الفصل الثالث

رِسالة إلى حُرَّاس الضَّاد

أعرِف مُسبقًا أنَّ الآراء الوارِدة في هذا الفصل والفصول القادِمة ستجلُب عليَّ انتقاداتٍ عنيفةً ممَّن يَعتبِرون أنفسهم حُرَّاس اللُّغة وتُراث السَّلف في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية، لكنَّني أعتبِر أن أكبر خَطَر ستُواجِهه اللُّغة العربية في السنوات القادِمة يتمثَّل تحديدًا في أنصار التَّجمُّد ورفض التجديد. وفي رأيي المُتواضِع أن الذين يَتصوَّرون أنفسهم حُماةَ اللُّغة العربية هم الذين يُعرِّضونها لأكبر الأخطار برفض التطوير، بل الثورة التي تَستلزِمُها اللغة في بداية القرن الحادي والعشرين لِتظلَّ لِسان العرَب المُشترَك في الألفية الثالثة.

وأنا مُقتنِع أنَّ ما أقترِحُه في هذا الكِتاب هو — في خُطوطه العريضة — الوَسيلةُ الوحيدة لإنقاذ العربية وخروجها من المأزق الخطير الذي تُعاني منه اليوم أكثر من أيِّ يومٍ مضى؛ للأسباب التي أوضحتُها في المُقدِّمة.

فلُغَتنا في حاجةٍ إلى انتِفاضةٍ تحديثيَّة عاجِلة، وإلَّا فإنَّها قد تتعرَّض لخطر التَّقوقُع وربما الاختفاء، لا قدَّر الله، كلُغةٍ حيَّةٍ يَستخدِمُها الناس في التَّعامُل فيما بينهم. وقد تتحوَّل إلى لُغةٍ لا يعرِفُها سوى بعض العُلَماء والمُتخصِّصين، ويتعلَّمُها الناس لقراءة القُرآن الكريم فقط.

فمن يرقُب تَطوُّر اللغةِ في البلدان العربية، يَستشعِر أن لُغتنا الأصيلة مُهدَّدة بالضَّياع لحِساب اللَّهَجات التي يَستخدمها الناس في الأقطار العربية المُختلِفة للتَّعبير عن أنفسهم في حياتهم اليومية. وهناك نُفور واضِح ومُتزايد لدى الشباب من تَعلُّم قواعد اللُّغة المُعقَّدة والمُفردات والتراكيب التي عفا عليها الزَّمن، ولم تعُد تَفي باحتياجات الإنسان الحديث في التعبير عن نفسه.

وكلَّما اجتاحت مظاهِر التطوُّر وسُرعة إيقاع الحياة مُجتمَعات العالَم العربي، كلما ازداد الشُّعور العربي العام وخاصةً لدى الشباب بأن لُغة الضَّاد لا تُسعِف في هذا الزَّمان المُتسارِع الإيقاع الذي يَصِل فيه الناس إلى المعلومات وإلى المعاني في أسرع وقتٍ مُمكِن وأكثر الطرُق مُباشَرَةً.

وقد سبقَني بعض كِبار المُفكِّرين وعَمالِقة الثقافة، منذ رِفاعة الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م)، في مُحاوَلة وضع أصابِعهم على أسباب تخلُّف العالَم العربي عن رَكْب الحضارة وخاصةً عن العالم الغربي، لكن أحدًا من هؤلاء العَمالِقة لم يتطرَّق إلى قضيَّة اللُّغة بطريقةٍ مُباشِرة أو اعتبرَها عائقًا لتقدُّم العالَم العربي وازدِهاره.

وأنا مُقتنِع أنَّ اللُّغة التي أبدَعت أعظمَ وأجملَ وأرقَّ ما كُتِب في تاريخ البشريَّة، صارت اليوم مثل عجوز مُحنَّط في حاجةٍ إلى عمليَّاتٍ عاجِلة للعَودَة إلى الصبا، والتخلُّص من آثار الزَّمن؛ فالعربية كما قلتُ في المُقدِّمة، هي اللُّغة الحيَّة الوحيدة في العالَم التي لم يطرأ على قواعِدها الأساسية أيُّ تعديلٍ منذ أكثرَ من خمسة عشر قرنًا كاملة.

أما باقِي اللُّغات الحيَّة فهي إما حديثة نسبيًّا، أو قديمة، ولكن طرأتْ عليها تغييرات أساسيَّة لمُواكبة العصر.

وإذا أخَذْنا اللُّغات الأوروبية نجِد أنها ارتبَطَت بصورةٍ أو بأخرى بعصر النهضة. وقد تبلوَرَت كلُّها في شكلِها الحالي في حدود القَرنَين الخامِس والسادس عشر. وقد لَعِب اختراع الطباعة على يَدِ الألماني جوتنبرج في مُنتصَف القرن الخامِس عشر دَورًا حاسِمًا في تطوير اللُّغات الأوروبية.

