الفصل العاشر

«ملاحظات على حالةِ عُصابٍ وسواسي»

بول ويليامز

يشغل بحث «ملاحظات على حالةِ عصابٍ وسواسي»، بجانبِ عددٍ من التقارير عن حالاتٍ تحليلية أُخرى أجراها فرويد، مكانةً خاصة بين أدبيات التحليل النفسي كواحدٍ من أوائل التقارير الكاملة لحالةِ تحليلٍ نفسي؛ ومن ثَمَّ فإن له أهميةً تاريخيةً كبرى من ناحيةِ أنه يُقدِّم صورةً للتطوُّر العملي والنظري للتحليل النفسي عام ١٩٠٧ (عندما بدأ فرويد تحليل الحالة). بيد أن أهمية البحث تتجاوز الجانب التاريخي؛ فسردُ الحالة يظل آسرًا بسبب طابعه التفصيلي وانتباه فرويد الثاقب إلى أقلِّ قدْر من البيانات التي ستُفهم أهميتها فقط على نحوٍ صحيح في ضوء التطوُّرات النظرية اللاحقة. ومن الصحيح أيضًا أن البحث، كسردٍ أدبي للعالم الداخلي لفردٍ يُعاني من الوسواس، يُمثِّل مادةً جذَّابة للقراءة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى كونه «عرضًا» من قِبل فرويد لكيفيةِ فهمِ معنى عُصاب الوسواس القهري الذي حيَّر الطب وعلم النفس؛ فالبحث، بجانب السجل الأصلي للمُلاحظات على الحالة الذي وَضعَه فرويد (والذي يظهر مباشرةً وراء البحث في النسخة الأصلية)، ينقل العلاقة بين طرفَي التحليل، وشخصيتَيهما، وعالم المريض الداخلي، ومكانِ ومناخ التحليل والطرق التي أجري بها التحليل، وما فعله فرويد بكمٍّ هائلٍ من المعلومات المُحيِّرة.

ونظرًا لمكانة هذه الحالة في النظرية الناشئة للتحليل النفسي وامتلاءِ سِجلها التحليلي، فقد خضعت لقدْر لا يُستهان به من التدقيق والفحص والتفسير من جانبِ عددٍ من المُعلِّقين، كما تعرَّضَت للنقد والتقدير على حدٍّ سواء؛ وتحديدًا انتقاد البعض لفرويد بسبب ما بدا أنه ابتعادٌ عن أسلوب التحليل النفسي «الكلاسيكي» من خلال استخدامه الطرقَ الداعمة والاجتماعية والوعظية في التواصل. دافَع آخرون عن أفعال فرويد، وسوف يُستعرض جانبًا هذا الجدل بالنقاش. اتُّهِم فرويد كذلك بادِّعاء حدوث مستوًى من التحسُّن لدى المريض لم يتمَّ الحفاظ عليه، رغم ما سنذهبُ إليه فيما يلي من كون هذا النقد أقلَّ قابليةً للدفاع عنه أو التمسُّك به.

(١) الأفكار الأساسية في حالة «رجل الجرذان»

يحمل الاسم المستعار «رجل الجرذان» معنًى ضمنيًّا تحقيريًّا غيرَ مُلائم بالنسبة لشخصٍ مُصاب بمرضٍ وسواسيٍّ تعجيزي. كان المريض هو بول لورينز الذي جاء إلى فرويد وهو في العشرينيات حاملًا معه عددًا من الأعراض كان يُعاني منها منذ الطفولة، وزادت حدَّتها خلال السنوات الأربع الأخيرة. كانت الفكرة العامة لمتاعبِه لفترةٍ طويلة هي خوفه من حدوثِ أَمرٍ مُروِّع لوالده وامرأةٍ كان (لورينز) يُحبها. وجد لورينز نفسه في مواجهةِ إغراء الزواج من امرأةٍ أخرى غير التي أَحبَّها وخَطَّط للزواج بها. وقد خلق هذا الصراع لديه حَيرةً وأصبح عالقًا في فخٍّ صنعه اختيارٌ مستحيل، كما كان يرى، بين اتِّباع أُمنيات والدَيه (وخاصة أباه) وبين رغباته. كان هذا الصراع، بمثابة صدًى أو إبرازٍ لصراعٍ مماثل من الطفولة؛ فقد كان لورينز كذلك يُعاني من مخاوف وقلاقلَ نفسيةٍ إثر وفاةِ خالةٍ له.

