الفصل الثامن

غاية اللغة

الأصل في اللُّغة أنها وَسيلة للتَّعبير عن النفس والتَّفاهُم مع الآخرين. وهناك نظريَّات مُتناقِضة حول نشأة اللَّغة في الأطوار الأولى من الإنسانية يختلِف حولها العلماء، لكن ما لا خِلاف عليه هو أن الإنسان في مراحِل تَطوُّره الأولى استخدَم أصواتًا يرمُز بها إلى معانٍ حتى يفهَمَه الآخرون، وأن الحاجة إلى التَّفاهُم هي التي أوجدَت الكلام. وظلَّت الغاية من اللغة في مُختلِف الحضارات هي التواصُل والاتِّصال بين أبناء البشرية.

لكنه من الواضِح أن المُجتمعات العربية تشذُّ عن هذه القاعدة؛ فاللُّغة عندنا هي غاية تُنشَد في حدِّ ذاتها. هي تُستخدَم بالطبع للتَّفاهُم والتعامُل، لكنَّ لها عندنا هدَفًا آخر نتميَّز به عن غيرنا: فالعربي يطرَب وينتَشي من الكلِمات سواء في الشِّعر أو في النَّثر لدرجةٍ جعلَت استِخدام التَّعبيرات والتراكيب الجديدة عليه غايةً تفوق في أهمِيَّتها الغاية الأساسيَّة من اللُّغة.

وفي قُصور الخلفاء والأمراء كان الشُّعراء والعُلماء يتسابقون لاستخراج كلماتٍ ومعانٍ مُبتدَعة، ويتَفنَّنون في اللَّعب بالألفاظ من أجل إرضاء القادرين على منح العطايا. وكان الخُلفاء وأولو الأمر يَصِلون إلى درجةٍ من الانتِشاء باللغة تجعلُهم يُغدِقون على الشُّعراء أموالًا تفوق ما يُصرَف في أهدافٍ أخرى مُفيدة للمُجتمع. وكان الزُّخرُف والتَّزيين الكلامي وإيقاع الألفاظ ورَنينها وَطَنينها هي حيثيَّات البلاغة التي يَتيه بها العربي.

فالعربي عاشِق للغة ومُتيَّم بها لِذاتها وليس لمُجرَّد نقْل المعلومات والتَّفاهُم مع الآخرين. ونستخلِص من هذا أنَّ مفهوم اللغة لدى العرب يَختلِف عنه في الحضارات الأخرى؛ فهي وسيلة بالنسبة للآخرين وهي غايةٌ بالنسبة لنا، ثمَّ وسيلة بالدرجة الثانية.

ومنذ بداية القرن العشرين بدأ العُلماء يُدركون أن اللغة تؤثِّر في عقل المجتمعات وفي سلوكيات الأفراد، وتُعتبَر نظرية «سابير-وورف» أول دراسة تربط بصورةٍ مُباشرة بين اللغة وتشكيل عقل الإنسان. وظهرت بعد ذلك دراساتٌ كثيرة لم تصِل بعد إلى مُستوًى مُطَمْئنٌ تمامًا، لكنَّها تدلُّ كلها على أن هناك صفاتٍ عامة للمجتمعات تتَّصِل بقالب اللغة وتركيبها وروحها. واللغة تُعبِّر بصدقٍ عن المجتمع لكنَّها تؤثِّر فيه بالتَّوارُث من جيلٍ إلى جيل، فالعلاقة بين العقل واللغة هي علاقة تبادُليَّة؛ فاللغة تُعبِّر عن رُوح المجتمع بنفس القَدْر الذي تؤثِّر فيه.

وإذا أخذنا الإنجليزية مثلًا يتَّضِح لنا كم أنَّها تعكِس الرُّوح العمليَّة التي تُميِّز الأمريكيين والإنجليز، وسُهولة الحياة وغِياب التعقيد في ثقافتهم. والألمانية مِرآة للدِّقَّة والانضباط، وهما أبرَزُ سِمات الشعب الألماني عبر تاريخه. أما الفرنسيَّة فهي تتَّصِف بالوضوح والسلاسة، وقد أفرَزَت هذه الثقافة وهذه اللُّغة الفِكر الدِّيكارتي العقلاني القائم على مَنطقٍ مُحكَم وواضح المَعالم.

ومنذ نحوِ ألفٍ ومائتي عام، تنبَّه رجل ذو بصيرة نافذة، هو الجاحِظ لهذه الفروق بإحدى رسائله في «البَيان والتَّبيين» فيقول: «إن الحِكمة وقعَتْ على ثلاث: عقل الإفرنج، وأيدي أهل الصين، ولِسان العرب.»

وفي كِتاب «تاريخ العرب» يُعزِّز فيليب حِتِّي هذه الفكرة حيث يقول:

والعرَب لم يُبدِعوا أو يُنشئوا فنًّا عظيمًا خاصًّا بهم من الفنون المعروفة، ولكنَّهم عبَّروا عن الغريزة الفنيَّة بصورةٍ واحدة هي: الكلام. فإن فاخَر الإغريقي بما عِنده من تماثيل الفنِّ ومُنشآت هندسة البناء، فالعربي يرى قصيدته أفضلَ ما يُعبِّر عن خَلَجاته الداخلية.

