الدستور العثماني

بشرى البرِيَّةِ قاصيها ودانيها
حاطَ الخلافةَ بالدستورِ حاميها١
لمَّا رآها بلا ركنٍ تَدارَكَها
بعدَ «الخليفةِ» بالشورى وناديها٢
وبالأبيِّينَ من قومٍ أماتَهمُ
بُعدُ الديارِ وأحياهم تَدانِيها٣
حَنُّوا إليها كما حنَّت لهم زمنًا
وأوشك البَينُ يُبلِيهم ويُبلِيها٤
مُشتَّتين على الغبراء تحسبُهم
رحَّالةَ البَدوِ هاموا في فيافيها٥
لا يقربُ اليأسُ في البأساءِ أنفُسَهم
والنفسُ إن قنطَت فاليأسُ مُردِيها٦

•••

أسدى إلينا «أميرُ المؤمنين» يدًا
جلَّت كما جلَّ في الأملاكِ مُسدِيها٧
بيضاءَ ما شابَها للأبرياءِ دمٌ
ولا تكدَّرَ بالآثامِ صافيها٨
وليس مُستعظَمًا فضلٌ ولا كرمٌ
من صاحبِ «السكة الكبرى» ومُنشِيها٩
إن الندى والرضا فيه وأُسرتِهِ
واللهُ للخير هاديه وهاديها
قومٌ على الحُبِّ والإخلاص قد ملكوا
وحسْبُ نفسِك إخلاصٌ يُزكِّيها١٠
إذا الخلائفُ من بيتِ الهدى حُمِدَت
أعلى الخواقينَ منْ عثمانَ ماضيها١١
خلافةُ اللهِ في أحضانِ دولتِهم
شابَ الزمانُ وما شابت نواصيها
دروعُها تحتمي في النائباتِ بهم
من رمحِ طاعنِها أو سهمِ راميها

•••

الرأيُ رأيُ «أمير المؤمنين» إذا
حارت رجالٌ وضلَّت في مرائيها١٢
وإنما هي شُورى اللهِ جاءَ بها
كتابُه الحقُّ يُعلِيها ويُغلِيها
حقنتَ عندَ مناداةِ الجيوشِ بها
دمَ البرِيَّةِ إرضاءً لباريها١٣
ولو منعتَ أُريقَت للعِباد دِمًا
وطاحَ من مُهَجِ الأجنادِ غاليها١٤
ومَن يسُسْ دولةً قد سُستَها زمنًا
تهُنْ عليه من الدنيا عواديها١٥
أتى ثلاثون حوْلًا لم تذُقْ سِنةً
ولا استخفَّكَ للَّذَّاتِ داعيها
مُسَهَّدَ الجفنِ مكدودَ الفؤادِ بما
يُضنِي القلوبَ شجيَّ النفسِ عانيها١٦
تكادُ من صُحبةِ الدنيا وخِبرتِها
تُسيءُ ظنَّك بالدنيا وما فيها

•••

أما ترى المُلكَ في عُرسٍ وفي فرحٍ
بدولةِ الرأي والشورى وأهليها
لمَّا استعدَّ لها الأقوامُ جئتَ بها
كالماءِ عند غليلِ النفسِ صاديها١٧
فضلٌ لِذَاتك في أعناقِها ويدٌ
عندَ الرعيَّةِ من أسْنَى أياديها١٨
خلافةُ اللهِ جرَّ الذيلَ حاضرُها
بما منحتَ وهزَّ العِطفَ باديها١٩
طارت قناها سرورًا عن مراكزِها
وألقَت الغِمدَ إعجابًا مَواضيها٢٠
هبَّ النسيمُ على «مقدونيا» برَدًا
من بعدما عصفَت جمرًا سوافيها٢١
تَغلي بساكنِها ضِغنًا ونائرةً
على الصدورِ إذ ثارت دواعيها٢٢
عاثت عصائبُ فيها كالذئابِ عدَت
على الأقاطيعِ لمَّا نام راعيها٢٣
خَلا لها من رُسومِ الحُكمِ دارسُها
وغَرَّها من طُلولِ المُلكِ باليها٢٤
فسامَرَ الشرَّ في الأجيالِ رائحُها
وصبَّحَ السهلَ بالعدوانِ غاديها٢٥
مظلومةٌ في جوارِ الخوفِ ظالمةٌ
والنفسُ مُؤذِيةٌ مَن راحَ يُؤذِيها
رثَت لها وبكَت من رقَّةٍ دُوَلٌ
كالبُومِ يبكي رُبوعًا عزَّ باكيها٢٦
أعلامُ مملكةٍ في الغرب خافقةٌ
لآلِ عثمانَ كادَ الدهرُ يطويها
لمَّا مُلِئنا قنوطًا من سلامتها
توثَّبَت أُسُدُ الآجامِ تحميها٢٧
من كلِّ مُستبسِلٍ يرمي بمُهجتِهِ
في الهَولِ إن هي جاشت لا يُراعيها٢٨
كأنها وسلامُ المُلكِ يطلبها
أمانةٌ عندَ ذي عهدٍ يُؤدِّيها