فالفرنسية مثلًا لا يتجاوَز عمرها خمسة قرون. وكانت فرنسا مُقسَّمة لُغويًّا في العصور الوسطى إلى شمال يتحدَّث الناس فيه لُغةً تُسمَّى «أويل»، وجنوب يَستخدِم لُغة «أوك» — ويُذكِّرنا هذا باللُّغة العَدْنانيَّة في شمال الجزيرة العربية، ولُغة حِمْيَر في جنوبها — ولم تُصبِح الفرنسية لغةً رسميَّةً إلَّا في عام ١٥٣٩م بمُوجَب مرسومٍ ملكيٍّ أصدَرَه ملك فرنسا فرنسوا الأول (١٤٩٤–١٥٤٧م) وعُرِف باسم مرسوم فيليرس-كوتريه.

أما الإنجليزية فإن دائرة المَعارِف البريطانية تُشير إلى أنَّ المُؤرِّخين يُجمِعون في غالبِيَّتِهم على أنها بدأت نحو عام ١٥٠٠م في صُورتِها التي نعرِفها حاليًّا. وكما أنَّ مونتيني (١٥٣٣–١٥٩٢م) كان أول من أبدَع بالفرنسية، فإن الرائد الأول للإنجليزية هو تشوسر (١٣٤٠–١٤٠٠م).

لكن حتى مع حَدَاثة هاتَين اللُّغَتَين بالنِّسبة للعربية، فقد طرأت عليهما تَغييراتٍ أساسيَّة. ولم تكُن نتيجة التَّطوُّر الطبيعي فحَسْب، وإنما بفِعل تعديلات في القواعد والتراكيب؛ فنحن إذا رَجَعنا لِلُغةِ مونتيني، أول من كتَب بالفرنسية الحديثة لوَجدْنا فُروقًا جوهريَّة مع الفرنسية التي يَستخدِمُها الكُتَّاب اليوم.

كذلك لو قارنَّا بين الإنجليزية التي كان يكتُب بها شيكسبير (١٥٦٤–١٦١٥م) مسرحياته الخالدة، واللُّغة الإنجليزية المعروفة اليوم لوَجَدْنا فروقًا لا يُمكن أن تَخْفى على أحد. وكما في الفرنسية فإنَّ التَّغيير ليس في تطوُّر الأسلوب وإدخال كلماتٍ جديدة فحسب، وإنما في القواعد الأساسية التي تضبِط النَّحوَ والصَّرفَ في اللُّغَتَين.

إذًا فحتى اللُّغات الحديثة نسبيًّا تطوَّرت من أجل مُجاراة العصر، ولكي تعكس بأمانةٍ احتياجات الإنسان العصري التي تختلِف جذريًّا عن احتياجات سابِقيه الذين عاشوا من مئات السنين.

أما اللُّغات القديمة مثل العِبرية واليونانية والصِّينية فإنها تختلِف اليوم اختلافًا جِذريًّا عن اللُّغات الأصليَّة التي كانت مُستخدَمةً منذ أكثر من ألفي عام. والجَدير بالمُلاحَظة أنَّ عمليَّات التَّطوير التي عَرفَتْها الصينية كانت تتمُّ بطريقةٍ تِلقائية مرَّةً كلَّ نَحو خمسمائة عام.

والخُلاصة هي أن العَربيَّة هي اللُّغة الوَحيدة على وجه الأرض التي لم تتطوَّر قواعِدُها ونَحوُها وصرفُها منذ ألفٍ وخمسمائة عام، وهي اللُّغة الوحيدة في العالَم التي أصرَّ النَّاطِقون بها على تَحنيطها، وبَذَلوا كلَّ الجهود بدعوى الحِفاظ على «نقائها».

•••

ولأنَّ اللُّغة هي انعِكاس لاحتياجات المُجتمَع في التَّفاهُم والتَّعامُل، فلا يُعقَل أن تكون احتياجات المُجتمَع العربي في القَرن الحادي والعِشرين مُماثِلَةً لاحتياجات سُكَّان البادِية في القَرن الخَامِس الميلاديِّ قبل ظهور الإسلام. واللُّغة هي المُحدِّد الرئيسي لأسلوب التفكير ورؤية الدُّنيا؛ فهل يُعقَل أنَّنا نُفكِّر اليوم مثل البَدو في القرن الخامِس الميلادي بالجزيرة العربية، وأنَّ رؤيتنا للدُّنيا لا تَختلِف عن رؤيتهم؟

ولو كان ذلك صحيحًا لكان دليلًا على تَخلُّفِنا الشديد؛ فسُنَّة الحياة أن يَتطوَّر الفِكر ويرتَقي إلى آفاقٍ أرحبَ بالتَّوازي مع التقدُّم المادي للمُجتمع. ولا يُمكِن لإنسان القرن الواحد والعشرين أن يرى الدنيا كالبَدَوي في صحراء القرن الخامس الهجري، الذي لم يكُن يَعرِف عن العالَم شيئًا، وكانت كلُّ آفاقه هي كُثبان الصحراء المُحيطة به.

ولأنَّ اللُّغة هي مرآة أمينة لتَطوُّر العقل، فإن عدَم تطوُّر قواعد اللغة العربية منذ ١٥٠٠ عام يحمِل دلالاتٍ خطيرة، أترُك للقارئ أن يَستنتِجَها بنفسه.

صحيح أنه علينا أن نفخَر بأنَّ أجدادَنا وَضعوا لُغةً جميلة كانت قادِرة على تحدِّي الزمن، وعلى التَّعبير عن أدقِّ المعاني وأجمل المشاعر، إلَّا أنه لا يُمكِن أن تستمِرَّ العربية في غِياب تطويرٍ جِذريٍّ في قواعِدها دون مُواجَهة خطَر فُقدان هُويَّتِها.