كان لورينز يُعاني من دوافعَ مُخيفة، مثل الرغبة في قتل نفسه أو الانتحار بطرقٍ أخرى، وفرَض على نفسه عددًا من المحظورات قيَّدَت حياته إلى حد اليأس. وجد فرويد نفسه في مواجهةِ شابٍّ ذكي فطِن أُعِيق تطوُّره العاطفي والجنسي والاجتماعي على نحوٍ بالغ بسبب تفكيره الهَوَسي، الذي اتضح أن جذوره تعود إلى الطفولة. بدأ التحليل وشرع لورينز، بتعليمات من فرويد، يتحدَّث بصراحة، في سرد مشكلاته. تحدَّث عن احتقاره لذاته القائمِ منذ زمنٍ طويل، وكيف أنه سعى للحصول على دعمٍ من أقرانه في هذا الشأن، وذكَر شابًّا صادقه لكن اتضح أن هذه الصداقة كانت حيلةً فقط للوصول إلى شقيقة لورينز. شعر لورينز بالخيانة ووصَف ما حدث بأنه «أَوَّل صفعةٍ كبرى له في حياته.» وصف كذلك حياته الجنسية المُبكِّرة التي بدأت في الرابعة أو الخامسة، عندما بدأ استكشافاتٍ سرية للأعضاء الجنسية لمُربِّيته. وتزايدَت حدة اهتمامه بالجسد الأنثوي خلال طفولتِه من خلال عدةِ وقائعِ تَلصُّص واختلاس للنظر، وعدة مناسباتٍ حدث فيها تواصلٌ جنسي مع خادمات. يشير فرويد إلى أن «النظر كان مثل اللمس» بالنسبة إلى لورينز، وهذا أمرٌ مثير للاهتمام خاصةً في ضَوء ما ذكره فرويد لاحقًا من أن تجنُّب الاتصال واللمس الشخصي يقبعُ في جوهر العُصاب الوسواسي. كان لورينز ينتصب منذ أن كان في السادسة تقريبًا، وشَعَر بالقلق مما يحدث ومن رغباته المُلِحَّة في أن يرى النساء عاريات؛ فقد كان قلقًا من أن يعلم والداه عن أفكاره ورغباته، وكان بالفعل مرعوبًا ومكتئبًا (ببلوغه سن السادسة) من فكرة أن والده سيموت. ماتت شقيقتُه كاثرين وهو في أوج حالة العُصاب الطفولي التي أصابته، ومن الواضح أن هذا قد مثَّل له خسارةً فادحة.

