«فلسفة الثورة» في الميزان

(١) الثورة الفرنسية

كان شعار الثورة الفرنسية هذه الكلمات الثلاث: الحرية، والإخاء، والمساواة. وهي كلمات منغومة على قافية واحدة في اللغة الفرنسية، يحسب الكثيرون ممن يسمعون الهتاف بها أنها قد اختيرت لحسن وقوعها في الأسماع، وسهولة مجراها على الألسنة، ويظنون أن كل «ألفاظ ثلاثة» من قبيلها تغني غناءها وتستهوي الأسماع استهواءها. ولكنها في الواقع كانت كلمات الثورة الفرنسية التي لا تصلح لها كلمات سواها، وكانت كل كلمة منها مدروسة لغاية مقصودة، لا تغني عنها غاية أخرى؛ لأنها كانت محور الخلاف القديم بين الأنصار والخصوم. كانت «الحرية» غرضًا مقصودًا، ومبدأً مختلفًا عليه؛ إذ كان الملكيون يزعمون أن الملك يحكم بالحق الإلهي، وأن سلطانه مستمد من سلطان السماء، فليس للرعية حرية مع راعيها؛ لأن مشيئته من مشيئة الله، فمن خرج عليه فهو خارج على خالقه ومولاه. أما الثائرون فكانت مشيئة الشعب عندهم هي قِوام الحكم، وسنده الذي لا سند له غيره. فمشيئة الشعب من مشيئة الله، وعلى الملوك أن تطيع شعوبها، وتعمل على رضاها، وإلا فهم الخارجون على سلطان الأرض والسماء.

كذلك كانت كلمة الإخاء مبدأً مختلفًا عليه أشد الاختلاف، أو كان الاختلاف عليه مجزرةً قُضي فيها على أكثر من مائة ألف فرنسي قبل جيلين، وأوجبت هجرة الملايين إلى غير بلادهم قبل عصر الثورات بسنوات؛ إذ كانت العقيدة الغالبة أن الخلاف بين المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي خلاف بين الأبرار والأشرار، وأنه لا هوادة بين الفريقين إلا كما تكون الهوادة بين حزب الله، وحزب الشيطان. وفي سبيل ذلك سالت الدماء بين الفريقين، وصدرت الأوامر الصريحة بنفي كل فرنسي يدين بنِحْلَة غير النِّحْلة التي ارتضاها ولاة الأمور.

أما دعاة الثورة الفرنسية فقد كانوا ينكرون هذا الخلاف، وينادون بشريعة الإخاء في الوطن الواحد، فلا عداء بين أبناء الوطن؛ لأن «الوطن» أبو الجميع، وكل أبنائه إخوة متحابون، ومن هنا تقرر مبدأ الإخاء.

وكذلك كانت كلمة «المساواة» محل خلاف ونزاع، ومجادلات ومناظرات، يشترك فيها المفكرون، كما يشترك فيها المؤمنون المتدينون؛ فلا مساواةَ بين النبلاء والسوقة، ولا بين الموسرين والمعسرين في رأي أعداء الثورة، ولا تفاوت بينهم في رأي دعاتها والمطالبين بإصلاح المجتمع على أساسها. ولقد كان النزاع ملحوظًا معترفًا به في تكوين المجالس النيابية الأولى، فكان النواب يحضرونها على حسب ما بينهم من التفاوت في الدرجات والطبقات.