•••

الدينُ لله مَن شاءَ الإلهُ هَدَى
لكلِّ نفسٍ هوًى في الدين داعيها
ما كان مُختِلفُ الأديانِ داعيةً
إلى اختلافِ البرايا أو تَعاديها
الكُتْبُ والرُّسْلُ والأديانُ قاطبةً
خزائنُ الحكمةِ الكبرى لِواعيها
محبَّةُ اللهِ أصلٌ في مَراشدِها
وخشيةُ اللهِ أُسٌّ في مَبانيها٢٩
وكلُّ خيرٍ يُلقَّى في أوامرها
وكلُّ شرٍّ يُوقَّى في نواهيها
تسامُحُ النفسِ معنًى من مروءتِها
بل المروءَةُ في أسمى معانيها
تخلَّقِ الصفحَ تسعَدْ في الحياةِ به
فالنفسُ يُسعِدُها خُلْقٌ ويُشقِيها٣٠
اللهُ يعلَمُ ما نفسي بجاهلةٍ
مَن أهلُ خِلَّتِها ممَّن يُعاديها٣١
لئن غدوتُ إلى الإحسانِ أصرفُها
فإن ذلك أجْرَى من مَعاليها
والنفسُ إن كبرَت رقَّت لحاسدِها
واستغفرَت كرمًا منها لشانيها٣٢

