المويلحي١

كاتبٌ مُحسِنُ البيانِ صنَاعُهْ
استخَفَّ العقولَ حينًا يَراعُهْ٢
ابنُ مصرٍ وإنما كلُّ أرضٍ
تنطقُ الضادَ مَهدُه ورِباعُهْ٣
إنما الشرقُ منزلٌ لم يُفرِّق
أهلَه إن تفرَّقَت أصقاعه٤
وطنٌ واحدٌ على الشمس والفصـ
ـحي وفي الدمعِ والجِراحِ اجتماعه
علَمٌ في البيان وابنُ لواءٍ
أخذَ الشرقَ حِقبةً إبداعه
حسْبُه السِّحرُ من تُراثِ أبيه
إن تولَّت قصورُه وضِياعه٥
إنما السِّحرُ والبلاغةُ والحكـ
ـمةُ بيتٌ كلاهما مِصراعه
في يَدِ النَّشءِ من بيانِ «المويلحي»
مَثلٌ ينفعُ الشبابَ اتِّباعُه
صُوَرٌ من حقيقةٍ وخيالٍ
هي إحسانُ فِكرِه وابتداعُه
رُبَّ سجعٍ كمُرقِصِ الشِّعرِ لمَّا
يختلفْ لَحْنُه ولا إيقاعه
أو كسجعِ الحمامِ لو فصَّلتْهُ
وتأنَّت به ودقَّ اختراعه
هو فيه بديعُ كلِّ زمانٍ
ما بديعُ الزمانِ ما أسجاعه٦
عجِبَ الناسُ من طباعِ المويلحيِّ
وفي الأُسدِ خُلْقُه وطِباعه
فيه كِبْرُ اللُّيوثِ حتى على الجو
عِ وفيها إباؤُه وامتناعه
تعِبَ الموتُ في صَبورٍ على النز
عِ قليلٍ إلى الحياةِ نِزاعه٧
صارَعَ العيشَ حِقبةً ليت شِعري
ساعةَ الموتِ كيف كان صِراعه
قهرَ الموتَ والحياةَ وقد تحـ
ـكمُ في رائضِ السِّباعِ سِباعه
مُهجةٌ حُرَّةٌ وخُلقٌ أبيٌّ
عيَّ عنه الزمانُ وارتدَّ باعُه
في الثمانين يا «محمدُ» عِلمٌ
لعليمٍ وإن تَناهى اطِّلاعه٨
لِمْ تقاعَدتَ دونَها وتَوانى
سائقُ الفُلْكِ واضمحلَّ شِراعه
رُبَّ شيبٍ بنَت صُروحَ المعالي
سَنتاه وشادَتِ المجدَ ساعه
فيه من هِمَّةِ الشبابِ ولكن
ليس فيه جِماحُه واندفاعه
سيِّدُ المُنشِئين حثَّ المطايا
ومضى في غُباره أتباعه
حطَّهم ﺑ «الإمامِ» للموت رَكبٌ
يتلاقى بِطاؤُه وسِراعه
قنَّعوا بالتراب وجهًا كريمًا
كان من رُقعةِ الحياءِ قِناعه
كسَنا الفجرِ في ظلالِ الغوادي
كرمٌ صفحتاه هديٌ شُعاعه
يا وحيدًا كأمسِ في كسرِ بيتٍ
ضيِّقٍ بالنَّزيلِ رحبٍ ذِراعه٩
كلُّ بيتٍ تَحلُّه يستوي عنـ
ـدك في الزُّهدِ ضِيقُه واتِّساعه
نمْ مَلِيًّا فلستَ أولَ ليثٍ
بفَلاةِ «الإمامِ» طال اضطجاعه١٠
حوْلَك الصالحون طابوا وطابت
أكَماتُ «الإمامَ» منهم وقاعه١١
قلَّدوا الشرقَ من جمالٍ وخيرٍ
ما يَئودُ المُفنِّدين انتزاعه١٢
أُسِّسَت نهضةُ البِناءِ بقومٍ
وبقومٍ سما وطالَ ارتفاعه
كلُّ حيٍّ وإن تراخت منايا
هُ قضاءٌ عن الحياة انقطاعه
والذي تحرص النفوسُ عليه
عالمٌ باطلٌ قليلٌ مَتاعه
١  هو الكاتب الكبير محمد المويلحي المتوفي سنة ١٩٣٠م، وقد أُلقيَت هذه القصيدة في حفلة تأبينه.
٢  يقال يدٌ صَنَاعٌ؛ أي ماهرة حاذقة، وبيان صَنَاع أيضًا.
٣  رباع: جمع رَبع، وهو الدار.
٤  أصقاعه، جمع صقع بضم الصاد: الناحية.
٥  تولَّت القصور: أي ذهبت. والضياع: جمع ضيعة، وهي العقار والأرض المغلَّة.
٦  بديع الزمان: هو الهمذاني صاحب المقامات المشهورة.
٧  النزاع للميت: ساعات احتضاره. يقول: إنه مع زهده في الحياة فقد طال زمن احتضاره، ولا يكون هذا إلا من قوة الحيوية التي تستطيع مغالبة الموت.
٨  في الثمانين: يقصد ثمانين عامًا.
٩  كسر البيت (بكسر الكاف وفتحها): جانبه.
١٠  فلاة الإمام: صحراء الإمام الشافعي، حيث مدفن الفقيد.
١١  أكمات، جمع أكمة: المرتفع من الأرض. والقاع: المنخفض منها.
١٢  يئود: بمعنى يُثقِل ويُتعب. والمفنِّدين: المكذِّبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