استمر لورينز في سرد العديد من مخاوفه في مرحلة الرشد إلى فرويد؛ حيث احتلَّت الأزمة المتعلقة بالزوجتَين المحتملتَين وخوفه من مخالفة أُمنياتِ والده موقعًا أساسيًّا في حكايته. وتحدَّث كذلك عن واقعةٍ غريبة أَصبحَت فيما بعدُ موضوعًا أساسيًّا للتحليل. كان هذا خلال التدريبات العسكرية التي اشترك فيها لورينز قبل بدء جلسات التحليل. في إحدى المرات قبل مسيرةٍ عسكرية، فقَد لورينز نظَّارته الأنفية، وأرسل إلى صانع النظارات الخاص به يطلب زوجًا جديدًا بدلًا من تأخير زملائه، لكن بعد أن بَدأَت المسيرة وتَوقَّف الجنود للراحة، جلس لورينز بين ضابطَين حكى أحدهما (وكان برتبة نقيب) عن عقوبةٍ رهيبة للغاية للمُجرمِين في الشرق. بصعوبة وبعد الكثير من التشجيع من فرويد، كشف لورينز عن تفاصيل العقوبة؛ إذ يُقيَّد المجرم ويُوَجَّه رأسُه للأسفل ثم يُوضع دلوٌ مقلوب على رِدفَيه وتُوضع جرذانٌ في ذلك الدلو، لتشق تلك الفئران طريقها تدريجيًّا إلى داخلِ جسم المجرم من خلال فتحة الشرج. يُعلِّق فرويد في بحثه على رعب لورينز من المتعة التي شعر بها على نحوٍ عفوي في أثناء سرد القصة؛ فقد أفضى لورينز إلى فرويد أن ثَمَّةَ فكرةً معينة استَحوذَت عليه بينما كان الضابط يصف العقاب، وهي أن التعذيب كان يحدث لشخصٍ عزيز عليه للغاية، ربما كانت المرأة التي يحبها. وأضاف أنه في مساء اليوم الذي سمع فيه بالقصة، سلَّمه الضابط نفسه طردًا يحوي نظَّارته الأنفية الجديدة، قائلًا إن ضابطًا آخر دفع التكاليف وإن على لورينز أن يرُدَّها إليه. وبدون سببٍ واضح، أصبح لورينز مقتنعًا أنه «لا» يجب عليه رَدُّ المال إلى الضابط، وإلا فسيقع التعذيب بالجرذان على والده والمرأة التي يحبها. وأعقب هذا بالتبعية تعهُّدٌ ﺑ «ضرورة» رَدِّ المال. حاول لورينز رَدَّ المال، لكن ازدواجيته كان لها اليد العُليا وفشل في ردِّ المال إلى الرجل. عندما تحدث في النهاية إلى الضابط، أخبره الأخير، على نحوٍ زاد من حيرته، أن رجلًا «آخر» في الواقع هو من دفع تكاليف النظارة. حلَّ لورينز هذه المعضلة بطريقةٍ عملية، بأن قرر الذهاب بصحبة «كلا» الرجلين إلى مكتب البريد وإعطاء المال إلى المُوظَّفة الشابة الجالسة وراء الشباك، التي ستُعطيه بدورها إلى الرجل الثاني الذي دفع تكاليف النظارة. بعد ذلك يدفع لورينز المبلغ نفسه إلى الرجل «الأول» وبذلك يحافظ على قسمه. يُعلِّق فرويد تعليقًا مثيرًا للاهتمام حول الجلسة التي ظهرت فيها هذه الأمور المثيرة للقلق والإزعاج؛ ففي مرحلةٍ ما يُطمئن فرويد لورينز بأنه ليس مولعًا شخصيًّا بالعنف والقسوة مثل النقيب، ولا يتمنَّى تعذيب مريضه. يُضيف فرويد أن لورينز قد أشار له بكلمة «نقيب» أثناء الجلسة. وكما سنرى لاحقًا، كان لتداعيات التحويلية لتعليق فرويد توابعُ قويةٌ لم يعالجها فرويد جميعًا.

في الجلسات التالية، فصَّل لورينز القصة الخاصة بهاجسِ تعهُّدهِ برَدِّ المال، وتخلَّل ذلك سردٌ طويل ومُعقَّد لتأمُّلاته العالقة، واستعادةٌ لذكرى ما زادت الموقف تعقيدًا. كان ثَمَّةَ ضابطٌ آخر قد أخبر لورينز في اليوم الذي «سبق» سماعه بقصة التعذيب بالجرذان أنَّ من دفَع تكاليفَ استلامِ النظَّارة كان في الواقع المرأة التي تعمل في مكتب البريد. من الواضح أن النقيب «القاسي» كان مُخطئًا وفي مكانٍ ما في عقل لورينز (بالنظر إلى توقيت تلك الأحداث) لا بُد أنه كان يعرف هذا، لكنه استمَرَّ في قطع العهد على نفسِه بناءً على صحة كلام النقيب. وقد تسبَّب هذا التشويه الذي طال الحقيقة في تعذيبٍ لا نهائيٍّ للذات؛ ففي الأسابيع والشهور التالية بعد سماعه بعقوبة التعذيب بالجرذان، صار تعهُّد لورينز اللَّحوح (والذي كان في غيرِ موضعه) بدفع المال للضابط يُطارِده لدرجةٍ دفعَته للإتيان بالفكرة البارعة أنه لو استطاع أن يُري الضابط شهادةً طبية تنص على أن صحة لورينز ستُصبِح في خطر إذا لم يُسدِّد المال، فإن هذا من شأنه أن يُقنِعه بقبوله. وأثناء انشغاله بفكرة الوصول إلى طبيبِ لدعم فكرةِ أنه مريض، وجد لورينز طريقه إلى مكتب فرويد.