ويبدو أننا قَنَعْنا بهذه القِسمة الجائرة التي تَجعلُنا بارِعِين في الكلام وليس في أمور العقل والقُدرَة على العمل.

وإذا كانت اللُّغة تلعَب دورًا حاسمًا في وُجدان كل شعوب العالم، فإن أثر اللغة على المجتمع العربي أكبر كثيرًا من أي تَكتُّلٍ ثقافي آخر؛ فاللغة بالنِّسبة للعربي هي التي نزَل بها القرآن، وهي لُغة الأحاديث الشريفة، وهي لُغة التُّراث الأدبي العظيم الذي تركَتْه لنا أجيال مُتعاقِبة من المُبدِعين في كلِّ مجال، من امرئ القيس إلى نجيب محفوظ. وفوق كلِّ هذا فهي كما قُلنا بمثابةِ غايةٍ تُنشَد لحدِّ ذاتها.

•••

وسنسعى في هذا الفصل لاستِعراض أبرز الآثار الناتِجة عن اللغة والمؤثرة في العقل العربي. ومن السَّذاجة أن نتصوَّر أن اللغة تُشكِّل العقل بطريقةٍ آليَّة، وأنَّ كلَّ سِمات العقل العربي التي سنطرَحُها في هذا الفصل هي نتيجة للُّغة وحدَها؛ فهناك بالتأكيد عوامل أخرى ثقافية واقتصادية وتاريخية وبيئية وغير ذلك أثرت في تكوين العقل العربي. لكن لُغة الضاد تلعَب دَورًا هائلًا في تشكيل هذا العقل، وهي كالجِينات التي تؤهل الإنسان لصِفاتٍ مُعيَّنة ثم تتفاعل مع ظروف الطبيعة والحياة لتخلُق شخصيَّة الفرد، فاللغة تُحدِّد ملامح اتِّجاهات الشخصية العامة لكنها تنعكِس بعد هذا بطريقة مُتفرِّدة على كلِّ شخص.

وكما أن «الفكر القبلي» و«ثقافة الأُذُن» و«حضارة اليقين» كانت كلُّها في البداية عناصِر إيجابيةً في عصور ازدِهار الحضارة العربية الإسلامية، ثم انقلَبَت إلى عوامل سلبيَّة مع مرور الزمن، كما أثبَتُّ في كتاب «الداء العربي»، فإن اللغة ينطبِق عليها هي الأخرى نفس التحليل.

فقد لعِبَت العربية دورًا حاسِمًا في انطلاق العقل العربي من خلال النصِّ المُؤسِّس لحضارة العرَب وهو القرآن الكريم. وجاءت بعد ذلك الإبداعات الشِّعرية والنثرية في العصر الإسلامي ثم الأُموي فالعباسي.

وكانت لُغَتنا الجميلة تُسهِم في رُقيِّ المشاعر وسُموِّ النفوس وتُساعد على الاستمتاع بكلِّ مَلذَّات الحياة الرُّوحية والحِسِّيَّة. ولا شكَّ أن اللغة كانت رُكنًا من أهمِّ أركان الحياة في قُصور الخُلفاء والأُمراء، وعُنصرًا من عناصر الارتقاء والشموخ النفسي. وكِتاب الأغاني يدلُّ على مكانة اللغة في الحياة العربية في عصور الازدهار. ومع تطوُّر الزمن ورَفْض العرَب أيَّ تطويرٍ للُغتهم يَتواءم مع التقدُّم الطبيعي للمجتمعات، أخذَت اللُّغة تتحوَّل تدريجيًّا إلى عاملٍ من عوامل الجُمود المُعوِّقة للتقدُّم.

•••

ومن أبرز الانعِكاسات السلبيَّة للُّغة جُنوح العقل العربي إلى الاهتِمام بالشكل على حِساب الجوهر. وقد تنبَّه المُتنبِّي لهذا العَيب الخطير منذ أكثر من ألف عام بِفضل بَصيرته النافِذة، وكأنه يَستشرِف آفاق المستقبل ولا يكتفي برصْد حاضره. وقد شاع قولُه في الشطر الثاني لأحد أبيات قصيدة يَهجُو فيها كافور:

يا أمَّةً ضحِكَت من جهلِها الأُمَم

لكن الشطر الأول من هذا البيت أبلَغ كثيرًا في رأيي وأكثر دِلالةً على انحِياز العقل العربي إلى المَظهر على حساب الجوهر، ويقول فيه المُتنبِّي:

أغايَةُ الدِّين أن تُحفُوا شَوارِبكم؟

فقد لاحَظ أبو الطيِّب أن الناس في عصره يلتزِمون بإحفاء شوارِبهم وإطلاق لُحاهم، وهي سُنَّة معروفة، ثم بعد ذلك يفعلُون ما يشاءون ممَّا يتناقَض مع جَوهَر الدين ويُنافي تعاليمه الأساسية. ومن هذه المُلاحَظة طرَح سؤاله العبقري: هل الغايَة من الدِّين الذي نزَل للإنسان في الأرض هو المَظهَر الذي يبدو عليه الإنسان، أم هو الجَوهَر الكامن في قلبه ويُترجَم بمواقِفِه من الآخرين؟

وكأن المُتنبِّي يعيش بيننا الآن ويرى البعض يختزِل دينَنا العظيم في بعض المظاهِر غير الجوهرية، وكأنها لُبُّ الدين وأساسه الرَّكين. نرى البعض يختزِل الدين الإسلامي في الحِجاب بالنِّسبة للمرأة واللِّحية بالنسبة للرجل. أما أن يلتزِم الناس بالأمانة في المُعامَلة والبُعد عن الفحشاء وعن الرشوة والسرقة، أما عن مساعدة المُحتاج وأداء العمل بضميرٍ مُتيقِّظ والسَّعي لخدمة الناس وإسعادهم، فكلُّ هذه أمور ثانويَّة في نظرِهم ولا ترقى إلى مُستوى المَظاهر.

وهناك مقولة أنَّ العربي يَهتمُّ بالكلِمات أكثرَ من المعاني والمعاني أكثر من الأفعال. والأمثال الشعبية تعكِس هذا النُّزوع إلى تفضيل الشكل مثل «لاقيني ولا تغدِّيني» و«لبِّس البوصة تبقى عروسة» و«الصِّيت ولا الغِنى». وهذه الأمثال، وإن كان فيها الكثير من الحِكمة إلَّا أنها ترمُز بوضوحٍ إلى العقليَّة العربية التي تُولي الشكل أهميَّةً قصوى.

•••

الخاصيَّة الأخرى الواضِحة في العقل العربي والتي تنعكِس في اللُّغة ثم تعود فتؤثِّر على الإنسان العربي هي النَّزعة إلى المُبالَغة. ونُلاحِظ أنَّ البلاغة والمُبالَغة مُشتقَّان من نفس المصدر، ممَّا يُعطي انطِباعًا بأن المُبالَغة هي جزء لا يتجزَّأ من البلاغة، التي تعدُّ من أنفس المَزايا وأقْيَمِها عند العرب. وبِحُكم تركيبها فإن اللُّغة العربية تَسُوق المُتحدِّث أو الكاتِب وتدفَعُه دفعًا إلى أن يُضخِّم المعنى ويَسعى إلى تفخيمه والنَّفخ فيه حتى يؤثِّر على سامِعه.

وإطلاق اسم لُغة الضاد على العربية لم يأتِ من قبيل الصُّدفة، لكنَّه يعكِس هذه النزعة، حيث إن العربية هي اللُّغة الوحيدة في العالَم التي تحوي حرْف الضاد، وهذا الحرف هو تفخيم وتضخيم لحرف الدَّال الذي تكتفي به كلُّ لُغات العالَم الأخرى.

ولا تكاد قصيدة أو عمل إبداعِيٌّ عربي منذ العصر الجاهلي يَخلو من المُبالَغة والتهويل. ولعلَّ من أشهر الأبيات التي وَصلَت بِمَلَكةِ المُبالَغة إلى حدِّ الكاريكاتير هو بيت عمرو بن كلثوم في مُعلَّقَتِه الشهيرة التي مَطلعها:

ألا هُبِّي بِصحنِك فاصبحينا
ولا تُبقي خمور الأندرينا

ويقول البيت:

إذا بلغ الفِطام لنا رَضيعٌ
تَخِرُّ له الجبابر ساجِدينا

ويروى في بعض المصادر: «إذا بلغ الفِطام لنا صبيٌّ.»

وهناك أبيات في هذه القصيدة المُعلَّقة تُثير الضَّحك فعلًا، فهو يقول مثلًا:

ملأنا البرَّ حتى ضاق عنَّا
ونحن البحرُ نملؤه سَفينا

أمَّا نحن، فنعرِف أنَّ العرَب لم يَملئوا واحِدًا في المائة من أرض الجزيرة العربية، كما لم يُعرَف لهم أيَّةُ أساطيل، صغيرة أو كبيرة. فما بالُنا أن تَضيق بهم الأرض وأن يكون لهم أسطول يَملأ البحر سُفُنًا.

وظلت المُبالَغة صِفة مُتوارَثة من جيلٍ إلى جيل وكأنها سِمة لاصِقة بالعَقل العربي ومرتبطة بالأسلوب واللُّغة وبالفَصاحة ذاتها. واشتُهِرت العنتريَّات التي ارتفعَت بالتَّهجيص والتَّهويش إلى أعلى ما يُمكِن أن يصِل إليه أسلوب لُغوي.

