الفصل العاشر

الاستثناء العربي

يتفرَّد العرب بين شعوب العالم بالالتِحام الوثيق بين هُويَّتِهم ولُغتهم. ويقول جمال حمدان في كتاب: «شخصية مصر» (الوسيط: دراسة في عبقرية المكان):

وإذا كان لا بُدَّ من مِقياس مُدرَّج للعروبة، فليس جنسيًّا هو، ليس بكميَّة الدَّم العربي التي أضيفت، ولكنَّه كميَّة اللسان العربي التي استُعيرَت. بمعنًى آخر، مِقياس العروبة، مثلما هو أساسُها، اللُّغة لا الجنس.

والتَّعريف الشائع للعربي كما قُلنا، هو أنه من يتحدَّث اللغة العربية. لكنَّ هذا التعريف لا ينطبِق على أبناء الشعوب الأخرى؛ فلا يُمكِن أن يُعرَّف الفرنسي مثلًا بأنَّه من يتحدَّث الفرنسية؛ لأنَّ هناك شُعوبًا أخرى في بلجيكا وسويسرا وكندا وغيرها، لُغَتها الأم هي الفرنسية. كذلك فالإنجليزي لا يُعرَّف بأنه من يتحدَّث الإنجليزية، وأيضًا الإسباني والألماني والروسي وهكذا.

لكن الانتماء إلى العروبة لا يكون إلا باللُّغة كشرطٍ مُسبق للتدليل على الهوية.

ومع بدايات القرن الحادي والعشرين يُواجِه العرب هُجومًا شرِسًا يَستهدِف الأُسُس الراسِخة لثقافتِهم المَوروثة. ولا شكَّ عندي في أنَّ الصِّراع العربي الإسرائيلي يكمُن بصفةٍ أساسيَّةٍ وراء مُحاولات تعديل العقل العربي وتشكيله تشكيلًا جديدًا، بحيث يتقبَّل السَّلام بالشروط الإسرائيلية.

فأمريكا، والغرب عامةً، يَسعَون منذ نِصف قرنٍ إلى إقناع العرَب بضرورة السلام مع الدولة العبرية. ولأنَّ الولايات المُتَّحِدة ترفُض، أو لا تستطيع، مُمارسة أيَّة ضغوط على إسرائيل، فإن الجانب الذي تستطيع إقناعه بالحُجَّة أو بالقوَّة هو الجانب العربي.

ومنذ كامب ديفيد وقبلها، لجأت واشنطن إلى كافَّة أشكال الضُّغوط على الدُّول العربية التي تعتبِرُها حليفةً لها، وهي دول ترتبِط بالفِعل بمصالِح حيويَّة مع أمريكا. لكن كلَّ «النصائح» والضغوط فشِلت في إقناع العرَب بالاستِسلام لإرادة إسرائيل والتخلِّي عن القضية الفلسطينية، أيًّا كان رأيُنا في أسباب ذلك.

وقد أدرك خُبراء العرَب أن منبع الرَّفض الحقيقي ليس الحُكَّام العرب وحدَهم، وإنما الشعوب العربية، وأن الأنظِمة لا تستطيع، حتى لو أرادت، أن تقبل بِتسويةٍ غير عادِلة.

وقد أسهَمَت حادِثة ١١ سبتمبر ٢٠٠١م في زيادة الفجوة بين الغرب بزعامة أمريكا من ناحية والعالم العربي من ناحية أخرى. وهنا لم يجِد الغرب حلًّا إلَّا في إعادة تشكيل العقل العربي؛ ليتواءم مع المَنطق الغربي ويَخضع لرَغَبات إسرائيل. وتبلْوَرَت شيئًا فشيئًا فِكرة إعادة تشكيل العقل العربي فيما يُسمَّى بمشروع الشرق الأوسط الكبير.

وقد بادرت الشُّعوب العربية برفض هذا المشروع؛ لأنه من غير المَعقول ولا المَقبول أن تتدخَّل إرادات خارجيَّة في تشكيل عقل الأجيال الصاعِدة من أبناء الشعوب العربية.