وكان أعظَم ما نزَل بالعربية هو القرآن الكريم، وهذا يَجعلُنا أكثر حِرصًا على الحِفاظ على لُغتِنا الجميلة وأكثر تَمسُّكًا بها. والحِفاظ عليها يَستوجِب العمل على تطويرها دون إبطاء؛ حتى تُواكب مُتطلَّبات العصر في الصِّياغة والمُفرَدات وقواعِد النَّحو والصَّرف.

وتدُلُّ كلُّ المؤشرات على أنَّ الشباب، حتى من خريجي أفضل الجامعات العربية، أصبَحوا يكتُبون بلغةٍ ركيكة ويقَعون في أخطاء لُغويَّة فادِحة، حتى خريجو كليَّاتٍ من المُفترَض أن يَستخدِموا العربية لمُمارَسة عمَلِهم مثل الحقوق والآداب، قد وَصَلوا في الآوِنَة الأخيرة إلى مُستوًى لا يُصدَّق من التَّدَنِّي في الإلمام باللُّغة وقواعِدها.

وقد دَأبَ الكُتَّاب والمُثقَّفون على السُّخرية من هؤلاء الشباب وصَبِّ لَعَناتِهم على هذا الزَّمان، واكتفوا بذلك؛ فهم يَعتبِرون أنَّ كلَّ من لا يُجِيد قواعِد العربيَّة ويُخطئ في النَّحو جاهِل ولا عَلاقةَ له بالعِلم. والكلُّ مُجمِع على أنَّ السَّبَبَ الوَحيد في هذه المِحنة هو استِهتار هؤلاء الشَّباب ورَفْضُهم لبذْلِ أيِّ مجهودٍ من أجل تعلُّم قواعد اللُّغة العربية ونَحْوِها.

وهم يؤكِّدون أنَّ الشباب فاشِل في كلِّ العلوم التي يتلقَّاها في المدرسة والجامِعة، وليس في اللُّغة العربية وحدَها، وهذا دليل على عدَم جِدِّيَّتهم. لكنَّ هذا الرأي يُناقِضُه الواقِع الذي يدلُّ على أنَّ القصور في معرِفة العربيَّة لا يقَع على الشباب وحدَهم كما لا يقَع على أبناء هذا الجيل وحدَهم، ولكنَّه قديم قِدَم اللُّغة نفسها.

والشكوى من الضَّعف في اللُّغة كان موجودًا في كلِّ حِقبةٍ من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كما سنكتشِف من خِلال فصول هذا الكتاب. وقد لخَّص شاعر النِّيل حافظ إبراهيم هذا الهاجِس في قصيدة شهيرة نشرَها عام ١٩٠٣م بعنوان «اللُّغة العربية تنعي حظَّها بين أهلِها» يقول في مَطلعِها:

رجَعْتُ لنفسي فاتَّهمتُ حَصاتي
ونادَيتُ قَومي فاحتَسبتُ حياتي

وهو هنا يتحدَّث بلسانِ اللُّغة العربية فيقول إنَّها اتَّهمَتْ نفسَها أولًا بأنَّها السبب في ضَعفِها الظاهر على ألسِنة الناس، ثم حاوَلَت أن تُنادي النَّاطِقين بالعربيَّة للنَّجدة فخذلُوها فاحتسبَت نفسَها عند الله.

ولا نِقاش حَول أنَّ الناطقين بالعربيَّة من الشباب وغير الشباب ممن يُخطئون في قواعِد اللغة ومُفرداتها يَتحمَّلون مسئوليَّةً كبيرة في ضَعف مُستواهم اللُّغوي. لكن هل فكَّر أحدٌ في طرح السُّؤال التالي: هل الخطأ في هؤلاء الشباب وفي الناطِقين بلُغة الضَّاد عامةً في هذا الزمان وحدَهم؟ أم أنَّ الذَّنْب يقَع كذلك على تحجُّر اللُّغة وعدَم مُلاءمَتِها لمُتطلَّبات العصر؟ وهل الحلُّ هو فرْض اللُّغة التقليديَّة كما هي دُون تطويرٍ على أساس أنها لُغةُ التُّراث والأدَب والثقافة العربية، وأنَّ أيَّ مِساسٍ بقواعِدِها هو عُدوان على الدِّين والمُقدَّسات؟ أم أنه آنَ الأوان أن نُفكِّر في كيفية تطويع اللُّغة لتُلائم مُقتضَيَات عصرٍ جديد وفِكر جديد لا بُدَّ من التَّعبير عنهما بأسلوبٍ جديد؟

أعلَم أن هذه الأسئلة تُعتبَر خروجًا قد لا يَقبلُه البعض عن أساليب التفكير التقليدية، واقتِرابًا من مناطِق حسَّاسة يقِف على أبوابِها المُوصَدة فريق من العُلَماء المؤمنين بضرورة الحِفاظ على التُّراث اللُّغوي كما هو، دون أدنى تحريف. وهؤلاء العُلَماء يَعتبرون أيَّ كلامٍ عن تحديث اللُّغة بمثابة خَوض في المَحظور وخروجٍ عن إطار الدِّين الحنيف. وهم يتفنَّنون أحيانًا في تعقيد اللُّغة وتقعيرها حتى تَنغلِق أكثرَ فأكثرَ عن العامة؛ فيُصبِحوا هم فئةً مُتميِّزة ترتفِع فوق باقي الناس بِحذْقِها اللُّغوي.

