الفصل التاسع

ضد تَحنيط العربيَّة

من يقرأ في تاريخ الفِكر العربي يتَّضِح له أنه زاخِر بمُحاوَلات التَّجديد والتطوير التي وَجدَت دائمًا من يتصدَّى لها وينجَح في إجهاضِها.

ولأنه يَجري على اللُّغة ما يَجري على باقي شئون الفكر، فقد ظهرَت في تاريخ العرب تيَّارات تدعو للتَّجديد ورفض الجُمود في مجال اللغة، فعِندما تبلْوَرت أفكار المُعتزَلة في العصر العبَّاسي ظهَر تيَّار يُنادي بتوسيع اللغة عن طريق القِياس والتوسُّع في الاشتقاق، وكان رافِع علَمِ هذه المدرسة أبا عليٍّ الفارسي وتِلميذه ابن جنِّي، وكان مَوقِفهما من اللغة كما يقول أحمد أمين في كتاب «ظهر الإسلام»: «مَوقِف أبي حنيفة ومدرسته في الفقه.» ويُضيف أن انتِماء أبي علي وابن جنِّي إلى مدرسة الاعتِزال مَكَّنَهما من التَّحرُّر وإخضاع اللغة لحُكم العقل.

لكنَّه كالعادة في التاريخ العربي الإسلامي فإن التيَّار المُحافظ الذي كان يتزعَّمه آنذاك في اللغة أبو سعيد السِّيرافي، نجَح في إجهاض الأفكار الجديدة ووأد مُحاولة التجديد.

ويقول أحمد أمين في «ظهر الإسلام» مُعلِّقًا على ذلك:

وممَّا يُؤسَف له أنَّ مدرسة القِياس هذه لم تَستمرَّ لتؤتي أكُلَها، فذهبَت مع ذَهاب المُعتزَلة؛ لأنَّ مدرسة المُعتزَلة كانت تحثُّ على البحث والتَّجرِبة والشكِّ والاستِدلال العقلي، فلمَّا ذَهبَت ذهبت آثارها.

ثم يُضيف:

مدرسة القِياس ترى أن اللُّغة ليست مُقدَّسة وأنها مِلك للناس، لا أنَّ الناس مِلْكها.

وعندما بدأ العرَب يهتمُّون بالنحو وبوضْع قواعد ثابتة للُّغة ظهرَت مدرستان مُتنافِستان: الأولى في البصرة والثانية في الكوفة. ويُمكن تشبيه الفرْق بينهما كالفرق بين مدرستي النقل والعقل اللتين سيْطرَتا على عِلم الحديث والفقه الإسلامي عمومًا. وكانت مدرسة البصرة، ومن أشهر عُلمائها الخليل بن أحمد وسيبويه، تَعتمِد على إعمال العَقل في وَضع قواعد اللغة. أمَّا مدرَسة الكوفة التي كان يتزعَّمُها الكسائي والفرَّاء وابن السِّكِّيت فكانت تُصِرُّ على نقل كلِّ ما قالَه العرَب كما جاء على ألسِنَتِهم، وتَضَع القواعد بناءً على ذلك حتى للشواذ.

وبرغم جهود بعض عُلَماء اللغة بعد ذلك مِثل ابن جنِّي وابن قُتيبة للتوفيق بين المَدرستَين إلَّا أن مَنطق مدرسة الكوفة هو الذي انتصر في النهاية. ولا شكَّ أنَّ في ذلك رمزًا لسيْطَرة مدرسة النقل بصفةٍ عامَّةٍ على العقل العربي.

ومُحاوَلات التجديد في اللُّغة والخروج من الإطار الحديدي الذي وضعه النُّحاة، لم تتوقَّف في تاريخ العرب على الرَّغم من وَطأة حرَّاس الماضي في كل العصور. وخلال عصر النهضة في القرن التاسع عشر، واكبَ التيَّارات الفكرية الجديدة التي تولَّدَت من الاحتِكاك بالخارج، وَعيٌ شديد بالحاجَة إلى التجديد اللُّغوي؛ فقد شعَر رُوَّاد النَّهضة مثل الطهطاوي والكواكبي وقاسِم أمين بأنَّ اللُّغة أصبَحَت عقَبَةً للتَّعبير عن أفكارِهم الجديدة، فقد كان الهاجِس الأول لكلِّ هؤلاء هو تطوير العقل العربي ومواءمَتُه مع التطوُّرات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والحياتية التي عاشتها المنطقة منذ نهاية القرن التاسع عشر.