(٢) الثورة التركية

والمعروف أن جماعة «تركيا الفتاة» كانت تقتدي بجماعة إيطاليا الفتاة، وأن رئيسها الفليسوف أحمد رضا كان كثير الاطلاع على كتب ماتزيني وفلسفة أوجست كونت، وكان مشهورًا بدقته في اختيار كل كلمة من كلماته، لا سيما الكلمات التي ترتسم بها الخطط، وبرامج الإصلاح. فلما اختارت هذه الجماعة شعارها للثورة التركية، لم تذكر كلمة الإخاء، وذكرت في مكانها كلمة العدالة. ولم يكن قصارى ما في الأمر إبدال كلمة بكلمة، أو إيثار نغمة على نغمة في نشيد الثورة، بل كان هذا الإبدال مقصدًا أساسيًّا في برنامج النهضة يدل على تفصيلات واسعة في سياسة الحكم الحديث. فلم يكن هناك معنًى لوضع كلمة الإخاء في شعار ثورة تركيا؛ فإن الأمة التركية قد فرغت من تقرير الإخوة بين المسلمين في بلادها وغير بلادها، و«إنما المسلمون إخوة» حقيقة من حقائق الإيمان بالدين، جرت على لسان الطفل الصغير، والشيخ الكبير؛ فإذا نظر المصلح التركي إلى الأقوام الآخرين في الدولة، فمبدأ المساواة يشملها جميعها على اختلاف الأجناس والأديان.

أما النص على مبدأ العدالة بين المبادئ التي يرددها شعار الثورة فقد كان لازمًا لبيان خطتها في الداخل والخارج؛ كان لازمًا لبيان خطتها في مسألة الامتيازات الأجنبية، وهي ظلم واقع على أبناء البلاد، تشير المطالبة بالعدالة إلى ضرورة رفعه، ومعاملة الأجنبي معاملة الوطني في بلاده. وكان لازمًا لبيان خطة الثورة في مسألة الأحوال الشخصية التي كانت ترجع في كل هيئة دينية إلى سُنَّة تخالف غيرها في شئون الزواج والطلاق والميراث. وكان لازمًا لبيان القواعد التي يقوم عليها التشريع في القوانين الوضعية، والقوانين الدينية، أو العرفية. فكانت كلمة «العدالة» مبدأً لا يغني عنه مبدأ آخر في مكانه، ولم تكن مجرد نغمة في النشيد تعادل غيرها من النغمات.

(٣) الثَّورة الصِّينية

وجاءت الثورة الصينية فلم تذكر كلمةً واحدةً من كلمات الثورة الفرنسية الثلاث. لم تذكر الحرية، ولا الإخاء، ولا المساواة، ولم تهملها لأنها تأباها، ولا تحبها كما يحبها الفرنسيون، ولكنها لم تجد لها معنًى يستوجب النص عليه في شعارها؛ لأن تاريخ الصين قد اتسع غير مرة لارتقاء آحاد الشعب إلى عرش ابن السماء، ولأن عبادة الأسلاف عندهم تجعل القرابة المفروضة بينهم كقرابة الدم والسلالة، ولأن نظام الرقِّ قد بَطَل في تاريخهم لأسباب محلية، قضت على الفارق التقليدي بين السادة والعبيد؛ فلهذا لم تكن بهم حاجة إلى ثورة للمطالبة بالحرية والإخاء والمساواة، ولم تكن مبادئ الثورات الغربية قِبلتهم في القرن العشرين، ولا فيما تقدمه من القرون. واختار زعيمهم العظيم مبادئ ثورتهم، فحصرها في كلمات ثلاث مقصودة بكل حرف من حروفها؛ وهي مبادئ: القومية، والديمقراطية، والاشتراكية القومية؛ لإحلال الوطن محل الدولة في معاملة المغول، والمنشوريين، والتتار، وأبناء التبت المشتركين على الحدود.

والديمقراطية يُقصد بها غلبة الشعب لا مجرد الحرية الشعبية؛ لأن الزعيم العظيم «سن ياتسن» كان يتوسع بديمقراطيته، ولا يقنع بتطبيقها في بلاده كما تطبق في الأمم الأوروبية أو الأمريكية، بل كان يريد أن يتدرج بها حتى تشمل حق إلغاء الشرائع من قِبل الجماعات الشعبية، وحق اقتراح الشرائع من قِبل تلك الجماعات وفقًا للنظام الدستوري الذي يمنع الفوضى والارتباك في تقرير القوانين ومراجعتها. أما الاشتراكية فكانت لازمة لبيان موقف الأمة من الأموال الأجنبية، وكانت السكك، والمواصلات، والمواني تُدار لحساب الدول، وبأموال شركاتها. وكان الزعيم الصيني لا يرفض الاستعانة بالأموال الأجنبية، ولكنه يرفض الاستغلال والتسخير، ويرى أن يكون تثمير المال على القواعد الاشتراكية سواء في معاملة الأجانب، أو معاملة أبناء الصين.