وظاهِرة رفض المِساس باللُّغة العربية هي جُزء من ظاهِرةٍ أعمَّ أصبحَت مُسيطِرة على المُجتمَعات العربيَّة.

فقد استشرى منذ الثُّلث الأخير من القَرن العِشرين تيَّار جارِف يَعتبِر كُلَّ جديدٍ بِدعةً مكروهة، ويرى في أيِّ فِكرٍ حُرٍّ مُتطوِّرٍ مُحاولةً شيطانية لتقليد الغرب، ونَبذًا للدِّين والثقافة العربية الأصيلة. ويَعتَبِر أصحاب هذا التيَّار أن واجِبَهم المُقدَّس هو الوقوف بالمِرصاد في وَجْه كلِّ من تُسوِّل له نفسُه الخروج عن قوالب التفكير الجامِدَة ومُحاوَلَة تطوير المَوروث والسَّعي وراء التجديد.

وهذا الاتِّجاه المُحافظ الرافِض — من حيث المبدأ — لأيِّ تجديد، موجود منذ فجر التاريخ في كلِّ المُجتمَعات الإنسانية. وقد أثبَتُّ في كِتاب «الداء العربي» كم عانى الرسول الكريم نفسه من أنصار الجُمود الذين وَصَفَهم القرآن قائلًا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (لقمان: ٢٢).

•••

وهناك معارِك كثيرة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وحضارات أخرى، اصطَدَم فيها الفِكر الجديد بحُرَّاس الماضي.

ومن أشهر المَعارِك التي وقعَت في تاريخ الأدب العالمي «معركة هرناني»، وهذه التَّسمية معروفة لكلِّ من يهتمُّ بالأدَب العالمي والفرنسي خاصةً. وقد نشأت عندما كتَبَ شاعِر فرنسا الأشهر فكتور هوجو (١٨٠٢–١٨٨٥م) مسرحيَّة باسم هرناني عام ١٨٣٠م حطَّم فيها كلَّ القوالِب الجامِدة التي التزَم بها المسرح الفرنسي منذ عصره الذهبي في القرن السابع عشر، وضرب هوجو عرض الحائط بواحِدٍ من أسُسِ المَسرح الكلاسيكي الأوروبي، وهي قاعِدة وِحدة المَكان والزَّمان والمَوضوع، كما خرج عن الوَزْن الشِّعري المعروف باسم «ألكساندران» أي «السكندري»، والذي يتكوَّن من اثنتَي عشرة وحدة صوتيَّة.

وهاجَ أنصار القديم، واعتبروا أن هوجو مارِق ومُحطِّم للتَّقاليد التي صَنَعَت مجد فرنسا. وأغرَب اتِّهام وُجِّه إليه آنذاك هو الخروج على تعاليم الدِّيانة المَسيحية، والكنيسة الكاثوليكية، حامِية التقاليد الراسخة التي استقرَّ عليها المُجتمع. وفي يوم افتتاح المَسرحيَّة نشبَتْ معركةٌ عنيفة وَصَلت إلى حدِّ التَّشابُك بالأيدي بين أنصار القديم والجديد.

لكنَّ التَّطوُّر الذي أحدَثه هوجو هو الذي انتصَرَ في النهاية وتحرَّر المسرح الأوروبي والعالمي من القيود، التي ربما كانت تُناسِب زمنًا من الأزمان لكنَّها تتصادَم مع طبيعة التطوُّر التي استنَّها الله في الأرض.

وقد أثبتَت التَّجرِبة أنَّ النَّزعةَ إلى التَّقوقُع والخَوف من العالَم الخارجي تظهَر وتستشري بالتَّوازي مع الانحِسار الحضاري؛ فالحضارات القويَّة الواثِقة من نفسِها تكون عادةً على استعدادٍ لتَقبُّل الفكر الوافِد من الخارج ومُناقشتِه والتعرُّف عليه ونقْل ما قد يُفيد منه.

ومع ذلك فالمَيل إلى رفض كلِّ جديدٍ نَزْعة كامِنة في كلِّ المُجتمَعات البشريَّة على مرِّ التاريخ بِصورةٍ أو بأخرى. ومن المُمكِن إعادة قراءة التاريخ الفكري للإنسانيَّة من مَنظور الصِّراع الدائم بين حُرَّاس القديم ودُعاة التحديث؛ ففي كلِّ مرَّةٍ طرأت فيها على مُجتمعٍ من المجتمعات تَغيُّراتٌ موضوعية، تَستوجِب تأقلُم الفِكر والثقافة والقوانين من أجل مُطابَقَة الواقع المُستحدَث، نجِد دائمًا من يَهبُّ للتَّمسُّك بالمَوروث دون تطوير، ويُقاتِل بكلِّ شراسَةٍ كي تَظلَّ المَرجعِيَّة الوحيدة هي مَرجعِيَّة السَّلَف.

