حافظ إبراهيم١

قد كنتُ أُوثِرُ أن تقولَ رِثائي
يا مُنصِفَ المَوتى من الأحياءِ
لكنْ سبَقتَ وكلُّ طولِ سلامةٍ
قدرٌ وكلُّ مَنيَّةٍ بقضاءِ
الحقُّ نادى فاستجبتَ ولم تزَل
بالحقِّ تحفِلُ عندَ كلِّ نِداءِ
وأتيتَ صحراءَ الإمامِ تذوبُ من
طُولِ الحنينِ لساكنِ الصحراءِ٢
فلقيتَ في الدار الإمامَ محمدًا
في زُمرةِ الأبرارِ والحُنفاءِ٣
أثرُ النعيمِ على كريمِ جبينه
ومَراشدُ التفسيرِ والإفتاءِ
فشكَوتُما الشَّوقَ القديمَ وذُقتُما
طِيبَ التداني بعدَ طولِ تنائي
إن كانت الأُولى مَنازلَ فُرقةٍ
فالسَّمحةُ الأخرى ديارُ لِقاءِ٤
وودِدتُ لو أني فِداكَ من الرَّدى
والكاذبون المُرجِفونَ فِدائي
الناطقونَ عن الضَّغينةِ والهوى
المُوغِرُو المَوتى على الأحياءِ
من كل هدَّامٍ ويَبني مَجدَهُ
بكرائمِ الأنقاضِ والأشلاءِ
ما حطَّموكَ وإنما بك حُطِّموا
من ذا يُحطِّم رَفرفَ الجوزاءِ٥
انظر فأنت كأمسِ شأنُك باذخٌ
في الشرقِ واسمُك أرفَعُ الأسماءِ
بالأمسِ قد حلَّيتَني بقصيدةٍ
غرَّاءَ تُحفَظُ كاليدِ البيضاءِ٦
غِيظَ الحَسودُ لها وقمتُ بشكرها
وكما علِمتَ مَودَّتي ووفائي
في مَحفلٍ بشَّرتُ آمالي به
لمَّا رفعتَ إلى السماءِ لِوائي
يا مانحَ السُّودانِ شرْخَ شبابِهِ
ووليَّه في السِّلمِ والهَيجاءِ
لمَّا نزلتَ على خمائلِه ثوى
نبْعُ البيانِ وراءَ نبْعِ الماءِ
قلَّدتَه السيفَ الحُسامَ وزِدتَهُ
قلمًا كصدرِ الصَّعدةِ السمراءِ٧
قلمٌ جرى الحِقبَ الطِّوالَ فما جرى
يومًا بفاحشةٍ ولا بهِجاءِ٨
يكسو بمِدحتِه الكِرامَ جلالةً
ويُشيِّعُ المَوتى بحُسنِ ثَناءِ