ولنتأمَّل النصَّ التالي الذي يُورِدُه ابن قُتيبة في «عيون الأخبار» في «باب الحرب»:

كان لأبي حيَّة النُّميري سيف ليس بينه وبين الخَشَبة فرق، وكان يُسمَّى (لعاب المَنِيَّة). قال جارٌ له: أشرَفتُ عليه ليلةً وقد انتَضاه وشمَّر وهو يقول: أيُّها المُغترُّ بِنا والمُجترئ علينا، لبِئس والله ما اخترتَ لنفسك، خير قليلٌ وسيف صقيل، لُعاب المَنِيَّة الذي سَمِعتَ به، مَشهور ضربَتُه، لا تُخاف نَبْوَتُه، اخرُج بالعَفو عنك وإلَّا دَخلتُ بالعقوبة عليك، إنِّي والله إن أدْعُ قَيسًا تملأ الأرضَ خَيْلًا ورجِلًا، يا سُبحان الله، ما أكثرَها وأطيَبَها. ثم فتَح الباب، فإذا كلبٌ قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مَسَخك كلبًا، وكفاني حربًا.

وهذا النصُّ الذي تنضَحُ منه السُّخرية مثال كاريكاتيري للكلِمة التي تَفقِد معناها بسببِ العَنتريَّة والتَّهويل، وينطبِق عليه المَثل القائل: «الجنازة حارة، والمَيِّت كلْب.»

•••

واستمرَّت هذه النَّزعة إلى المُبالَغة ونُقلِت عدواها إلى رجال السياسة الذين اعتادوا على إطلاق التَّصريحات النارِيَّة التي يعلمون سَلفًا أنهم غير قادِرين على تنفيذها.

ولعلَّ أشهر مِثال على ذلك هو تصريح أحد القادة الفلسطينيِّين قبل نكسة ١٩٦٧م قال فيه بأنَّنا سنلقي إسرائيل في البحر، وقد أضرَّ هذا التصريح بالقضيَّة الفلسطينية ضررًا بالِغًا. ولم يُدرِك العالم آنذاك أنه مُجرَّد نتاج لثقافة المُبالَغة ولغة التهويل، ولم يكن ينمُّ عن نوايا حقيقية بِقتْل كلِّ الإسرائيليين وإلقائهم في البحر. وقد أخذ العالَم أجمع وخاصَّةً العالم الغربي هذا التصريح بمعناه الحَرفي؛ نظرًا لأن غالِبيَّة ثقافات العالَم لا تَميل مِثلَنا إلى الإفراط في المُبالَغة.

وكان صدَّام حسين وريثًا وفيًّا لأسلوب التَّهويش الذي يتأثَّر بتركيبة اللُّغة العربية، وبلَغ فيه ما لم يَبلُغْه زعيم عربي من قبل ولا بعد. وقد قال في تصريحٍ عنتري في عام ١٩٩٠م إنه في حالة الاعتِداء على العِراق فإنَّه «سيحرِق نِصف إسرائيل». وقد رأينا الهُوَّة السَّحيقة بين تصريحاتٍ صدَّام البُطولية وأفعالِه الفاشوشية.

ولا تخلو الصُّحف العربية من أساليب المبالغة الفجَّة والتي تُعتبَر في نظر كُتَّابِها والعديد من قرائها بلاغةً تصِل بالمعنى إلى أعلى مراتِبه، فتجِد مقالًا ينتقِد شخصًا لأمرٍ غير خطير، فيتحمَّس كاتِبُه ويقول إنَّ فلانًا يَستحِقُّ أن يُشنَق في ميدان عام. ومع سِياق الكلام «يسخن» الكاتِب أكثر فيُضيف أنَّه لا بُدَّ وأن يُسحَل هذا الشخص في شوارع المدينة وأن تُحرَق جُثَّته ليكون عِبرةً لغيره.

ويبدو أن العربي يرضَع مع تعلُّم اللغة نزعةً فِطريَّة إلى المُبالغة والتوكيد. وقد أُجريَت دراسة على عيِّنة من الشباب العربي والغربي فاتَّضَح أن التصريح الذي يَعتبِره الغربي مَوقفًا واضحًا وتَوكيدًا للمعنى، يُعتبَر بالنِّسبة للشباب العربي مَوقِفًا حياديًّا يحتمِل التأويل، ولا يتضمَّن توكيدًا واضِحًا.

ولأنَّني أنتَمِي قلبًا وقالبًا إلى الثقافة العربية فقد مررتُ بتجربةٍ مُماثِلة في بداية إقامَتي بفرنسا عام ١٩٨٠م، وقد صَدَر آنذاك تصريح البُندقيَّة الشهير الذي اعتُبِر مَوقفًا أوروبيًّا جديدًا ونقلةً من التأييد الكامِل لإسرائيل إلى مَوقفٍ يتفهَّم الحق العربي ويقِف إلى جانبه. وصدرت في فرنسا تَصريحات كثيرة في نفس هذا الاتِّجاه بل تذهَب إلى أبعد مدًى في اتِّجاه العرب. وكان الدبلوماسيُّون الفرنسيون الذين ألتقِي بهم، وكانوا مؤيِّدين للعرب، يُبدون سعادَتَهم أمامي، لكنِّي كنتُ أختلِف معهم لأنَّني أجِد هذه التصريحات مائعة وغير قاطعة، وكانت تدور مُناقَشات حامِية بيننا.