وكم استخْدَم حُرَّاس القديم الأديان في كلِّ زمانٍ لوَقفِ أيِّ تطوُّرٍ وحَجْب أيِّ رؤى وآراء جديدة! وما يحدُث اليوم في العالَم العربي هو تكرار لِما وقَع منذ العصر الجاهلي، مرورًا بكلِّ عصور الدُّول الأُمَويَّة والعبَّاسيَّة والعُثمانيَّة وغيرها وحتى العصر الحديث.

•••

وإذا قُمنا بالمُراجَعة التاريخيَّة التي أقترِحُها فسوف نَستخلِص منها: أنَّ أنصار التجمُّد ينتصِرون دائمًا في المَدى الآني والقريب. لكن كلَّ تَجارِب الماضي تُثبِتُ أنَّ حركةَ التجديد التي أُجهِضَتْ تترُك دائمًا آثارًا إيجابيةً تؤدِّي إلى تقدُّمٍ ولو محدود إلى الأمام.

والغريب أن من يقرأ تاريخ تطوُّر الفكر الإسلامي يكتشِف أن حُرَّاس القديم يتشدَّقون دائمًا بنفس الحُجَج وبِذات المَنطِق. وخُلاصته أن التجديد هو قَطيعةٌ مع الدِّين وأصوله وخروجٌ عن تعاليمه، وأنَّ أيَّ فِكرٍ خارجٍ عن الإطار الذي وَضَعَه السَّلَف يُعَدُّ خَطَرًا داهِمًا على الأُمَّة الإسلاميَّة وعلى دِينِنا الحنيف. ويقوم فِكر هؤلاء على المُسلَّمات التي لا تُناقَش، والمُحرَّمات التي يُحظَر الاقتراب منها. ومَبدَؤهم الرَّاسِخ هو التَّسليم التامُّ برأي السَّلَف وقَطْع رَقَبَةِ من يَجترئ على طرح أفكارٍ جديدة.

ويَستنِد هؤلاء على فَرضيَّاتٍ من الدِّين يَنطلِقون في تَفسيرها من أرضية مَنطِقِهم الرافِض للتقدُّم، فيستخلِصون منها نتائج مُخيفة لا علاقة لها بالدِّين الإسلامي من قريبٍ أو بعيد. ويقِف حُرَّاس الماضي ضدَّ كلِّ فِكرٍ يُعلي قِيَم الحُريَّة والديمقراطية وتحرير المرأة وسعادَة الإنسان المادِيَّة على الأرض، مع أنَّ الدين الإسلامي قد أُنزِل من السَّماء رحمةً للعالمين ومن أجل سعادة بني آدم.

ولو التزَمْنا بِكلام حُرَّاس الماضي، لظلَّت مُجتمعاتنا العربية في حالةٍ من التَّخلُّف المُرعِب، ولكُنَّا اليوم نَحبِس النِّساء في البُيوت ونكتفي بتحفيظ القرآن الكريم بديلًا عن المَدارِس والجامِعات المدنيَّة، ولَمَا كان عِندنا تليفزيون أو إذاعة أو صُحف ولانْعَزَلْنا تمامًا عن العالم الخارجي. لو استَمَعْنا على مَرِّ العصور إلى أنصار القديم لكانَت حياتُنا اليوم جَحيمًا لا يُطاق، ويَتعارَض مع المبادئ الحقيقيَّة لدِينِنا الذي يدعُونا إلى طلَب العِلم ولو في الصِّين.

ومن واجِبنا اليوم ألَّا نَستمِع إلى دَعاوى حُرَّاس الماضي الباطِلة ومُحاوَلَتِهم تَخويف وتَرويع كلِّ من يُطالِب بالتَّغيير والتَّطوُّر لمُلاحَقة ما وَصَل إليه العالَم المُتقدِّم.

•••

لكنَّ الحَيْدَة العِلميَّة تدعونا إلى أن نَذكُر أنَّ أنصار الماضي لعِبوا أحيانًا دَورًا إيجابيًّا في الحِفاظ على التُّراث وعلى التَّقاليد الأصيلة للمُجتمَع، في مواجهة تيَّاراتٍ تسعى إلى التَّجديد من أجل التَّغيير، ورفضًا لكلِّ ما هو قديم دون تَمييز. فكما أنَّ هناك من يَخافُ أيَّ تعديلٍ لِما نَشأ عليه وتربَّى على احتِرامِه وتقديسه، فهناك من يدعوه طَبعُه إلى الثَّورَة على كلِّ شيء، ومُحاولة العَصف بأيِّ فِكرٍ قديم وبِمجموعة القِيَم والتَّقاليد المُؤسِّسَة للمُجتمَع الذي يعيش فيه. وذلك كرَدِّ فِعلٍ على قُيود الأفكار المُتوارَثة من جِيلٍ إلى جيل.

ويقول شوقي في هؤلاء:

لا تَحْذُ حَذْوَ عصابةٍ مفتونَةٍ
يَجِدون كلَّ قَديمِ شيءٍ مُنكَرا

وتطوُّر المُجتمَعات يكون عادةً في التَّوازُن بين التَّيَّارَين؛ فالمُحافَظَة على القِيَم والمُثُل التي تُعدُّ البوتَقة التي ينصهِر فيها أيُّ مُجتمَع من المُجتَمعات، هي صِمام الأمان الحافِظ على استقراره وتماسُكه، لكن الاكتفاء بالمَوروث وحدَه يَجعل المُجتَمَع يَتقوقَع على نفسه ويتحجَّر ثُمَّ يذبُل شيئًا فشيئًا. فكلُّ مُجتمعٍ في حاجةٍ إلى جُرعات مُنتظِمة من التَّغيير والتبديل من أجل الاستمرار في الحياة.