ولم يقتصر الأمر على المُثقفين، فقد شعرت الدولة نفسها أن الوقتَ قد حان لإيجاد أداةٍ لُغوية مَرِنَة تعكِس الواقع الجديد. وفي عام ١٩٣٨م أنشأت وزارة المعارف لجنةً مُهمَّتها دراسة سُبل تيسير اللغة العربية. وقد عُهد برئاسة اللجنة إلى الدكتور طه حسين، وتقدَّمت بنتائج دِراستها للمَجمَع اللغوي الذي أقرَّها في يناير ١٩٤٥م. وقد تبنَّى المشروع مؤتمر المَجامع اللغوية الثلاثة، الذي عُقِد في دمشق عام ١٩٥٦م، لكن الأفكار التي طرحَتْها اللجنة لم تَرَ النور بسبب اعتراض الكثيرين على مبدأ المِساس باللغة. من الواضِح إذًا أن المُهمَّة الصعبة التي سيُواجِهُها العرب هي تبسيط لُغَة الضاد.

والمبدأ الأول الذي يجِب الاتِّفاق عليه قبل الخَوض في عملية التطوير، هو ضرورة الحِفاظ على اللغة الفُصحى وعدَم استِبدال اللَّهجات بها. فمن اللازِم أن يكون هدَف التطوير هو تخليق لغةٍ وسَط بدأت تظهَر بالفعل من خلال لُغة الصحافة، وخاصَّةً منذ بداية القرن العشرين. ويجِب السَّير في هذا الاتِّجاه، ومُحاولة إيجاد صِيغةٍ تُعتبَر قاسمًا مشتركًا أعظمَ بين كلِّ اللَّهجات العربية.

وأعلَمُ أنَّ هذه مُهمَّة صعبة للغاية وتستلزِم عشرات السنوات من البحث والتجارب، لكنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ لُغتنا الجميلة من الاندِثار.

•••

وبعيد عن ذِهني تمامًا أن أدعوَ إلى تطويرٍ جِذريٍّ يقضي على أسُسِ اللُّغة العربية؛ فمثل هذا التطوير يَقْطَعُنا عن تُراثنا وثقافتنا، وهو مرفوض تمامًا بالنسبة لي؛ فنحن العرب أصحاب ثقافة من أهمِّ الثقافات الإنسانية، ومن الجنون التَّفريط في هذه الكُنوز التي تركها لنا السَّلَف.

والمطلوب هو العمل على تطوير اللغة بجرأةٍ لكن دون نَسفِ الأسُس التي قامت عليها، والحِفاظ على الشكل والقواعد الأساسية التي وَضَعها السَّلَف. وأعلم أن أيَّ تطويرٍ للُّغة يَمَسُّ جوهَرها هو خَوضٌ في بحرٍ غريق، لكن عبور هذا البحر هو سبيل الخَلاص للعقل العربي، وإنقاذه من الحلقة المُفرغة التي يدور فيها منذ عدَّة قرون.

والتطوير الذي أقصِده يجِب أن يُحافِظ على أساسيَّات اللغة؛ بحيث إن من يتعلَّم العربية بعد التطوير، يكون قادِرًا على فَهم ما كُتِب قبل إجراء عمليَّة التطوير.

لكن كلَّ المؤشرات التي ذكرتُها تدلُّ على أن المنظومة اللغوية العربية في حاجةٍ إلى إعادة نظَر شاملة. ولأنَّني لستُ عالِمًا لُغويًّا، أو نَحويًّا، فإنَّني أكتفي في هذا الكِتاب بإعطاء بعض الأمثِلة الملموسة لِمَا أقصِده بالتطوير الذي لا يُخِلُّ بجَوهَر اللغة، فالغرض هو أن يظلَّ العرب بعد مئات السنين قادِرين على قراءة القرآن، وفَهْم التُّراث تمامًا كما يفهمونه اليوم، لا أكثر ولا أقل.

وقد اكتشفتُ بعد أن وضعتُ بعض الأمثلة أنَّ ما أقترِحُه قد جاءت به اللَّهجات بالسَّليقة؛ لأنه أقرَب إلى المَنطِق، وأبعد عن التعقيد غير المُفيد. وقد وصلتُ من هذا المُنطلَق إلى قناعةٍ بأنَّ تَبسيط اللغة العربية سيكون بتقريبها من المَنطِق اللُّغوي للَّهجات؛ ممَّا يُساعِد على تقبُّل الفُصحى من كلِّ أبناء الوطن العربي. وبعد ثلاثة أو أربعة أجيال ستصِل نِسبة القادِرين على القراءة والكتابة إلى ٨٠ وربما إلى ٩٠٪. وعندئذٍ ستزداد الحاجة لإيجاد لُغةٍ وَسَط؛ لكَسْر حالة الشيزوفرينيا اللُّغوية التي تَحدَّثْنا عنها.

•••

ولكي نضَع تصوُّرًا لكيفية تَبسيط اللُّغة؛ يتعيَّن علينا أن نضَع أيدينا على مَواطِن الصعوبة الكامِنة في العربية.