وهكذا يبدو لنا أن مطالب الأمم وضروراتها تفرض نفسها في شعار كل ثورة من ثوراتها، فلا تمتاز كل ثورة بشعارها الخاص لأنه نغمة محبوبة، أو كلمات رنانة تغني عنها الكلمات التي تماثلها رنة ونغمة، وإنما تمتاز بشعارها الخاص؛ لأنه تعبير عن كِيانها، وعن وجهتها، وعن البواعث التي تمليها.

(٤) الثورة المصرية

وأوضح ما تتضح هذه الحقيقة في شعار الانقلاب المصري الأخير الذي قضى على حكم فاروق، ثم قضى على حكم أسرته بحذافيرها. فإن هذا الشعار يقوم على كلمات ثلاث، تجمع أشتات الفوارق التي بين موقف الأمة المصرية، ومواقف الأمم في ثوراتها. وشعار «الاتحاد والنظام والعمل» هو النسخة المصرية التي لا تلتبس بنسخة أخرى في وجهتها، ولا في تعبيرها؛ فليس في مصر مبدأ يثور على مبدأ، ولا عقيدة تتمرد على عقيدة، ولا مصلحة قومية تناقضها مصلحة قومية. ولكنه شعار واحد ليس فيه من يثور، ولا من يُثار عليه؛ لأن الوجهة واحدة متفق عليها، لن ينكرها فريق حين يُسلِّم بها فريق.

ويحضرنا هنا كل احتمال يحضر في خواطر المتحذلقين الذين يحسبون أنهم نفذوا إلى سر من الأسرار لا يبدو على ظاهر الشعار. فقد يُقال: إن الشعار قد بدَر عفو الخاطر فلم يدرس على هذا الاعتبار، وقد يُقال: إنه يعلن القليل، ولا يعلن الكثير، وقد يُقال غير ذلك مما يستطيع المتحذلق أن يقوله في كل مقام. ولكن هذه الخواطر جميعًا لا تقدِّم ولا تؤخر كثيرًا ولا قليلًا في جوهر الحقيقة التي يمثلها الشعار باختيار، أو بغير اختيار. فلو كان للأمة المصرية مطلب دافع غير مطالب الشعار لما استطاع أحد أن يهمله باختياره، أو بغير اختياره؛ لأن المطلب الدافع يتمثل في شعوره وفي دعوته لا محالة، فلا يتيسر السكوت عليه. إن شعار الثورة إذن هو شعار المصريين أجمعين بغير فارق في وجهته، ولا في دواعيه. كل المصريين يؤمنون بدعوة الاتحاد، ودعوة النظام، ودعوة العمل، كل المصريين مخلصين وغير مخلصين. فمن لم يخلص منهم لن يقول أنه يأبى العمل، أو يأبى النظام، أو يأبى الاتحاد، ولكنه يصطنع العوامل التي تلتبس في ظاهرها بالمصلحة العامة، وتخفي من ورائها مآربه الشخصية، وهذا هو لبُّ اللباب في موضوع الثورة، هذا هو الجوهر الأصيل الذي لا تجوز الغفلة عنه طرفة عين.