وكلَّما تأخَّر المجتمع في قَبُول التجديد تزداد الحاجة إلى هزَّةٍ أقوى للفِكر المُتوارَث؛ فكلُّ مُجتمَعٍ في حاجةٍ ماسَّةٍ خلال كلِّ حِقبةٍ إلى أن يُجاري التَّطوُّر الطبيعي للحياة؛ لذلك كانت عمليَّات إعادة النَّظر في المَوروث لازِمةً في كلِّ عصرٍ لاستِمرار التَّطوُّر باتِّجاه المُستقبَل.

وفي الماضي كان تَطوُّر الحياة الطبيعي بطيئًا للغاية. أما اليوم فقد أصبحت ضرورة تطويع المُجتمع للتطوُّر أكثر إلحاحًا خلال فتراتٍ زمنية قصيرة للغاية؛ نظرًا للإيقاع المُتلاحِق للتطوُّر الطبيعي لأي مُجتمع من المُجتمعات. ولو طبَّقْنا ذلك على اللُّغة، لأدرَكْنا كم تأخَّرنا وكم فَوَّتنا من الفُرَص لإحداث ثَورة لُغويَّةٍ تضَع العربية على خريطة أكثر لُغاتِ العالَم رُقيًّا وتطوُّرًا.

والصِّراع بين القديم والحديث اتَّخَذ في الماضي أشكالًا عنيفة كما حدَث في الثَّورات التي هزَّت العالم خلال القرون الماضية. ومن يدرُس تاريخ أهمِّ الثَّورات، مثل: الثورة الفرنسية في ١٧٨٩م، والثورة السوفيتية في ١٩١٧م، يَتَّضِح له أنَّها لم تكن نتيجة مَصالح مُتناقِضة وصِراعاتٍ على الحُكم بين الطَّبَقات فقط، بل كانت خلفيَّاتُها دائمًا الصِّراع بين القديم والحديث، الصراع بين قِيَمٍ وأفكارٍ وعلاقاتٍ اجتماعية أصبَحَت بالِيةً، لكن أصحاب السُّلطة يتَمَسَّكون بها، ورؤية جديدة للحياة تسعى إلى فرضِها شرائح غاضِبة من الشَّعب.

لهذه الأسباب كان ماكيافيللي (١٤٦٩–١٥٢٧م) يُعطي في كِتابه الشَّهير «الأمير» نصيحةً ثمينة؛ حيث يقول للأمير الشاب الذي كان يُلقِّنُه دُروسًا في فنِّ السياسة: «إذا أردتَ أن تتفادى الثورة، فاصنَعْها بنفسِك.»

ومعنى هذا الكلام أن الثَّورة على الماضي ضرورة حتميَّة يُمكِن أن تَتِمَّ بِرضى الحاكِم إذا تقبَّل الواقِع الجديد وأجرى التَّغييرات التي تَستلزِمُها ظروف عصره. أمَّا إذا رفض ذلك وتمسَّك بالحِفاظ على الماضي فإن الثورة على القديم ستتمُّ في كلِّ الأحوال، ولكن بأشكالٍ عنيفة وضدَّ إرادته.

وإذا استخلَصْنا من حِكمة داهِية السياسة الشَّهير ماكيافيللي ما يُفيدُنا في هذا البحث فإنَّنا نقول: لِنَقُم نحن بثَورةٍ في اللُّغة العربية اليوم بدلًا من أن يُفرَض علينا الأمر الواقِع، ونجِد لُغَتَنا في خَطَر داهمٍ بعد بِضعةِ أجيالٍ قادِمة. وعلى حدِّ تعبير ما جاء في تُراثِنا العربي، فليَتِمَّ ذلك «بيدي لا بيد عمرو.»

•••

وفي غياب إجاباتٍ صريحة وجريئة عن الأسئلة التي طرَحتُها حول أسباب ضَعف المُستوى اللُّغوي للناطِقين بالعربية، فإنَنا سنظلُّ ندور في حلقةٍ مُفرغة: شريحة مُتضائلة من المُتخصِّصين يرفُضون التطوير، لكن لهم الصَّوت العالي والسَّيطرة على مَناهِج التعليم وأدوات الثقافة والإعلام، ثم غالبيَّة ساحِقة لم تعُد قادِرةً على استِيعاب اللُّغة واستِخدامها وتشعُر بعُقدةٍ بسبب هذا العَجْز.

وهذه الأغلبيَّة ليست من الشباب فقط ولكنَّها مُتمثِّلة في كافَّة شرائح المُجتمع، كما لا يقتصِر الأمر على الطَّبَقات التي لم تَنَلْ حظًّا كافيًا من التعليم، وإنما تمتَدُّ ظاهِرة انخِفاض المُستوى اللُّغوي إلى طبقَةِ المُثقَّفين والمَسئولين باستثناءاتٍ نادرة جدًّا؛ فغالبية رؤساء الدُّول العربية يقَعُون بِخُطَبِهم وأحاديثهم في أخطاء لُغويَّةٍ فادِحة، وخاصَّةً في التشكيل. ولا تكاد خُطبَةُ مَسئولٍ عربيٍّ على أيِّ مُستوى تخلو من أخطاء ولحنٍ يَخرِق آذان من يَعرِف اللُّغة العربية. أما عن المُذكِّرات الرَّسميَّة في الحكومة والدَّواوين العامة فإنها مُكتظَّة بالأخطاء.

