمة.
٢٧  هياكل: جمع هيكل، وهو هنا إما البناء المرتفع، وإما بيت الأصنام.
٢٨  الحواري: الناصر، والناصح أيضًا. ويليوس: هو يليوس قيصر أحد قياصرة الرومان الأقدمين. والأرجوان: صبغٌ أحمر، وقيل هو الحمرة من الألوان، والمراد به هنا الدمُ لحمرته، كناية عن القوَّة التي يستحلُّ صاحبها سفك الدماء.
٢٩  راح دين: ذهب، وهو دين الرومان قبل النصرانية. وجاء دين: وهو النصرانية. وولَّى ملك الرومان الأقدمين، وحلَّ مكانه ملكُ الغالبين بعد ذلك التاريخ.
٣٠  والذي حصَّل المجدُّون … إلخ: أي إن أولئك الذين سعوا بالحرب والقتال ليُحلُّوا في روما دينًا بدل دين، ويقيموا ملكًا جديدًا على أنقاض ملك ذاهب، لم يجنوا من ذلك كله ثمرة إلا إراقة دماء البشر التي تستحق الصيانة والحفظ.
٣١  الدنيَّة الفتَّانة: هي الدنيا.
٣٢  القتاد: شجرٌ صلب له شوك كالإبر، والمراد أن وصولهم إليه كان صعبًا شاقًّا كالمشقَّة التي يجدها الإنسان من القتاد في خرطه وإشاكته.
٣٣  المعنى في هذا البيت والبيت الذي قبله أنهم يخالفون شريعة عيسى، بينما يدَّعون تعظيمه.
٣٤  القلَّب، بتشديد اللام: المحتل.
٣٥  الزهو: المنظر الحسن والكبر والتيه والفخر. والمجانة: الهزل.
٣٦  التناهي: بلوغ النهاية. فما تعدى عزيزًا … إلخ: أي إنك بلغت النهاية في كل شيء، فمَن كان فيك عزيزًا لم يفُته شيء من أسباب العز، ومَن كان مهينًا لم يفُته شيء من موجبات المهانة.
٣٧  أي لم يكن لغير أهلك عشيرة يعتزُّون بها، ولا بلاد يتَّخذونها وطنًا يلجئون إليه؛ لأنك أسقطت العشائر والعصبيات، وغلبت الجميع على أوطانهم.
٣٨  يصبح الناس فيك … إلخ: يعني أن أهلك كانوا سادة وعبيدًا، وكان للعبيد على الأجانب عزُّ السادة وسلطانهم.
٣٩  سلطانه: قوَّته.
٤٠  قادر: وصف للملك في البيت المتقدِّم. ويمسخ الممالك أعمالًا: أي يحولها أعمالًا، والأعمال ما يكون من البلاد تحت حكم المملكة ومضافًا إليها.
٤١  جبيته: جمعته.
٤٢  الأشراف: جمع شريف، وكان في روما لعهدها القديم طائفة الأشراف تسوَّدت على مَن عداها؛ ونشأ بذلك في الشعب فريقان منفصلان، هما فريق السادة المسيطرين، وفريق العامة المسخَّرين.
٤٣  أين ناديك: المراد به دار ندوة الرومان، وكانت هي ما نُسمِّيه الآن في النُّظم الدستورية مجلس الشيوخ. وما دهى: ما أصاب. وشيخانه: جمع شيخ، وهو الرجل تتألف منه ومن سواه جماعة المجلس.
٤٤  أقصري: أي انتهي عند هذا الحد، وأمسكي عن الاسترسال. واللبانة: الحاجة.
٤٥  القسط: العدل.
٤٦  هبكِ: اسم فعل؛ أي افرضي أنك أفنيت … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