مقدمة

أصِبتُ بصدمةٍ في أحد أيام مارس ٢٠٠١ عندما فتحتُ العدَدَ السنويَّ من «الألمناك» والذي كان صادِرًا قبلَها بأيامٍ قليلة، و«الألمناك» هو مطبوعة سنويَّة تحمِل المعلومات الأساسيَّة في كافَّة المجالات وآخِرَ الإحصائيات العالمية. ومن عادتي أن أُتابِع في «الألمناك» آخِر أرقام تعداد السُّكان في دُول العالم وفي أكبر المُدن، ومعدَّلات النمو، وكذلك عدد أبناء كلِّ دِيانة والنَّاطِقين بأهمِّ لُغات العالم، ومعلوماتٍ أخرى كثيرة ذاتَ فائدةٍ كبيرة.

أمَّا عن الصَّدمة، فكانت عندما جُلْتُ بنَظَري في جَدول أهمِّ اللُّغات المُتداوَلة في العالم، فلم أجِد العربية في مكانِها المُعتاد بهذه المطبوعة، وأعدتُ قراءة جَدول أهمِّ اللُّغات عدَّة مرَّاتٍ وأنا في حيرة شديدة: هل هُناك مُشكِلة أصابَتْ نظري؟ أم أنَّ اللُّغة العربية سقَطَت منهم سهوًا، أم ماذا؟

وعندما فتَّشتُ في الجدول المُوسَّع للُّغات المُنتشرة في العالم، والذي يضمُّ نحوَ ٢٣٠ لغة، أدركتُ الحقيقة التي أثارَتْني بقدْر ما أزعجَتْني، فمطبوعة «الألمناك» لم تَعُد تَعتبِر العربية لُغةً قائمة بذاتها، على أساس أن اللُّغة هي أداة التَّفاهُم اليومي بين الناس وليست أداة الدَّرس والعِلم، وهم يَعتبِرون أنَّ العربية صارت لُغةً لقِراءة الكُتب والمراجع.

أمَّا لُغة التَّفاهُم في العالَم العربي فهي اللَّهَجات مِثل المِصريَّة والشامِيَّة والمغربية. وباختصارٍ فهُم قرَّروا أن يَعتبِروا العربية من اللُّغات المَيِّتة التي يعرِفُها البعض، زاد أو قلَّ عددُهم، لكنَّهم لا يَستخدِمونها في تعامُلِهم اليومي.

ومن المُمكن أن يكون أول ردِّ فعلٍ لنا أن ننتَفِض صائحين: «هيهات، ومُوتوا بِغَيظِكم أيُّها الحاقِدون، وَوَالله هذا لن يكون أبدًا.» وأنا أقول: إن شاء الله هذا لن يكون، لكن هذا لا يكفي. فهذه المَطبوعة تُعتبَر من المطبوعات الجادَّة التي يُعتدُّ بها في العالَم، وإن كانت لا تخلو من الأغراض الخبيثة، وخاصةً حِيال الإسلام والعرَب.

ومع ذلك، فإن كِبار الكُتَّاب والمُتخصِّصين في العالم، وخاصةً في الغرب، يَعدُّونها من أهمِّ مَراجِعهم، وبالتالي فمِنَ الخطأ أن نأخُذ موقِف هذه المَطبوعة من العربية بالاستِخفاف والتَّعالي، بل ومن مَصلحتِنا أن نَعتبِرَه جرْس إنذارٍ علينا أن نَستمِع إلى ما يَحمِله رَنِينُه إلينا بكلِّ جديَّةٍ وحِرص حتى وإن كَرِهنا مُحتواه.

وإذا أضفْنا إلى ذلك أنَّ هناك جامِعاتٍ ومعاهد لُغات في أوروبا وغَيرها تقوم بتدريس اللَّهَجات عِوضًا عن العربية، بل إنَّهم يُخيِّرون الطَّلَبة الرَّاغبين في دِراسة العربية بين الفُصحى وإحدى اللَّهَجات العامية، وهنا يَتَّضِح لنا مدى خُطورة الموقف. بل إنَّ مراكِز تعليم اللُّغة في البُلدان العربية تفعل نفس الشيء مع الأجانِب المُبتدئين في تعلُّم لُغتِنا.

والأكثر من ذلك أنَّ هناك مُحاولاتٍ جادَّة لتَقعيد اللَّهجات حتى تَصير بمثابة لُغاتٍ كامِلة الأركان لها قواعد النَّحو والصَّرف الخاصَّة بها.