أعقب هذه الأحداث الغريبة المحيِّرة بوقتٍ قصيرٍ تقريرٌ مُطوَّلٌ قُدِّم إلى فرويد عن إصابةِ والدِ لورينز بانتفاخ الرئة الذي قضَى عليه في النهاية قبل تسعِ سنوات. وذكر لورينز على وجه التحديد محادثةً مع طبيب العائلة في ذروةِ مرضِ والده. سأل لورينز الطبيب متى سيتجاوز والده مرحلة الخطر لتأتي الإجابة: «مساءَ بعدِ غد.» ذهب لورينز ليستريح ظانًّا أن والده سيتحسن بحلول ذلك الوقتِ لكنه استيقظ بعد فترةٍ قصيرة ليخبروه أن والده قد مات. فراح يُؤنِّب نفسه بشدةٍ لعدم تواجُده لحظة الوفاة، ثم وجد نفسه يُنكِر حقيقة موت والده. وازدادت هواجس اتهاماته لذاته سوءًا حتى وَصلَت إلى الشعور بالعجز والتفكير في الانتحار ومخاوفَ مما سيحدُث له في العالم الآخر. يهتم فرويد في التحليل النفسي بالنظر إلى مشاعر لورينز بالذنب بشكلٍ جديٍّ للغاية، لكنه يُؤكِّد له أن مصدر شعوره بالذنب لا بُد أنه يقبع في مكان آخر؛ إذ إن كليهما يدرك أنه لم يرتكب أي فعلٍ إجرامي أو عنيفٍ ضد والده. في الواقع، إن فرويد يُعطي لورينز ما يمكن أن يُوصف بأنه درسٌ تعليمي عن الفروق بين التفكير الواعي واللاواعي، رابطًا إياهما بتاريخ لورينز مع المخاوف الأوديبية، وانشغاله بموت والده، والمشاعر المتناقِضة بعنف التي تُشكِّل أساسَ كلِّ هذا. كان لورينز مُنبهرًا بأفكارِ فرويد ورافضًا لها في الوقت نفسه، لكن حاجته للبوح بمشكلاته وتحويل مشاعره الإيجابي تجاه فرويد ساعده في تجاوُزِ قدْرٍ كبير من حذَره، واستمر في البوحِ بمخاوفِ طفولته، والتي تضَمَّنَت الوقوع في حبٍّ من طرفٍ واحد في سن الثانية عشرة مع صديقة شقيقته وتَخيَّل أنها لو عَرفَت بنكبةٍ حلَّت به (كموتِ والده)، فستزداد مشاعر الحب والحنان نحوه. بحث فرويد إمكانية أن تكون هذه النكبة المحتملة أمنية بالإضافة إلى كونه خوفًا في عقل لورينز، بينما استمر لورينز في البوحِ بأمثلةٍ أخرى لمجموعاتٍ مشابهة من الأفكار الأوديبية. ناقَش فرويد ولورينز بالتفصيل أمنيات ومخاوف طفولة لورينز التي ظَهرَت في هيئاتٍ متعددة وعلاقاتٍ مختلفة. وفي أثناء ذلك، كوَّن فرويد صورةً لمشاعر لورينز المُتناقِضة بشدةٍ تجاه والده. وأدرك فرويد أنه مع وفاة والد لورينز فعليًّا، ازدادت أعراض الوسواس سوءًا نظرًا لأن الموت لم يعُد مميزًا لدى لورينز على نحوٍ لا واعٍ عن التوابع المُتَخَيَّلة لأمنياته بموتِ والده. وبشكلٍ عامٍّ استغرَق التحليل، كما يقول فرويد، أحدَ عشَر شهرًا وتطلَّب جهدًا شديدًا من كلا الجانبَين، لا سيما من جانبِ فرويد، لحلِّ لُغزِ مجموعةٍ من الأفكار الطفولية وتشوُّهات الواقع التي جَعلَت كلا الواقعَين الداخلي والخارجي مربكَين على نحوٍ مستحيل بالنسبة إلى لورينز.