وأعلم أن بعض المسئولين يأخُذون على مرءوسيهم أخطاء اللُّغة والهِجاء التي يقَعون فيها، لكن هؤلاء الوزراء والمَسئولين أنفسهم غير مُنزَّهين عن الخطأ في العربية، ليس تقصيرًا منهم، لكن لشِبْهِ استحالة عدَم الوُقوع في الخطأ عند التحدُّث أو الكِتابة بلُغة الضَّاد.

•••

ويبدو أن غضَب كِبار المسئولين من ضعف مُستوى العربية عند مرءوسيهم هو تقليد عربي قديم؛ فمن الرُّوايات المُتداوَلة في مجالات باب «التوقيعات» أن الخليفة العبَّاسي أبا جعفر المنصور (نحو ٧٠٩–٧٧٥م) وَصَله كِتاب من عامِله على حِمص به أخطاء في اللُّغة، فكتَبَ إليه: «استبدِل بكاتِبِك، وإلَّا استُبدِل بك»، أي «ارفد» من يكتُب لك، وإلا «رفدتُك».

وقد استهلَكَت الصحافة المصرية أنهارًا من الأحبار لفَضح الأخطاء اللُّغوية وخاصةً بين أوساط الطَّلَبة الجامعيِّين، واتَّضَح أن مُستوى اللُّغة وَصَل إلى درجةٍ مُفزِعة من الانحطاط. وقد أفرَدَت الصحافة المصرية مئات من الموضوعات تفضَح فيها تدَنِّي المُستوى اللُّغوي في أوساط الطلَّاب الجامِعيين وأعطتْ أمثلةً لأخطاء تقشعِرُّ لها الأبدان.

واتَّضَح لي أن التَّهكُّم على الأخطاء اللُّغوية تقليد قديم في الصَّحافة المصرية أيضًا؛ ففي مارس ١٩٢٢م نشرَت مجلَّة «روضة البلابل» — وهي أول مجلَّة موسيقيَّة في العالَم العربي، وكان رئيس تَحريرها لبناني يُدعى إسكندر شرفون — مقالًا عن الأخطاء اللُّغوية التي يقَع فيها كِبار المُطربين آنذاك أثناء غِنائهم للقصائد الشِّعرية. وكان كثير من هؤلاء المُطربين يَحمِلون لقَب «شيخ»؛ ممَّا يُعطي انطباعًا بإجادَتِهم اللُّغة.

وكان أطرفَ مثالٍ ضربَتْه المجلَّة عن مُطربٍ لم تذكُر اسمَه وقَع في خطأ مُضحِك؛ لخَلْطِه بين العاميَّة والفُصحى في النُّطق، فكان يُغنِّي قصيدة أبي فراس الشهيرة «أراك عصيَّ الدمع»، وعندَما وصَل إلى البيت الذي يقول:

مُعلِّلَتي بالوَصْل والمَوت دُونه
إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزل القَطْر

نطق كلمة ظمآنًا: «ظمقانًا» لاعتِقاده أنَّ ظمآنًا بالنُّطق العامي، فحوَّلَها هو، إلى عربية فَصيحة!

•••

وكثيرًا ما فُوجِئتُ بكبار المُثقَّفين يُخطئون أخطاءً لا تُصدَّق في لُغتهم الأم التي يَكتُبون ويُبدِعون بها. وبعض هؤلاء أو مُعظمُهم يُعدُّون من رُموز الأدَب والكِتابة في مصر والعالَم العربي.

وكنتُ أسأل نفسي وأنا أستمِع إليهم: هل يُمكِن أن يكون جيش المسئولين والمُثقَّفين والصحفيين والكُتَّاب بهذه الدَّرجة من الجَهل؟

وعندما كنتُ أُقارِن حالنا بالآخرين، كنتُ أجِد نفسي مُضطرًّا لأن أعترِف بأنه لا يُوجَد مُثقَّف واحِد في فرنسا أو إنجلترا أو إسبانيا، أو حتى البرازيل يُخطئ في لُغتِه الأم بهذه الصورة. فهل كلُّ الشعوب العَربيَّة بمُثقَّفيها ومُفكِّريها أصبحَت مُعوَّقةً ذِهنيًّا بحيث لا تستطيع تعلُّم اللُّغة والإلمام بها إلمامًا سليمًا؟

وإذا وَسَّعنا باب المُقارنة مع الآخرين، نجِد أنَّ أية سكرتيرة مُتواضِعة حاصِلة على شهادةٍ مُتوسِّطة في أيَّةِ دَولة غَربيَّة، قادِرة على أن تكتُب بنفسِها خِطابًا دُون أخطاء لُغوية. وقد تعاملتُ خلال عَمَلي في مُنظَّمة اليُونِسكو الدَّولية مع أكثرَ من سكرتيرة فرنسية، وفوجئتُ بأنهنَّ يكتُبن مُذكِّراتٍ وخِطاباتٍ رسميَّة دُون أيِّ خطأ. أما في الوَطن العربي، فإنَّ أعلى القِيادات الوظيفية من الحاصِلين على أعلى الشَّهادات الجامعية، عاجِزون عن صياغة مُذكِّرة أو خِطاب خاصٍّ بعملهم، دون أخطاء لُغويَّة في العربية.