وكما نُثبِتُ في هذا الكتاب، فإن اللَّهجات كانت مَوجودةً دائمًا. واللُّغة الفُصحى التي نَرمُز إليها أحيانًا بلُغة سيبويه لم تكن في يومٍ من الأيام لُغةَ تفاهُمٍ وتعامُلٍ يومي، اللهم إلَّا في فترةٍ وَجيزة جدًّا في رُقْعةٍ جُغرافية محدودة بالجزيرة العربية. فما الذي استَجدَّ حتى ننزَعِج اليوم من اقتِحام اللَّهجات لِحَيِّز التَّعامُل اللُّغوي بين العرب؟

الجديد هو أنَّنا نعيش في عصرٍ يُعرَف باسم عصر العَولَمة. وأيًّا كان مَوقِفنا من تلك العولمة، فإن لها بالتأكيد آثارًا سلبيةً على الثقافات الإقليمية، وعلى كلِّ مُقوِّمات الحضارات، ومن بينها اللُّغات.

والعَولَمة بمعناها السياسي والاقتصادي ذَوَبان الحدود بين الدُّول والتَّجَمُّعات الإقليمية. لكن معناها الثقافي عميق، وقد يكون أكثر تأثيرًا على الشعوب. فالعَولَمة قد تؤدِّي إلى هَيمَنة ثقافةٍ واحدة على العالَم، مما يترتَّب عليه انكِماش مُقوِّمات الثقافات الأخرى التي تبلوَرَت من خلال حِقَب التاريخ المُتعاقِبة. وبالتأكيد إنَّ اللُّغة من أبرَزِ مُقوِّمات الشخصيَّة الإنسانية، ولا بُدَّ بالتَّالي أن تتأثَّر بالعَولَمة.

الجديد أيضًا هو أن وَسائل الإعلام الحديثة جعلَت أدَوات التَّفاهُم الشَّفهيَّة تُنافِس المكتوبة، بل وتتفوَّق عليها أحيانًا وتَسحَب من تحتِها البِساط. ففي الماضي كانت الوسيلة الوحيدة للاتِّصال وحِفظ المعلومات هي الكِتابة. أما منذ نهاية القرن العشرين، فقد ظهرَت الوسائل السَّمعيَّة والبصرية التي جعلَتْ للكلمة المَنطوقة أهمِيَّة كُبرى لم تكن لها بِهذا القدْر منذُ عرَف الإنسان الكتابة، وانطوى عندئذٍ عصر الثقافات الشَّفهيَّة؛ فالتَّسجيلات الصَّوتيَّة والصُّورة صارت هي الأخرى وسائلَ حيويَّةً لنقْل المعلومات وتَخزينها، كمَراجِع للمعرفة.

وأخيرًا وليس آخرًا، فمن المُؤكَّد أن هناك من لا يُريد للعالَم العربي أن يكون واحدًا، ويأمُل في قُرارة نفسه تَمزيق أواصِر هذا العالم. وحيث إنَّ أهمَّ ما يربِط بين العرَب هو لُغتهم، فإن القضاء على هذه اللُّغة سيؤدي إلى نهاية عالَمِنا العربي، وربما كان هذا هو الهدَف الخفَيُّ من وراء المشروعات الغربية المطروحة على السَّاحة في بِداية القرن الحادي والعشرين.

وأمام هذه التَّحدِّيات الخطيرة؛ فإن اللُّغة العربية تمرُّ الآن بمُفترَق طُرُق حيوي؛ إما أن تُجَدِّد نفسَها فتَبقى دائمًا لُغةَ العرَب المُشتركة، أو أن تَتقَوْقَع على نفسها، فتُواجِه بالفِعل خَطَر الزَّوال لحِساب اللَّهجات، كما حدَث للُّغة اللاتينية في القُرون الوُسطى الأوروبية. وهذا الاحتمال، وإن كان بعيدًا، إلا أنه ليس من دُروب الخَيال العلمي.

والمُشكلة هي أن اقتِرابنا من قضية اللُّغة مَغلوط من أساسه؛ فهو يَقوم على فَرضيَّة نَعدُّها من المُسلَّمات، وهي أنَّ مُشكلة اللُّغة تكمُن في النَّاطِقين بها من العرَب. وكلُّ من يتصدَّى للحديث عن اللغة هذه الأيام يَسخَر مِن جميع من يُخطِئون فيها ويَستهزِئ بالآخرين، وكأنه مَعصوم من الخطأ في اللُّغة. فالمَنطِق السائد في هذا الموضوع يُشابِه ما طرَحه الشَّاعر مُرسي جميل عزيز في أغنية: «سيرة الحُب» التي غَنَّتْها سيِّدة الغِناء العربي أم كلثوم عن مُشكِلات الحُبِّ ومن هو المُتسبِّب فيها؛ حيث تقول: «العيب فيكم يا في حبايبكم، أمَّا الحُب، يا روحي عليه.» فالخطأ إذًا ليس في الحُبِّ وإنما في كلِّ من يُمارِسونه بأسلوبٍ خاطئ.