(٢) مفاهيم أساسية

استُخدِم ملخص فرويد للحالة، والذي يُعتبر ما ذُكِر أعلاه هو المُلخَّص الأكثر إيجازًا له، كمنصةٍ لعرضِ أسلوبِ فكره وأفكاره بقَدْر كونه سِجلًّا لحالةٍ تحليلية للعلاج بالتحليل بالنفسي، وهو ما ينعكس في بِنية البحث؛ فبعد عرضٍ لتقريرٍ عن تاريخ الصعوبات التي واجهَت المريض وفهْم فرويد لها، ينتقل إلى فحصٍ أكثرَ استطرادًا للظواهر النفسية للأفكار الوسواسية، وفي القسم الأخير من البحث يُقدِّم نظرةً عامةً نظريةً للوسواس ومكانته في التفكير التحليلي. وهكذا نجد أنفسنا نتجه من التفاصيل التحليلية، «مُتجهِين إلى أعلى باستمرار»، نحو منظورٍ أوسعَ يبلغ قمَّته بوضعِ سياقٍ مفاهيمي نظريٍّ لمعنى أعراضٍ يُنظَر إليها في أيِّ سياقٍ آخر على أنها غيرُ مفهومة — وهو ما يُعتبر إنجازًا فذًّا ملموسًا للسرد النفسي والأدبي.

يستخدم فرويد مجموعةً من المفاهيم المتصلة فيما بينها عند مناقشةِ مَغزَى مرض لورينز. وكما هو الحال دائمًا، فإن أَوَّل ما يشغله هو تحويلُ أعراضٍ يبدو أنها ليس لها دافعٌ أو معنًى إلى أعراضٍ مفهومة، وذلك من خلال وضعِ أفكارٍ مضطربة في إطارِ عملٍ زمنيٍّ وتجريبي — كيف ومتى وتحت أيِّ ظروفٍ ظَهرَت هذه الأعراض؟ أحد الأمثلة على ذلك هو رغباتُ لورينز المُتهوِّرة في قتْل نفسه؛ إذ يُشير فرويد إلى كيفيةِ ارتباطِ ذلك بمشاعرِ فقدانٍ وغضبٍ تظهر عند انفصاله عن شخصٍ كان يُحِبه (وعلى وجه التحديد الفتاة التي يُحبها). كذلك كانت ثَمَّةَ رغبات غير مباشرة للانتحار، إحداها كانت مرتبطةً بفترةٍ قرَّر فيها لورينز أنه بدينٌ جدًّا وبدأ في ممارسةِ تمارينَ رياضيةٍ شاقةٍ ليصبح نحيفًا. وخلال ركضه في الجبال كان يشعُر بين الحين والآخر بالرغبة في رمي نفسه من فوقِ مُنحدرٍ شاهق. وكَشَف التحليل أن تفكيره المُضطرِب كان مرتبطًا بقريبٍ إنجليزي له يُدعى ديك، كان منجذبًا في وقتٍ ما إلى حبيبة لورينز أثناء قضائِه عُطلةً في المكان نفسه. وتبيَّن أن التنافُس الجنسي يقف وراء هذه الدوافع الانتحارية تحديدًا (من المثير أن «ديك» تعني «بدينًا» في الألمانية). اتخذ تفكير لورينز الوسواسي أشكالًا أخرى؛ فكان من الممكن، على سبيل المثال، أن يبالغ في حمايةِ حبيبته، بما في ذلك حمايتها من حوادثَ مُتخَيَّلة ربما تحلُّ بها. وعندما كان يفترق عنها لأيِّ فترةٍ من الوقت، كان في وقتٍ ما ينتابه هاجس الحاجة إلى فهم كلِّ مقطعٍ ينطق به الآخرون، كما لو كان يُخاطر بفقدانِ كنزٍ لا يُقدَّر بثمن (ليس من الصعب تخيُّل أن هذا يُمثِّل، من بين أمورٍ أخرى، صدًى لفقدانه لشقيقته). اتضح أن المشكلة مرتبطةٌ بشيء قالته له محبوبته وأُسيء فهمه أو تعرَّض لتحريف؛ فقد كان يظن (خطأً) أنها أشارت إلى أنها لم تعُد تُريد أن يكون لها أيُّ علاقةٍ به. وعندما صُحِّح هذا له، تعهَّد بألا يُسيء فهم أيِّ شخصٍ مرةً أخرى لكي يتفادى مثل هذا العذاب الذهني. إن هذه الشكوك وأوهام الحماية ومخاوف الحوادث والموت كانت، كما يذهب فرويد، نواتجَ لعدوانيةٍ يَتنصَّل منها تجاه حبيبته؛ فقد كان لدى لورينز مشاعرُ كراهيةٍ خارجة عن السيطرة بجانب حبه، وكان يتجنَّب الاعتراف بهذا بالفصل بين العواطف ومن خلال استخدام التبرير الفكري. لقد كان الصراع بين الحب والكراهية ذا أهميةٍ كبرى في كل المصاعب التي واجهَت لورينز في علاقته العاطفية.

