مقدمة
على مدى سنواتٍ من تدريس نظريات فرويد لطلاب الجامعة والمُرشَّحِين لعضوية المعهد البريطاني للتحليل النفسي شَعَرتُ بالحاجة إلى كتابٍ واحد يُقدِّم نظرةً شاملة لتعقيدِ ودقةِ تفكير فرويد، ورؤيةً للحوار بين الاتجاهات المختلفة التي كان لها دَورٌ مُهمٌّ للغاية في «تكويني» كمحلِّلةٍ نفسية. إن دراسة أعمال فرويد والتحديد المُفرِط للمعاني في أفكاره، والأسئلة التي طرحها، فضلًا عن المُناقَشات التي أثارها؛ كل ذلك لا يمكن فهمه في سياقِ بلدٍ واحد أو لغةٍ واحدة، بل يمتد بامتداد القارات؛ فقد قدَّم الاتجاه البريطاني إسهامًا خاصًّا تَميَّز بتركيزه على عالم الفرد الداخلي، وعلى التحويل والتحويل المضاد، وله كذلك إسهامٌ مُميَّز في تطويرِ اتجاهٍ فرويدي يتمحور حول الممارسة الإكلينيكية. في حين ظل اتجاه علم ما وراء النفس بكل ما به من تعقيدٍ حيًّا في فرنسا، إلا أن معظم المناقشات الفرنسية لم تُترجم إلى الإنجليزية. وأرى أن بوسعنا معرفة الكثير إذا أقمنا حوارًا بين هذَين الاتجاهَين، وذلك هو المنهج الذي أَمِيلُ إلى اتِّباعه في التدريس لطلابي. حتى الآن لا يُوجد كتابٌ دراسي نُقدِّمه للطلاب الدارسِين لفرويد يُجسِّد هذا الحوار، وآمُل أن يُعوِّض هذا الكتابُ ذلك النقص.
لقد اخترتُ بعضًا من أهم الأبحاث التي تُدَرَّس في المعهد البريطاني للتحليل النفسي، وفي وَحدة التحليل النفسي في يونيفرستي كوليدج لندن، وقد دعوتُ لكلٍّ منهما مُحلِّلًا نفسيًّا من إنجلترا أو من الخارج، من المُحلِّلين الذين أرى أنهم قدَّموا إسهامًا مُهمًّا يُساعِد على فهم موضوعِ كلِّ بحثٍ من أجل الكتابة عنه. يُقدِّم كل فصلٍ من فصول هذا الكتاب نصًّا أو موضوعًا ناقشناه في برامجنا الدراسية، وجميع المُساهمِين في هذا الكتاب أطباء ومُعلِّمون وكُتَّاب؛ ومن ثَمَّ سوف يُقدِّمون منظورًا مُتعدِّد الأَوجُه كما فعل فرويد نفسه. تَتَّبِع معظم الفصول نسقًا متشابهًا؛ فهي أولًا تُلخِّص الأفكار أو الموضوعات الرئيسة للبحث المُتناوَل، ثم تُحدِّد المفاهيم الأساسية المتصلة بتلك الموضوعات، وتُتبِع ذلك بمناقشةٍ حول جذور الأفكار التي يتناولها البحث والتطوُّر الذي طرأ عليها في فكر فرويد. ويُختتم كل فصلٍ بتقييمٍ من الكاتب. وعلى الرغم من أن معظم الفصول قد اتَّبَعت هذا النسق، فإن بعضها قد اتخذ نسقًا خاصًّا به؛ بحيث يُصبِح البحث الأصلي لفرويد مصدر إلهامٍ يستمد منه الكاتب الأفكار الخاصة به.
يجمع هذا الكتاب بين التحليل العميق لأعمال فرويد الأصلية وبعضٍ من التفسيرات الأحدث لها، ويُوضِّح كذلك ما قدَّمه فرويد من إسهامٍ ثوري. جَرتِ العادة في أدبيات التحليل النفسي أن يعرض كاتبٌ ما لفكر فرويد كي يُبيِّن كيف أن كُتَّابًا أَكثرَ حداثةً قد أبطلوا هذا الفكر، إلا أن هذا النهج لا ينطبق بالضرورة على جميع الكُتَّاب ها هنا؛ ففي بعض الأحيان سنرى أن فرويد كان دون شكٍّ أَكثرَ ثوريةً من العديد من أتباعه؛ على سبيل المثال فيما يتعلق ﺑ «أَوَّلية الجنسانية»، لا سيما «الجنسانية الطفلية» (انظر الفصول ١ و٢ و٣ و١٠ و١١ و١٢ و١٣ و١٤ و١٦)، ومدى تعقيد «مفاهيم الزمن» المتعددة التي طرحها (الفصول ١ و٢ و٨ و١٢ و١٣ و١٤ و١٦)، و«العلاقة بين الذكرى والوهم» (الفصول ١ و٢ و٣ و٧ و١٠ و١١ و١٢ و١٣ و١٤ و١٥)، واعترافه بوجودِ قوةٍ في الحياة النفسية تُحرِّكنا على نحوٍ دائم ألا وهي «الدافع»، وبالأهمية التركيبية لما هو سلبيٌّ في الحياة النفسية (الفصلان ١٥ و١٦ تحديدًا)، وأخيرًا فهمه للدور البِنيوي الذي تَضطلِع به «عقدة أوديب» (في جميع الحالات المرضية)، بصورتها السلبية والإيجابية على حدٍّ سواء، في تشكيل العقل.
سأتناول فيما يلي كُلًّا من تلك الموضوعات الرئيسة بالترتيب.
(١) الجنسانية
(١-١) الهستيريا
يطغى الاهتمام بالجِنسانية، لا سيما الجنسانية الأُنثوية، على أعمال فرويد منذ بداياته، بدايةً من كتاب «دراسات حول الهستيريا» (بروير وفرويد، ١٨٩٣–١٨٩٥)، وحتى أبحاثه الأخيرة مثل «التحليل النفسي بين الزائل واللامتناهي» (فرويد، ١٩٣٧أ). وقد تغيَّرت جوانب رؤيته للجنسانية الأُنثوية مع ما طرأ على نظريَّته من تغيُّرات. على سبيل المثال، كان التمييز بين اللاوعي الوصفي واللاوعي الديناميكي، وتفصيل مفهوم الأنا العُليا، والصيغ المُتنوِّعة للصراعات بين الدوافع (على سبيل المثال، التعارض بين الدافع الشهواني ودافع حفظ الذات، وبين الشهوة الجنسية والعدوانية، وبين غرائز الحياة والموت) دافعًا إلى إحداث تغييراتٍ في صِيَغه الخاصة بالجنسانية الأُنثوية.
مع نهاية القرن التاسع عشر ساد جدلٌ قوي في الأوساط الطبية حول ما إذا كانت الهستيريا مرضًا عضويًّا أم نفسيًّا. كان السواد الأعظم من المرضى الذين يُعانون من أعراضٍ هستيرية من النساء، وكانت الأعراض التي أَظهرنَها بمثابة تحَدٍّ للمعرفة الطبية في ذلك الوقت؛ إذ لم تَتوافقْ مع أيٍّ من الآفات العضوية المعروفة آنذاك. ومنذ عام ١٨٨٢ فصاعدًا بدأ فرويد العمل مع بروير باستخدام الإيحاء والتنويم المغناطيسي. وفي عام ١٨٨٥ أمضى فرويد خمسةَ أشهُر في باريس؛ حيث تعاوَنَ مع الطبيب الفرنسي شاركو الذي ترك أثرًا بالغًا في نفسه. غير أن أسلوب فرويد اختلف عن أسلوب شاركو من عدة أَوجُه، من بينها الطبيعة العلنية والمسرحية لأسلوب شاركو، التي حل محلها محيط فرويد الصامت مُتمثِّلًا في غرفة الاستشارات وغياب المُحلِّل النفسي عن عين المريض (بونتاليس، ١٩٧٧). في «دراسات حول الهستيريا» يُناقِش فرويد وبروير تجربتهما مع خمسةِ مرضى، ويكتب كلٌّ منهما فصلًا نظريًّا. وبين عامَي ١٨٨٠ و١٨٩٥ طوَّرا طريقةَ العلاج التطهيري التي ساعدا بموجبها المريض على تذكُّر الحدث الصادم الذي صاحبه ظهور أعراض الهستيريا. وقد أشار كُلٌّ من فرويد وبروير إلى أن العَرَض من شأنه أن يختفي تدريجيًّا مع تَذكُّر المريض لهذه الأحداث وإعادة إحيائها. في البداية استخدم فرويد الإيحاء في علاجه لهؤلاء المرضى، لكنه أدرك تدريجيًّا أنه إذا سُمح للمرضى بالتحدُّث بحرية عن ذكرياتهم، فإن ذلك يؤدي إلى النتائج نفسها، وهكذا بزغ أسلوب التداعي الحُر إلى الوجود. ومن خلال هذا الأسلوب اكتُشِف كثيرٌ من الجوانب المحورية للتحليل النفسي؛ مثل: الكبت، والتحويل، والمقاومة، والتداعيات الحرة، واللاوعي.
يُصنَّف كتاب «دراسات حول الهستيريا» ضمن المرحلة الأُولى من أعمال فرويد، المعروفة باسم «نظرية الصدمة الشعورية» (ساندلر وآخرون، ١٩٩٧، صفحة ١٢). وهي مرحلة يمكن تحديدها زمنيًّا فيما بين عودة فرويد إلى فيينا عام ١٨٨٦ بعد زيارته لشاركو واكتشافه عام ١٨٩٧ أن الصدمات التي يرويها مرضى الهستيريا ربما لم تحدُثْ بالضرورة في عالم الواقع، بل يحتمل أن تكون أحلامَ يقظةٍ من مرحلة الطفولة؛ ومن ثَمَّ أصبح فيما بعدُ ينظُر إلى وقائع زنا المحارم، التي رواها مرضاه والتي كان يتعامل معها بجدِّية، باعتبارها تمثيلًا لرغباتٍ لديهم يُشبِعونها عبر تحقيقها في عالم الخيال.
وقد كَشفَ فحص حالات الهستيريا بجلاء أن سلوك المرضى لا يمكن تفسيره، ولا يمكن تعريفه فعليًّا، دون الرجوع إلى خواطرَ أو أفكارٍ مُعيَّنة لا يعيها المريض. ورأى كلٌّ من فرويد وبروير أن فرضية أن المَظاهِر الهستيرية مُولِّدة للأفكار والصور بطبيعتها هي فرضيةٌ ناتجة عن الملاحظة. لكن الخلاف نشأ بينهما؛ لأن بروير فسَّر أعراض الهستيريا من منظور الحالات الشبه التنويمية، في حين فضَّل فرويد تفسيرها كآليةٍ من آليات الدفاع.
في الفصل الأول من هذا الكتاب «آنا أو: الحالة الأولى، رؤيةٌ جديدة ومنقحة»، يضعنا رونالد بريتون وجهًا لوجه مع أُسس التحليل النفسي، التي تُعَد الجوهر الذي قاد فرويد إلى اكتشاف أفكارِ التحليل النفسي الرئيسة. تطرح حالة آنا أو كذلك قضايا حديثةً محوريةً حول التأثيرات المُتبادَلة التي ربما كان لها حضورٌ غيرُ مقصودٍ في العلاج، وتُثير تساؤلاتٍ حول العلاقة بين التفسير والإيحاء. إن البحث الذي يُقدِّمه بريتون لهو بحثٌ ثري، ويَتضمَّن عددًا كبيرًا من الأفكار المهمة؛ فيعرض أولًا الفرق بين مرضى اضطراب الشخصية الحدِّية ومرضى الهستيريا. إن الأولوية لدى مرضى الهستيريا هي لادِّعاء تملُّك الموضوع في عالم الحب، بينما الأولوية لدى مرضى اضطراب الشخصية الحدِّية هي لادِّعاء تملُّكه في عالم المعرفة. في حالات الهستيريا يُوجد تفاعل بين الحب والموت؛ ما يُذكِّرنا بقول دونيت إن في حالات الهستيريا يُصبِح التصريح بالحب إعلانًا للحرب في الوقت نفسه. يُميِّز بريتون بين الخيال والرؤيا والهلوسة، وطَرحَ مناقشات أكثرَ استيفاءً عن هذه النقطة في أبحاثٍ سابقة وفي كتابه (بريتون، ١٩٩٨). ويُشير كذلك إلى أهمية موقف التحليل النفسي في التعامُل مع مشاعر الرغبة التي قد يُبديها المريض نحو المُعالِج (تحويل المشاعر الجنسية)، ويطرح أسئلةً حول استخدام المريض الدفاعي لهذه المشاعر. إن الفرضية الرئيسة التي يُقدِّمها بريتون في بحثه هي اقتراحه أن «استخدام المريض للتماهي الإسقاطي كي يتقمص في الخيال دَورَ أحد الأبوَين الأصليَّين له أو كليهما هو سِمةٌ أساسية من سمات الهستيريا.» ويُضيف: «مرضى الهستيريا، كما أرى، ينغمسون في الفعل التمثيلي؛ أي يصعدون على خشبة المسرح ويلعبون دَورَ أحد الوالدَين. وعَبْر ما يَتضمَّنه التماهي الإسقاطي من وَهمٍ ذي قُدرة وسيطرةٍ كاملتين، يعتقد هؤلاء المرضى أنهم أحد الأبوَين الأصليَّين ويمارسون أيًّا مما يُصوِّر لهم خيالهم وقوعه في المشهد الجنسي المُتخيَّل للأبوَين.»