ومن أبرَز المُفارَقات التي تلفِتُ النَّظر في العربية أنَّ الكلِمة تأخُذ معناها مِن التشكيل، وليس من مَوقِعِها في الجُملة، فالأصل في العربية هي الجُملة الفِعلية، وإذا قُلنا مثلًا: ضرَب الشابُّ الرجل، (بدُون تشكيل) فإنَّ هذه الجُملة التي من المُفترَض أنها واضِحة، تحتمِل مَعنيَين مُتناقِضين لا يُمكِن التَّفرِقة بينهما إلَّا بالتشكيل.

فإن كان التشكيل هكذا: «ضرب الشابُّ الرجلَ» لكان المَعنى أنَّ الشابَّ قد ضرَب الرَّجُل. أمَّا إن كان التشكيل هكذا: «ضرَب الشابَّ الرَّجُلُ» لكان في هذه حالة الشابُّ هو المَضروب، والرَّجل هو الذي ضربه.

والجُملة في اللُّغات الحيَّة الحديثة هي جملة اسمية، وليست فِعليَّة. والسبب في ذلك هو ما تَجُرُّه الجملة الفِعلية من الْتِباس لدَى السَّامع، أو القارئ؛ لأنَّ المعنى فيها لا يُستنبَط من ترتيب الكلِمات وإنما من التَّشكيل، مع أنَّ المَنطِق يقول إن الفعل لا يأتي إلا بفاعل، فالفاعل هو الذي يسبِق الفعل، وله أولوية عليه.

وأذكر أن والدي الأستاذ محمد مُفيد الشوباشي — رحمه الله — والذي كان من أفضل من يُجيدون العربية في مصر، كان يَغضب منِّي لكثرة استِخدامي للجُملة الاسمية، التي كنتُ أجِدُها أقرب إلى التعبير عن المعنى الذي أقصِده، وكان يتَّهِمني بالتأثُّر باللُّغات الأجنبية التي كنتُ أجيدها بفضل دراستي. وبرغم امتِثالي لنصائح والدي إلَّا أنَّني كنتُ أشعُر بالفعل أنَّ الجُملة الاسمية أقرب إلى المنطق، وإلى التعبير المُباشر والسليم عن المعنى المقصود.

الصعوبة الثانية التي تُواجه دارِس العربية هي النَّقص الغريب في حروف العِلَّة. وفي مُقابل ذلك، هناك وَفرة مشكوك في ضرورتها في الحروف الساكِنة. وإذا قارنَّا العربية بالإنجليزية نجِد أن لدَينا ثلاثة حروف عِلَّة في مُقابل خمسة لديهم، وعندنا ٢٥ حرفًا ساكنًا في مقابل ٢١ عندهم. وغالبية الكلِمات والأفعال في العربية تتكوَّن من حروفٍ ساكنة فقط، على عكس كلِّ لُغات العالَم الحديثة، فكلمة مثل: «رجل»، أو فعل مثل: «ضرب» لا يُمكِن قراءتها إلا بإضافة حروف عِلَّة في عقل وعلى لسان القارئ نُسمِّيها التشكيل، فنحن نقول: «را جو لون» و«ضا را با».

ولنتمثَّل كلماتٍ مُشابهة باللُّغة الإنجليزية، فسنكتُب مثلًا: rgl وdrb هذه التراكيب هي: ضرْب من اللامعقول عِندهم، لكنَّها المعقول ذاته بالنِّسبة لنا. ومن هذه المُفارقة جاءت فكرة طه حسين التي ذكرناها من قبل ولم يتقبَّلها أحد.

وما يُضاعِف من المُشكلة أن كلمةً واحدة من المُمكن أن تُشكِّل جملةً كاملة في العربية، وهذا ليس موجودًا في غالبية اللُّغات الأخرى باستثناءات نادرة، مثل: فعل الأمر، لكن وجود الكلمة – الجملة وضع نَحوي عادي في العربية، فعندما تقول مثلا: «كتبت» فالفِعل يحتوي على الفاعل، وبالتالي فقد اكتملَت أركان الجملة في عبارة واحدة. وقد يجِد البعض ذلك قوَّةً مُضافة للعربية، لكن المُمارسة تُثبِت العكس، فلو أخذْنا كلمةً مثل «قتلت» نجِد أن لها عشر دلالات مُلتبِسة على الأقل، وفقًا لنُطقِها، أو لتشكيلها، فهناك «قَتلتُ» و«قَتلتَ» و«قتلتِ» و«قُتلتَ» و«قُتلتُ» و«قُتلتِ» و«قتلَت» و«قُتَّلت» و«قَتَّلتَ» و«قَتَّلتِ».