ولم أكن أفهَم آنذاك أنَّ هناك فجوةً في المفهوم اللُّغوي بيني وبينهم، وأنَّ المواقِف في المفهوم الغربي يتمُّ التعبير عنها بأسلوب بعيدٍ عن المُبالَغة والتوكيد، وهو الأسلوب الذي اعتدْنا عليه.

•••

ومن العيوب العربية المُرتبِطة بالمُبالغة استغلال الكلِمة بإيقاعاتها وإيحاءاتها الفضفاضة بديلًا عن الفِعل الغائب. وقد ذكر القرآن الكريم هذا العَيب المُستقرَّ في العقل العربي منذ قديم الأزل حيث يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (سورة الصف: ٢).

وقد رصد الشَّاعر الفلسطيني الكبير محمود دَرويش هذه الخِصال فقال في قصيدة بعنوان: «سرحان يشرَب القهوة في الكافيتيريا»:

أفقتُ، تعلَّمتُ تَصريف فعلٍ جديد، هل الفعل مَعنيُّ بآنِية الصَّوت؟ أم حرَكة؟
وتكتب: ض، ظ، ق، ص، ع، وتهرُب منها.
ضجيج الفرَاغ حروف تميِّزُنا عن سوانا.
طلَعْنا عليهم طُلوع المَنون، فصاروا هباءً وصاروا سُدًى.
سُدًى نحن، هم يَحرُثون طفولَتَنا، ويَصُكُّون أسلِحةً من أساطير.
أعلامهم لا تُغنِّي، وأعلامُنا تُجهِض الرعد.
نَقصِفُهم بالحروف السمينة: ض، ظ، ص، ق، ع. ثُمَّ نَقول انتصَرْنا.
وتبقى غريبًا، جِراحُك مَطبَعَةٌ للبَلاغات، والتَّوصِيات، باسمك تنتَصِر الأبجديَّة.

وفي كتاب «العقل العربي» الصادر عام ١٩٧٣م، يُورِد المُفكِّر روفائيل بطِّي دراسة مَيدانية عن الأطفال العرب، يتَّضِح منها أن ٨٨٪ من الأمَّهات يعترفِنَ بقِيامِهنَّ بتهديد أطفالِهن بالكلِمات، ثم لا يُتبِعن ذلك بالتَّنفيذ. ونظرًا لما تَحتويه العربية من كلِماتٍ رنَّانة وعِباراتٍ فضفاضة، فإنَّ التهديد الكلامِيَّ يكون عادةً عنيفًا للغاية ومُفزِعًا بالنِّسبة للأطفال.

وتلجأ الأُمَّهات إلى الأسلوب العربي اللُّغوي في التهويل والمُبالَغة بأن يُهدِّدْن أطفالهنَّ بالضرْب وربما بالقَتل والحَرْق وقَطْع الأيدي وغير ذلك، ثم لا يُنفِّذن هذا الوعيد بسبب الرَّحمة أو الشَّفَقة وحُبِّهن لأطفالهن. ولا شكَّ أن التهديد والوَعيد والتَّخويف هي عملياتُ تنفيسٍ تقوم بها الأمُّ العربية لكيلا تُؤذي طِفلَها الحبيب، لكن المُشكِلة أن هذا الأسلوب يترُك في نفوس الأطفال آثارًا لا تنمحي، وتترسَّخ في عقلِهم الباطِن عادةُ الكلام الذي يُعبِّر عمَّا في داخِل النفس من رَغَبات كامِنة، لكنه لا يُعبِّر عمَّا ينوي الإنسان أن يَقوم به من أفعال (الكلمة بديلًا عن الفِعل)، فالكلام في وادٍ والواقِع في وادٍ آخر.

وهناك مئات من الأمثلة تؤكِّد مَيل العربي إلى استِعواض الأفعال بالكلِمات، والشِّعر العربي مَنْهَل لا ينضَب لهذه الأمثلة، من امرئ القيس إلى يَومنا الحالي؛ فالشُّعراء الذين يتحدَّثون عن الفضيلة وأفعالهم تتناقَض مع أبْسَط قواعِدِها، والشُّعراء الذين يتحدَّثون عن القناعة وهم يتكالَبُون على الحياة، كلُّهم قد ملئوا سماء الأدَب في القُرون الماضية. رُبما كانت أشعارهم الجميلة تشفَع لهم الفَجوةَ بين كلماتهم وأفعالهم، لكن وَقْعَ أشعارهم على النفسيَّة العربية كان سلبيًّا للغاية.

وكان حسَّان بن ثابت شاعر الرسول من الأمثلة البارِزة على ما نُريد أن نُثبِتَه؛ فقد كان حسَّان أفضل من يتحدَّث عن الحرب والقِتال واليأس، لكنَّه لم يرفَع سَيفه يومًا واحدًا في ساحة معركة. وفي تلك الأيام لم يكن هناك مُحاربون ومدنيُّون في الجزيرة العربية، فكلُّ من يستطيع حَمل السِّلاح كان يُشارك في الذَّود عن قبيلته أو مُهاجَمة قبيلة أخرى، لكن الرسول كان يُعفي حسَّانًا من القِتال لعلمِه بأنَّه ليس قادِرًا عليه.