يشير بريتون إلى أهمية ظهور التحويل في تطوُّر الأعراض المَرَضية لدى آنا أو. ويتساءل كذلك: ما الشيء الذي يستخدم المريض تحويل المشاعر الجنسية كآليةٍ دفاعية ضده؟ يعرض لنا بريتون إحدى الحالات المرضية التي تَولَّى مُعالَجتها ليُبيِّن لنا أنه فَورَ التعامُل مع وهم المريض الشبقي نحو المُحلِّل النفسي، يُتيح ذلك ظهور تحويل مشاعر الأُمومة على السطح. وسوف أعود إلى هذه النقطة لاحقًا.
خلال مناقشته لحالة كاثرينا، ربط فرويد الهستيريا بالمشهد الجنسي الأَوَّلي في حياتها أولًا. وأضاف لاحقًّا في حاشيةٍ سفلية حالة امرأةٍ شابة متزوجةٍ أخبرته أن أَوَّل نوبةِ قلقٍ أصابتها حينما كانت طفلةً صغيرة؛ إذ كثيرًا ما كانت تَرى أباها يستلقي على السرير بجوار أمها وتسمع أصواتًا صادرةً عنهما تُشعِرها بإثارةٍ بالغة. ذكر فرويد ثلاث حالاتٍ أخرى على الأقل في ربطه الهستيريا بالمشهد الجنسي الأَوَّلي، وذلك في خطاب إلى فليس، وفي ورقته البحثية عن عُصاب القلق (١٨٩٥)، وفي تحليله لحالة دورا، إلا أنه تأَرجَح على مدى أعماله بين اعتبار هذا المشهد «حدثًا حقيقيًّا» وبين كونه «وَهمًا» من وحي خيال المريض.
عزا فرويد أهميةً متزايدة إلى أوهام المشهد الجنسي الأَوَّلي، وربط لاحقًا في أعماله بين جذور وظيفة التخيُّل نفسها وبين تلك الأوهام الأَوَّلية (انظر الفصل الثالث عشر)؛ إذ يعتقد وجود شكلٍ تخيُّلي مُحدَّد يحكم تلك المشاهد؛ فمن المنظور التخيُّلي للطفل، يعتبر المشهد مشهد عنف، يُلحِق فيه الأب ألمًا بفتحة الشرج بالأم. كان فرويد يظُن في بداية عمله أن الطفل قد شهد بالفعل تلك المشاهد، لكن اعتقاده بأنها أوهامٌ من مرحلة الطفولة تتعلَّق بحياة الأبوَين الجنسية تزايد فيما بعدُ. وقد أشار لاحقًّا إلى أن النوبات الهستيرية قد مثَّلَت أوهامًا بشأن اللقاء الجنسي باعتباره مَشهدَ اغتصاب (انظر أيضًا بيرلبِرج، ١٩٩٩).
يرى فرويد أن الهستيريا وازدواجية الميول الجنسية مرتبطان ارتباطًا جوهريًّا؛ فأشار إلى أن النوبات الهستيرية تُعبِّر عن تجربة اغتصابٍ يُؤدِّي فيها المريض دور المُغتصِب والمُغتَصَب على حدٍّ سواء. يُجسِّد مرضى الهستيريا مشهدًا لحربٍ بين الجنسَين، ينتصر فيها الذكور على الإناث، وتُصبِح الهستيريا، في المقام الأول، نمطًا من التفكير حول الجنسانية والشخص الذي تَنصَبُّ عليه الرغبة الجنسية (شيفر، ١٩٨٦).
أشار كوهون إلى أن المرحلة الهستيرية، في سياق مأساة أوديب، هي «لحظةٌ مُعيَّنة يعجز فيها الفرد، العالق في مأزِق الحاجة إلى تبديل الموضوع من الأم إلى الأب، عن القيام بالاختيار اللازم» (١٩٩٩، صفحة ١٨). «في الواقع، إن مريض الهستيريا، بينما هو عالق في هذه المرحلة الثنائية التكافؤ … إنما يعجز عن تعريف نفسِه كرجلٍ أو كامرأة؛ لأنه لا يستطيع في النهاية الاختيار بين أبيه وأمه» (١٩٩٩، صفحة ١٩). أمَّا شيفر، فيشير (مستخدمًا تعبيرًا ابتكره ميشيل كاشو) إلى أن مريض الهستيريا مثل حجر الياقوت، يُظهِر ما هو رافضٌ له من داخله في الواقع؛ فحجر الياقوت يهاب اللون الأحمر؛ إذ يمتص جميع الألوان الأُخرى ويحتفظ بها، بينما يَنبذُ الأحمر ويَلفِظه؛ ومن ثَمَّ يعاني مريض الهستيريا من رعبٍ من اللون الأحمر؛ أي من الجنسانية، بينما يعكسها في الوقت نفسه.
تعتمد الهستيريا على المحاكاة، ويكمن الاختلاف بين التماهي والمحاكاة في الاختلاف بين «التشبُّه بالموضوع» و«التوحُّد مع الموضوع»؛ لذا عندما تنظر آنا أو إلى نفسها في المرآة ترى جُمجُمة أبيها، وعندما تُعاني من مجموعةٍ من الأعراض الجسدية تبدو كأنها تُحاكي الفعل الجنسي وتُصبِح أعراضها أشبه بعرضٍ مسرحي للفعل الجنسي، في محاولةٍ لإنكار المشهد الجنسي الأَوَّلي وتجسيده في الوقت نفسه وإنكار فجيعتها في رغباتها الجنسية المُحرَّمة (بيرلبِرج، ١٩٩٩). غير أن رونالد بريتون قد أشار، عن حق، إلى أن تخلِّي المريض عن الجنسانية الهستيرية هو ما يُتيح له اكتشاف جنسانيته الخاصة.
(٢) الأحلام والجنسانية
يستمر حضور موضوع الهستيريا وعلاقتها بالجنسانية في مناقشة حالة دورا في الفصل الثاني، وهي الحالة التي يعكس تحليلُها اهتمامَ فرويد بالجذور الجنسية لأعراض الهستيريا، وكذا الدور الذي تلعبه الأحلام كأداةٍ للتعبير عن الصراعات غير الواعية. إن العَرَض الهستيري «يُجسِّد وَهمًا ذا محتوًى جنسي»، وإن كان وهمٌ واحدٌ لا واعٍ غيرَ كافٍ عمومًا لتوليد عَرَض.
في تحليل هذه الحالة، يظل فرويد مهتمًّا بإعادة تشكيل الصدمة التي أدَّت إلى ظهور العَرَض، من خلال تحليل الأحلام والتداعيات الحرة. وقد تَغيَّر هذا التركيز الإكلينيكي في السنوات اللاحقة عندما بدأ فرويد في النظر إلى عملية التحليل النفسي من منظور عملية التكوين نفسها. ولسوف أعود إلى تلك النقطة لاحقًا. في حالة دورا، يكتشف فرويد كذلك الأهمية البالغة التي يحظى بها «التحويل»: «تظهر نسخٌ جديدة أو صورٌ طبق الأصل من الدوافع والأوهام التي صَعِدَت إلى السطح وأصبح المريض واعيًا بها خلال سير عملية التحليل النفسي، لكن تلك النسخ أو الصور لها تلك السمة الخاصة التي تُميِّز نوعها، والتي تتمثل في أنها تضع الطبيب مَحلَّ شخصٍ سابق في النسخ الأصلية» (١٩٠٥أ [١٩٠١]، صفحة ١١٦). خلال فترة إجراء التحليل النفسي عينها، ركَّز فرويد على تحويل مشاعر الأُبوة، ولم يدرك أهمية تحويل مشاعر الأمومة إلا بأَثَرٍ رجعي، بعدما انقطعت دورا عن جلسات التحليل. وقد قدَّم فرويد لاحقًا شرحًا تفصيليًّا لدور التحويل في أبحاثه («آليات التحويل»، ١٩١٢؛ «التذكر والتكرار والتعامل مع المشكلة»، ١٩١٤ب؛ «ملاحظات حول تحويل مشاعر الحب»، ١٩١٥أ [١٩١٤]؛ «ما فوق مبدأ اللذة»، ١٩٢٠ب).
كَتبَ فرويد إلى فليس عن دَور ازدواجية الميول الجنسية في الأعراض التي تُعانيها دورا، وفي العديد من الحواشي السفلية المضافة إلى نص التحليل النفسي لِدورا أشار إلى خَطئه في فهم حُبها للآنسة كيه: «لقد أَخفقتُ في أن أكتشف في حينه أن حُب المريضة المِثلي للآنسة كيه كان أقوى تيارٍ لا واعٍ في حياتها العقلية، وأَخفقتُ في إخبارها بذلك» (فرويد، ١٩٠٥أ [١٩٠١]، صفحة ١٢٠).
طوَّر فرويد مفاهيمَ محورية في التحليل النفسي عَبْر تأمُّلاته في تحليلِ حالة دورا، وهي: آليَّات الكبت، والنكوص، والتثبيت، والتماهي. وقد أَثبتَت له قابلية التماهيات، الذكورية والأنثوية على حدٍّ سواء، للحركة أوَّليةَ ازدواجيةِ الميول الجنسية لدى كل فرد.
في الفصل الثاني، تُشير كورنو إلى أنه في أثناءِ مناقشة حالة دورا كوَّن فرويد فيما يبدو معرفةً مبكرة بالمهبل، بوصفه عضوًا فارغًا، لدى فتاةٍ صغيرة سوف تُصبِح في المقام الأول فتاةً صغيرة، لا «فتًى صغيرًا» أولًا؛ إذ ظَهرَت دورا فيما بعدُ لفترةٍ زمنية طويلة في نظريته. تُميِّز كورنو وهمًا ذا طابعٍ أمومي في تأمُّلِ دورا لكنيسة سيستينا وفي حُبها للسيدة كيه، الذي أدرك فرويد فيما بعدُ أهميته؛ فدورا، التي لا تزال في مرحلة المراهقة، «تُحب أيضًا المرأة التي سوف تُصبِح عليها، والمُتجسِّدة في شخص السيدة كيه الجميلة، الجذَّابة والمرغوب فيها حسبما وصفها لها والدها من قبلُ بوضوح.»
الآن أصبحتُ أترك المريض نفسه يختار موضوع جلسة اليوم، وبهذه الطريقة أبدأ عملي من أي موضوعٍ سطحي تَصادَف أن لَفتَ لا وعيُه نظرَه إليه في هذه اللحظة. لكن حسب هذه الخطة، يبرُز كل ما له علاقة بتفسيرِ عَرَضٍ مُعيَّن على نحوٍ مجزَّأ، ويكون مُوزَّعًا ومُتداخلًا في سياقاتٍ متعددة. (فرويد، ١٩٠٥أ [١٩٠١]، صفحة ١٢)
تتأكد فكرة فرويد الثورية، التي تفيد بأن الاهتمام بالجنسانية يظهر مُبكرًا لدى الأطفال وربما كان أصل الكثير من أعراض الطفولة، في تحليله لحالة هانز الصغير، التي تُعَد أَوَّل حالةِ تحليلٍ نفسي لطفل. تُوضِّح هذه الحالة، التي تُناقشها جين تيمبرلي في الفصل الثالث، أهمية الجنسانية الطفلية، وهو ما استُدل عليه من الملاحظة المباشرة للأطفال، لا من حالات العُصاب لدى البالغِين، وتُقدِّم كذلك وصفًا لكيفية تكوُّن تسويةٍ عُصابية؛ أي عرضٍ مرضي، عَبْر كبت الجنسانية الطفلية.
في واحدةٍ من أكثر الفقرات إقناعًا وطرافةً في بحث فرويد، يكشف هانز لأبيه في محاولةٍ لإغاظته أنه كان يعرف أن الطفلة كانت معهم «داخل صندوق طائر اللَّقْلَق» خلال الصيف قبل ولادتها. كما يُبدي تأثُّرًا شديدًا بمباهج الأُبوة ويُحيط نفسه بألعابه التي يعتبرها أطفاله. وعندما أخبره والده أن النساء فقط هن من يلِدن الأطفال، احتج زاعمًا كذب هذا الادِّعاء، منكرًا اختلافه الجنسي بشراسةٍ مثلما تُنكِر بعض الفتيات الصغيرات «إخصاءهن».