ليست العقبة في طريق الإصلاح مبدأً من المبادئ الأصلية يدين به فرد أو طائفة من الأمة المصرية، ويجسر على المجاهرة به بغير مواربة، ولا نفاق. ولكن العقبة في طريق الإصلاح هي العوامل المصطنعة التي لا تجري مع الحق الواقع في مجراه. وهذه العوامل المصطنعة هي آفة الآفات، وهي العقبة الكبرى في كل طريق. فمن أمثلتها الكبرى: أسرة مالكة يقضي وضعها الصحيح أن تكون «سلطة شرعية»، تحارب السلطة الفعلية بقوة الأمة. ولكنها في الواقع إنما كانت تعمل عمل الغاصب الذي يحتمي في ثورة الأمة بقوة الاحتلال، وتحسب أنها في أمان من الثورة عليها ما دام الاحتلال في البلاد. ومن الأمثلة الكبرى على العوامل المصطنعة: وزارات الكثرة المزعومة التي عرفتها مصر بعد مفاوضات المعاهدة. فإن الوضع الصحيح لوزارات الكثرة أن تقوم بتأييد الأمة لمعارضة المحتلين، ولكنها في الواقع إنما كانت تأتي على الدوام بطلب المحتلين لتسليم البضاعة، وكانت في موقفها المتناقض تعجز عن إرضاء الاحتلال، وعن إرضاء الأمة في وقت واحد.

وهناك أمثلة دون هذه الأمثلة تُبرز لنا العوامل المصطنعة التي لا بد من تصحيحها بالوضع الحقيقي في غير مواربة ولا اصطناع.

هناك تلك الغَيْرَة الكاذبة على الفقير باسم المذاهب الهدامة، وما هي في حقيقتها غيرَ الدعاية الأجنبية تتستَّر بالغَيْرَة على الفقير، ولا غيرة لها على أحد من أبناء البلاد؛ فقيرهم وغنيهم على السواء.

وهناك الدفاع الكاذب عن الإقطاع باسم التاريخ، أو باسم الدين؛ فما كانت في مصر ملكية زراعية ترجع في العصر الحديث إلى أبعد من القرن التاسع عشر، والإسلام يرحب بتعميم الملكية، وينكر كل الإنكار أن تنحصر في أيدٍ معدودات.

وعلى هذا النحو تنعزل المصالح الوطنية، والعوامل المصطنعة كل الانعزال … فلا خلاف على المصلحة الوطنية الخالصة. وما من عقبة تقوم في وجه الإصلاح إلا حين تتستر الحقيقة بالتلفيق والاصطناع.

إن كل حركة تتصدَّى للإصلاح في مصر لا حاجة بها إلى عمل واسع تبتدئ به غير العمل على إزالة العوامل المصطنعة، وتخليص القوى الطبيعية بجميع طبقات الأمة من آفات التزييف والرياء. وليس المطلوب منها أن تنتهي إلى إصلاح لا إصلاحَ بعده، أو إلى كمال لا نقص فيه، أو إلى رضًا لا تنبعث فيه شكايا. كلا، ونزيد فنقول: بل معاذ الله، فإن الإصلاح الذي لا إصلاح بعده موت، والكمال الذي لا نقص فيه وهم، والرضا الذي لا تنبعث منه شكايا جمودٌ لا يتعلق به الرجاء.

إنما تزول العوامل المصطنعة لتمضي العوامل الطبيعية في طريقها، مرحلةً بعد مرحلة، وشوطًا بعد شوط، وأمانةً بعد أمانة، يتولاها جيل في إثر جيل.

(٤-١) فلسفة الثورة المصرية

وبعد هذه المقارنة السريعة بين ثورتنا وثورات غيرنا، نرى أن التفاهم على التفصيلات قريب، كالتفاهم على الأصول الكبرى.

فقد قرأت الصفحات الثمانين التي كتبها السيد الرئيس جمال عبد الناصر في كتاب «فلسفة الثورة»، فخرجت منها وأنا أعتقد أن الخلاف عليها أقلُّ خلاف في مثل هذه الصفحات، وفي مثل هذا الموضوع. صوابٌ ولا شك أن الحركة المصرية لا توصف بأنها تمرد عسكري، ولا توصف بأنها ثورة شعبية؛ لأن التمرد ما كان قط — ولن يكون — بإجماع الآراء، واتفاق الآحاد والألوف والملايين، ولأن الثورة الشعبية لإسقاط ملك لا يحميه الجيش أمر غير مطلوب، وغير مفهوم. وصواب ولا شك أن الحاضر يعيش ببقية من مساوئ العهود الماضية، وهذا هو هو باب الأسف والأسى، ولكنه كذلك باب الأمل والعزاء؛ لأنه يدفع اليأس من النفوس إذا عولج فلم يذهب به العلاج بين عشية وصباح — إذ لم يكن يمكن في غمضة عين أن تزول رواسب قرون. وصواب كذلك أن الشك آفة معطلة للجهود، معطلة للأفكار والآراء، فليس الإنصاف وحده بالذي يشفع لأصحاب الشكوك، ويعفيهم من عقاب لم يستحقوه وحدهم بعد أجيال وأجيال. ولكن العلاج المأمون نفسه هو الشفيع البليغ قبل شفيع الإنصاف.