ولو كان مِن المُمكِن أن تنطبِق هذه المَقولة على الحُب؛ لأنه قِيمة مُجرَّدة، فإنه لا يُمكِن أن تنسحِب على اللغة، فاللُّغة كائن حيٌّ لا بُدَّ أن تتغيَّر بتغيُّر الوَقت وأن تُجاري الزمان، وبالتالي فأنا أقول: إنَّ الخطأ لا يقَع بالكامل على مُستخدِمي العربية؛ لكنَّه يقَع أساسًا على عاتِق اللُّغة نفسها.

وأقول لكلِّ من يتعذَّب من جرَّاء تعلُّم اللغة، أو يشعُر بعُقدة نقص لعدَم إجادَته العربية إجادة تامَّة: لا تقلقوا؛ فالعَيب ليس فيكم، ولكنَّه في اللُّغة التي لم تشمَلْها سُنَّة التطوير. وأستطيع انطلاقًا من هذا أن أُبرِّئ ساحة ملايين العرَب بل الأغلبيَّة الساحِقة من الشَّعب العربي من ذَنْب عدَم تملُّك ناصِية لُغة الضاد بكلِّ تعقيداتها.

ومن مُنطلَق معرفتي بمستوى التعليم في فرنسا وغيرِها من الدُّول الغربية، أستطيع أن أجزِم بأنَّ المُستوى اللُّغوي لخريجي الجامِعات المصرية من غير المُتخصِّصين يوازي مستوى تلميذٍ في بداية المرحلة الإعدادية هناك في لُغته الأم.

فهل يَعكِس هذا نُبوغ تلاميذ العالَم الغربيِّ وتخلُّف طُلَّاب العِلم عندنا؟ بالتأكيد لا؛ فإنَّ المُستوى الذِّهني مُتقارِب بين الاثنين، إنما المُعضِلة تكمُن في اللُّغة العربية التي ترقى تعقيداتها إلى مَرتبة اللوغاريتمات المُنغلِقة على عقول غير المُتخصِّصين.

وفي فصول هذا الكِتاب سنُناقِش بهدوءٍ الأهميَّة الحيوية للُّغة في حياتنا، وهل هناك شيء اسمه لُغة عالمية، كما سنُناقِش لماذا يتعذَّب ملايين التلاميذ والطُّلَّاب من أجل تَعلُّم اللغة العربية بدلًا من أن يُركِّزوا طاقاتِهم في تحصيل العلوم من خلال أداةٍ لُغويَّةٍ سهلة طيِّعة، كما هو الحال بالنسبة لطُلَّاب غالِبيَّة دول العالم الأخرى.

فعلينا، بعيدًا عن النِّفاق، أن نعترِف بأن طلَبَة المدارِس يَكرَهون حصَّة اللُّغة العربية، ويَنعُون همَّها أكثر من أيِّ مادَّةٍ تعليمية أخرى. فإلى متى نَجعل أطفالَنا وَشبابنا يَتجرَّعون عذاب القواعد المُعقَّدة التي عفا عليها الزَّمن ولم تَعُد تُواكِب العصر؟

وتتعدَّى القضية تلاميذ المدارس وطلَبة الجامِعات حيث يكاد لا يُوجَد شخص في العالم العربي لا يُخطئ في اللغة، وحتى الذين يَتباكَون على اللغة ويَتهكَّمون على أخطاء غيرِهم غير قادِرين على القراءة والكِتابة دون خطأ، باستثناء بِضعِ مئاتٍ معدودة من المُتخصِّصين في العالم العربي كلِّه.

وهذه اللغة العظيمة التي نزَل بها إعجاز القرآن الكريم، والتي فتَحت للعرَب آفاقًا رَحبةً للتَّطوُّر الفكري والإبداع الفني أصبحت، مع مرور القُرون، قيدًا يُكبِّل العقل العربي ويَغُلُّ طاقتنا الخلَّاقة، فاللُّغة تَحوَّلت إلى إسارٍ يَخنِق أفكارَنا ويُلجِمُها. وهي تُسهِم للأسف في حِرماننا من الانطِلاق إلى الآفاق الرَّحبة التي يفتحها العِلم الحديث ووسائل المَعيشة المُواكِبة للتطوُّر العلمي. وباختصارٍ فإنَّ اللُّغة أصبحت سِجنًا يُحبَس العقل العربي بين جُدرانه الحديدية بإرادَته المُستكينة.