•••

إسكَندَريَّةُ يا عروسَ الماءِ
وخميلةَ الحكماءِ والشعراءِ٩
نشأتْ بشاطئِكِ الفنونُ جميلةً
وترعرعَت بسمائِك الزهراءِ
جاءتْكِ كالطيرِ الكريمِ غرائبًا
فجمَعتِها كالرَّبوةِ الغنَّاءِ
قد جمَّلوكِ فصِرتِ زنبَقةَ الثَّرى
للوافدين ودُرَّةَ الدَّأماءِ
غرَسوا رُباكِ على خمائلِ بابلٍ
وبنَوا قصورَك في سَنا الحمراءِ١٠
واستحدَثوا طُرُقًا مُنوَّرةَ الهدى
كسبيلِ عيسى في فِجاجِ الماءِ١١
فخُذي كأمسِ من الثقافة زينةً
وتجمَّلي بشبابِكِ النُّجَباءِ
وتقلَّدي لغةَ الكتابِ فإنَّها
حَجرُ البِناءِ وعُدَّةُ الإنشاءِ
بنَتِ الحضارةَ مرتَين ومهَّدَت
للمُلكِ في بغدادَ والفَيحاءِ
وسمَت بقرطبةٍ ومصرَ فحلَّتا
بينَ الممالكِ ذِروةَ العَلياءِ١٢
ماذا حشدتِ من الدموع ﻟ «حافظٍ»
وذخرتِ من حزنٍ له وبُكاءِ
ووجدتِ من وقعِ البلاءِ بفقدِهِ
إِن البلاءَ مَصارِعُ العظماءِ
اللهُ يشهدُ قد وفَيتِ سخيَّةً
بالدمعِ غيرَ بخيلةِ الخطباءِ
وأخذتِ قِسطًا من مناحةِ ماجدٍ
جمِّ المآثرِ طيِّبِ الأنباءِ
هتف الرُّواةُ الحاضرون بشِعرِهِ
وحدا به البادون في البَيداءِ١٣
لُبنانُ يَبكيه وتبكي الضادُ من
حلَبٍ إلى الفَيحا إلى صَنعاءِ
عربُ الوفاءِ وفَوا بذمةِ شاعرٍ
باني الصفوفِ مُؤلِّفِ الأجزاءِ
يا حافظَ الفصحى وحارسَ مَجدِها
وإمامَ من نجَلَت من البُلغاءِ١٤
ما زِلتَ تهتفُ بالقديمِ وفضلِهِ
حتى حمَيتَ أمانةَ القُدماءِ
جدَّدتَ أُسلوبَ «الوليدِ» ولفظَهُ
وأتَيتَ للدنيا بسِحرِ «الطائي»١٥
وجرَيتَ في طلبِ الجديدِ إِلى المَدى
حتى اقترنتَ بصاحبِ البُؤساءِ١٦
ماذا وراءَ الموتِ من سَلوى ومن
دعةٍ ومن كَرمٍ ومن إغضاءِ
اشرحْ حقائقَ ما رأيت ولم تزَل
أهلًا لشرحِ حقائقِ الأشياءِ
رُتَبُ الشجاعةِ في الرجالِ جلائلٌ
وأجلُّهنَّ شجاعةُ الآراءِ
كم ضِقتَ ذَرعًا بالحياةِ وكَيدِها
وهتفتَ بالشكوى من الضرَّاءِ
فهلُمَّ فارِقْ يأسَ نفسِك ساعةً
واطلُعْ على الوادي شُعاعَ رجاءِ
وأَشِرْ إِلى الدنيا بوجهٍ ضاحكٍ
خُلِقَت أسِرَّتُه من السرَّاءِ
يا طالما ملأ النديَّ بشاشةً
وهدى إليك حوائجَ الفقراءِ
اليومَ هادنتَ الحوادثَ فاطَّرِح
عِبءَ السنينَ وألقِ عِبءَ الداءِ
خلَّفتَ في الدنيا بيانًا خالدًا
وتركتَ أجيالًا من الأبناءِ
وغدًا سيذكُرك الزمانُ ولم يزَل
للدهرِ إنصافٌ وحُسنُ جزاءِ
١  هو المرحوم محمد حافظ إبراهيم بك، شاعرٌ سبَّاق معدود في الطليعة، وكان يُلقَّب بشاعر النيل. توفي سنة ١٩٣٢م، فرثاه أمير الشعراء شوقي بك بهذه القصيدة، التي يُنبئ مطلعها عن مبلغ تقديره لصاحبه ووفائه له.
٢  صحراء الإمام: المقبرة التي دُفِن بها، وهذه الصحراء تُنسَب للإمام الشافعي لوقوع ضريحه — رضي الله عنه — في نطاقها.
٣  الإمام: هو المرحوم الشيخ محمد عبده العالم الديني الكبير، وقد اشتهر المرحوم حافظ في حياته باكتساب عطفه ورضاه.
٤  الأولى: الحياة الدنيا.
٥  الرفرف: ما يُجعَل عليه طرائف البيت. والجوزاء: نجمٌ معروف في السماء. فالتعبير برفرف الجوزاء: كناية عن أسنى مواضع الشرف والسمو.
٦  يريد القصيدة التي أنشأها المرحوم حافظ وأنشدها في المهرجان العظيم الذي أُقيمَ في القاهرة، وقد حضرت إليه وفود الأقطار العربية، وظل سبعة أيام تكريمًا لمبايعة أمير الشعراء شوقي بإمارة الشعر في الشرق العربي عامة، وهي التي يقول فيها:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مُبايعًا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
٧  الصعدة: قناة الرمح ينبت عودها مستويًا.
٨  الحقب: جمع حقبة (بكسر الحاء)، وهي المدة من الزمن أو السَّنة.
٩  نظم المرحوم شوقي هذه القصيدة وهو في الإسكندرية، فكان لا بد لشاعريته المستوعبة من وصف هذه المدينة وفاءً لإقامته فيها وقتئذٍ.
١٠  بابل: موضع مدينة بالعراق، يُنسَب إليها السحر والخمر. والحمراء: قصرٌ مشهور في الأندلس.
١١  الفجاج: بكسر الفاء جمعُ فجٍّ، بفتحها: الطريق الواسع بين الجبلَين.
١٢  قرطبة: إحدى عواصم الأندلس الكبرى، وكانت في المغرب مثل بغداد في المشرق، كلتاهما منبع للعلوم والفنون في أزهر عصور الإسلام.
١٣  البادون: السائرون في البادية.
١٤  نجلت: أي ولدَت.
١٥  الوليد: هو أبو عبادة البحتري الشاعر العباسي الشهير. والطائي: هو حبيب الطائي الشهير بأبي تمام.
١٦  البؤساء: كتاب لفكتور هيجو، عرَّبه الفقيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