يقول السيد الرئيس جمال عبد الناصر: «كان من السهل وقتها — وما زال سهلًا حتى الآن — أن نريق دماء عشرة، أو عشرين، أو ثلاثين، فنضع الرعب والخوف في كثير من النفوس المترددة، ونرغمها على أن تبتلع شهواتها، وأحقادها، وأهوائها …» ثم يقول: «ولكن أي نتيجة كان يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا العمل؟ كان من الظلم أن يُفرض حكم الدم علينا دون أن ننظر إلى الظروف التاريخية التي مر بها شعبنا، والتي تركت في نفوسنا جميعًا تلك الآثار.» نعم، يكون ذلك ظلمًا، ويكون أكثر من ظلم؛ لأنه يصيب من لم يصبه العقاب فيضاعف داء الشك والحذر، ويبطل فائدة العلاج ويُيئس من عقباه.

ونضرب المثل لذلك بالشاهد المحسوس: رجل تكلفه أن يعدو على خطٍّ واحد إلى مسافة ميل، فإنه ليعدو على ذلك الخط ويعود في مدى ساعة، أو أقل من ساعة، ولا يحتاج إلى حيزٍ من العرض يزيد على شبرين، أو ثلاثة أشبار. ثم تكلف ذلك الرجل نفسه أن يعدو فوق جدار يعلو على الأرض عدة أشبار، ويتسع في عرضه بأكثر من ثلاثة أشبار، فإن لم يسقط بعد خطوات فإنه لن يصل إلى نهاية الشوط قبل ساعات، وماذا تغير بين الحالتين؟ لم يتغير الرجل، ولم يتغير الحيز ولم تتغير المسافة، وإنما تغيرت «حالة نفسية» فتغير معها كل شيء. هل يفيد أن تقول لذلك الرجل: إن حذرك يا هذا غير معقول؟ إنه قد يكون مؤمنًا بذلك إيمان الناصح له، أو يزيد، ولكنها على هذا نصيحة لا تفيد. وهل نستطيع أن نعلِّم الرجل رياضة الأعضاء على الحركة، حتى يتعلمها ويتعودها، ويتحرك فوق الجدار كما يتحرك في الأرض الذلول؟ نعم نستطيع، ولكنه إذن جهد في العمل أكبر من نتيجته، وأضيع للوقت من تركه والعمل بغيره، وخير لنا الجهد الذي يُبذل بمقداره وإن عظم المقدار.

على أن الصفحات الثمانين التي تحمل اسم «فلسفة الثورة» لا تنحصر بالقارئ في حدود الأفق المصري، وإن كانت لا تخرج به من آفاق المسألة المصرية في أوسع حدودها. فالمصري في عصرنا هذا لا يهتم بوطنه حقًّا إن لم تشغله علاقاته بثلاثة آفاق، أو عوالم لا انفصال لها من وطنه؛ وهي: العالم العربي، والعالم الأفريقي، والعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. إن مصيبة الاستعمار أنه أوقع في النفوس أن السياسي لا يهتم بأمة أخرى إلا ليطمع فيها، أو يبسط سيادته عليها. ولكننا حريون أن نذكر على الدوام أننا «غير مستعمرين»، وأننا لا نحتاج إلى جهد كبير أو صغير لننفي هذه الشبهة عنا، فليس في وسع أحد أن يتهمنا بها، ويجد من ذوي العقل السليم من يستمع إليه.