فهل من الطبيعي أن تكون لكلمةٍ واحدة تُكتَب بطريقةٍ واحدة أكثر من عشر دلالات؟ ألا يؤدي هذا إلى فتح باب اللَّبس، والغموض في المعنى، والحيرة، والتأويلات المُختلِفة؟ وربما كان ذلك أحد الأسباب وراء الخِلافات التقليدية بين أبناء لُغة الضاد، فهم أحيانًا غير قادِرين على الاتفاق على معاني اللغة التي يتحدَّثون بها. فما بالُنا بمضمون هذه الكلمات وفحواها؟

ولا بُدَّ لمن يقرأ العربية أن يتمتَّع بملَكة التكهُّن ودرجة عالية من القُدرة على الاستنتاج، بل والرَّجم بالغَيب؛ فغالبية الأفعال والكلمات تحتمِل عدَّة معان، ولا بُدَّ للقارئ أن يَختار واحدًا منها.

وأوَدُّ قبل الاستِرسال في مُقترحاتي أن أُعطي نموذجًا واضحًا لما أعنِيه بالتطوير الذي لا يُخلُّ باللغة؛ فالفَيْصل هنا هو المَقدِرة على فَهم العربية بعد التطوير لمن لا يَعرِفها قبل تطبيق عملية التطوير. فإذا تقرَّر جعْل الأرقام حِيادية؛ أي لا هي مُذكَّرة، أو مؤنثة، كما هو الحال في غالبية لغات العالم، فإن من يقرأ أو يسمع بعد ذلك جُملة بها رقْم لن يعجَز عن فهمها. فلو استقرَّ الرأي أن تكون الأرقام مُذكَّرة، فقُلنا مثلًا: سبع رجال، بدلًا من سبعة رجال، لما استعصى فهم ذلك على أيِّ شخصٍ ولو بعد مئات السنين.

وهذا ما أقصِده بدقَّة عن تطوير اللغة، دون الانقطاع عن تُراثنا.

•••

والقواعد الخاصَّة باستِخدام الأرقام هي مثال للتَّعقيد الذي لا داعِيَ له. لماذا لا نقول تِسع رجال، وتِسع نساء، بدلًا من تِسعة رجال، وتسع نساء؟ لماذا لا نُوحِّد الأرقام حتى نوفِّر على أنفُسِنا تعقيدات لم تعُد تُناسِب العصر؟

فالمُذيعون في الإذاعة والتلفزيون يبذُلون جهدًا جهيدًا لقراءة السَّاعة بالعربية الفُصحى بالطريقة السليمة، فيقولون مثلًا: الساعة الآن الحادية عشرة وخمس وثلاثون دقيقة.

وهناك مثال يُضرَب للتعبير عن بلاغة اللغة العربية وثرائها، وتميُّزها عن باقي لُغات العالم، لكنَّني أعتبِر هذا المِثال دليلًا جديدًا على ابتِعاد العربية عن مُتطلَّبات عالم اليوم، وانعِزالها في بُرج عاجيٍّ يُضاعِف من المِحنة الثقافية التي يعيشها العالم العربي اليوم.

فيُقال إنه لو ذهب رجل إلى آخر وقال له: إني قاتلٌ ابنك، فإنه سيُجيبه لماذا؟ وسيُحاوِل أن يَثنيَه عن قتل ابنه.

أما إذا قال له: إني قاتلُ ابنِك، فمعنى ذلك أنه قتل ابنه بالفعل، وسيكون ردُّ فعل الأب مُختلفًا تمام الاختلاف.

وواضِح طبعًا أنَّ الجُملتين تُكتَبان بنفس الحروف بالضبط، والاختلاف الوحيد هو في التشكيل.

فهل مثل هذا نُقطة قوَّة في اللغة؟ أم أنها نُقطة ضَعف خطيرة؛ لأنها تؤدي إلى الالتِباس والغموض، دون أن تكتَسِب اللُّغة بسببها بلاغةً في التعبير، أو قوَّةً في المعنى.

فالبلاغة تقوم على الوضوح والبُعد عن التقعُّر والتكلُّف والمُبالغة والتضخيم. والبلاغة ليست التلاعُب بالألفاظ، وإن كان من المُمكن أحيانًا أن تقوم على ذلك، وقد قيل: البلاغة الإيجاز. ولعلَّ أجمل وصفٍ للبلاغة هو ما قاله الجاحظ: «البلاغة هي التي إن سمِعها الجاهِل ظنَّ أنه قادِر على مِثلها.»

والبلاغة هي السَّهل المُمتنِع التي يتصوَّر أي شخصٍ أنه بسيط وفي مُتناول اليد. لكن الحقيقة هي أنَّ أصعب شيء هو التوصُّل إلى أسلوبٍ سهل وجَزْل عند القراءة، لكنَّه صَعب ومُجهِد عند التأليف.

