عبد الحي١

طُوِيَ البِساطُ وجفَّتِ الأقداحُ
وغدَت عواطلَ بعدَكَ الأفراحُ٢
وانفضَّ نادٍ بالشآم وسامرٌ
في مصرَ أنت هَزارُه الصَّدَّاحُ٣
وتقوَّضَت للفن أطوَلُ سَرحةٍ
يُغدى إلى أفيائها ويُراحُ٤
واللهِ ما أدري وأنت وحيدُهُ
أعليه يُبكى أم عليك يُناحُ
«إسحاقُ» مات فلا صَبُوحَ و«مَعبدٌ»
أوْدَى فليس مع الغَبوقِ فلَاحُ٥
مَلِكُ الغِناءِ أزاله عن تختِهِ
قدَرٌ يُزيلُ الراسياتِ مُتاحُ
في التُّرْبِ فوقَ «بني سويفَ» يتيمةٌ
ومن الجواهرِ زَيِّفٌ وصِحاحُ٦
ما زال تاجُ الفن تيَّاهًا بها
حتى استبدَّ بها الردى المُجتاح
لو تستطيع كرامةً لمكانها
مشَتِ الرياضُ إليه والأدْواح
رُحْماكَ «عبدَ الحيِّ» أُمُّكَ شيخةٌ
قعدَت وهِيضَ لها الغَداةَ جَناحُ
كُسِرَت عَصاها اليوم فهْي بلا عصًا
وقضى فتاها الأجوَدُ المِسماح
اللهُ يعلَمُ إن يكُن في قلبها
جُرحٌ ففي أحشاءِ مصرَ جِراح
والناسُ مَبكيٌّ وباكٍ إثرَهُ
وبُكى الشعوبِ إذا النوابغُ طاحوا
كان الندامَى إن شدَوتَ وعاقروا
سِيَّانِ صوتُك بينهم والراحُ٧
فيما تقول مُغنِّيًا ومُحدِّثًا
تتنافسُ الأسماعُ والأرواحُ٨
فارقتَ دنيا أرهقَتك خَسارةً
وغنِمتَ قُرْبَ اللهِ وهْو رَباح
يا مُخلِفًا للوعد وعدُك ما له
عندي ولا لك في الضمير بَراحُ
عبثَت به وبك المنِيَّةُ وانقضى
سببٌ إليه بأُنسِنا نرتاحُ
لمَّا بلَغْنا بالأحِبَّةِ والمُنى
بابَ السرورِ تغيَّبَ المِفتاحُ
زعموا نَعِيَّكَ في المجامعِ مازحًا
هيهاتَ في ريبِ المَنونِ مِزاحُ
الجِدُّ غايةُ كلِّ لاهٍ لاعبٍ
عندَ المنِيَّةِ يَجزعُ المِفراحُ٩
رمَتِ المنايا إذ رمَينَك بُلبلًا
أرْدَاه في شرَكِ الحياةِ جِماحُ
آهاتُه حُرَقُ الغرامِ ولفظُهُ
سجعُ الحَمامِ لوَ انَّهنَّ فِصاحُ
وذبَحنَ حنجرةً على أوتارها
تُؤسى الجِراحُ وتُذبَحُ الأتراح
وفلَلنَ من ذاك اللسانِ حديدةً
يخشى لئيمٌ بأسَها ووقاحُ
وأبَحنَ راحتَك البِلى ولَطالما
أمسى عليها المالُ وهْو مُباح
روحٌ تناهت خِفَّةً فتخيَّرَت
نُزُلًا تَقاصَرُ دونَه الأشباحُ
قُم غنِّ وِلْدانَ الجِنانِ وحُورَها
وابعثْ صَداك فكلُّنا أرواح
١  هو المرحوم عبد الحي المغنِّي، ذاع صِيته في مصر وجاوزها إلى الأقطار العربية، حتى عُدَّ وحيد عصره وإمام فنِّه، توفي سنة ١٩١٢م.
٢  طوي البساط: تعبير يُكنى به عن انتهاء عوامل السرور.
٣  الهَزار: طائرٌ حسن الصوت، وهو فارسي، معرب هزاردستان.
٤  السَّرحة: الشجرة العظيمة. والأفياء: جمع فيء، وهو — من الشجر — الظل.
٥  إسحاق ومعبد: علَمان على مغنِّيَين. والصبوح: الشرب أول الصباح. والغبوق. الشرب بالعشي.
٦  دُفِنَ الفقيد في بني سويف، وهي بلدة مشهورة بالقطر المصري. والجواهر الزائفة هي ضد الجواهر الصادقة الصحيحة.
٧  الندامى: جمع نديم. وعاقروا: من المعاقرة، وهي شرب الراح. والراح: الخمر. يُشبِّه صوته بالخمر؛ لأن كلَيهما مُسكِر.
٨  يقول: إن حديثه كان مثل غنائه. والمأثور عن عبد الحي أنه كان فكِهَ الحديث بارع النكتة.
٩  المفراح: كثير الفرح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