وتروي صَفيَّة بنتُ عبد المطَّلب وهي بنتُ عمِّ الرُّسول، وقت غَزوة الخَندق في كتاب «الأغاني»:

وكان حسَّان مَعَنا معَ النِّساء والصِّبيان، فمرَّ بنا رَجُل من اليهود، وليس بيننا وبينَه أحدٌ يُدافِع عنَّا. قالت: فقلت: يا حسَّان، انزل إليه فاقتُله، فقال: يَغفِر الله لك يا بِنت عبد المُطَّلِب، لقد عرفْتِ ما أنا بصاحِب هذا.

فما كان من صفيَّة إلَّا أنْ هوَت على رأسِ اليهوديِّ بِعصا فقتلتْهُ. وكان يهود بني قريظة يُسانِدون أعداء النَّبيِّ خلال غَزوة الخَندَق ويُناصِبون المُسلمين العداء في ذلك الوقت كما هو معروف.

في كتاب «البُخلاء» أورَد الجاحِظ قصَّة طريفة تُبرِز بوضوحٍ نزعة الكلام الذي لا يعبِّر عن الحقيقة، فيحكي الجاحِظ عن محمد بن يسير، وهو شاعِر بصريٌّ، أن أحَدَ الولاة بفارِس استمَع في أحد الأيام إلى شاعِرٍ أخذ يَمدَحُه مدحًا مُفرطًا، فقال الوالي لكاتِبه: أعْطِه عشرة آلاف دِرهَم ففرِحَ الشاعر، فقال الوالي للكاتِب: اجعلْها عِشرين ألفًا، فتضاعَفَت فرحةُ الشاعر، فقال الوالي: اجعلْها أربعين ألفًا، وهنا طار الشَّاعر فرَحًا وقال للوالي ما معناه أنَّه سينصرِف حتى لا يُحرِجَه ويزيد هذا المَبلغ.

ولما انصرَف الشاعر أمر الوالي كاتِبه بألَّا يُعطيَه شيئًا. فلما أبدى السكرتير استِغرابه، قال الوالي مُفسِّرًا مَوقِفه: إن الشاعر زعَم أنه أحسَنُ من القمر وأشدُّ من الأسد وهكذا، وهو يعلَم أنَّ كُلَّ هذا غير صحيح، لكنه فرِح بهذا الكلام الذي لا عَلاقة له بالواقع. وعندَما وعَدَ الشاعر بأربعين ألف دِرهم، فرِح الرَّجُل فرحةً كبيرة، فكما أفرَحَه الشَّاعر بالكلام فهو أيضًا قد أفرَحَه بالكلام.

وتُذكِّر هذه القِصَّة بالمَثل الذي يقول: «كلام ابن عم حديت.»

•••

وتتَّضِح الفجوة الثقافية الناجِمة عن اللُّغة في مُفاوَضات العمل والتِّجارة بين الأطراف العربية والأطراف الأخرى، سواء من الشرق أو الغرب. والمسألة لا علاقة لها بالترجمة، فربما تحدَّث الجميع نفس اللغة، وربما قام المُترجِمون بواجِبهم بأمانة، لكن دلالة الكلِمات تختلِف بين الطرفين؛ فالعربي يكرَه أن يقول: لا. وهو يَستعيض عنها بكلِمة: ربَّما، عندما لا يُريد تنفيذ شيء، وعندما يقول نعم فهو يقصِد عادةً: ربما. أو أنَّ الأمر مُمكِن تنفيذه.

وقد قامت الثقافة العربية في بِدايتها على الأُذُن نظرًا لأنها ازدهرت في مُجتمع تُسيْطر عليه الأميَّة (انظر كِتاب الداء العربي باب «ثقافة الأُذُن»).

وكان من أهمِّ آثار ذلك أنَّ العقل العربي يقبل الحقائق عن طريق الأذن، فاليَقين بالنِّسبة له هو ما يَسمَعه، في حين أنَّ اليَقين في مُعظَم الحضارات الأخرى، هو ما يراه الإنسان رأيَ العَين.

ومنذ اختِراع التصوير الفوتغرافي والسينما والتليفزيون تقهقَر دَور الأذن وزاد دَور العين في المعرفة، لكن سِحر اللُّغة العربية والمكانة التي تحظى بها في ثقافتِنا تجعل المُجتمَعات العربية لا تزال تتمسَّك باليقين عن طريق الأُذن والكلِمات، بينما الآخرون يَصِلون إلى اليقين عن طريق العين والعقل.

