تمهيد

يعرض هذا الكتابُ تاريخَ الأفكار المتعلقة بكيفية انتقال سِمات الآباء إلى الأبناء. غير أنه لن يكون سردًا تقليديًّا ينصبُّ تركيزه على الاكتشافات العلمية فحسب. إنَّ كتابًا لا يعرض سِوى اللحظات التي اكتُشِف فيها شيءٌ صحيح عن الوراثة ربما سيُكرس بِضع صفحاتٍ لآلاف السنوات التي تسبق عام ١٨٠٠، بينما يُخصص مائةَ صفحة لتناول القرنَين الأخيرين وحدهما. ذلك أنَّ كل ما قيل تقريبًا في موضوع التوارث لم يكن صحيحًا حتى وقتٍ قريب للغاية. فالآليَّات البيولوجية التي تؤدِّي إلى الانتقال الوراثي معقدةٌ للغاية ومحيرة، حتى إنه لم يكن من الممكن معرفتُها قبل العصر الحديث، بما فيه من تكنولوجيا فائقةٍ وميزانيات ضخمة مخصَّصة للعلوم.

إن الاكتفاء بالحديث عن قصص النجاح في هذا المجال هو تجاهلٌ لحقيقة أن التفكير في الوراثة قد شكَّل جانبًا مُهمًّا من الخبرة البشرية لآلاف السنين. ثم إنَّ الخطأ في الأفكار المتعلقة بتوارُث الصفات البدَنية والعقلية هو ما أكسبَها في كثيرٍ من الأحيان أهميةً تاريخيةً كبيرة. لقد هيمنَت الادِّعاءات المؤيدة لوجود اختلافاتٍ فطرية بين الرجال والنساء، وبين الأغنياء والفقراء، وبين أفراد المجموعات العِرقية المختلفة، والادِّعاءات المضادَّة لها، على المناقشات المتعلقة بالوراثة. ولهذا يتبع هذا الكتاب ثلاثةَ خيوطٍ رئيسية تتشابك في كثيرٍ من الأحيان: أولًا: الجهود التي بُذِلَت لاكتشاف الآليات التي تورَّث بها الصفات، وثانيًا: محاولات العلماء لتطبيق مفاهيمِ الوراثة على السِّمات العقلية البشرية، وثالثًا: الرغبة العامة في الاستشهاد بأفكار الوراثة؛ إما لدعم أشكال عدم المساواة — الاجتماعية أو الجنسية أو العرقية — أو لإدانتها.

إنَّ هذا الكتاب لا يسعى إلى تقديم دراسةٍ شاملة للأفكار المتعلقة بالوراثة؛ فالموضوع أكبرُ بكثيرٍ من أن يسَعَه كتابٌ ضئيل الحجم كهذا. وقد ركزتُ أيضًا بشكل كبير على أوروبا الغربية وأمريكا. ويرجع السبب في هذا إلى أنَّ مُعظم الإنجازات في الدراسة العِلمية للوراثة قد تحقَّقَت في هذه المناطق. غير أنَّ سببي هذا ليس كافيًا من منطلَق أن العديد من الثقافات لديها تكهُّناتها الخاصة بشأن طبيعة التوارُث. علاوة على ذلك فإن التوظيف الأيديولوجي للمُعتقَدات المتعلقة بالاختلافات الوراثية لم يقتصر قطُّ على الشعوب الأوروبية ولا على أحفادهم من الأمريكيين. فلو أنَّ مجالًا أكبرَ قد توفَّر لأمكن إثباتُ أنَّ التنميط القائم على ادعاءاتٍ زائفة بشأن الاختلافات المتأصِّلة لطالما كان سِمةً مشتركة على نطاقٍ واسعٍ من المجتمعات البشرية؛ إذ إننا نميل مع الأسف إلى رؤية العالم من المنظور الذي يُفيدنا على حساب مصالح الآخرين. بالرغم من ذلك، يجدُر بنا ألا نتبنَّى نظرةً قاتمة تجاه جنسنا البشري؛ فتاريخ التفكير بشأن الوراثة يؤكِّد أيضًا قدرتَنا المذهلة على فَهْم التعقيد المذهل للعالم الطبيعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