بالتأمُّل في الأسباب التي أدَّت إلى مرض لورينز وعجَّلَت به، والتي لم يُدرِك المريض أهميتها (رغم أنه لم يَنسَ ظروف حدوثها)، يُعلِّق فرويد على اختلافٍ مهم بين الهستيريا والوسواس؛ ففي الأول، تكون «القاعدة هي أن الأسباب المُعجِّلة بظهور المرض تخضع لفقدانِ الذاكرة على نحوٍ لا يقل عن تجارب الطفولة التي عن طريقها تستطيع تلك الأسباب أن تُحوِّل طاقتها العاطفية إلى أعراض» (فرويد، ١٩٠٩، صفحة ١٩٥). يُعتبر فقدان الذاكرة نتيجةً للكبت، ولا تُظهِر الاضطرابات العُصابية الوسواسية التآكل أو فقدان التأثير نفسه على الوعي. ورغم أن قدرًا من فقدان الذاكرة ربما يحجُب الشرط الطفولي المُسبق للمرض، فإن الأسباب المُعجِّلة بظهور المرض والظروف المحيطة بها تظل محفورةً في الذاكرة؛ فيتذكر المريض شيئًا عن بداية ورحلة المرض، وعن طريق إعادة سَردِ مرات لومه لذاته، قد يتيح مؤشرات للأصول اللاواعية لمشكلاته. يُعتبر مبدأ وجودِ علاقةٍ بين محتوًى ظاهر وآخرَ مُستترٍ مبدأً أساسيًّا للتحليل النفسي، لكن فرويد يُوضح هنا كيف أن الروابط في الاضطرابات العُصابية الوسواسية تكون أكثرَ سهولةً في الوصول إليها من خلال إدراك المريض الواعي للأعراض وما يربطه بها.

بالنسبة إلى فرويد، أشارت إعادة لورينز لسردِ الصراع بين رغبته في فتاةٍ معينة والمرأة التي يُخطِّط للزواج منها (قريبته الشابة الغنية) إلى النقطة التي أصبح عندها عاجزًا بأخطرِ ما يكون. كان فرويد مهتمًّا للغاية بالصراع بين رغبة لورينز في الفتاة والتأثير المستمر لوالده؛ إذ لم يعكس هذا الصراع مشكلاتِ لورينز الأوديبية فحسب، بل عكس كذلك الطريقة التي تَزوَّج والده بها من العائلة المُوسِرة نفسها. وجد لورينز نفسه عاجزًا بسبب تَردُّده وعدم قُدرته على العمل، ويُشير فرويد إلى أن العَرَض لم يكن مجرد نتيجةٍ للمرض بل «مُسببًا» له. ويُشير فرويد إلى أن لورينز كان متماهيًا، من خلال عجزه، مع والده الذي مرَّ بموقفٍ مماثل. وفي الوقت نفسه، كان صراع لورينز مع والده صراعًا قديمًا؛ إذ يمكن رؤيته من خلال حياة لورينز الجنسية المُبكِّرة. ورغم أنه كان في العموم على وفاقٍ مع والده، بِغَض النظر عن بعض المشكلات الظاهرية، فإن أوهامه الجنسية المكبوتة كطفل (كأن يموت والده ومن ثَمَّ يحظى (أي لورينز) بانتباهِ فتاةٍ صغيرة بعينها) أَظهرَت لفرويد وجود مشكلاتٍ أوديبية قائمة منذ أمدٍ طويلٍ جدًّا لدى لورينز. والمُثير في الأَمر أنه خلال عمليةِ تحويلِ المشاعر، ثار وهم الزواج من ابنة فرويد «من أجل مالها» في غضون فترةٍ قصيرةٍ من بداية التحليل.