لكن هل يعني ذلك أنَّنا لسنا في حاجةٍ إلى إصلاح؟

الإجابة في رأيي أنَّنا اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة العقلية العربية بكاملها؛ فقد أصبح العرب يعيشون وكأنَّهم على هامِش المُجتمع الدولي بسبب انكفائهم على مجموعة من الأفكار المُتحجِّرة التي نَستلهِمُها من ماضينا ولم تعُد تُجاري زماننا.

•••

ولعلَّ اللغة العربية هي نموذج واضِح ورمزٌ ملموس لتحجُّر العقل العربي ورفض التغيير من مُنطلَق التمسُّك بالماضي؛ فنحن نرفُض المِساس باللغة العربية بدعوى أنها لُغة القرآن، لكن الواقع من خلال التحليل الذي أوردْتُه في هذا الكتاب هو أن تواصُل الأجيال المُقبلة مع القرآن والدِّين الإسلامي يمرُّ حتمًا بتطوير اللُّغة وتطويعها لمُقتضَيات العصر، فالتطوير مع مَصلحة الدين، كما أنه من مَصلحة الشعوب العربية.

وكما أثبتُّ في الصَّفَحات السابقة، فإن الدِّين لعِب دورًا حيويًّا في الحِفاظ على العربية، وإذا أخذنا مثال مِصر في عصور الحكم التُّركي المملوكي منذ الغزو العُثماني، وحتى عصر النهضة في مُنتصف القرن التاسع عشر، فسنُدرك حقائق عن اللُّغة ربما لم نفكِّر فيها من قبل. ولنَطرَحْ على أنفسنا هذا السؤال: من كان يُجيد اللغة العربية الفُصحى في تلك الحقبة؟

الطبقة الحاكِمة كانت تتحدَّث التُّركية بصفةٍ أساسية، وكانت هذه اللُّغة هي لُغة التعامُل الرَّسمي والفرمانات والأحكام. أما أبناء الشَّعب فكانوا يتحدَّثون اللَّهجة المِصرية الدَّارجة، وكانوا في غالبيَّتهم الساحِقة لا يعرفون القراءة والكِتابة ولا يفهمون الفُصحى.

الفئة الوحيدة التي كانت تُجيد العربية هي عُلماء الدِّين ودارسو أو خرِّيجو الأزهر الشريف، وكان عدد هؤلاء لا يزيد عن بِضع مئاتٍ تُعدُّ على أصابع اليَدِ الواحدة، ولولا هؤلاء لتعرَّضت العربية في مصر إلى أخطار حقيقية.

وكما أشرتُ في كِتاب «الداء العربي» فإنه عندما أصدَرَ الطهطاوي كِتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» أمرَ وليُّ النِّعم محمد علي باشا بترجمتِهِ إلى اللغة التُّركية حتى يَستفيد منه الحُكَّام الحقيقيُّون للبلاد وغالبِيَّتُهم العُظمى لا يُجيدون سوى التركيَّة.

وخلال القرن العشرين، أدَّت وسائل النَّقْل والاتِّصالات إلى التقريب بين شُعوب العالم، وبدأت ترتسِم معالِم قَسَماتٍ مُشتركة تجمَع بين أبناء البشرية بِصُوَرٍ مُتفاوتة.

ولا شكَّ أنَّ الحَربَين العالمِيَّتَين: الأولى (١٩١٤–١٩١٨م)، والثانية (١٩٣٩–١٩٤٥م)، برغم ضَراوَتِهما البالِغة، لعِبتا دَورًا هامًّا في التقريب بين شعوب العالم، وفي إيجاد قاسِم مُشترَكٍ أعظم من القِيَم والمبادئ والمُثُل تصلُح للمُجتَمعات الإنسانية في كلِّ مكان.