عَبَّر هانز الصغير عن غَيرته من أبيه وعن رغبته في جعل أُمه تحمل أطفاله، كاشفًا بذلك عن نفسه باعتباره «أوديبًا صغيرًا». لكنَّه، في الوقت نفسه، يظهر تعلُّقه المِثلي بأبيه أيضًا. تَعرِض حالة هانز فيضًا من الأدلة على تماهيهِ مع أمه ورغبته في إنجاب أطفال، إلا أن فرويد لا يَتحرَّى هذه النقطة في بحثه ولن يُناقشها حتى عام ١٩٢٦ في كتابه «التثبيط والأعراض والقلق»؛ حيث سيُشير إلى أن رُهاب الحيوانات لدى هانز ولدى رجل الذئاب يرجع إلى رغباتٍ مثلية سلبية وواهنةٍ تجاه الأب تعرَّضَت للتشوُّه عَبْر النكوص إلى الطور الفموي وعَبْر الكبت كذلك.
ولسوف أُشير إلى أن التفاعل بين التماهيات الأُنثوية والذكورية فيما يتعلق بالمشهد الجنسي الأَوَّل بمثابة خيطٍ يمتد عَبْر دراسات الحالة التي أجراها فرويد بدءًا من دورا، مرورًا بالصغير هانز ورجل الجرذان وشريبر ورجل الذئاب، حتى مقاله «التكوين النفسي لحالة مثلية جنسية لدى امرأة» (وهي حالات سنناقشها جميعًا في هذا الكتاب).
في الوقت الذي كَتبَ فيه فرويد عن حالة الصغير هانز، كان يرى أن تفشِّي القلق اللاعقلاني لدى مرضى العُصاب يُعزى إلى تحويلٍ للشهوة الجنسية المكبوتة إلى قلق، ومتى تتحول الشهوة الجنسية عن طريق الكبت إلى قلق، لا يمكن إعادة تحويلها. ورأى فرويد أن أَوَّل ظهورٍ لأعراض القلق عند هانز لم يكن مرتبطًا بنوعٍ من الرُّهاب، بل كان الرُّهاب آليةً دفاعية ثانوية ضد هستيريا القلق، تكوَّنَت عَبْر تركيز القلق حول موضوعٍ يُسبِّب رُهابًا. لقد حدَّد الرُّهاب حركة هانز ووضع قيودًا على استكشافه النفسي لعالم الجنسانية الذي تُمثِّله الخيول والعربات في الشارع، ولكنه أبقاه في المنزل بالقُرب من أمه.
لقد كان هذا البحث عرضًا لمسار تطوُّر الرُّهاب، ولكيفية تخفيفه بواسطة التحليل النفسي. وما إن شُرح لهانز رغبتُه في أن يَحلَّ مَحلَّ أبيه ويستحوذ على أمه جنسيًّا، حتى خفَّت حدة الأعراض.
(٣) النرجسية
تُعتبَر النرجسية نقلةً في تفكير فرويد؛ إذ أَحدثَت مجموعةً من التناقُضات في نظريته مهَّدت الطريق نحو التوصُّل للنموذج البنيوي للعقل.
حسبما تُشير بيرلبِرج في الفصل الرابع، أَحدثَ مقال «عن النرجسية» تغييراتٍ جذرية في مفهوم الأنا. ومن ذلك الوقت فصاعدًا، لم تعُد الأنا مجرد مكانٍ للسيطرة على الدوافع، بل أصبحت «هدفًا»، أو صورة، أو مركزًا يجمع بقايا حالاتِ تماهٍ ماضية. ولم تعُد الأنا تُعتبر مستقلةً عن أي علاقة، بل هي بالأحرى نتيجة لعملية التوطين الداخلي للعلاقات (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٥). طُوِّرَت هذه الفكرة على نحوٍ أكثرَ تكاملًا في مقال «الحداد والسوداوية» (١٩١٧ [١٩١٥])؛ حيث قدَّم فرويد تفسيرًا كاملًا لعلاقةٍ داخلية لموضوعٍ ما تتضمن إسقاطًا وتماهيًا. لقد أوضح في هذا المقال أن خسارة الموضوع هي ما تجعل الفرد واعيًا بها؛ ما مهَّد الطريق نحو عَرضٍ أكثر استيفاءً في كتاب «الأنا والهو» (فرويد ١٩٢٣) لنظرية الأنا بوصفها تُنشأ وتُعدَّل عَبْر «حالاتٍ مُهمَلة من تركيز الطاقة النفسية على الموضوع».
في مقال «ليوناردو دافنشي وذكرى من طفولته» (١٩١٠)، يطرح فرويد أول وصفٍ نظري له للنرجسية، بينما يُحاوِل شرح آلية تركيز الطاقة النفسية الشهوانية الذي يُؤدِّي إلى اختيارٍ نرجسي:
يكبِت الصبي حُبه لأمه، فيضع نفسه مكانها، ويتماهى معها، ويتخذ من شخصه نُموذجًا يختار على شاكلته أهدافًا جديدة يمنحها حبه … وهكذا يعثُر على موضوعات الحُب عَبْر مسار النرجسية. (١٩١٠، صفحة ١٠٠)
إن اختيار الموضوع النرجسي فكرةٌ رئيسة يمكن أن نجدها في مقالات فرويد حول ليوناردو (١٩١٠)، ورجل الجرذان (١٩٠٩ب)، وشريبر (١٩١١)، ورجل الذئاب (١٩١٨ [١٩١٤]). في كتاب «الطوطم والتابو» (١٩١٣)، يُشير فرويد إلى أنه في مرحلة النرجسية، «اجتَمعَتِ الغرائز الجنسية المعزولة حتى الآن بالفعل في كيانٍ واحد ووَجدَت كذلك هدفًا تنعكس فيه» (١٩١٣، صفحة ١٤٧).
في مقال «عن النرجسية» يُناقش فرويد أنواع اختيار الموضوع، ويمضي إلى طرح فكرته عن مثل الأنا الأعلى للمرة الأُولى. لقد وضع كلُّ فردٍ نموذجًا مثاليًّا داخل نفسه يقيس به أنَاهُ الفعلية (١٩١٤أ، صفحة ٩٣). ويرى فرويد أن تكوين هذا النموذج المثالي هو العامل الشَّرطي للكبت؛ فتصبح هذه الأنا المثالية هدف حُب الذات الذي تَمتَّعَت به الأنا في مرحلة الطفولة؛ أي «البديل لنرجسيةِ مرحلة الطفولة التي فقدها؛ حيث كان هو نفسه النموذج المثالي لنفسه» (المصدر السابق، صفحة ٩٤). ويُشير المقال إلى اهتمام فرويد المتنامي بالعالم الداخلي.
يكشف المقال كذلك أن تقسيم فرويد الأَوَّلي للدوافع بين جنسية وأنانية كان تقسيمًا قاصرًا، غير أنه لم يرغب في أن تَحلَّ طاقةٌ كونية محل الشهوة الجنسية، وهو ما اتهم كارل يونج بفعله. ولم يرغب أيضًا في أن تَحلَّ قوًى عدوانيةٌ كونية محل الشهوة الجنسية، وهو الخطأ الذي ارتكبه أدلر حسب زعمه. وسوف تُمهِّد أبحاث ما وراء النفس الطريق نحو إعادةِ تشكيلِ نظرية فرويد للدوافع (انظر الهامش ٣، [الفصل الرابع]).
(٤) علم ما وراء النفس
يمكن اعتبار أبحاث فرويد في علم ما وراء النفس (الميتاسيكولوجيا) غيرَ ذاتِ صلة بنظريةٍ عملية، بل هي بالأحرى تعبيرٌ عن تقليدٍ ثقافي، عن مسارٍ اتَّبَعه فرويد في عمله يلعب دورًا مِحوريًّا في فهم صياغاته. في بريطانيا وأمريكا، يُنظر إلى الأبحاث الميتاسكولوجية، إلا في حالاتٍ نادرة، باعتبارها أَثرًا من الماضي. لكن في فرنسا أُعيد إحياء تلك الأبحاث، وهي جزءٌ من تقليدٍ ثقافي يُضفي على أعمال فرويد عمقًا هائلًا. وهكذا نجد جان كلود رولان يُؤكِّد في الفصل الخامس أن أبحاث علمِ ما وراء النفس لا يُمكِن قراءتها بالطريقة نفسها التي يُقرأ بها العديد والعديد من الأبحاث ذات الطابع الإكلينيكي؛ فالأبحاث التي نتحدث عنها هنا يَطغَى عليها شيءٌ من «الغرابة»، وكأنَّ لا وعي فرويد هو ما يُخاطَب لا وعي القارئ عَبْرها، فاتحًا أبوابًا تكشف لنا عن لُغز اللاوعي: «لا يُوجد تعريفٌ حاسم لِعلمِ ما وراء النفس أكثر من كونه أَشبهَ بالغريزة بالنسبة إلى النشاط النفسي؛ إنه دعوة للعمل مفروضةٌ على الباحثِين بفعل الاهتمام بفرضِ مزيدٍ من الترابُط على التجربة الإكلينيكية.» يُشير رولان إلى أن تلك النصوص هي الأساس الذي مكَّن فرويد من الانطلاق نحو كتابة النص الأكثر غرابة، ألا وهو «مبدأ ما فوق اللذة»، ونحو طرح النموذج البنيوي للعقل. ويُضيف:
اللعبة، لدى الطفل والرجل، هي قطعًا أَمرٌ يوازي في جديته وتعقيده عِلمَ ما وراء النفس بالنسبة إلى المُحلِّل النفسي النظري. وينبغي أن يظل عِلمُ ما وراء النفس دومًا مصدرًا للمتعة وتحرير الطاقات بالنسبة إلى المُحلِّل النفسي النظري مثل اللعب بالنسبة إلى الطفل؛ شيءٌ ما يقع في المنتصف بين الاستحواذ والاكتشاف.
يُخبرنا إرنست جونز وبيتر جاي أنه فيما بين عامَي ١٩١٤ و١٩١٥، كَتبَ فرويد إلى لو أندريا-سالوميه وأبراهام عن مشروعه لتأليف كتابٍ يضم ١٢ مقالًا عن عِلمِ ما وراء النفس ويحمل عنوان «مقالاتٌ تمهيدية حول علمِ ما وراء النفس». ويبدو أن هذه المقالات تُجسِّد ذروة ما تَوصَّل إليه فرويد فيما يتعلق بالنموذج الطبوغرافي للعقل، والفرق بين أنظمة اللاوعي-ما قبل الوعي والوعي، ونظريته الأُولى حول الدوافع وتمييزها ما بين اللذة وانعدام اللذة، وبين العمليات الرئيسة والعمليات الثانوية. تُجسِّد تلك المقالات كذلك نقطةَ تلاقٍ سوف تُؤدِّي إلى أفكارٍ جديدة؛ مثل عمليات التماهي، وأهمية الموضوع، والتَّكرار القهري، ورَدِّ الفعل العلاجي السلبي، ودَور العُدوانية.
في عام ١٩١٥، استخدم فرويد مصطلح «الكبت» للإشارة إلى طيفٍ كامل من العمليات العقلية الهادفة إلى استبعاد رغبةٍ غريزية من مجال الوعي. يعتبر فرويد العقل «ساحة معارك»، ويُوجد عددٌ كبير حقًّا من المُتَع المُحتمَلة التي تَتحوَّل إلى ألم؛ لأن العقل البشري ليس كتلةً حجرية مُصمَتة. وتُقدِّم عقدة أوديب بشتى تجسيداتها النُّموذجَ الأكثر تعبيرًا لتلك الصراعات الداخلية (جاي، ١٩٨٨، صفحة ٣٦٥). وقد أوضح فرويد ما طَرحَه من نقاطٍ عامة بأمثلة من حالاتٍ طبية.
على سبيل المثال، يُشير فرويد إلى أن فعل الكبت يحتاج إلى تَكرار نفسه مِرارًا: «يَتطلَّب الكبت استهلاكًا متواصلًا للقوة» (١٩١٥ج، صفحة ١٥١)؛ فما جرى كبته لم يُمحَ، بل اختُزِن فحسبُ في اللاوعي؛ حيث يقبع هناك مُستمرًّا في الإلحاح طلبًا للإشباع.