فالعربيَّة هي اللغة الوحيدة في العالَم اليوم التي لم تتغيَّر قواعِدُها الأساسيَّة منذ ١٥٠٠ سنة كاملة. قد يرى البعض في ذلك رُسُوخًا واستمراريَّةً ودليلًا على رَصانة اللُّغة، لكنِّي أرى فيه جُمودًا وتَحجُّرًا ينعكِس سلبًا على العقل العربي؛ فاللُّغة كما قُلنا كائن حي، يُولَد ويَنمو ويتطوَّر ويَشِبُّ وينضَج ثُمَّ يشيخ، وكثيرًا ما يموت، ودَورُنا هو إعادة الشباب إلى لُغتنا، وإجراء عمليَّات تجميلٍ لإزالة التَّجاعيد التي تراكَمَت بعد قرونٍ من المُمارَسة الناجِحة، فالجُمود في اللُّغة يؤدِّي حتمًا إلى جمودٍ في العقل، والتحجُّر في اللُّغة يؤدِّي إلى تَيَبُّسِ الأذهان.

وفي الماضي كان النَّوابِغ قادِرين على مَعرفة اللُّغة والتُّراث والحديث والتَّعمُّق في الوقت ذاته في علومٍ مثل: الفلك، والكيمياء، والرياضيات. أما اليوم، ومع الاتِّساع اللامُتناهي في المَعارِف، فإن الإنسان العربي يَجِد نفسه أمام خِيارٍ صعب: إما أن يُكرِّس حياته لدِراسة اللغة والتُّراث، أو أن يتَخصَّص في فرعٍ من فُروع العِلم والمَعرفة الحديثة.

وفي الحالة الأولى، فإنه سيكون ضليعًا ولا شكَّ في العربية، لكنَّه سيكون شِبهَ مُنقطعٍ عن العالَم ومحبوسًا في دائرةٍ مُغلَقة تَجعلُه خارِج حياة القَرن الحادي والعِشرين، وفي الحالة الثانية يكون مُواكبًا للتَّطوُّر الحضاري الهائل في العالَم أجمع، لكن مَعرفِته بالعربيَّة ستكون محدودة وسطحيَّة إلى حدٍّ بعيد.

وسنَعقِد في فُصول هذا الكِتاب مُقارَنة سريعة بين العربية واللُّغات الحيَّة الأخرى؛ لنتبيَّن صِدق هذه الحقيقة، وسنشعُر من هذه المُقارَنة بين العربية بقواعِدِها الجامِدة مع اللُّغات الأخرى التي تَستخدِمها الشُّعوب المُتقدِّمة، أنَّنا كمن يَمتطي جِمالًا بالطريق السريع، في الوقت الذي يركَبُ فيه غيرُنا سياراتٍ تَنقِلُهم بأقصى سُرعةٍ إلى ساحات التقدُّم. فتحصيل العِلم من أجل تطبيقه لنَفع الإنسان أصبح الشُّغُل الشاغِل للمُجتمَعات المُتحضِّرة. لم يَعُد هناك فَراغ يجعَل الناس تَستلذُّ صعوبة القواعد وتعقيد الكلِمات كما هو الحال عندنا، حيث يَنتشي البعض وتنتفِخ أوْداجُهم سرورًا عندما يُصحِّحون خطأً لُغويًّا، ويَتلُون قاعِدةً مُتقعِّرة، لا قيمة لها إلَّا أنَّها من وَضع النُّحاة الأقدَمين.

هذا في حين أنَّ المُجتمَعات المُتقدِّمة في صِراعٍ مع الزَّمن، وليست على استعدادٍ لإضاعة وقتِها الثمين في الكلِمات الرَّنَّانة الفارِغة من أيِّ مُحتوى، وفي القواعد المُعقَّدة والجِناس والطِّباق والمُقابَلة والاستِعارة المَكنيَّة وغير المَكنيَّة، وما شابه ذلك من مُحسِّناتٍ بديعية. حتى الأدَب العالمي أصبَح يعتمِد على المعنى والمَضمون وليس على زُخرُف اللُّغة والتَّلاعُب بالألفاظ.