وحتى قَبل الحرب العالميَّة الأولى، بدأت شُعوب العالم تتَّفِق على مبادئ عامَّة، وتلفِظ بعض المُمارَسات التي كانت مَقبولةً من الجميع لقرونٍ طويلة، فكان هناك إجماع تحقَّق تدريجيًّا حول إلغاء الرقِّ ونهاية عصر العبيد، وإلغاء التَّعذيب البدَني الذي كان مُباحًا بل ومُستحبًّا في غالبيَّة مُجتمعات العالم، كما ظهر اتِّفاق عام حول ضرورة إعطاء المُتَّهم فرصة الدفاع عن نفسه من خلال مُحامٍ يتَرافَع عنه أمام المَحاكم.

واستقرَّت هذه المبادئ في أذهان كافَّة مجتمعات العالم وأصبح من الصَّعب على أيِّ مُجتمع أن يَستثنيَ نفسه من الالتِزام بها.

واليوم تُجمِع غالبيَّة مُجتمعات العالم على مبادئ ومُثُل تتَّفِق حولَها بصفةٍ عامة، مثل: الدِّيمقراطية، وحقوق الإنسان، وحريَّة التعبير، وحريَّة التِّجارة، والمُساواة في الحقوق بين الرَّجُل والمرأة، ومُساواة جميع المواطنين أمام القانون.

لا شكَّ في أن الدُّول الغربية الكبرى كثيرًا ما تستغلُّ هذه المبادئ لصالِحِها وتخرِقُها عندما تصطدِم بمصالِحها العُظمى، ولا تعبأ باعتراض شعوب العالم التي ترفَع صوتها رفضًا للظُّلم الواقِع عليها.

ومع ذلك، فإن رفض هذه المبادئ من أيِّ طرفٍ يُعدُّ نوعًا من الخروج على القانون الدولي الذي يتمثَّل في الأُمَم المُتَّحدة والمُنظَّمات الدولية والعُرف الذي أصبح سائدًا في العلاقات بين الدول المُختلفة.

صحيح أن لِكلِّ حضارةٍ هُويتها الثقافية الخاصة، لكن القاسِم المُشترك الأعظَم في القِيم والمبادئ العامَّة، أصبَح ظاهرةً لا يُمكِن الفِكاك مِنها في القَرْن الحادي والعشرين.

فهل يُعقَل مثلًا أن يَذهَب عربي إلى طبيبٍ غربي فيُعطِيه دَواءً مُناسبًا لحالَتِه فيعتَرِض المريض قائلًا: هذا الدَّواء ينفَع أبناء بلَدِك، لكنَّه لا يَنفَعني لأنِّي عربي؟!

للأسف إنَّنا نَجِد مَواقِف مُشابِهة لذلك الموقف العَبَثي عندما نرفُض أفكارًا وارِدةً من الخارج بادِّعاء أنها تَتناقَضُ مع ثقافَتِنا ودِيننا.

•••

وإذا اقتَصَرْنا على مَجال اللُّغة وهو موضوع هذا الكتاب فإن التيَّار الغالِب عندنا يقول: كلُّ لغاتِ العالَم قابِلة للتطوير والإصلاح، إلَّا لُغتنا العربية، ثم يَسوقون حُجَجًا عديدةً لتَبرير هذا الاستثناء، على رأسِها أنَّ العربية لُغة القرآن.

وقد سعيتُ في صفحات هذا الكتاب أن أُثبتَ كم أنه من مصلحتِنا كمُسلمين حريصين على دِيننا وتراثنا، أن نقوم بتطويرٍ شاملٍ للمنظومة اللُّغوية العربية ولا يُمكن أن تَظلَّ العربية مُمتنِعةً عن أيِّ تحديثٍ دُونًا عن كلِّ لغات العالم الحية، فهذه النظرة التي تَستثني العرَب من مُمارَسَة التجارب الناجِحة في العالَم هي أهمُّ أسباب تخلُّف العالَم العربي عن ركبِ الحضارة العالمية.