ولعلَّ من أبرَز أسباب تعقيد العربية ووقوع الغالبيَّة في شَرَك الخطأ هو المفعول به. والمشكلة أن المفعول به في العربية لا يُعرَف من مكانه في الجملة، وإنما من إعرابه، وبالتالي من تشكيله.

وأرى أنه من الأقرَب إلى المنطق أن نقول مثلًا: رأيتُ رجل طويل يأكل خبز، بدلًا من: رأيت رجلًا طويلًا يأكل خبزًا.

والسببُ الوحيد الذي يَجعلنا نتمسَّك بالمفعول به (مُنونًا) هو أنَّنا ورِثْناه من نُحاة العصور السالِفة وأصبَح مألوفًا لآذاننا، لكنَّه من غير المنطقي أن نقبل هذا السبب ونَستكين لثقافة الأُذن.

وإذا قُلنا: رأيتُ رجل طويل يأكل خبز، فهل يؤدِّي هذا للقارئ أو المُستمع أيَّ الْتِباس في المعنى؟

وبغير مُكابَرة فإن الغالبيَّة العُظمى من العرب يُخطئون في المفعول به عند الكتابة، كما أنهم لا يفهمون معنى بعض الجُمل غير المُشكَّلة بسبب ذَوبان المفعول به وسط مُفردات الجملة؛ حيث إن تركيبة اللُّغة العربية لا تُحدِّد له مكانًا محسوبًا ومعروفًا سلفًا.

•••

ومن أوضح الأدلَّة على مُعانَدَة قواعد العربية لسُنَّة التطوير تربُّع المُثنَّى على أصول النَّحو العربي حتى بداية القرن الحادي والعشرين؛ فالمُثنَّى بالنِّسبة لكلِّ لُغات العالم أصبح كالديناصور الذي انقرَض من على وجه الأرض. وغالبيَّة اللغات الحيَّة المُتداوَلة اليوم لم يكُن بها مثنَّى أصلًا؛ فهذه الصِّيغة كانت شائعةً في اللُّغات الساميَّة القديمة، وقد اختفى مع اختفاء مُعظمِها وأُلغِيَ بصيغَتِه القديمة في اللغات الباقية حتى اليوم مع عمليَّات التطوير التي قاموا بها.

وهناك بقايا مُثنَّى تظهر بدرَجاتٍ مُتفاوِتة في بعض اللغات السامية الحالية، لكنها لا تَصِل إلى تعقيد قواعِد المُثنَّى في العربية، فالعِبرية مثلًا بها كلِمات تعبِّر عن المُثنَّى خاصةً الأشياء المُزدَوجة في الطبيعة، مثل العَينين، والقدَمين، واليَدين، وهكذا، لكن لا تُنسَب الأفعال فيها للمُثنَّى، مثل «شربا» أو «قاما» أو غيرها كما في العربية، ولا يُوجَد مُثنَّى للكلِمات مثل «رجُلان» أو «امرأتان».

ومعنى هذا أن غالبيَّة لُغات العالَم أدركَت أن المُفرد والجَمْع يكفِيَان تمامًا للتَّعبير عن المعنى. وما زاد عن واحدٍ يُعتبَر ببساطةٍ جمعًا، سواء أكان اثنين أو مائة أو أكثر، لكن المُثنَّى الذي أصبح غائبًا عن كلِّ لُغات العالَم لازال مِحورًا هامًّا للُّغة العربية حتى بداية القرْن الواحد والعشرين.

فما فائدة المُثنَّى؟ هل يُضفي دقَّةً على المعنى؟ هل يُضيف جمالًا؟

لقد أدرَك الجميع أنه لا فائدة من المُثنَّى إلَّا زيادة تعقيد اللُّغة فهجرَه الجميع إلَّا نحن.

صحيح أن المُثنَّى له مكانة في التُّراث الشعري العربي، وأن أول كلمةٍ في أول بيتٍ يُذكَر في المُعلَّقات، هي فعل مُثنَّى وهو: «قِفا» في مُعلَّقة امرؤ القيس، وقد استخدَم الشعراء المثنَّى كثيرًا، مثل «يا خليلي»، أو «يا ساقيَيَّ»، و«بكاؤكما» في مَطلع مرثيَّة ابن الرومي الشهيرة.

وهناك بيت للمُتنبِّي يعتبِره الدكتور طه حسين من أجمل الأبيات في الشِّعر الغِنائي العربي قاطبةً كما يقول في كتابه: «مع المُتنبِّي»، والبيت مذكور في قصيدة هِجاء عنيفة ضدَّ كافور نظمَها المُتنبِّي عندما هرَب من مصر، وهو:

يا ساقِيَيَّ أخمْرٌ في كئوسِكُما
أم في كئوسِكُما همٌّ وتَسهيد

لكن وجود المُثنَّى في الأدب القديم، لا يَعني أن نُحنِّط اللغة ونرفُض التغيير، فهناك تعبيرات وأساليب كثيرة تركناها؛ لأنها أصبَحَت مُعرقِلةً للتَّفاهُم.