المقال الثالث والأطول بين مقالاتِ علمِ ما وراء النفس يحمل عنوان «اللاوعي». طُرح مفهوم اللاوعي لأَوَّل مرة كمفهومٍ مرتبط بالكبت أو آليَّات الدفاع، بوصفه وسيلةً لتحديد مصير الأفكار التي تتعرض للكبت، وهو ما يعبر عنه فرويد صراحةً بقوله: «لقد استلهمنا مفهوم اللاوعي من نظرية الكبت» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ١٥)؛ وعليه افتُرض التسلسُل التالي: تتعرض فكرةٌ ما، لسببٍ أو لآخر، للكبت، فتظَل في العقل، تُمارِس تأثيرها رغم استبعادها من نطاق الوعي، ثم قد تُعاود الظهور في الوعي، في ظل ظروفٍ مُعيَّنة محبذة. وهكذا ربط فرويد بين اللاوعي ومفهوم الانقطاعات في العمليات العقلية للفرد، وهو أَمرٌ ذو أهمية.
ينقسم المقال حول اللاوعي إلى سبعة فصولٍ تُغطِّي موضوعاتٍ متنوعة: تسويغ للمفهوم، المعاني المختلفة للمصطلح ووجهة النظر الطبوغرافية، المشاعر اللاواعية، طبوغرافية وديناميكيَّات الكبت، السمات الخاصة لنظام اللاوعي، التواصُل بين نظامَي الوعي واللاوعي، وأخيرًا تقييم اللاوعي. ويرى لويز إدواردو برادو دي أوليفيرا (الفصل السادس) أن لهذا النص أهميةً كبيرة:
يُجسِّد هذا الفصل جهدًا جبَّارًا للإجابة على مجموعة من الأسئلة التي تظهر كثيرًا في أعمال فرويد مثل: أمن الممكن أن يُوجد شيءٌ واحد على نحوٍ متزامن في عدةِ أماكن مختلفة، وأن يظهر وكأنه يمتثل إلى عدة أنماطٍ مختلفة؟
علاوةً على ذلك: هل من الممكن أن يشغل شيئان مختلفان أو أكثر مكانًا واحدًا في الوقت نفسه ويظهران بأسلوبَين مختلفَين؟ الرد على مثل تلك الأسئلة يكون دومًا بالإيجاب؛ فمفهوم التحديد المُفرِط أو تعدُّد المُحدِّدات يشكل الأساس لهذه الإجابة ويمنحها ما تتمتع به من ثراءٍ وتشعُّبات. ويُشير برادو دي أوليفيرا إلى أن هذا المفهوم، الذي يُعَد أحد أكثر أفكار فرويد ثورية، لا يزال غير مُستكشَف إلى حدٍّ كبير، لا في نطاق التحليل النفسي فحسب، بل عمومًا.
يرى رولان (الفصل الخامس) أن أبحاث علمِ ما وراء النفس تُشير إلى فارقٍ مهم بين الحقيقة الطبية، والمفهوم النظري، والأداة المنهجية:
لدينا الآن أُسسٌ راسخة نُفرِّق بناءً عليها بين الحقيقة الطبية، والمفهوم النظري، وما سأُطلق عليه، لعجزي عن إيجاد مصطلحٍ أفضل، «أداة» ميتاسيكولوجية. «الحقيقة الطبية» أَمرٌ واضح لكلٍّ منا؛ فهي ظاهرةٌ تطرحها الملاحظة الواعية بوصفها نقيضًا لفهمنا المباشر؛ لأنها تُعطِّل، فيما يبدو، المسار الطبيعي للحياة أو تُخِل بالمنطق الذي نتوافق معه عفويًّا.
ويُضيف من جديد:
بناءً على العديد من الحقائق الطبية، وانطلاقًا من مصادر ملاحظةٍ متنوعة لكنها، بالقياس، لا تزال متمركزةً على السلوك النكوصي القوي الذي يَتبنَّاه بعض المرضى في أثناء العلاج، افتَرضَ فرويد مفهومًا نظريًّا ألا وهو التَّكرار القهري، ووضع له تعريفًا على النحو التالي: «هكذا يسترجع التَّكرار القهري من الماضي تجارب لا تنطوي على أي احتماليةٍ للمتعة، وحتى في وقت حدوثها أَثبتَت تلك التجارب عجزها عن تقديم أيِّ إشباع، حتى للدوافع الغريزية التي تعرَّضَت للكبت في النهاية.» وقد ركَّز القسم الثالث من هذا العمل على طرح أساس ميتاسيكولوجي لهذا المفهوم.
وفقًا لرولان، لم ينكر فرويد على الإطلاق تأثير الجنسانية في التَّكرار القهري عندما تناوَلَ الفعل الراجع إلى غريزة الموت؛ فالأخير يُفسِّر ما يعوق مسار الفعل الأَوَّل فحسب، ويلصقه بمواقفَ «صادمة» من الماضي، ويَحجُب إمكانية الوصول إلى موضوعات الحاضر.
يَعتبر رولان كتاب «ما فوق مبدأ اللذة» كتابًا ذا تأثيرٍ بالغ في ظهور مفهوم التَّكرار القهري. علاوة على ما أشار إليه من أن النص لا يُرسِّخ لانقطاع للصلة بين غريزة الموت والغريزة الجنسية على اعتبار الأُولى قوًى مختلفةً عن الثانية. ويقوده هذا الرأي إلى اعتبار هذا الانقطاع النصي.
انعكاسًا للنقطة الحاسمة التي ينفجر عندها تيارا الشهوة؛ فغريزة الموت، في الحياة الجنسية، إنما تُجسِّد — وتشير إلى — النزعة الوليدة التي تُجبِر الشهوة الجنسية على البقاء مرتبطةً بأهدافها المُحرَّمة ويُعارض التبرُّؤ منها، ويُعارِض، للأسباب نفسها، ارتباط هذه الغريزة البدائية (التي تدفع نفسها نحو الأهداف؛ لأنها لا تستطيع الاستغناء عنها) بموضوعات الإحلال. إن غريزة الجنس وغريزة الموت تُجسِّدان في تناقُضٍ «نموذجي» ازدواجيةَ حركة الشهوة الجنسية المُتأرجِحة بين الانجذاب المُحرَّم الذي تفرضه التخيُّلات اللاواعية وبين الشهوة الجنسية المُوجَّهة نحو الموضوع، التي تعرَّضَت للكبت نتيجةً لجهدٍ طويل من قبل الحضارة.
تتعارض آراء رولان حول مقال فرويد مع آراء جيلبرت دياتكين، الذي يعتبر غريزة الموت مفهومًا إكلينيكيًّا (الفصل الثامن). ويُشير دياتكين إلى ثلاثة أسبابٍ رئيسة وراء طرح فرويد لمفهوم غريزة الموت، يأتي في مُقدِّمتها اعتقاده بتعرُّض نظرية الحضارة التي دافع عنها فرويد منذ ميلاد التحليل النفسي إلى ضربةٍ قاصمة مع نشوب الحرب العالمية الأولى، جعلت من نظرية سيطرة مبدأ اللذة على البشرية نظريةً مُتعذِّرة على التصديق؛ ثانيًا، ما تَضمَّنه مقال فرويد، «الحداد والسوداوية»، من وصفٍ صادم للسادية المُوجَّهة ضد موضوعٍ مُستدخل؛ ثالثًا، يشير دياتكين إلى أن الحاجة إلى التَّكرار من شأنها إشباع الحاجة إلى المُعاناة التي وصفها فرويد في دراسة الحالة الخاصة برجل الذئاب.
يتتبع دياتكين آثار المُجادَلات التي أُثيرت في فرنسا حول مفهوم غريزة الموت ويُقدِّم شرحًا توضيحيًّا دقيقًا لأحدث إسهامات المُحلِّلِين النفسيِّين الفرنسيِّين ممن يستخدمون هذا المفهوم (مثل أندريه جرين، ودينس ريبا من مدرسة الطب النفسي الجسدي الفرنسية، وكلود بالييه وباتريك ديكليرك، بالإضافة إلى مُعارِضي هذا المفهوم، مثل بول دينيس).
(٤-١) «الحداد والسوداوية»
يُقدِّم فرويد في مقاله «الحداد والسوداوية» (١٩١٧) عرضًا شاملًا لعلاقة بالموضوع الداخلي تتضمن إسقاطًا وتماهيًا. إذا كان الفرد في حالة الحِداد يعرف أنه قد فقد شخصًا ما، فإن في حالة السوداوية يفقد الفرد جزءًا من ذاته. ويصف فرويد في مقاله عملياتِ فقدان الموضوع، وتناقُض الرغبة الجنسية وارتدادها داخل الأنا (المصدر السابق، صفحة ٢٥٨).
لِنُركِّز للحظةٍ على الرؤية التي يطرحها المصاب باضطراب الشخصية السوداوي لتكوين الأنا البشرية. نرى، من خلال هذه الرؤية، كيف أن جزءًا من الأنا يوضع في مواجهةٍ ضدية مع الآخر ويحكم عليه من منظورٍ انتقادي ويتخذه موضوعًا له إن جاز التعبير. في ظننا أن القوة الناقدة التي انفَصلَت ها هنا عن الأنا قد تُظهِر كذلك استقلالَها تحت ظروفٍ أخرى، سوف تُعزَّز عَبْر كل ملاحظةٍ إضافية ممكنة. ولسوف نجد الأسس التي تُميِّز تلك القوة عن باقي الأنا. إن ما نتعرف عليه ها هنا هو القوة التي يُطلَق عليها عادةً الضمير. (المصدر السابق، صفحة ٢٤٧)
ستُصبِح هذه القوة التي يُطلَق عليها «الضمير» هي الأنا العُليا في دراسة فرويد «الأنا والهو» (١٩٢٣)، وسيَلقى مفهوم «الانفصال» مزيدًا من التوضيح في دراستَي «انفصال الأنا في عملية الدفاع» (١٩٤٠ [١٩٣٨])، و«الفتيشية» (١٩٢٧). في حالات السوداوية، تحدث عملية استدماجٍ فموي للموضوع، الذي «يتبدَّد»، إلى جانب حدوث تماهٍ معه؛ فيلقي الشخص المريض بالسوداوية اللَّومَ على الموضوع الذي تتماهى معه الأنا؛ ومن ثمَّ يبدو وكأنه يلوم نفسه. وقد كان وصف فرويد للعملية التي تتماهى الأنا من خلالها، بغير وعي، مع الموضوع المُدمَج الغير السوي (موضوع الحب المرفوض)؛ ومن ثَمَّ تُصبِح ضحيةَ أناها العليا، من أهم اكتشافات التحليل النفسي. تكمن الفكرة في أنه عندما يُهاجم المرء نفسه، فإنه في الحقيقة يهاجم شخصًا آخر، عن غير وعي، يشعر المرء أنه ضحيته لكنه أصبح كيانًا متوحدًا معه عَبْر عمليةٍ من الاستدماج والتماهي.
في مَعرِض مناقشة تلك الدراسة في الفصل السابع، توضح أجنيس سودريه كيف أن فرويد يصف ضمنًا موقفًا داخليًّا ينطوي على عملياتِ استدماجٍ وتماهٍ مختلفة، حيث:
يتبادل كلٌّ من الأنا والموضوع (أو الموضوعات) المُستدخل الأدوار والمواقع الجغرافية في العقل، وحيث يتمازج كذلك على الدوام سيناريوهان تحكمهما نبرتان عاطفيَّتان مختلفتان للغاية؛ فالأنا يغشاها ظل الموضوع، والأنا تفترس الموضوع بلا رحمة؛ فنجد تأرجحًا دائمًا بين مشاعر الأسى والذنب ومشاعر الكراهية والضيم. ولا يُمكِن فهم الاكتئاب إلا بمراعاة ديناميكيات تلك الحالات ذات التأثير التبادُلي فيما بينها، التي تتسم بوجودٍ كلي دائم على مستوًى ما.
وتضيف أيضًا:
يصبح موضوع الحب مبغوضًا لما ارتكبه من هُجرانٍ قاسٍ. لكن الأنا، إذ ترى نفسها مُفعَمة بكراهيةٍ نحو الموضوع، تشعر كذلك أنها غيرُ محبوبة.
وهكذا يضيع الارتباط بالموضوع الخارجي، «لكن الانسحاب إلى حالةٍ يختفي فيها الموضوع، على ما يبدو، يقتضي ضمنًا وجود علاقةِ تَملُّكٍ داخلية قوية مع الموضوع الذي لم يعُد له وجودٌ إلا في العالم الداخلي فحسب.» وفي ذلك تقول سودريه:
من هنا تبدأ نظرية العلاقات بالموضوع الداخلي؛ يُستوعَب العالم الداخلي كفضاءٍ ثلاثي الأبعاد، حيث يجمع بين الذات والموضوع علاقاتٌ متغيرة من عدةِ جوانب وذات أَوجُهٍ مُتعدِّدة. الأمر «الكريه حقًّا» في هذا التحويل المضاد، عند مواجهة العالم السوداوي الكئيب الذي يحيا به المريض، هو الطبيعة الاستبدادية لحالة الجمود الناتجة عن الحاجة للإبقاء على الموضوع (الموضوع الداخلي، وكذلك المُحلِّل النفسي في سياق عملية التحويل) حبيسًا للأبد.