فهل السكرتيرة الفرنسية تمتلِك قُدراتٍ ذِهنيَّة أرقى من المُثقَّفين، وأصحاب الشهادات العُليا في العالَم العربي؟ بالطبع لا. إذًا فالخَلَل يَكمُن في الطرف الآخر من المُعادَلَة، وهو اللُّغة المُستخدَمة للتَّعبير عندَ كُلٍّ من الطرفين: السكرتيرة الفرنسية والمُثقَّف العربي؛ فاللُّغة الفرنسية طيِّعة وسهلة ومُباشِرة، كما أن السكرتيرة مِثلها مثل كلِّ من يُجيد الفرنسية، لديها أدوات تُسهِّل مُهمَّتَها وتَجعلها قادِرةً على تجنُّب الخطأ. وعلى رأس هذه الأدوات قاموس اللغة الفرنسية الذي يقوم على ترتيب الحُروف الأبجدية، بالإضافة إلى ترسانة من القواميس الخاصَّة بالقواعد وبالمُترادِفات، وغير ذلك من الكُتب التي يتعلَّم أيُّ تلميذ فرنسي كيفيَّة استِخدامها في المدرسة.

•••

وقد يكون أول ردِّ فعلٍ لمن يقرأ هذا الكلام هو الاعتِراض بأنَّ العربيَّة قد طرأتْ عليها تَطوُّراتٌ كبيرة بالفعل، وأنَّني أغفلتُ ذلك في تحليلي لإشكاليَّة العربية في العصر الحديث، لكنه لم يَفُتْني أنَّ العربية التي نَستخدِمُها اليوم تختلِف كثيرًا عن اللُّغة التي كان يَستخدِمها أجدادُنا في الماضي البعيد وحتى القريب. لا أشكُّ أن العربية قد عرفَتْ تطوُّرًا ضخمًا خِلال القرن العشرين، لكن هناك فرقًا جوهريًّا بين التَّطوُّر والتطوير؛ فمنذ ظهور الصحافة بِصفةٍ خاصَّة، بدأت العربية مرحلةً جديدة من التَّطوُّر الطبيعي المُنسجم مع ضرورة الاتِّصال بالناس وتقديم المعلومات للقارئ بالصُّورة التي يقدِر على استيعابها.

لكن ما أقصِده ليس التطوُّر، وإنما التطوير. وهناك فَرق جوهريٌّ بين الاثنين؛ فالأول هو ظاهِرة طبيعية لا يستطيع أحدٌ أن يُقاوِمَها لأنها سُنَّة من سُنَن الحياة، لكنها تحدُث دون تدبير مُحكمٍ يَضَعُها في سِياقٍ مَنهجي. أما التَّطوير فهو جُهد إراديٌّ جماعي للخُروج من حالة السُّكون، وذلك من خلال تَقنين التَّطوُّر وإيجاد الآليَّات اللَّازِمة للوصول به إلى مَداه.

ولُغَتنا الجميلة أصبحَت في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى التطوير الطَّوعي؛ حتى لا نجِد أنفسنا في خلال عقودٍ قليلة أمام مُعضِلةٍ مُخيفة وهي خطر الانقِطاع عن ثقافَتِنا وتُراثِنا بسبب تَعنُّت بعض العقول المُتحجِّرة الرافِضة لكلِّ جديد.

إن اللغة كائنٌ حيٌّ يحتاج على الدَّوام إلى تَغذيَةٍ وعمليَّات إحلالٍ وتبديل، كما يحتاج الإنسان إلى الغِذاء وإلى تجديد خلايا جسده.

ومن يُطالب بتحنيط اللُّغة وعدَم المِساس بها فكأنَّه يُطالِب بمَوتِها؛ لأنَّ التَّحنيط لا يكون للأحياء وإنَّما للأموات وحدَهم. والذين يَرفُضون تطوير اللُّغة يرفُضون فِكرةَ أنَّها كائِنٌ حَيٌّ ويُغَلِّفونها بِهالَةِ الدِّين فتُصبِح في عُيونِهم لُغةً ليست كَكُلِّ لُغاتِ العالَم، وإنَّما نَسيجٌ لا مَثيلَ له.

والواقِع يقول عكْسَ ذلك، فالأدَب العربي عظيم لا شكَّ في ذلك، لكنَّه ليس الأدَب الوحيد في العالم. وقد أبدَع شيكسبير بالإنجليزية وجوته بالألمانية وموليير بالفرنسية روائع تُباري ما أبدَعَه المُتنبِّي وأبو العلاء وطه حسين. وأنا مِن الذين يَرَون أن الشِّعر العربي القديم يَفوق في رِقَّتِه وجماله ما أبدَعَه فطاحِل الأدب الغربي، لكنَّه رأيٌ شخصي، والأرجَح أنَّه رأيٌ غير مَوضوعي؛ لأنَّ ثقافتي الأولى التي نشأتُ عليها هي العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