ويؤدِّي المُثنَّى أحيانًا إلى اللَّبس في المعنى، فإذا كتَبْنا دون تشكيل: رأيت فَلاحَين، فمن المُمكن أن يكون المُتكلِّم قد رأى اثنَين من الفلاحِين، أو جمعًا منهم، كذلك لو قُلنا: مَصرَع عِراقِيَّين في الحرب، فمن المُمكِن أن يكون المقصود اثنين أو أكثر من ذلك، والتشكيل هو الوسيلة الوحيدة لرفع اللَّبْس في الكتابة.

وقد تخلَّصت اللَّهجات العربية من المُثنَّى تلقائيًّا وأصبح الاثنان جمعًا كما يُريد المَنطق.

•••

ومن المُشكلات الأخرى التي تُنفِّر دَارسي العربية جمع المؤنَّث، وتصريف الفعل الناتج عنه، فالجمع في كلِّ لُغات العالَم المُنتشِرة يُغطِّي الكافَّة وهو مُحايِد لا يخصُّ جِنسًا دون آخر. لكن لماذا عزْل النِّساء عن الرجال؟ ألسنَ بَشرًا مثلُهنَّ مثل الرِّجال؟ وقديمًا قال المُتنبِّي في رِثاء أم سيف الدولة:

ولو كان النِّساء كمَن فقَدْنا
لفُضِّلت النِّساء على الرِّجال
وما التأنيث لاسم الشَّمسِ عَيب
ولا التَّذكير فخْر للهِلال

وقد ناقَش المَجمَع اللُّغوي في مصر هذه القضية، لكنه من الواضِح أن أعضاءه استقرُّوا على ضرورة الحفاظ عليه. ولا أدري إن كان السَّبب هو تعذيب الطلَبة وكلِّ من يستخدم العربية كلُغة كِتابة؟

ويُعتبَر المُؤنَّث من أعقَد التَّركيبات التي لا لُزوم لها لفَهْم المعنى، فلو قُلنا: «النِّساء كلهنَّ أكلْنَ.» أو «النِّساء كلُّهم أكلَوا»، فإن المعنى واضِح في الحالَتَين، ولن يتصوَّر أحدٌ في الحالة الثانِية أنَّ النِّساء تَحولْنَ بِقُدرة قادِر إلى رجال، وغالبيَّة لُغات العالَم لا تَستخدِم تلك التَّراكيب البالِغة التعقيد التي عفا عليها الزَّمن، والتي لا تُقدِّم ولا تؤخِّر، ولا تُضيف دقَّةً إلى المعنى.

وحتَّى في اللغة المصرية الدَّارِجة نجِد أنه لا يُوجَد فرق بين المُذكَّر والمؤنَّث إلَّا للضرورة، فنحن نقول بالفُصحى مثلًا: الرجال الذين كذا، والنِّساء اللائي كذا، أمَّا باللَّهجة الدَّارِجة فيُكتَفى بتعبير «اللي» عِوضًا عن الذين واللائي.

•••

ومن الدَّلائل التي تُساق للتَّدليل على ثَراء اللُّغة العربية كثرة عدَد الكلِمات. ويقول جاك بيرك في كِتابه «العرَب» إنَّ أحَدَ عُلَماء اللُّغة العربية يُقدِّر عدد مَصادِر الكلِمات في العربية بنحو ١٩٠٠٠ يتكوَّن كلٌّ منها من ثلاثة حُروف، ومن الممكِن وفقًا لنفس العالِم الذي ينقِل عنه بِيرك اشتقاقُ أكثر من مائة كلِمَةٍ من كلِّ مصدر.

ومعنى هذا بحسبةٍ بسيطة أنَّ عدد كلِمات اللغة العربية يصِل إلى ما لا يقلُّ عن ١٩٠٠٠٠٠ كلمة.

لكن أبا بكر الزُّبيدي الذي اختصر كِتاب العين للخليل بن أحمد أحصى نحو ٦٫٥ ملايين كلِمة عربية من الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي.

وكلُّ هذه الأرقام تُعدُّ فلكيةً مُقارنة بغالبيَّة لُغات العالم؛ فالإنجليزية لا يزيد عدد كلماتها عن ٢٥٠ ألف كلِمة، والفرنسية عن ٣٠٠ ألف كلِمة وفقًا لقاموس «كنوز اللغة الفرنسية». صحيح أن عدد الكلِمات لا يشمل كلَّ تصريفات الأفعال، لكن الفارِق في كلِّ الأحوال شاسِع بين عدد الكلمات العربية، واللغات الأخرى.