تُوضِّح سودريه بعضًا من آرائها حول النص عَبْر الاستشهاد بنموذجٍ إكلينيكي لإحدى الحالات التي تَولَّتها واحدةٌ من رُوَّاد التحليل النفسي، وهي المُحلِّلة النفسية النمساوية هيلينا دويتش. وعنوان دراستها مُشتقٌّ من عنوانِ مَقالٍ بعنوان «الجرح والقوس» للناقد الأدبي إدموند ويلسون، الذي يُناقِش فيه مسرحية سوفكليس «فيلوكتيتس». تُمثِّل الصراعات التي تتخللها مشاعر الذنب، والمسئولية، والضيم جوهر هذه المسرحية، وتُشير سودريه إلى الشرح الجيد الذي تُقدِّمه المسرحية لمقولة فرويد: «إن عقدة السوداوية تُحاكِي الجرح المفتوح؛ إذ تجتذب نحوها الطاقات النفسية … من جميع الاتجاهات، مُفرغة الأنا حتى تُصبِح مُعدَمة تمامًا» (١٩١٧، صفحة ٢٥٣).
وتخلُص في النهاية إلى أن فهم مريض السوداوية يقتضي حل لُغز التماهيات المُتعدِّدة مع الموضوعات الداخلية بمختلف جوانبها:
وكذلك جميع التقلُّبات المزاجية من الغضب الفتَّاك الوحشي إلى الحزن والذنب والارتياع من الدمار الذي سبَّبته النفس، وما يستتبعه ذلك من شعور بالألم لكون الفرد غير محبوبٍ عن استحقاقٍ كما يتبدى؛ ومن ثَمَّ سيظل غيرَ محبوبٍ للأبد: «فالأنا تُسلم نفسها للموت.»
(٥) التماهيات والأنا العليا والنموذج البنيوي للعقل
إن مفهوم النرجسية، الذي يصف كيف يمكن للنفس أن تصبح مركزًا للطاقات النفسية لتتحول إلى موضوع، ومقالات علمِ ما وراء النفس، لا سيما مقال «الحداد والسوداوية»، كل ذلك عَبَّر عن التوتُّرات والتناقُضات في نموذج فرويد الطبوغرافي للعقل الذي أدَّى إلى تطوير النموذج البنيوي للعقل. وتُشير مارجريت تونزمان، في الفصل التاسع، إلى بعضٍ من هذه التوتُّرات، وتتبع أَثَر النقلة التي حَدثَت من نموذجٍ للعقل صوَّره بأنه مُكوَّن من مناطق، إلى نموذجٍ مُكوَّن من قوًى وكياناتٍ فاعلة؛ ألا وهي الهو والأنا والأنا العليا. يكمن أحد تلك التوتُّرات في الطريقة التي سعى فرويد من خلالها إلى التمييز بين اللاوعي الديناميكي واللاوعي الوصفي؛ وقد استخدم فرويد مُصطلَح «وصفي» للإشارة إلى سمةٍ تُميِّز حالةً عقليةً ما، في إشارةٍ إلى أن حدثًا ما أو عمليةً مُعيَّنة يقعان خارج نطاقِ الإدراك الواعي. على النقيض من ذلك، يُشير نظام اللاوعي إلى «موقعٍ طبوغرافي» مُحدَّد داخل تركيب العقل، أمَّا في الإطار الديناميكي، فيُشير إلى المكونات العقلية التي لم يُسمح لها ببلوغ الوعي أو التعبير الحركي. ومع تقديمِ نوعٍ ثانٍ من الرقابة (١٩١٥د)، في مقال «اللاوعي»، يقع بين نظامَي الوعي واللاوعي، أصبح واضحًا أن كثيرًا من المُشتقاتِ ما قبل الواعية للاوعي قد تظل لا واعية ديناميكيًّا، رغم عدم وجودها في نظام اللاوعي (انظر: ساندلر وآخرون (١٩٩٧) للاطلاع على مناقشة لهذه النقطة).
تُركِّز تونزمان في الفصل الذي يعرض دراستها على عملية الاستبدال الجزئي لمفهوم مثل الأنا الأعلى بمفهوم الأنا العليا؛ ففي كتابَي «عن النرجسية» و«علم نفس الجماهير» يُناقِش فرويد جزءًا خاصًّا من الأنا تَنحصِر وظيفته في المراقبة النقدية لها. وينشغل فرويد على مدى كتابه «الأنا والهو» بتوضيحِ مفهوم الأنا العليا، حتى إن البعض اقترحوا عنوانًا آخرَ أنسبَ للكتاب وهو «الأنا والهو والأنا العليا» (ساندلر وآخرون، ١٩٩٧).
وفي كتاب «محاضراتٌ تمهيدية جديدة» (١٩٣٣)، الذي كُتب بعد ذلك بعقد، استعرض فرويد تكوين الأنا العليا بوصفه معتمدًا على نُمو التماهيات؛ فالأطفال في البداية يختارون آباءهم كموضوعاتٍ لحبهم، ثم يُضطرون إلى التخلِّي عن هذه الاختيارات لكونها غير مقبولة، ليصبح تماهيهم معهم قائمًا على تبنِّي سلوكيات الأَبوَين تجاه أنفسهم؛ وهكذا يئول الحال بالأطفال راغبِين في أن يُصبِحوا «مثل» آبائهم بعدما كانوا يرغبون في «الاستحواذ» عليهم، ونتيجة لذلك يُنشئون تماهياتهم استنادًا إلى نموذج الأنا العليا الأبوية.
طَرأَت تغيُّراتٌ جذرية كذلك على مفهوم الأنا وفقًا للنموذج البنيوي، وهي التغيُّرات المُتعلِّقة بفكرة أن جزءًا من الأنا غير واعٍ؛ وبذلك لم يعُد اللاوعي مقتصرًا على المكبوت، بل أصبح تكوينًا جامعًا واستيعابيًّا. ويعتبر جرين أن أهم تغييرٍ في النمط البنيوي هو لا وعي الأنا.
(٦) التحليل النفسي كمنهج: دراسة الحالة الواحدة
دَرسَ فرويد مناهج الباثولوجيا النفسية المتعددة في زمنه، واستخدم النموذج الإكلينيكي للبحث القائم على دراسة حالةٍ واحدة كيفية، وهو النموذج الذي تمكَّن من خلاله من إنشاء نظريات للعُصاب الهَوَسي (بناءً على فهمه لحالة رجل الجرذان)، وعقدة الاضطهاد (بناءً على حالة شريبر)، والهستيريا. من الممكن تحديد طريقة فَهم دراسات الحالة الخاصة بِفرويد عبر دراسةٍ متزامنة للبنية والتاريخ. في دراسة الحالة الواحدة، يكون الهدف هو فهم آلية عمل البنية الوظيفية. وفي كل حالةٍ لا يمكن فصل المنهج البنيوي عن المنهج التطويري. وبذلك وَضَع فرويد فرضياتٍ حول المراحل المتعاقبة التي أدت إلى ظهور البنية. ويمكن تأكيد ذلك بسلاسةٍ عبر التحليل المُفصَّل لدراسات الحالة العديدة التي قام بها كما هو موضح في هذا الكتاب. في خضم عملية تحليل عدةِ دراساتِ حالة، أنشأ فرويد «عائلة من الحالات» أدت إلى تكوين نماذجَ لمناهج الباثولوجيا النفسية (بيرون، ١٩٩٨). وقد كان البحث الإكلينيكي هو ما أتاح لفرويد إنشاء نماذج نظرية (انظر: بيرلبِرج، ٢٠٠٣).
ناقشنا في السابق الطريقة التي يمكن من خلالها النظر إلى حالة هانز الصغير كنص يعرض لفكر فرويد حول الجنسانية النفسية، والتي يكمُن لغزها، بما تتضمَّنه من تخيُّلاتٍ أولية حول الإخصاء ومشهد الجنس الأَوَّلي والإغواء، في الأسئلة التي تُطرح حول جسد الآخر. وقد واجه فرويد تخيُّلات الإخصاء في إطار الحالات الذكورية التي تَولَّاها (هانز الصغير ورجل الذئاب).
في كتابه «ثلاثة مقالات» (١٩٠٥ب)، أشار فرويد إلى أن شهوة التلصُّص هي التي تُوفِّر الطاقة لدافع المعرفة، الذي يضرب بجذوره في الجنسانية الطفلية، بما تنطوي عليه من الحاجة إلى السيطرة، والحاجة إلى فهم حدثِ قدوم مولودٍ جديد الذي يرتبط بخطر فقدان حب الموضوع.
كانت بعض الأعراض التي عانى منها مرضى فرويد شديدةً دون شك، وهو ما يبدو متناقضًا مع اعتقاده هو نفسه بأنه كان يتعامل مع مرضى عُصاب.
في الفصل العاشر يُناقِش بول ويليامز حالة رجل الجرذان (بول لورينز)، الذي كان يُعاني من رغبات ودوافعَ مزعجة، مثل الرغبة في جزِّ عُنقه أو الانتحار بطرقٍ أخرى، كما فرض عددًا من المحظورات على نفسه قيَّدَت حياته إلى حد اليأس. ويصفه فرويد بأنه شابٌّ ذكي وبارع، أعاق تطوُّرَه الاجتماعي والجنسي والعاطفي تفكيرٌ هوَسِي يضرب بأطنابه في طفولته. ووَصفَ كذلك حياته الجنسية المبكرة النضوج؛ ففي سن الرابعة كان يستكشف الأعضاء التناسُلية لمُربِّيته.
في هذه الحالة، يُقدِّم فرويد من جديد وصفًا حيًّا لصراع التماهيات؛ فيتحدث عن التخيُّلات التي صاحَبَت فعل الاستمناء لدى لورينز، ويُشير ها هنا إلى اشتياق لورينز إلى أبيه وصراعاته معه (لا سيما حول اختياراته لإحدى الفتيات)، وإلى قصةٍ مُعقَّدة حول حادثة ضرب الأب للورينز أُصيب على أثرها بنوبةِ غضبٍ شديدة، «أصبح بعدها جبانًا» يخشى العنف الجسدي، حسبما أخبر فرويد. وقد شرح فرويد هذا الموضوع فيما بعدُ بتفصيلٍ أكبر في كتابه «طفل يُضرَب» (١٩١٩) (راجع الفصل الثالث عشر).
كان تفسير فرويد «لسبب» ظهور الوسواس هو أن ثَمَّةَ انسحابًا للشعور من أسباب الصراع الأصلي الذي يُوحي بأنه لا يمكن التحكُّم به، مما يُؤدِّي لانقطاع الروابط العقلية؛ ومع ذلك فإن هذه الروابط تبقى بجعل نفسها مُستشعرةً في شكلٍ مُبهَم من خلال الإسقاط على العالم الخارجي. ويُؤكِّد فرويد على مشاعر لورينز العدائية التي يُنكرها تجاه والده باعتبارها قد أدَّت إلى احتدام مرضه بالوسواس إلى حدٍّ كبير. كان فرويد يعلم جيدًا أن الدافع وراء مرضِ لورينز لم يكن فقط مُجرَّد صراعٍ بين الحب والكراهية؛ فقد ساهم في تعقيده على نحوٍ خاصٍّ الشعورُ بالمتعة والخزي والاشمئزاز من المشاعر والأفكار المرتبطة بهذا الصراع.
يُعتبر ربط فرويد للتفكير الوسواسي بالإثارة الجنسية الشرجية منظورًا إكلينيكيًّا يجب عدم الاستهانة به، خاصةً أن إدراك الرابط بين عُصاب الوسواس القهري وبين النكوص الشرجي لم يظهر إلا في عام ١٩٢٦؛ أي بعد مرور عشرين عامًا على تحليل حالة لورينز.
يُشير ويليامز إلى ضرورة دراسة ورقة فرويد البحثية، «ملاحظات على حالة عُصابٍ وسواسي» (١٩٠٩ب) كأحد المُؤلَّفات الكاملة الأولى عن التحليل النفسي؛ فالبحث يُقدِّم صورةً للتطوُّر النظري والتقني للتحليل النفسي عام ١٩٠٧.
لا يزال البحث جذَّابًا بفضل تفاصيله وانتباه فرويد المُتبصِّر لكمياتٍ صغيرة من البيانات؛ فهو سرد للعالم الداخلي لفرد يعاني من الوسواس. ويعود هذا جزئيًّا إلى كونه «بيانًا» يعرض فرويد من خلاله كيفية فهم معنى عُصاب الوسواس القهري وهو شيءٌ استعصى على التعريف في الطب وعلم النفس.