وربما يُفسِّر ذلك أن الشائعات تنتشِر في مصر والعالَم العربي بسُرعةٍ أكبر كثيرًا من أيِّ مكان آخر في العالم، فالإنسان العربي، منذ أن أفَلَ نَجم حضارتنا، ميَّال بفِطرته إلى أن يُصدِّق ما يَسمَعه دون أن يُخضِعه للتفكير والنقد. ويكاد الحِسُّ النقدي يكون مُنعدِمًا في الثقافات العربية منذ قرون طويلة، فالعربي يَثِق في اللغة وبالتالي يَثِق فيما يُنقَل إليه عن طريق هذه اللغة.

•••

ومن أبرز خصائص اللغة العربية خاصيَّة الإبداع في التعبير عن الفِكرة بأسلوبٍ غير مباشر؛ فالأسلوب المُباشِر غير مُحبَّب في العربية، ويُعتبَر ضعفًا وركاكة في التعبير. وبرغم ما يُقال بأن البلاغةَ في الإيجاز فإنَّ الواقِع عَكس ذلك على خطٍّ مُستقيم، فبراعة الشَّاعِر والكاتِب تُقاس بِمقدِرَته على اللَّفِّ والدَّوَران حول المعنى، والوصول إليه من طرق مُلتوية ومُعقَّدة ربما تَزيدُه جَمالًا في عيون المُستمِعين.

ومن المُؤكَّد أنَّ هذه الخاصيَّة قد انعكَسَت على العقل العربي وخاصةً في القرون الأخيرة حيث يُؤثِر العربي عدَم مُواجهة الواقِع والالتِفاف حول الحقائق بقدْر المُستطاع، خاصةً تلك التي تصدِم قناعاته.

ويُظهر المَيل الفطريَّ لعدَم المُباشَرة في أسلوب التعامُل اليومي، سواء في العمل أو في الحياة الخاصَّة، فعادةً ما يبدأ العربي بدِيباجةٍ طويلة ومُقدِّماتٍ لا آخِر لها، قبل أن يدخُل في الموضوع الذي يُريد الخَوض فيه. ومع تَزايُد سُرعةِ الإيقاع في مِصر ظهَر تعبير جديد كردِّ فِعل هذه الظاهرة وهو: «هات من الآخر»، أي قُلْ ما تُريد بغير مُقدِّمات.

•••

ومن أخطر الخصائص النفسية التي تلعَب فيها اللغة دَورًا لا يُستهان به، هي عَلاقة العربي بالزَّمن، فقبل ظهور الإسلام لم يكن هناك أيُّ تقويم زَمنيٍّ بالأعوام، وكان هَمُّ عرب الجزيرة الوحيد في مجال الزَّمَن هو مَعرِفة الشهور؛ لأسبابٍ تتعلَّق بحياتِهم العملية.

أما الحضارات الأخرى التي ظهرَت قبل الإسلام فقد عرَفَت التقويم بالشهور والسنين. وقد أصدَر يوليوس قَيصر مرسومًا بالعمَل بما عُرِف بالتقويم الرُّوماني في عام ٤٥ قبل الميلاد أي نحو ٧٠٠ عام قبل أن يَشعُر العرب بضرورةِ التقويم بالسِّنين. وقبل يوليوس قَيصر كانت الحضارة اليونانية تَعرِف التقويم بالسنين، وبفَضل تقويمهم نعرِف الآن أنَّ سُقراط وُلِد عام ٤٧٠ قبل الميلاد ومات عام ٣٩٩ قبل المِيلاد، وكذلك أفلاطون (٤٢٨ ق.م–٣٤٨ق.م) وأرسطو (٣٨٤ق.م–٣٢٠ق.م).

أما قُصَيِّ الجَدُّ الأكبر للرسول وأول من نزَل بقُريش في مكَّة فلا يَعرِف أحدٌ متى وُلِد ومتى مات ولا حتَّى بالتقريب، على الرغم من أهمِيَّتِه الكُبرى في تاريخ العرَب. ونفس الأمر بالنسبة لهاشِم الذي ينتمي إليه الرسول مُباشرةً حيث يُسمَّى آله: بنو هاشم. ربما نعرِف بالتقريب أنه عاش في النِّصف الأول من القرن السادِس الميلادي. والغريب أنك لا تَجِد من يَهتمُّ كثيرًا بمَعرِفة متى عاش هؤلاء ومتى كانت القِصص المتواتِرة عنهم، فكتُب التُّراث تتحدَّث عنهم وكأنَّهم أناس من خارِج الزمن، فالماضي بالنِّسبة للعربي هو كِيان هُلامي يَتوه فيه، ومن الصَّعب التَّفرِقة بين مراحِله.

وعندما ظهَر نُور الإسلام، كان هناك تَقويمان أساسيَّان للأعوام: الأول هو التقويم البيزنطي، والثاني هو التقويم الساساني في بلاد فارس.

ولم يبدأ التقويم الزَّمني عند العرَب إلَّا في عام ١٦ بعد الهِجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وقد حَسَم الفاروق جدَلًا حول الحدَث الذي يبدأ منه التقويم فجَعَلَه الهِجرة النبويَّة من مكة إلى المدينة.