يجمع فرويد بين «عقدة الأب» لدى لورينز، بما في ذلك علاقتها بالتعذيب بالجرذان، في سلسلةٍ من الخطوات تأخذ في الاعتبار أوهام لورينز الاستمنائية، وشوقَه إلى والده، وصراعاتِه معه (وخاصة فيما يخص اختيار فتاةٍ ما) إلى جانب قصةٍ مُعقَّدة عن تعرُّضه للضرب على يد والده، ما أثار ثائرة لورينز، وما تبِع ذلك، كما أخبر فرويد، من «تحوُّله إلى شخصٍ جبان» يخشى العنف الجسدي. كان فرويد أكثر قدرة على إدراك علاقة الأب والابن خلال عملية التحويل، عن طريق خوف لورينز من انقلاب فرويد ضده انقلابًا عنيفًا. ثَمَّةَ مصدرٌ آخر للصراع مع والده تكشَّف من خلال ذكرى لواقعة لم يسدِّد فيها الأب دينًا كان عليه منذ كان في الخدمة العسكرية. لم يفُت فرويد الأهمية التماهوية لهذه الذكرى فيما يتعلق بشعور لورينز الوسواسي بالذنب بشأن إعادةِ رسومِ إرسال النظارة الأنفية. كان لدى لورينز مشاعرُ استنكارٍ ممتدةٌ منذ زمنٍ طويلٍ تجاه والده بسبب عدمِ تسويةِ ديونه، ومُجددًا، كان متماهيًا معه. وللزيادة من تعقيد الأمور، اتضَحَ أن الارتباك بشأن الضابطَين كان مرتبطًا كذلك بالحيرة المُبكِّرة في حياته بين الفتاتَين اللتين كان مرتبطًا بهما.

في خِضَم كلِّ هذا التناقُض والتفكير الجنسي، كان لقصة التعذيب بالجرذان (التي سردها على مسامع لورينز رمزٌ سلطويٌّ ذكوري) أثرٌ عميقٌ على مخيِّلته. يقول فرويد إن القصة أثارت داخل لورينز عددًا من الغرائز، كان أهمها «الشبق الشرجي» الذي كان نشطًا لديه منذ الطفولة. كانت الجرذان تحمل معانيَ رمزيةً عديدةً ربطها لورينز بها، من بينها المال «أقساط» (وتعني في الألمانية Raten)، وديون القمار (Spielratte)، وعدوى الزُّهري (والتي تعكس أوهام لورينز عن حياة والده في الجيش)، والقضيب، والديدان (إذ عانى لورينز من عدوى الديدان الأسطوانية وهو طفل)، والجماع من الشرج، والزواج (Heiraten)، والزوجة الفأرة من مسرحية «إيلوف الصغير» لهنريك إبسِن، والأطفال والعضُّ بقسوة (في استدعاءٍ لأسنان الجرذان الناخرة). لورينز نفسه كان قد عَضَّ بعض الناس وهو طفل ووَاتَته الكثير من الدوافع السادية لا سيما تجاه والده بالطبع. وهكذا أصبحتِ الجرذان كرمزٍ للأطفال (بمن فيهم لورينز نفسه) والرغبات القاسية والمجون علامةً مُميِّزة للتحليل. يربط فرويد كل هذه التداعيات في قراءةِ ذكيةٍ للأهمية النفسية للوسواس في سياق الظروف المُعجِّلة بظهور المرض، وحياة المريض اللاواعية والوجدانية (وخاصة صراعاته مع الأشخاص القريبين منه)، وأوهام طفولته (بما فيها نظرياته الطفولية عن ولادة الأطفال).