في النقاش الخاص بحالة شريبر، تُناقَش من جديد فكرة الرغبة المثلية المكبوتة داخل رجلٍ تجاه والده. في الفصل الحادي عشر، يصحبنا جون ستاينر خلال تلك الورقة البحثية المعقدة؛ فبعد قراءته لكتاب «ذكريات مَرضِي العصبي: سيرة ذاتية» لدانيال بول شريبر (١٩٠٣؛ الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب)، يفترض فرويد أن قلق الاضطهاد وأوهام الارتياب هي نتاجٌ لآليَّةٍ دفاعية ضد الرغبة المثلية المكبوتة؛ فجنون الارتياب هو تحوُّل الحب إلى كراهية، تُسقَط بعد ذلك على مُضطهِدٍ خارجي. فالشخص الذي أكرهه الآن كنتُ أحبه يومًا ما (فرويد، ١٩١١، صفحة ٤١)؛ فتحوَّلَت كلمة «أحبه» إلى «أكرهه» والتي تتحول بدورها من خلال آلية الإسقاط إلى «إنه يكرهني». وفي القلب من الاضطهاد البارانويدي، كان ثَمَّةَ وهمٌ مُتعلِّق بالإخصاء مُقترن بفكرة أنه سيتحول إلى امرأة خلال فعل الاتصال الجنسي. وفي المرحلة التالية، كان يظن أنه سيصبح حاملًا بواسطة الإشعاعات الإلهية لكي ينتج جنسًا جديدًا من البشر (المصدر السابق، الصفحات ٢٠-٢١). يُشير شريبر كذلك إلى حالةٍ من السعادة القُصوى، «متعة لا تنقطع»، أو «إحساس متواصل بالمتعة الحسية» (المصدر السابق، صفحة ٢٩) ناتجٍ عن التأمُّل والتدبُّر في الله. في تحليله للحالة، يُؤسِّس فرويد لرابط بين الدكتور فلكسيج، طبيب شريبر، وبين الله ووالده، وخلَص في النهاية إلى أن الشمس في حدِّ ذاتها رمزٌ متسامٍ يُشير إلى الأب. «إن أكثر التهديدات التي يُمثِّلها الأب ترويعًا، وهو الإخصاء، أتاح في الواقع المادة المُكوِّنة لِوهمه الذي يتوق إليه … وهو أن يتحول إلى امرأة» (المصدر السابق، صفحة ٥٦)، ولكن في الوقت عينه يُشير فرويد نفسه في حاشيةٍ سفلية إلى أن كلمة الشمس مُؤنَّثةٌ في اللغة الألمانية (المصدر السابق، صفحة ٥٤).
يقول فرويد: «تكمُن جذور كلِّ اضطرابٍ عقلي وعصبي في الأساس في حياة المريض الجنسية» (المصدر السابق، صفحة ٣٠). ويتحلل جنون الارتياب في اللحظة التي تَتكثَّف فيها الهستيريا، «فجنون الارتياب يرُدُّ نتائج عمليات التكثيف والتماهي التي تحدُث في اللاوعي إلى عناصرها الأساسية مرةً أخرى» (المصدر السابق، صفحة ٤٩).
يصف ستاينر الطريقة التي بدأ بها مرضُ شريبر كاكتئابٍ سوداوي، ولكن سرعان ما ظَهرَت عليه سِماتُ جنون الارتياب، تطوَّرت بدورها لتصبح جنونَ ارتيابٍ احتفظ، مع ذلك، بأساسه المُتعلِّق بالاكتئاب وتَوهُّم المرض. في النهاية، جاء التشرذُم الفوضوي تحت هيمنةِ نظامٍ نرجسي كليِّ النفوذ أدى إلى تحسُّنٍ إكلينيكي بدون التنازُل عن أيٍّ من اعتقاداته الوهمية.
يذهب ستاينر إلى أنه من الممكن تمييز ثلاثةِ عناصرَ في مرض شريبر؛ أولًا: الاكتئاب واليأس، الثاني: جنون الارتياب، وأخيرًا، حالةٌ وهمية مُنظَّمة نسبيًّا يظهر فيها الاضطهاد من خلال التماهي مع جانبٍ أُنثوي مُخلِّص وخضوعٍ شهواني للأب. ويُشير ستاينر إلى أن هذه الحالات الثلاث تُوجد «في حالة توازنٍ حيث تُوجد تحركاتٌ دائمة ذهابًا وإيابًا بينهما حتى لو أمكن إدراكُ حدوثِ تطوُّر من الاكتئاب إلى جنون الارتياب ومن ثَمَّ إلى منظومةٍ دائمة للأوهام.» يقترح ستاينر ما هو أبعدُ من هذا وهو أنه يمكن النظر إلى منظومة الأوهام لدى شريبر على أنه انسحابٌ نفسي قائم على نظامٍ ذُهاني (ستاينر، ١٩٩٣) لجأ إليه المريض عندما أصبح الاكتئاب وجنون الارتياب لا يُطاقان. يُشير ستاينر إلى أنه حينما أَسَّس شريبر منظومته التخليصية للأوهام، كان قد حوَّل المضايقات والاضطهادات إلى خضوعٍ ذي طابعٍ مثالي وكانت منظومة الأوهام الخاصة به تعمل كملجأٍ نفسي يبدو أنه يُوفر له حمايةً كاملة من مشاعر الخزي والعار.
في الفصل الثاني عشر، تعرض روزين جوزيف بيرلبِرج طرحًا لحالة رجل الذئاب التي تُناقِش من خلالها أربعَ قضايا رئيسة: الدور التأسيسي للتخيل في بناء العقل، ووضع فرويد مفهومًا للزمن فيما يتعلق بوظيفة الصدمة والوهم، ومسألة الجانب الأُنثوي لدى الرجال، وأخيرًا العلاقات بين الوسواس والحِداد لدى رجل الذئاب.
وعلى خطى لابلانش وبونتاليس، تُؤكِّد بيرلبِرج على مدى التعقيد الذي يعتري أفكار فرويد عن التخيُّل والتي تظهر عند التخلِّي عن الموضوع الخارجي. علاوةً على ذلك، يُشير هؤلاء المُؤلِّفون إلى أن التمييز بين الشخص والموضوع يختفي عند التخيُّل (١٩٨٥، صفحة ٧٣). وما يتبقَّى لدى الشخص هو «مشهد»، «والوظيفة الأساسية للخيالات هي الإعداد المسرحي لمشهد الرغبة؛ إعداد يُوجد فيه ما هو مُحرَّم دائمًا في هيئة الشكل الفعلي للأمنية» (١٩٨٨، صفحة ٣١٨).
يرتبط الخيال لدى فرويد ارتباطًا أبديًّا بأفكارٍ عن كلٍّ من الزمن والجنسانية؛ إذ تُوجد إعادةُ تشكيل مستمرةٌ للخيال تحدث في إطارٍ بَعدي، كفعلٍ مستمر لإعادة الإعداد من شأنه تغيير الماضي على نحوٍ مستمر. ويسير اكتشاف دَور الخيالات جنبًا إلى جنب مع اكتشاف أدوار الجنسانية الطفلية وعقدة أوديب.
ظهر بحثُ فرويد المسمى «طفل يُضرَب: مساهمة في تفسير نشوء الانحراف الجنسي» عام ١٩١٩، وكانت فترةً انتقالية بين نماذج فرويد للعقل. وحسبما تُشير كاثرين شابيه في الفصل الثالث عشر، فقد كان الغرض من وراء النص هو اعتبار وهم «الطفل المضروب» كأحد أوهام الإغواء، بالإضافة إلى وصف تطوُّرات النماذج الفكرية المشتركة في إنتاج هذا الوهم. وفي الوقت نفسه، أبرز النص التمثيلات «الطفلية» للمازوخية، ما بَشَّر بظهور أعمالٍ سَبقَت نشر مَقالَي «ما وراء مبدأ اللذة» (١٩٢٠ب) و«الإشكالية الاقتصادية للمازوخية» (١٩٢٤)؛ ومن ثَمَّ مَهَّد لظهور الرابط بين الحب والعقاب، وبين الإثارة والألم.
يَتكوَّن وهم الطفل المضروب من ثلاثِ مراحل: يظهر مشهد المرحلة الأولى في هيئةِ أبٍ يضرب الطفل (طفل يُضرَب). المرحلة الثانية، كما يشير فرويد، تحدُث في اللاوعي، وتُعتبر بناءً لمرحلةٍ لتحويل المشاعر. تظهر هذه المرحلة على هيئة «أنا (طفلة) أُضرَب بواسطة أبي»، حيث يحتل مُؤلِّف الوهم مكان الطفل المضروب في المشهد الأول. تُشبِه المرحلة الثالثة (التي تظهر أولًا في التحليل) المرحلة الأولى؛ إذ يشغل مُؤلِّف الوهم مرةً أخرى مكان المَشاهِد. غير أن ثَمَّةَ عنصرَين بارزَين يُميِّزانها؛ فالأبوان قد تَغيَّرا، والطفل المضروب في المرحلة الأولى استُبدل بحشدٍ من الأطفال المجهولِين، والأبُ (الذي يمارس فعل الضرب) حل محله بُدلاءُ أَبعَد. وفي هذا الإطار تُشير شابيه إلى أن الانتقال بين المَشاهد هو تحرُّكٌ أساسي للتحليل و«طريقة لفتح مواضع للتماهي أثناء التحرُّك» ما بين الفاعلية والسلبية؛ بين السادية والمازوخية؛ بين التمثيلات والأفعال.
أشرتُ في هذه المُقدِّمة إلى الطريقة التي تَتكرَّر بها حركة التنقل بين التماهيات وخيالات اللاوعي فيما يَتعلَّق بالإغواء والإخصاء والمشهد الجنسي الأَوَّلي بالفعل في معظم دراسات الحالة التي ناقَشها فرويد.
تُشير شابيه إلى أن ظهور وهم «الطفل المضروب» لا يحدُث في كل التحليلات، غير أنه يظهر على السطح في معالجاتٍ مُحدَّدة وبأشكالٍ مُحدَّدة لا تتوافق دائمًا مع التي وصفها فرويد. تقترح شابيه أنَّ هذا الوهم هو أحدُ ترجماتِ وهم الإغواء المرتبط بالمشهد الجنسي الأَوَّلي؛ لأنه «يُظهِر السمات الكاملة المُميِّزة للأوهام المُنشِئة له، من ضرورة وجودِ دعمٍ بصري، بل بانورامي، لإكسابها شكلًا، والمكانة السلبية المخصصة للشخص المريض في كلٍّ من المشهد الجنسي الأَوَّلي والإخصاء.» إنه وهمٌ يُمثِّل نموذجًا للقاء التحليلي مُعبِّرًا عن نطاق عمليات التماهي الموجودة داخله.
يُعتبر بحث «طفل يُضرَب» جوهريًّا في تطوُّر نظريات فرويد، ويشير إلى وجودِ رابطٍ بين المازوخية والأُنوثة ومشاعر الذنب التي تُولِّدها الرغبات المحرمة تجاه الأب، وهي رغباتٌ مكبوتة وأُعيد بناؤها خلال العملية التحليلية.
لكن ألا يُعتبر هذا الإغواء الأبوي إغواءً ثانويًّا يلي إغواءً أَوَّليًّا بواسطة الأُم؟ لقد كُتِب هذا البحث قبل أن يُعيد فرويد صياغة نظريته عن الأُنوثة واكتشاف الطور ما قبل الأُوديبي. وفقًا لفرويد نفسه، فإن الأم هي المغوية الأولى، «وأَوَّل التجارب الجنسية والتجارب ذات الصبغة الجنسية التي يمُر بها الطفل فيما يتعلق بوالدته هي تجاربُ سلبية في طبيعتها» (فرويد، ١٩٣١، صفحة ٢٣٦).
ما نتحدث عنه هنا هو إنكار أُنوثة الأُم لدى كلا الجنسَين، أو بمعنًى آخر فعلها المثابر … إن تحرُّك النزعة التدميرية في الذُّهان يُمثِّل الملاذ الأَهمَّ والأبرز ضد التهميد والتخميل من قِبل شخصٍ من المستحيل الوثوق به … الآن لا يمكن للعلاج بالتحليل النفسي أن يتم دون حدوث هذا التخميل المُنطوي على الثقة؛ حيث يضع الشخص موضوع التحليل نفسه تحت رعاية المُحلِّل. (جرين، ١٩٨٦، صفحة ٢٤٨؛ التنصيص للتوكيد)
تُعتبر ورقة فرويد البحثية ١٩٢٠أ — التي تُعتبر آخر دراساته الإكلينيكية المنشورة — تحليلًا مُختصرًا لكيفية تحوُّلِ فتاةٍ في الثامنة عشرة من العمر إلى فتاةٍ مثلية الجنس. وقد استُعين بالبحث كجزءٍ من جدالٍ معاصر عن الطبيعة الجنسية لدى النساء. في الفصل الرابع عشر، تُقدِّم لنا سوزان بَد سردًا للورقة البحثية، وتفحص كيفية ارتباطها بنظرية فرويد السابقة عن الجنسانية، وتَتتبَّع بعض تطوُّرات هذه الأفكار داخل أعمال فرويد نفسها، كما تفحص نقاشاتٍ معاصرة تتعلق بالموضوع.