قبل ذلك كان هناك بالنِّسبة للعربي زمن حاضر وزمن ماض، والماضي ليس له أي تحديد. وكان التحديد التقريبي الوحيد هو بعض الأحداث الهامَّة التي وقَعَت في الجزيرة وعلى رأسها عام الفيل، وهو الذي حاوَل فيه أبرهة غزْوَ مكة وتحطيم الكعبة المُشرَّفة. وكانوا يقولون مثلًا قبل عام الفيل أو بعده بقليل، وهكذا.

ومن يبحَث في تصريف الأفعال بالعربية يكتشِف السِّرَّ في عَلاقة العربي بالزَّمن، فالأفعال العربية مَبنيَّة على الماضي والمُضارع بالنسبة للترتيب الزمني، لكن هناك خلطًا لا حدَّ له بين الاثنين، فالمُضارِع قد يُستخدَم للماضي والعكس صحيح، فنقول مثلًا: أكلت الآن كذا، وأكلتُ فعل ماضٍ، ويقول والد العروس: «زوَّجتُك ابنتي.» مع أن «زوَّجتُك» فعل ماضٍ لكنَّه يَعني هنا الحاضِر والمُستقبل. كما يُقال: غدًا نُصلِّي الجمعة، و«نصلِّي» فعل مُضارع لكن المقصود به هنا المُستقبل.

كما أنَّه لا يُمكِن ترتيب الأزمِنة بوضوح من خلال الأفعال في المُضيِّ وتحديد وقوع فعل قَبل أو بعد فعلٍ آخر.

وبالنِّسبة لعُظمائنا الذين نعرِف العصور التي عاشوا فيها بدقَّة، فإن الغالبيَّة العُظمى للعرب تعرِفُهم اسمًا لكنَّها لا تهتمُّ بمعرفة الأزمِنة التي عاشوا فيها. فكم مِصري يعرِف متى عاش صلاح الدين الأيُّوبي أو الظاهِر بيبرس أو طومان باي أو المقريزي؟ من يعرِف بالتحديد تاريخ ميلاد أو وفاة سعد زغلول أو مُصطفى كامل أو طه حسين؟

الغالبيَّة الساحِقة لا تعرِف، بل لا تهتمُّ أن تعرف؛ فقِياس الزَّمن بالنسبة لعامَّة العرب رَفاهية لا لُزوم لها.

أما في فرنسا فإن الغالبيَّة تعرِف بدقَّة تاريخ ميلاد ووفاة نابليون وهوجو وغيرهما، ويعرِف الألمان متى وُلِد ومات بِسمارك وجوته.

•••

ومن المُهمِّ في النهاية أن نَعيَ المناخ النفسي والاجتماعي والعقائد التي كان يؤمِن بها عرَب الجاهلية في العصر الذي نشأت وتبلْوَرَت فيه اللُّغة العربية بقواعِدها ومَنظومتها التي نتعامَل معها حتى الآن.

كان العرَب في الجاهليَّة يؤمنون بوجود الجنِّ والعفاريت وكانوا مُقتنِعين بأنهم تُخالِطُهم في السَّكن والحِلِّ والتَّرحال والزَّواج، وهُناك أشعار جاهليَّة كثيرة تدلُّ على ذلك.

وكانوا يؤمنون كذلك بالكَهانة والعرافة وبِشيءٍ اسمه «الهامة»، وهي طائر يُشبِه البومة يَخرُج من رأس القتيل ليُطالِب بالثأر، وهو يَصيح اسقوني … اسقوني.

ويقول شاعِر جاهلي هو ذو الإصبع العُدواني:

يا عمرو، إلا تدَع شَتْمي ومَنقَصَتي
أضرِبْك حتى تقول الهامَة: اسقُوني

وكان عرب الجاهليَّة يتشاءمون ويتفاءلون بشدَّة، وإذا خرَج أحدُهم من داره فوجَد شيئًا يدعو إلى التشاؤم عادَ إلى الدَّار وأغلَق على نفسه الباب، ولا يخرُج منها طوال اليوم.

وكانوا يؤمنون بشدَّة بالحَسَد ويُعوِّذون أطفالهم بسنِّ ثَعلبٍ وبِسنِّ قِطٍّ خوفًا من «العين».

كما كانوا يَتشاءمون من الغُراب كما يقول النابِغة الذُّبياني:

زعَم العواذل أنَّ فُرقَتَنا غدًا
وبذاك خبَّرَنا الغُراب الأسْوَد

وفي هذا المناخ المُفعَم بالخُرافات والخُزَعْبَلات نشأت اللُّغة فعكَسَت إلى حدٍّ بعيد تلك المَنظومة العقليَّة الجاهليَّة.

وقد أطاح الإسلام بالكثير من هذه الخُزَعْبلات، وكان دِينَ العقل والحِكمة. وهناك عشرات الأمثلة على رفْض سيدنا محمد للخُرافات التي كانت سائدة في عصره.

لكنَّ المُشكلة هي أنَّ اللُّغة مرآة للتركيبة العقلية لمُجتمَع ما، كما أنها تؤثِّر تأثيرًا حاسِمًا في تشكيل عقل المُجتمَعات التي تَستخدِمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