•••

يا شعبَ عثمانَ من تُركٍ ومن عربٍ
حيَّاكَ مَن يبعثُ الموتى ويُحيِيها
صبرتَ للحقِّ حينَ النفسُ جازعةٌ
واللهُ بالصبر عندَ الحقِّ مُوصِيها
نِلتَ الذي لم ينَله بالقنا أحدٌ
فاهتِفْ ﻟ «أنورها» واحمدْ «نيازيها»٣٣
ما بين آمالِكَ اللائي ظفِرتَ بها
وبينَ «مصرَ» مَعانٍ أنت تدريها
١  حاط الخلافة: حفظها وتعهَّدها. وحاميها: هو الله تعالى.
٢  الشورى: التشاور في الأمر، والمراد الرجوع في الحكم إلى رأي الأمة.
٣  الأبيُّون: جمع أبيٍّ، من الإباء وهو الكبر والنخوة.
٤  البين: الفُرقة.
٥  البدو: الصحراء. ورحَّالة البدو: أي الرحالة من أهل البدو. وهاموا: ذهبوا لا يدرون أين يتوجهون. والفيافي: جمع فيفاء، وهي المكان المستوي، أو المفازة لا ماء فيها.
٦  اليأس: أن يقطع الإنسان أمله من الشيء، وهو القنوط أيضًا.
٧  أسدى: أحسنَ. وأمير المؤمنين: هو السلطان عبد الحميد. واليدُ: النعمة، والمراد الدستور. وجلَّت: عظمت. والأملاك: الملوك.
٨  بيضاء … إلخ: وذلك أنه لم تكَد أمة تستخلص الحكم من الملك المستبِد به وتُعيده إلى رأيها، إلا بعد حرب تقع بينه وبينها، ولكن السلطان عبد الحميد لم يكد يعلم أن الجيوش زاحفة لتستخلص الحكم الشوري حتى رضِيه وأقرَّه، فلم تقع يومئذٍ حرب ولا أُريقَت دماء، وإن كانت قد حدثت بعد ذلك فتنة أُريدَ بها إرجاع الاستبداد، وانتهت بخلع السلطان.
٩  السكة الكبرى: هي السكة الحديدة الحجازية، وقد أنشأتها الدولة في أيامه.
١٠  يزكِّيها: يطهِّرها.
١١  الخلائف: جمع خليفة. وبيت الهدى: هو بيت النبوة. والخواقين: جمع خاقان، وهو اسم لكل ملك من التُّرك. وعثمان: هو مؤسس الدولة التركية.
١٢  المرائي: الآراء، جمع مَرأًى.
١٣  حقنت دم البرية: منعته أن يُسفَك. والبرية: الخلق. والباري: الخالق.
١٤  أريقت: من أراق الماء، صبَّه. والدِّما: جمع دم. وطاح: هلك. والمهج: الأرواح. والأجناد: العسكر، جمع جند.
١٥  عواديها: جمع عادية، من عدا عليه؛ ظلمه؛ أي العوادي التي تصيبه منها.
١٦  مسهَّد الجفن: من سهَّده، بالتشديد، جعله يسهد؛ أي لا ينام. ومكدود الفؤاد: مُتعَبه. ويضني القلوب: يثقلها. وشجي النفس: مشغولها. والعاني: الأسير.
١٧  الغليل: شدة العطش. وغليل النفس: أي مغلولها، من غُلَّ الرجل، بضم الغين، اشتدَّ عطشه. والصادي: الشديد العطش أيضًا.
١٨  اليدُ هنا: النعمة.
١٩  الحاضر: المُقيم في الحضر. والبادي: المُقيم في البادية.
٢٠  مراكزها: جمع مركز، من ركز القناة، إذا غرزها في الأرض. والغمد: جفن السيف. والمواضي: السيوف.
٢١  مقدونيا: هي إقليم البلقان، من تركية أوروبا. والبرد: حَبُّ الغمام. والعصف: اشتداد الريح. والسوافي: الرياح تُذري التراب، جمع سافية.
٢٢  تغلي: أي مقدونيا. والضغن: الحقد. والنائرة: يقال نارت في الناس نائرة؛ أي هاجت هائجة. ودواعي الصدور: همومها.
٢٣  عانت: أفسدت. والعصائب: جمع عصابة، وهي الجماعة من الرجال، قيل العشرة، وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين. عدت: وثبت. والأقاطيع: جمع قطيع، وهو الطائفة من الغنم.
٢٤  الرسم الدارس: العافي القديم. والطلول: جمع طلل، وهو ما شخص من آثار الديار.
٢٥  فسامر الشرَّ: من المسامرة، وهي الحديث ليلًا. وصبَّح، بتشديد الباء: أتاه صباحًا.
٢٦  رثت لها: رحمتها. وهذا البيت والأبيات قبله وصف لحالة مقدونيا؛ وذلك أن دول أوروبا كانت دائمًا تدبِّر المكايد للدولة التركية، وكانت تجد مقدونيا أصلح مكان لمكايدها؛ لِما بين أهلها من اختلافٍ كثير في الجنس والدين واللغة، وكانت الدولة العليَّة لا تكاد تُطفئ فتنة في ناحية منها حتى تشبَّ فتنة في ناحية أخرى، وكُلَّما كانت تتذرع بالقوة وإظهار الحزم في القضاء على أصحاب الثورات كان يشتدُّ خوف الناس في هذا الإقليم.
٢٧  يريد بأسد الآجام: رجال الجيش الذين طلبوا من السلطان عبد الحميد إعلان الدستور فأذعن لهم.
٢٨  المستبسل: المستقتل. والمهجة: الروح. والهول: الخوف من الأمر لا يدري ما يهجم عليه منه. وجاشت: اضطربت.
٢٩  المراشد: مقاصد الطُّرق.
٣٠  تخلَّق الصفح: أي اجعله خُلقًا لك. والصفح: الإعراض عن ذنوب الغير.
٣١  الخِلَّة (بكسر الخاء): المُصادَقة والإخاء.
٣٢  شانيها: مُبغِضها.
٣٣  القنا: الرماح، جمع قناة. وأنور ونيازي: هما بطلا الدستور العثماني المشهوران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