بالتأكيد أنَّ لنا خُصوصِيَّتِنا التي لا بُدَّ أن نُقيم لها ألفَ حسابٍ فنحن قد نقبَل حريَّة المرأة، لكنَّنا لا نقبَل الانحِلال الخُلُقي، ونقبَل حريَّة الرأي، لكنَّنا لا نقبَل التَّهجُّم على الأعراض.

والمُشكلة أنَّ البعض عندنا يتذرَّع بخصوصيَّة الأخلاقيَّات العربية لرفْض حريَّة المرأة وحريَّة الرأي بدعوى أنهما تُؤدِّيان إلى الانِحلال والفوضى وتُعارِضان قِيَمَنا الدينية، ويُغلَّف هذا الرفض بحُججٍ واهِيَة تنطَلِي على البعض نظرًا لتَبجِيلنا لدِينِنا الحنيف والتِزامنا بقِيَمِه ومبادئه.

والاستثناء العربي له وجود بالفعل على أرض الواقع، فنحن أصحاب مِيراث ثقافيٍّ يَندُر أن يتواجَد لدى أيِّ حضارة أخرى في العالم. وثقافَتُنا تُعطي أهميَّةً كُبرى للرُّوحانيَّات، والأخلاقيات، والعواطف الإنسانية، والترابط الأسري، والتراحم، وكلُّها مُثُل عظيمة توارَثْناها جيلًا بعد جيل، ويكون من الجنون أن نُفرِّط فيها، بل علينا أن نتمسَّك بهذا الاستثناء الإيجابي الذي يُميِّزُنا عن باقي حضارات العالم.

لكن أن يكون الاستثناء العربي هو استثناء من تقبُّل الديمقراطية ومُثُل الحرية، وحقوق الإنسان، والمُساواة بين الرَّجُل والمرأة، ومُساواة الجميع أمام القانون، فهذا استثناء سَلبيٌّ يجعَل من العرب جماعةً خارِجة على القانون الدولي والأعراف التي اتَّفَقت عليها الإنسانية مع بداية القرن الحادي والعشرين. وقد أصبح واضحًا اليوم أنَّنا لا نستطيع أن نَعيش في جزيرةٍ مَعزولة اسمُها العالم العربي.

ورَفْضُنا لأيِّ تطويرٍ ملموس في قواعد النحو والصرف العربي نابِعٍ من حاجَتِنا وحاجة اللغة إليه، هو دليلٌ صارِخ على أنَّ فَهمَنا للاستثناء العربي هو فَهْم سلبيٌّ يَعوق أيَّ تقدُّم للعقل، وبالتَّالي أيَّ تطويرٍ للمُجتمعات العربية.

وإذا كان علينا أن نرفُض بشدَّة أن يتحكَّم أحد في عقولنا، وأن يُملي علينا أسلوب تفكير مُعين، فإنَّ علينا بنفس القَدْر أنْ نرفُض من يُنادون من بيننا بالتَّحجُّر والانغِلاق، ورفض كلِّ جديد.

فعلى مرِّ عصور الدولة الإسلامية لعِب تجار الدين على وَتَر الإيمان العميق للشعوب العربية وجَهلِها بتعقيدات اللُّغة الفُصحى، فاستَخدَموا كلامًا مُبهمًا وتعمَّدوا استِخراج أصعب الكلِمات والتراكيب اللُّغوية ليُبهِروا الناس فيُصدِّقوهم، ويَتبِّعوا ما يَقولون مِن مُنطلَق إيمانهم الرَّاسِخ بالدين. ولازال البعض في العالم العربي اليوم يَستخدِم نفس الأسلوب، عامِدِين إلى تَسييس الدين واستِمالة أبناء الشَّعب البُسَطاء المَسحورين بالكَلِم.

ونحن نَعتبر اللغة من ثوابت العقل العربي التي نفخر بها. والواقِع يُملي علينا أن نفخَر بتُراثِنا الأدَبي والفكري واللغوي، لكنَّه يُملي علينا أيضًا أن ننتفِض ثائرين على قواعد النحو والصَّرف والتعقيدات اللغوية التي تُغلِق أبواب العقل العربي وتَحبِسُه في الماضي البعيد، وفيما أملاه السَّلَف من آراء وأفكار لم تَعُد تُناسِب العصر الذي نعيش فيه.