والسؤال هو: هل يَعكِس هذا العدد المهول من الكلمات العربية دقَّةً وقُدرة تعبيرية تفوق أي لغة أخرى في العالم؟ البعض يرى أنه كلَّما زادَت المعاني، كلَّما اكتسبَت البلاغة أبعادًا جديدة؛ حيث يُمكِن اللَّعب بالألفاظ والإيحاء دون الإفصاح عن المقصود، لكن التَّجربة أثبتت على العَكس؛ حيث إن هذه الوَفْرة المُتناهية أصبحت تزيد غموض المعاني، وتَجعل المُستمِع أو القارئ في حيرة: أيَّ معنًى يَستنتِجه من الكلِمة؟ وكلَّما زادَت الاحتِمالات ازداد الغُموض والالْتِباس وكَثُرت التأويلات.

أما بالنِّسبة للقوَّة التعبيرية فقد أثبت الشِّعر العربي أنَّ هذا كان صحيحًا في عصرٍ من العصور؛ فالشعراء العرَب توصَّلوا إلى قدرٍ من البلاغة تكاد تصِل أحيانًا إلى حدِّ الإعجاز. وأنا لا أتحدَّث هنا عن إعجاز القرآن الكريم الذي نزَل بالعربية؛ لأنه معروف للجميع. وقد نَجَح الشُّعراء في العصور الذَّهبية أن يُترجِموا أفكارًا، وأحاسيس غايةً في النُّبل والسُّمو، ربما لم يصِل إليها أيُّ شعرٍ في العالم، لكن الشعر تطوَّر بعد ذلك تطوُّرًا ضخمًا في أوروبا بعد عصر النهضة، وظهر شعراء أبدعوا قصائد بديعة تسمُو هي الأخرى إلى السماء السابعة في عالَم الإبداع والجمال.

أما عن الدِّقَّة فهذا أمر مشكوك فيه جدًّا. وإذا كان العلماء العرب قد نجحوا في الماضي في التعبير العلمي، فإن العلماء الغربيين قد تفوَّقوا عليهم بعد ذلك، وأصبَحَت العربية اليوم تلهَثُ وراء الإنجليزية لمُواكَبة التطوُّر العِلمي والتعبير عنه باللُّغة الدقيقة.

•••

وكان العرب مُولَعين بالمُترادِفات منذ العصر الجاهلي، ففي باب الأسَدِ تقول المَوسوعة الإسلامية إنَّ هناك ثلاثةً من علماء اللغة العرب قد عدَّدوا ٦٠٠ مُرادِفٍ لاسم الأسد (والرقْم هو «ستمائة» لمن يتصوَّر أنَّ هناك صِفرًا أو اثنين أضيفا بفِعل خطأ مطبعي). وقد قام المُستشرِق جرونرت بدراسةٍ في الشعر العربي القديم فأحصى أكثر من ٤٠٠ اسم مذكور فيها للأسَد منها: الليث، والسبع، والغضنفر، والهِزَبْر، والأُسامة، والعبَّاس، على سبيل المثال لا الحصر.

والجَمل له في العربية ١٦٠ اسمًا بأنواعه المُختلفة. وصحيح أنَّ هناك جَملًا بِسَنَمين وآخر بسَنَمٍ واحد؛ لكن هذا لا يُبرِّر أن يكون هناك ١٦٠ اسمًا مُختلفًا للجمل.

ويُروى عن أبي العلاء المَعرِّي، وكان كفيفًا كما هو معروف، أنه داس على قدَم رَجُلٍ عندما دخل أحد مَساجد بغداد في زيارته الوحيدة لها، واستشاط هذا الرَّجُل غضبًا وشتَم أبا العلاء قائلًا: «إلى أين يا كلب؟» فاكتفى أبو العلاء بأن قال: «الكَلْب هو من لا يَعرِف للكلبِ سبعين اسمًا.»

فحتَّى الكلب كان له عند العرَب سبعون اسمًا على أقلِّ تقدير.

لماذا كلُّ هذه الأسماء؟ ألا تكفي خمسة، أو حتَّى عشرة مُرادِفات، قد تعكِس اختلافاتٍ بين أسدٍ وآخر، أو جَمَل وآخر في اللَّون أو في النَّوع مثلًا؟

وفي الجزء الأول من كتاب «تاريخ آداب اللغة العربية» يتعرَّض جُرجي زيدان للإفراط في المُترادِفات. ومن الواضح أنه يراه إيجابيًّا حيث يقول إن:

كثرة المُترادِفات في اللغة العربية وتَعدُّد المعاني في اللفظ الواحد جعلتْها واسِعةَ التعبير وسهَّلت على أصحابها التَّسجيع.