أين نحن من العالم العربي؟ أين نحن من العالم الأفريقي؟ أين نحن من العالم الإسلامي؟ نحن في قلب كل عالم من هذه العوالم، فليس في وسعنا أن نجهل علاقتنا به ومستقبلنا فيه. يقول الرئيس جمال: «إن نصف الاحتياطي المحقق من البترول في العالم، يرقد تحت أرض المنطقة العربية، فنحن أقوياء أقوياء، ليس في علوِّ صوتنا حين نولول … وإنما أقوياء حين نهدأ، أو حين نحسب بالأرقام مدى قدرتنا على العمل.»

ويقول: «إننا لا نستطيع بحال من الأحوال — حتى لو أردنا — أن نقف بمعزلٍ عن الصراع الدامي المخيف الذي يدور اليوم في أعماق أفريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفريقيين … إننا في أفريقيا … والنيل شريان الحياة لوطننا، يستمد ماءه من قلب القارة. ويبقى أيضًا أن السودان — الشقيق الحبيب — تمتد حدوده إلى أعماق أفريقيا، ويرتبط بصلات الجوار مع المناطق الحساسة في وسطها. والمؤكد أن أفريقيا الآن مسرح لفوران عجيب مثير، وأن الرجل الأبيض الذي يمثل عدة دول أوروبية يحاول الآن إعادة خريطتها، ولن نستطيع بحال من الأحوال أن نقف أمام الذي يجري في أفريقيا، ونتصور أنه لا يمسنا ولا يعنينا.»

ويقول في العالم الإسلامي: «حين أسرح بخيالي إلى ثمانين مليونًا من المسلمين في إندونيسيا، وخمسين مليونًا في الصين، وبضعة ملايين في الملايو، وسيام، وبورما، وما يقرب من مائة مليون في الباكستان، وأكثر من مائة مليون في منطقة الشرق الأوسط، وأربعين مليونًا داخل الاتحاد السوفييتي، وملايين غيرهم في أرجاء الأرض المتباعدة، حين أسرح بخيالي إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدة واحدة، أخرج بإحساس كبير بالإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون بين هؤلاء المسلمين جميعًا؛ تعاون لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصيلة بالطبع، ولكنه يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة.»

وهذا كله صحيح في الجملة والتفصيل، وليس الاهتمام به من طموح الشباب كما يتخيَّل المتخيل الوادع في عقر داره، بل أخشى أن أقول إنه من أعباء الشيخوخة قبل أوانها، بل من همومها في إبَّانها إن كان حمل الهموم البعيدة وقفًا على الشيوخ. ماذا نصنع إن جنى البترول على العالم العربي فضيَّعه بدلًا من تزويده بأسباب القوة والمناعة؟ وماذا نصنع إن أصبحت أفريقيا للمستعمرين الأوروبيين، ولم تصبح في الغد القريب أفريقيا للأفريقيين؟ وماذا نصنع إن تهدَّم معنى الحياة كما تمثله المادية الحيوانية، أو كما تمثله الحضارة الحسية، ولم نعتصم من التيار الجارف بعصمة شريفة، تعمِّر نفوس الملايين، وترتفع بها من غمار الذل والاستكانة، أو غمار القنوط والحَيرة؟

فروض جسام

ولكنها فروض واقعة لا تهدأ ولا تنام. وليس علينا بالبداهة أن نعمل كل شيء، ليس علينا أن نعمل لنعفي من يأتي بعدنا من العمل؛ فإننا إن أعفيناه من العمل أسأنا إليه، ولكننا نترك له واجبه، وننهض بواجبنا. وواجب كل جيل من أجيال الأمم أن يُبقي لمن بعده أمانة ولا يبقي له قيودًا من عمله، أو أثقالًا من جرائر إهماله وتفريطه. وإذا استطعنا أن نقول للأجيال المقبلة: إن دَينكم لنا أعظم من دَيننا لأسلافنا، فنحن الأوفياء، وهم الرابحون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