لقد تأخَّرْنا أكثرَ من ألفِ عامٍ عن إحداث تطويرٍ حقيقي في اللغة العربية؛ بسبب مَيلِ العقل العربي إلى التمسُّك بالقديم وتقديس كلام السَّلَف. فعلينا أن نتدارَك دون إبطاءٍ كلَّ هذا الزَّمن الذي راح هباءً، وجعل الآخرين يتفوَّقون علينا ويتحكَّمون بالتالي في مصائرنا.

•••

ولا يُمكِن اعتِبار اختيار السياسة اللغوية لأي مُجتمع على أنه من ثِمار الصُّدفة، أو أنه اختيار مُحايد؛ فوراء هذا الاختِيار سياسة عامَّة لكُلِّ مُجتمَع تقوم على مَفهومه العميق لهويته.

وبالنسبة لنا في مصر فإن كنَّا نرى أن مصر للمصريين وحدهم، وأنه علينا أن نقتطِع أنفسنا عن الجَسد العربي، فإنَّه من المُمكن عندئذٍ أن نَتَّجِه إلى اللَّهجة المصرية ونُعطيها الأولوية. أما إذا كُنَّا مُقتنِعين بأن مصر جزء من ثقافة أوسَع، ومن عالَم أكبر هو العالم العربي، فإنه يَتعيَّن علينا في هذه الحالة أن نتمسَّك باللغة التي تَربِطُنا بجُذورنا التاريخية كما تَصِلُنا بامتدادنا الجُغرافي الطبيعي.

ولا شكَّ أنَّ هناك من يتربَّص بعالمنا العربي ويتمنَّى تقطيع أوصاله وتفكيك الرَّوابط بين أقطاره ومن أقواها اللغة.

فالعالم العربي يكاد يكون كما قُلنا الكِيان الوحيد الذي يتمرَّد على إرادة واشنطن، وخاصةً في علاقته بإسرائيل. فليس غريبًا أن نَسمَع من يؤكِّد أن العالم العربي مُجرَّد خُرافة ووَهْم كبير، وأن نَسمع من يُطالب بنبذ اللغة العربية وجَعل اللهجات هي اللُّغات القومية الرسميَّة لبلادنا.

وبالتأكيد أن تَجارِب الوحدة فشِلت وستفشَل في المُستقبل المنظور، لكن هذا لا يعني أنه لا يُوجَد عالم عربي له مصالح مُشتركة ورؤًى مُتقاربة ووجدان مُتوحِّد. ومن المؤكَّد أنَّ اللغة العربية هي العنصر الأساسي في تَرابُط الوجدان العربي. ولو تركنا هذه اللغة تتحطَّم فوق صُخورٍ عاتية، فإنَّنا نهدِم فِكرةً من أهمِّ أفكار القرن العشرين، وهي وجود عالمٍ عربي واحِدٍ له صِفات وخصائص مُتميِّزة عن باقي الكِيانات الثقافية.

•••

وأعلَم أنَّ الأفكار الوارِدة بهذا الكِتاب ستكون بمثابة صدمةٍ لبعض الذين اعتادوا السَّير في الطرُق المُعبَّدة التي مَهَّدها السَّلَف منذ قرون طويلة، ويسير عليها كلُّ من جاء من بعدِهم في حالة استِكانة عقليةٍ غريبة.

وأعلم أنَّ بعض من يَعتبِرون أنفُسَهم حُرَّاس اللُّغة العربية سينتَفِضون غضبًا من الاقتراحات التي يَتضمَّنُها هذا الكِتاب. وأعرف مُقدَّمًا الاتِّهامات الجاهِزة التي ستُوجَّه للأفكار الوارِدة في هذه الصفحات؛ فثِقتي كبيرة في نَزعة المُزايدة واللَّعِب على وَتر الدِّين والتقاليد والمَوروث وكلِّ القِيَم التي نُؤمِن بها جميعًا بنفس الدَّرجة، لكنَّنا نفهمُها من مُنطلَقاتٍ مُتباينة.