وسوف نتعرَّض أيضًا بمِعيار العقل إلى قضيةٍ حسَّاسة هي عَلاقة اللغة بالدِّين، وهل العربية لُغة «توقيفية» أي هابِطة من السماء، كما يُريد البعض، أم لُغة «اصطلاحية»، أي من صُنع الإنسان، كما يُريد المَنطِق؟ مع أنَّ الكُلَّ يَعلَم أنَّ العربية نشأت واستوَت كمنظومةٍ لُغويَّة مُتكامِلة في العصر الجاهلي، فهي إذن تنتمي، كلُغة، إلى العصر الجاهلي، لكن الله سُبحانه وتعالى تخيَّرَها لتنزِيل رسالَتِه إلى البَشر، فسَما بها إلى أعلى مراتِب الإعجاز.

•••

وفي كِتاب «الدَّاء العربي» حاوَلْتُ أن أضع أصابِعي على بعض أسباب تخلُّف العالم العربي عن رَكْب الحضارة العالَمي، ورصدتُ فيه ثلاثة مَحاوِر أساسية هي: «الفِكر القَبَلي» و«ثقافة الأذُن» و«حضارة اليقين»، وكنتُ أنوي أن أُخصِّص فصلًا عن اللُّغة بِعنوان «رسالة إلى حُرَّاس الضاد» أُشدِّد فيه على ضرورة الثَّورة على قواعِد اللُّغة التي لم تَعُد تواكِب زمانَنا، فأنا أعتبِر أنَّ اللُّغة هي أحد عناصر تخلُّف العالَم العربي، وأن تحَجُّر البعض في تناوُل قضيَّة اللغة من أسباب عمليَّة إجهاض النَّهضة الذي قمتُ بتحليله في كِتاب «الدَّاء العربي»، لكنَّني وجدتُ أنَّ قضيَّة اللغة أكبر من أن تُعرَض في فصلٍ داخِل كتاب؛ فهي في حاجةٍ إلى مُؤلَّفٍ مُستقلٍّ يُحلَّل الظاهِرة ويُحيط بها من جوانِبها المُختلِفة.

ويأتي هذا الكتاب تكمِلةً لما سَعيتُ إليه في «الداء العربي»، فقد آن الأوان أن نُدرك أن اللغة أصبحَت إحدى العقَبات في سبيل انطِلاق العقل العربي، وآن الأوان أن نقول هذا الكلام بِشجاعةٍ في وَجه من يُريدون الحَجْر على عقولنا وترويع كلِّ من يُنادي بالتحديث.

•••

وبعيدٌ عن ذِهني تمامًا هجْر اللغة العربية لحِساب اللَّهجات العامية، أو استِخدام الحُروف اللاتينية، وما شابَه ذلك من اقتِراحاتٍ طرَحَها بعض الذين أدرَكوا نُكوص الفُصحى عن التَّعبير عن واقِعِنا الحالي، فالذين يَدْعون إلى وَأدِ العربية لا يُدركون تَبِعات مَطلَبِهم، فاللُّغة العربية أنتجَت بعضًا من أهمِّ الإبداعات الإنسانية، ومن يدرس تاريخ الآداب العالَميَّة لا يَسَعْه إلَّا أن يتوقَّف بإجلالٍ أمام أشعار المُتنبي، وأبي العلاء، وأبي نُواس، ونثر أبي حيَّان التوحيدي، كما لا يملِك إلا أن يَنحني تحيَّةً لأدب نجيب محفوظ.

وترك اللغة العربية معناه ببساطةٍ مَحو كلِّ هذا التُّراث العظيم من الذَّاكرة الجماعية للشعب العربي. هذا عن التاريخ، أمَّا عن الحاضر فإن معناه تفتيتُ الأمة العربية وشرذَمَتُها إلى كِياناتٍ مُستقلةٍ وربما مُتنافِرة. فإذا نظَرْنا إلى الوطن العربي اليوم نجِد أن أقطاره تختلِف في السياسة وتتنافَر في الاقتصاد وتتنافَس في التجارة. الجانب الوحيد الذي يجمَع بين العرب هو اللُّغة والثقافة؛ فإذا سحَبْنا البِساط من تحت هذا الجانب فإنَّنا نهدِم صرحًا يُظلُّ كافَّة العرب وكأنَّنا نهدِم المَعبد فوق رءوسنا.

ولهذه الحيثيَّات فإنه لا يُمكِنُني أن أقِف مع الدَّاعين إلى هدْم العربية من أساسها، لكنَّني أطالب بإعادة النَّظر في القواعد الأساسية للُغَتنا؛ لتُصبِح أداةً فعَّالةً لتفجير طاقات العقل العربي المُحتَبسة في هيكل اللغة المُقدَّس.

وأنا على ثقةٍ من أنَّني أُترجِم المشاعر الدَّفينة في نفوس ملايين العرب، وأنا أهتف قائلًا: يَسقُط سيبويه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