في هذا البحث، ظن فرويد أنه لا يُوجد أي تمييزٍ بسيط بين مِثليِّي الجنس ومُغايرِي الجنس: «ربما لا يحب رجلٌ يحمل علامات الذكورة — أي ذكوري في حياته الجنسية — إلا الرجال؛ وربما يكون رجلٌ يحمل علامات الأنوثة، يُحب كالنساء، مشتهيًا للجنس المغاير على نحوٍ كامل. والشيء نفسه ينطبق على النساء؛ فربما تختلف الصفات الجسدية الجنسية، ذكورية كانت أو أنثوية، ونوع الشخص المستهدف على نحوٍ مستقل. إن جميع الأشخاص الطبيعيِّين، بجانب انجذابهم الظاهري للجنس المغاير، يحملون «قدْرًا كبيرًا للغاية من المثلية الجنسية المستترة أو اللاواعية.» والتمييز الجنسي البشري أمرٌ تحكُمه عواملُ متعددة؛ فلا يُوجد «جنسٌ ثالث» مستقلٌّ مثليُّ الجنس.
تنظر بَد إلى أوجه التماثُل بين حالة دورا (١٩٠٥أ) وحالة التكوين النفسي. كلتا الفتاتَين حاولت الانتحار، وهو ما دفع والدَيهما المُتسلِّطَين للإصرار على تلقِّي العلاج النفسي وأن يُحاولا دفعهما إلى الدخول في علاقاتٍ مع الجنس الآخر؛ كما تعرَّضَت كلتا الفتاتَين للإهمال من جانب الأُم وكانت كلتاهما مستاءةً من تفضيل الأُم للأخ، الذي ربما كان دوره في قصتَيهما أساسيًّا على الأرجح، لكنه لم يخضع للدراسة والفحص. في كلتا الحالتين، يُركِّز فرويد على العلاقة مع الأب وليس على العلاقة مع الأم.
تشير بَد إلى أن الجنس التشريحي في بحث التكوين النفسي أقلُّ أهميةً بكثيرٍ من حالات التماهي العديدة للفتاة الصغيرة.
كما تُشير كذلك إلى أن الجدال داخل عالَم التحليل النفسي انقسم بين الثقافات الوطنية؛ فقد تَركَّز المزيد من الانتباه، بوجهٍ عام، على الطفل في المرحلة المُبكِّرة للغاية التي تسبق مرحلة الكلام وعلاقته بأمه. وتُؤمِن بد بأن السؤال المتعلق بالفروق الجوهرية بين الرجال والنساء لا يزال موضوعًا شائكًا. ففي بريطانيا، زاد تركيز المُحلِّلين النفسيِّين على الطفل الذي لا جنس له في مرحلةِ ما قبل الأوديبية وعلى علاقته بوالدته التي يَتَخيَّل أنها تمتلك قضيبًا، أمَّا في فرنسا، فلا يزال يُنظر إلى الأب كشخصٍ ذي أهميةٍ بالغة؛ كونه هو من يُحرِّر الطفل من علاقةٍ تكافلية مع أمه مُطلِقًا إياها على هيئةِ لغة. وتقتبس بَد من أوراقٍ بحثية نُشِرت خلال العشرين عامًا الماضية في بريطانيا، تلك التي ما زالت تُثير سؤال فرويد الأصلي: ما الدور الذي يلعبه الجسد المادي في تشكيل الهُوية الجنسية، وإلى أي مدًى يُسهِم الجانب النفسي في تشكيل خبرتنا بأجسادنا؟ (ميتشيل وروز، ١٩٨٢؛ رافاييل-ليف وبيرلبِرج، ١٩٩٧؛ كوهون، ١٩٩٩).
(٧) الإنكار
«الإنكار» هو عملٌ قصير مُكثَّف لِفرويد كُتِب عام ١٩٢٥. في الفصل الخامس عشر، يُشير أندريه جرين إلى أن هذا العمل رغم إمكانية أن يكون عملًا منفصلًا بذاته، فإن من الأفضل النظر إليه كأَهمِّ خطوة في رحلة استكشافِ وظيفةٍ بَدأَت قبل ذلك بكثير. لكن من وجهةِ نظرٍ أخرى، كما يُضيف جرين، فإنه كذلك عملٌ رائد يُمثِّل طفرة؛ إذ يفتح آفاقًا جديدة ربما كان فرويد قد خطَّط لها، لكنها تطوَّرَت كثيرًا فيما بعدُ على يده أو على يد آخرين.
تدريجيًّا، بدأ إدراجُ فكرةِ عدمِ وجود الرفض في الأحلام ضمن تصوُّرٍ أكثر اتساعًا، حوالي عام ١٩١٥، يُعرِّف النظام بأنه لا واعٍ.
لا إنكار، لا شك، لا أي درجةٍ من درجات اليقين؛ فكل هذا أُدخل بفعل الرقابة التي تحدث بين نظامَي ما قبل الوعي واللاوعي … يبدو أن غياب الإنكار يُمثِّل جزءًا من عددٍ أكبر من السمات ذات الصلة، كما نجدها، بأفكارٍ أخرى: فلا يُوجد إحساسٌ بالوقت أو الواقع. (صفحة ٢٥٥)
يَحلُّ جرين لُغز الأفكار والموضوعات الأساسية لهذا البحث ويَتتبَّع تطوُّر بعض هذه الأفكار في أعمال فرويد وكذلك أهميتها في أعمال كلاين، وبيون، وسيجال، ووينيكوت، ولاكان.
ينظر فرويد إلى الإنكار في إطار وظيفته في بداية التمييز بين الداخل والخارج؛ حيث يفصل ما بين ما هو «أنا» وما «لست أنا»؛ لذا فإن الإنكار يقبع في أصل نشاط التفكير نفسه، وكذا في القدرة على الترميز.
يَحثُّ الخارج — الذي يتضمن الآن كل الموضوعات، الجيدة والسيئة على حد سواء؛ بسبب حدوث الانفصال — الشخص على العثور مرةً أخرى على تلك الموضوعات التي كانت موجودةً بالفعل، لكنها وُجدت فقط في هيئة تمثيلاتٍ أُدمجت (وكُبتت) فيما مضى بلا وعي، وأدَّت أول حركةٍ لطردها إلى التمييز بين ما هو «أنا» وما «لست أنا».
الأُولى هي توضيح كيف أن الوظائف الفكرية قد يُنظر إليها باعتبارها ذاتَ أصولٍ مُتجذِّرة في أكثر النشاطات بدائية، كما فهمها، وهي الدوافع. والعكس تمامًا في الفكرة الثانية، والتي عَبَّر عنها على نحوٍ أقل وضوحًا؛ إذ يبدو أنه يستنتج أن نشوء وتطوُّر هذه الأشكال الأولية من النشاط هو ما يُبرِز الوظائف الفكرية إلى الوجود.
سوف يتبين لنا لاحقًا، عندما يتخلَّى فرويد عن اللاوعي كمرحلة ليستبدله بالهُو، أنه قد أَكَّد فكرة أن كل ما نعرفه تقريبًا عن الهو له «طابعٌ سلبي» مقارنةً بالأنا (الصفحات ٣١–٧٣)؛ فيُوضِّح جرين كيف أن هذا الأسلوب في التفكير يُلغي أي فكرةٍ عما هو سلبيٌّ باعتباره محصورًا داخل حدود السلبية المَرَضية ويُلقي الضوء على توليد العمليات الأساسية للغاية للحياة النفسية سواء كانت طبيعيةً أم مَرَضية.
بقدْر ما تُمثِّل الموضوعات المُقدَّمة لها (أي الأنا) مصدرًا للمتعة، فإنها تستحوذ عليها بداخلها و«تدمجها» بطريقةٍ غيرِ واعية (باستخدام مصطلح فرينتسي ١٩٠٩)؛ وعلى الجانب الآخر، فإنها تطرد كل ما يصير مصدرًا للألم داخلها … وهكذا يُصبِح العالم الخارجي مقسَّمًا إلى جزءٍ باعث على المتعة وهو الجزء الذي دمجته الأنا بداخلها، وما تبقَّى منه وهو دخيلٌ بالنسبة لها. وقد فَصلَت جزءًا من نفسها، وهو ذلك الذي تُسقِطه على العالم الخارجي وتشعر بأنه عدائي. وبعد هذا التنظيم الجديد، يتطابق كلا القطبان مرةً أخرى؛ فيتطابق موضوع الأنا مع المتعة، والعالم الخارجي مع الألم (مع ما كان في السابق عدم اهتمام). (فرويد، ١٩١٥ب، صفحة ١٣٦)
في ظل وجود تهديدٍ بالإخصاء للطفل الصغير، يُعاد إحياء ذكرى سابقةٍ لحالة الأُنثى التي لا تملك قضيبًا. لقد كان الأمر في الأساس لا ينطوي على أيِّ أذًى أو ضرر عند التعرُّض له، لكنه الآن (في الإطار البَعدي) يُستَدعى «كتأكيد» لإمكانية تحقُّق هذا التهديد، وهكذا أصبح الإخصاء في عقل الطفل يُمثِّل خطرًا. يَتبنَّى الطفل حلًّا ذا شِقَّين، من خلال رفض الواقع وقوته المانعة، من جانب، وتقبُّل الواقع وحماية نفسه من الخوف من هذا الخطر بتحويله لعَرَضٍ مَرَضي على الجانب الآخر، وهو ما يُعَد تناقُضًا لا يمكن الحفاظ عليه إلا بخلق انقسامٍ في الأنا على نحوٍ يجعل هذه الرؤى المتعارضة تظل متعايشةً معًا جنبًا إلى جنب دون أن تُقوِّض إحداها الأُخرى. وبالتنصُّل من الواقع وإنكاره ومنح الأُنثى بديلًا للقضيب الناقص، تَغلَّب الغُلام على ما كان يعتبره دليلًا على واقعية الإخصاء ومن ثَمَّ أنقذ قضيبه الخاص.
في كتابه «الموجز في التحليل النفسي» (١٩٣٨)، وسَّع فرويد من استخدام الانقسام لفهمِ وجودِ مجموعاتٍ نفسية متناقضة تتراوح بين الفتيشية والعُصاب والذُّهان. في العُصاب، يصف فرويد «موقفَين مختلفَين … أحدهما … ينتمي للأنا بينما ينتمي الموقف المضاد؛ أي المكبوت، للهو» (صفحة ٢٠٤). أمَّا في الذُّهان، فقد زعم فرويد أن الانسحاب من الواقع لا يكتمل أبدًا.
في كتابٍ حديث، يُشير جرين إلى أن الانقسام بالنسبة إلى فرويد دائمًا ما يكون له دلالةٌ إيجابية متعلقة بإدراكِ حقيقةٍ ما، من ناحية، يُعادِله على الجانب الآخر نقصٌ في الإدراك (٢٠٠٢، صفحة ١٥٠). ويُشير جرين إلى الجدل المستمر بين الإدراك ونقص الإدراك في مُؤلَّفات علم النفس.
(٨) موضوع التحقيق في التحليل النفسي١
ثَمَّةَ منظوران رئيسيان يمكن تحديدهما من خلال تفسير النظرية الفرويدية: منظور العلم الطبيعي، الذي يظهر بشكلٍ أقوى في أمريكا وبريطانيا، والمنظور التأويلي، الذي ظهر في الأساس في ألمانيا وفرنسا (انظر، على سبيل المثال، ريكور، ١٩٦٥أ، ١٩٦٥ب؛ هابرماس، ١٩٧١؛ كلاين، ١٩٧٦؛ جرونبوم، ١٩٨٥؛ سبنسر، ١٩٨٧؛ دور، ١٩٨٨ للاطلاع على بعض الآراء المختلفة في إطار هذا الجدل).
غير أن أعمال فرويد، في رأيي، إنما تُعَد مثالًا لِتوتُّرٍ قائم بين هذَين المنظورَين للصياغات الخاصة بالتحليل النفسي؛ فهو، من جانب، كان يَودُّ لو كان علم النفس من العلوم الطبيعية، لكنه على الجانب الآخر، كان ينظر إلى التحليل النفسي كطريقةٍ جديدة لإعادة تفسيرِ حقل الثقافة من الأحلام والفن إلى الأدب والدين (طالع مساهمات دانكان، ١٩٩٢ وستاينر، ١٩٩٢ في هذا النقاش).