وفي هذا المجال يَذكُر أنَّ للأسد ٣٥٠ اسمًا فقط. وأنا أميل إلى تصديق الأرقام التي ورَدَت في الموسوعة الإسلامية. ويُضيف جُرجي زيدان أنَّ للزَّرافة ٢٥٥ اسمًا، والبئر ١٨٨ اسمًا، والماء ١٧٠ اسمًا.

كذلك فللمَطَر ٦٤ اسمًا، وللسَّحاب ٥٠، وللشمس ٢٩. أمَّا الصِّفات فهي أيضًا تَنعَم بنَهرِ المُترادِفات: فلِلقصير ١٦٠ لفظًا، وللطويل ٩١ لفظًا. ويُضيف زيدان: «ونحو ذلك للشُّجاع والكريم والبخيل مما يَضيق المَقام عن استيفائه.»

ومن المعروف أن قضية الترادُف خِلافية في التراث العربي كما هو الحال بالنسبة لمسائل لا حصر لها.

•••

ومن عجائب العربية أيضًا التعدُّد المُفرِط لمعاني اللفظ الواحد خاصَّةً أنَّ بعض الكلِمات تَحمِل مَعنيَيْن مُتضادَّين، فلفظ العجوز، كما يقول زيدان، له ٦٠ معنًى، ولفظ العين ٣٥ معنى. وإذا كانت هذه التَّعدُّدية في المُترادِفات، كان لها ما يُبرِّرها في الماضي البعيد، فقد تغيَّر المَوقِف اليوم تغيُّرًا جِذريًّا، وأصبح الإنسان يبحَث عن الوضوح والوصول إلى المعنى من أقصر طريق ممكن. فالصِّفات التي كان يفخر بها العرَب من أربعة عشر قرنًا تحوَّلت اليوم إلى مُعوِّقات تشلُّ الناطِقين بالعربية، وتُعجِزهم عن مُجاراة التقدُّم.

فالمطلوب من اللُّغة اليوم هو التعبير المُباشِر والسريع المُتوازي مع إيقاع الحياة، وليس «الفذلكة» والاستِعراض والبحث عن الغريب من المعاني.

وإذا سلَّمنا بأنَّ ثراء المُترادِفات والمَدلولات هو مِعيار قوَّة اللغة، فإن اللغة الإنجليزية التي تعدُّ اليوم لُغةَ العِلم الدَّقيق والأدب الرفيع، تُصبِح لغةً ضعيفة وركيكة؛ حيث إنه لا يُوجَد للتعبير عن نفس المعنى سوى عددٍ محدودٍ من المُرادِفات لا يزيد عن أصابِع اليد الواحدة، لكن الواقع أنها تكفي تمامًا لتحديد المعنى. والدليل على هذا أنَّ الإنجليزية هي اليوم لُغة العِلم والأدَب الأولى في العالم.

ولا شكَّ أنَّ وجود الجُذور يُعطي للكلِمات تَجانُسًا غير موجود في غالبيَّة لُغات العالم، فإذا أخَذْنا ثلاثة حروف مثل: ك ت ب فمن المُمكِن أن نَشتقَّ منها فِعل «كتب» وكلمات «كتاب» و«مكتبة» و«كاتب» و«كتابات» و«كُتيِّب»، وكلُّها لها معانٍ ذات علاقة ببعضها البعض. أما في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية فإن هذه الكلِمات لا علاقةَ لبعضها بالبعض الآخر إلا فيما ندُر. وكل كلِمةٍ لها جذور مُختلفة وتركيبة مُتبايِنة. وفي لُغات العالم الأخرى يتمُّ إضافة بِضعة حُروف قبل أو بعدَ الكلِمة لاشتِقاق معنى آخر لها.

فبالإنجليزية مثلًا:
  • يظهر appear.
  • يختفي disappear.
  • مظهر appearance.

ولهذا السبب، يُطلَق على هذه اللُّغات اسم لُغات تركيبية.

ولا أدَّعي أنَّني أملك حلًّا سحريًّا للانفصام اللغوي الذي يُعاني منه العالَم العربي، لكنَّني أقول إنَّ مثل هذا الانفِصام لا يُمكِن أن يدوم إلى الأبد. وأخشى ما أخشاه كما أثبتُّ، أن تأتي حلول جِذرية تفصِل بيننا وبين تُراثِنا العظيم، ويكون حرَّاس الضَّاد قد وَصلُوا إلى عكس مَقصدِهم؛ فهم يُريدون الحِفاظ على اللُّغة كما هي دون تطوير، فتكون النَّتيجة أن يكون التطوير أكبر كثيرًا ممَّا نُريده جميعًا ويمَسُّ جوهَر لُغتِنا الجميلة التي نفخَر بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