وأكاد أسمَع من يتساءل عن مَدى تخصُّصي في اللغة العربية، وهي الحُجَّة التي يُواجَه بها كلُّ من يُحاول الخروج عن الطرق المرصوفة والمُمَهَّدة، والتي أجمَعَت الأجيال الماضية عليها، لكنَّها مع هذا لم تعُدْ صالِحةً لجِيلنا الحالي وللأجيال القادِمة، إذ إنَّ اللُّغة كما يقول عميد الأدب العربي هي مِلك لكلِّ من يَستخدِمها.

ومع كلِّ ذلك، فإنَّني على ثِقةٍ تامَّة من أنَّه سيأتي اليوم الذي يُضطرُّ فيه العرَب إلى تبسيط لُغتِهم حتى لا تُواجِه أزمةً طاحِنة تُعرِّضها للخطر. فلماذا لا نبدأ من الآن؟ ألا تكفي القرون التي ضاعت منَّا هباءً؟

وكما قلتُ فقد تَمَّت عملية تطوُّر عشوائية للغة على أيدي المُفكِّرين والمُبدعين من مصر والشَّام وكلِّ البلدان العربية، وخاصَّةً من خلال الصَّحافة. ولا يَنبغي اليوم أن يحدُث أيُّ شطَطٍ أو قراراتٍ مُنفرِدة بالتطوير من أيِّ بلدٍ عربي، أيًّا كان، ولا يَنبغي أن يتأثَّر المُثقَّفون وعُلماء اللغة بالخِلافات السياسيَّة والحَزازات بين الحُكَّام؛ فَكُلُّ هذه الخِلافات زائلة، أمَّا اللُّغة فهي باقِيَة.

فَلْتنكَبَّ الجامِعة العربية وذِراعُها الثقافية المعروفة باسم «أليكسو» على مُهمَّة تقنين التَّطوير الواقِع، وإعادة النظر في أسُس القواعد والنحو. ولتُشكِّل الجامعة مُنتخبًا من المَجامع اللغوية الخَمس المَوجودة بالعالم العربي الآن؛ ليَضْطَلِع بهذه المُهمَّة المُلِحَّة.

•••

والمُعضِلة التي ستُواجِه الذين يتصدَّون لمُهمَّة تطوير اللغة تتمثَّل في ازدِواجية الهدف: الاقتراب من اللغة العاميَّة التي تَستخدِمها الشعوب العربية للتفاهُم اليومي، وفي الوقت ذاتِه عدَم القطيعة مع اللُّغة العربية الأصيلة، لغة القرآن ولُغة الأدَب التي مارَسَها العرَب خلال القُرون الماضية.

وفي النِّهاية فإنَّ كلَّ ما أطلُبه من القارئ الكريم، هو أن يَتمهَّل قبل أن يُصدِر حُكمَه على هذا الكتاب، فما جاء به يسير ضدَّ التيار الغالِب، وعكس المَوقِف الذي اتَّخذَه العرَب من لُغتِهم طوال القرون الماضية. وأفهم أن يكون ردُّ الفعل الأول هو الرَّفْض القاطِع للفرضيَّات والاقتِراحات التي عرَضْتُها في الصفحات السَّابقة؛ فقد اعتَدْنا على خطِّ تفكيرٍ مُعيَّن تربَّيْنا عليه وفُطِرنا على تقديسِه وعدَم مُراجَعتِه أو حتى مُناقَشَته.

لكنَّنا لو فكَّرنا بشيءٍ من الموضوعية لاتَّضَح لنا أنه آنَ الأوان لإعادة النَّظر في مُسلَّماتٍ طالَما آذَتْنا، وأوضاع ثقافية مُتحجِّرة هي السبب الحقيقي وراء تعطيل مَسيرة التَّقدُّم في العالَم العربي بأكمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