وفي محاولةٍ منه لمنح نظرياته صلاحيةً عالمية، عَمَد فرويد إلى ربطها بالعديد من جوانب الثقافة؛ مثل تاريخ الأفكار، والأساطير الإغريقية، والأدب، والفلسفة، واللغويات، وعلم الإنسان، وعلم الأعصاب، وذلك في إطار الأفكار السائدة في زمنه. لكنَّ التأكيد على المعرفة الحديثة بعصره ليس دقيقًا بمعنى الكلمة. على سبيل المثال، أشار إي جونز إلى استغلال فرويد لِلَّاماركية لتبرير بعض أفكاره، رغم معرفته بالداروينية. ولم يكن هذا لنقص المعرفة بالنظم المعرفية المعاصرة، بل لاختيار فرويد الأفكارَ التي شعر بأنها قادرةٌ على تبرير أفكاره على أفضل نحوٍ ممكن. وقد استُخدمت هذه الجوانب الأوسع من الثقافة بالأحرى كصورٍ مجازية، كما يبدو لي، لإعطاء عمقٍ أو صلاحيةٍ أكبر للأفكار التي كان فرويد يصنعها ويكتشفها ويُنشئها. وأحيانًا ما كان يسمح للأفكار المتناقضة بالتواجُد جنبًا إلى جنب.
هذه الحقيقة، بالإضافة إلى الترجمة الخاطئة أو غير الوافية للعديد من أَهمِّ مفاهيم التحليل النفسي الأصلية، تجعل مخاطباتِ فرويد المباشرة التي دائمًا ما تتسم بطابعٍ شخصي على نحوٍ عميق لإنسانيتنا المشتركة، تبدو للقارئ الإنجليزي كبياناتٍ مُجرَّدة بلا شخصية، تتسم بالنظرية إلى حدٍّ كبير والميكانيكية وسَعَة المعرفة — باختصار علمية — عن الآليات الغريبة والشديدة التعقيد التي تعمل بها عقولنا. (بيتلهايم، ١٩٨٣، الصفحات ٤-٥)
ويذكر بيتلهايم أن استخدام فرويد للغة الألمانية «لا يَتميَّز بالبراعة فقط، بل ذو طبيعةٍ شعرية في أغلب الوقت» (المصدر السابق، صفحة ٨).
يشير ريكور إلى حالة الشد والجذب بين نوعَين من مناهج الخطاب في أعمال فرويد: التأويلي والنشِط. يُخاطب الخِطاب النشِط القاعدة العضوية للحياة النفسية، معتبرًا الكائن الحي آلةً هيدروليكية ومستخدمًا صورًا مجازية مُستوحاة من العلوم الطبيعية. أمَّا الأسلوب التأويلي، في المقابل، فيُؤكِّد المعنى. ويُعَد البحث المُعنوَن «مشروع لعلمِ نفسٍ علمي» تعبيرًا عن الخطاب النشِط، بينما يُمثِّل كتاب «تفسير الأحلام» الخطاب التأويلي. ويؤمن ريكور بأنه على الرغم من أن الأخير حاول التحدُّث بالأسلوبَين، فإنه لم ينجح في هذا، ويعتقد أن هذا الخطاب المزدوج أكثر نجاحًا مع أبحاث علم ما وراء النفس: «تظهر الهاوية التي تبدو مُستعصيةً على اجتيازها بين عالمَين في خطاب التحليل النفسي كما لو كانت تَتبدَّد في أبحاثِ علمِ ما وراء النفس» (ريكور، ١٩٦٥، صفحة ١٢٥). ينظر ريكور لكتاب «تفسير الأحلام» (١٩٠٠) كمثالٍ نُموذجي لأعمال فرويد. فإذا كان معظم المُحلِّلِين يتفقون في الرأي بالفعل على أن هذا العمل يُعتبر ميلاد التحليل النفسي، في ظل ما يحمله من تأكيد على التمثيلات، فإن النموذج البنيوي يُنظَر إليه كإعادةِ تقييمٍ لأهمية الحركة وقوة الدوافع. هذا الوضع البنيوي، كما يذهب جرين، قائمٌ على وجود بِنًى عقلية ليس للتمثيلات فيها دَورٌ مهم كما هو الحال في العُصَاب (جرين، ٢٠٠١، ٢٠٠٢).
أَتفِق مع بونتاليس أن أعمال فرويد تقع بالفعل «بين عالمَين» (رسالة بتاريخ ١٦ أبريل ١٨٩٦، اقتبسها بونتاليس، ١٩٧٧)، بين ما يمكن قوله وما يجب أن يُكرَّر، بين ما يمكن تمثيله وبين ما لم يصل لمرحلة التمثيل، وبالتأكيد بين الدوافع وتمثيلاتها.
وكما يُشير جوهر الكتابات الواردة في هذا الكتاب، فإن المنهج التأويلي في حد ذاته في أعمال فرويد لا يمكن فهمه خارج إطار البُعد الإكلينيكي؛ أي خارج إطار السياق العلاجي الذي صِيغ داخله التفسير.
إن المُتبقِّي في جوهر فكر فرويد، في رأيي، هو فكرة الحركة. إن تنقُّلات فرويد داخل إطار التفكير النظري لا تستبعد الطرق السابقة للتفكير؛ فهو صاحب منهجٍ عقلي وتأويلي في الوقت نفسه؛ فهو مهتم بالحب والكراهية، بالأنوثة والذكورة، بالأحداث الحقيقية والأوهام، الدوافع الشهوانية والدوافع التدميرية، التذكُّر والتَّكرار، الماضي والحاضر. واقتباسًا للتعبير المثير لبونتاليس، فإن فرويد يقف بين الحلم والألم. وأيُّ محاولةٍ للاختيار بين هذه المناهج والتأويلات والمنظورات المختلفة هي بطبيعة الحال اختزالٌ للحتمية التعدُّدية التي هي عنصرٌ حاسم في صياغة أفكار فرويد. ربما كان تأكيد فرويد على فكرة التفسيرات في أعماله اللاحقة هو توفيقٌ بين الاثنين. إنه ليس موجودًا ولا مُختَلقًا بالكامل. والشد والجذب بين الاثنَين هو بالفعل ما يُمثِّل المُحرِّك لعبقرية فرويد، والدافع الذي يجعل فكره في حالة حركةٍ مستمرة، وهذه الحركة المستمرة، بالنسبة إلى فرويد، هي ما يُميِّز الحياة النفسية. ويُشير فرويد إلى أن النزاع بين هذَين المنهجَين لا يمكن اختزاله في أي وجهةِ نظرٍ بسيطة، وهو الأمر الذي يستوعبه ريكور نفسه عندما يقول: «إن هذا الربط للقوة بالمعنى هو ما يُحوِّل الدافع نفسه لواقع نفسي، أو بدقةٍ أكبر، إلى مفهومٍ يقف على الحد الفاصل بين ما هو عضوي وما هو نفسي» (المصدر السابق، صفحة ١٣٢).
من الأهمية بمكانٍ هنا الإشارة إلى الطرق المختلفة التي تطوَّرَت بها هذه النظرية في أعمال فرويد. في بعض الأحيان كانت تدفعه الحاجة لفهم المادة التحليلية. وقد تَضمَّنَت الأمثلة على هذا الاكتشافات الإكلينيكية «لرد الفعل العلاجي السلبي» و«الإحساس اللاواعي بالذنب» اللذَين أدَّيا لصياغة النموذج البنيوي للعقل، وتحليل أحلامه الخاصة الذي أدَّى لتصريحه (في خطاب إلى فلايس) بأنه لم يعُد يؤمن بأن روايات مرضاه المُصابِين بالهستيريا ترتبط بالضرورة بذكرياتِ إيذاءٍ واقعية بل تُمثِّل أوهامًا يتوقون لِتحقُّقها.
في أوقاتٍ أخرى، وُجِدَت تناقضاتٌ مشتقة من النظرية نفسها تدفع نماذج فرويد إلى «الأمام». على سبيل المثال، الطريقة التي أَدَّى بها مفهوم النرجسية، بتأكيده على الطاقة النفسية الشهوانية للنفس، إلى انهيارٍ محتمل للطبيعة المزدوجة للدوافع وفكرة الصراع بينها. وبينما كان فرويد يُسلِّم بمركزية الصراع في الحياة النفسية، جازف مفهوم النرجسية بتدمير الدوافع وتحويلها لدافعٍ شهواني وحيد، وأشار هذا ضمنيًّا للحاجة المفاهيمية لإعادة صياغة نظرية الدوافع. ونحن نعرف أن هذا قد أدَّى لافتراضِ وجودِ صراعٍ بين غريزتَي الحياة والموت.
أشار ألتوسير (١٩٧٧) إلى خطورةِ اختزال التحليل النفسي إلى أشكالٍ أخرى من المعرفة، سواء الأحياء، أو الفلسفة، أو علم الإنسان، ومن ثَمَّ خسارة محتواه النظري المُتخصِّص. وأشار ألتوسير إلى إمكانية تلخيص التحليل النفسي في ثلاث نقاط: (أ) كممارسة (العلاج التحليلي)، (ب) كأسلوب (منهج العلاج) يُؤدِّي لحدوث عرضٍ مُجرَّد ذي بناءٍ نظري، (ج) كنظريةٍ مرتبطة بكلٍّ من الممارسة والأسلوب. يُشير ألتوسير إلى أن هذه الوَحدة الكاملة العضوية العملية التقنية النظرية بمثابةِ تذكيرٍ ببنيةِ كلِّ فرعٍ علمي، مضيفًا أن الأفكار التجريدية الخاصة بالتحليل النفسي هي المفاهيم العلمية الحقيقية لموضوعهم (اللاوعي).
أشار باشلار (١٩٩٩، صفحة ١٤٦) إلى أن المعرفة بمنزلة ضوءٍ، دائمًا ما يترك ظلالًا، مضيفًا أن كل أنواع المعرفة في التحقيق العلمي هي بمثابةِ إجابةٍ لسؤال؛ فلو لم يكن هناك أسئلة، لا يمكن أن تكون هناك معرفةٌ علمية. عندما شغل باشلار كرسي أستاذ تاريخ العلوم في جامعة باريس عام ١٩٤٠، الذي كان حتى ذلك الحين يُسيطِر عليه أنصار الفلسفة الوضعية، عَرضَ رؤيته الثورية للعلم، ليس كظاهرةٍ لتجربة ولا كعمليةِ توثيق، بل كعمليةِ بناء، وهو ما يحمل إشارةً ضمنية أيضًا إلى وجودِ رؤيةٍ لدى العالِم مرتبطةٍ في حد ذاتها بالنموذج المُنشأ.
إن تدوينَ تاريخِ أيِّ نظريةٍ هو تدوينٌ لتاريخ التردُّدات التي يقع فيها العالِم (كانجيليم، ١٩٧٩). ويُشير باشلار إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ الأفكار؛ ولاشتقاق المعنى لأيِّ مفهوم، ينبغي النظر إلى السياق الذي يُوجد فيه (١٩٩٩، صفحة ١٧٧).
ليست الكلمة كالمفهوم؛ فالإلمام بموضوعٍ معرفي لا يتحقق فقط من خلال ملاحظةِ هذا الموضوع، لكنه يتحقق من خلال بناءِ مفهومٍ يدور حول هذا الموضوع (المصدر السابق، صفحة ١٨٤).
يقع التحليل النفسي داخل هذه الرؤية للعالم. ورغم أن فرويد استعان بالميادين المُتعدِّدة للمعرفة في زمنه، فإن التحليل النفسي مرتبطٌ جوهريًّا برؤيته للطبيعة البشرية؛ مما يُؤسِّس لانفصالٍ حقيقي عن المعرفة السابقة؛ فاللاوعي مجهولٌ بالأساس ويتم الوصول إليه من خلال عمليةِ بناء. وفرويد أيضًا دائمًا ما يُراجِع أفكاره، مُحدثًا انفصالاتٍ معرفيةً داخل مجموعة نظرياته (النماذج المُتعدِّدة التي افترضها للعقل). وعَزلُ أيِّ جانبٍ من تفكيره يعني تجاهُل هذه العملية المستمرة من التطوير والتغيير.
أَعتقِد أن كل المُساهمِين في هذا الكتاب يُواصلون إحياء هذا التقليد الفرويدي الجوهري، من خلال فهمهم العميق للأفكار والمفاهيم الفرويدية، وتعميقهم لمعناها، وتعزيز عملية التفكير من خلال إبداعهم الخاص.