(٣) جذور الأفكار في فكر فرويد

في القسم الأخير من بحثه (الذي يسبق المُلحَق الذي يحوي الملاحظات الخاصة بالحالة)، يُقدِّم فرويد سلسلةً من التأمُّلات والأفكار النظرية المُنبثِقة من المادة الخاصة بالحالة. غير أنه يبدأ بانتقادِ رؤاه الخاصة السابقة عن الوسواس باعتباره مصطلحًا شاملًا أكثر من اللازم؛ ففي عام ١٨٩٦، كان قد ربط رؤاه تلك بالكبت والنشاط الجنسي في الطفولة، لكنه راجَعَها في ضوءِ تبايُن الحالات النفسية التي يُمكِن جمعها معًا في إطار التفكير الوسواسي؛ فأي شيءٍ تقريبًا قد يُستعان به ليناسب أجندة المصاب بالوسواس. وفي ذلك يُعلِّق فرويد على الطبيعة الهجينة الشبيهة بالهذيان للمعارضة العقلية التي تُصاحب الوسواس؛ فالمريض في صراعه مع الأفكار الوسواسية يقبل ويرفض جوانب التفكير المُضطرِب على حدٍّ سواء، مما يُؤدِّي إلى صراعٍ وتردُّد مُزمنَين. يحدث هذا الصراع على مستوًى ثانوي واعٍ لكنه يحدث كذلك على مستوًى أَوَّلي؛ إذ غالبًا ما يمكن رؤيته في أحلام المُصابِين بالوسواس. يفترض فرويد أن من خصائص الوسواس سوء الفهم، والتحريف، وتشويه اللغة والأفكار، وتتضمن وسائل خداع النفس التفكير الغامض المبهم، و«النسيان» (أي إغفال الأفكار من أجل تجنُّبِ إدراكِ وجودِ صراع، أو «أخطاء الذاكرة» كما أطلق عليها فرويد). تُعتبر الخُرافات والشكوك المزمنة نتائجَ أخرى لهذه المناورات. لا يستكشف فرويد بأيِّ قدْرٍ من التفصيل عمليات التفكير اللاواعية في حالة الوسواس، وهو ما يُعزَى جزئيًّا إلى غموضها وتعقيدها. يتعامل فرويد بالأساس مع ظواهر الحالة وسماتها العقلية ومصادرها الغريزية. تتمثل حجة فرويد فيما يخص «سبب» ظهور الوسواس، كما أشير إيجازًا فيما سبق، في وجود انسحابٍ للعاطفة من أسباب الصراع الأصلي الذي يُنظر إليه بأنه خارجٌ على السيطرة. لا يقود هذا إلى فقدان الذاكرة، وإنما إلى انقطاع الروابط العقلية، ومع ذلك، فإن هذه الروابط تُثابِر على جعل نفسها محسوسةً في شكلٍ مُبهَم من خلال الإسقاط على العالم الخارجي.

يُشير فرويد إلى القدرة الكلية للتفكير في العُصاب الوسواسي — لكنها ليست قدرةً كلية لدرجةِ صُنع أوهام، بل يُعبَّر عنها كمغالاةٍ في تقدير القُوى الشخصية. ينظر فرويد إلى هذا التفكير المبالَغ فيه كجنونِ عظمةٍ مُترسِّب منذ الطفولة، والذي كان أحد مظاهره لدى لورينز، وغيره من مرضى الوسواس الانشغال بالتفكير في الموت؛ سواء بالقلق بشأن كم سيعيش هو أو شخصٌ آخر، أو خوف من موت شخصٍ عزيز، أو خرافات غريبة بشأن الموت. يربط فرويد هذا بصراعات لورينز الحائرة المعلقة بشأن الحب والكراهية في علاقته بحبيبته ووالده، وبدوره يمنح هذه الصراعات سياقًا داخل إطار نظرية الغريزة. يُؤكِّد فرويد أن مشاعر العداء لدى لورينز تجاه والده التي يَتنصَّل منها قد زادت من حِدة مرضه بالوسواس إلى حدٍّ كبير؛ في الوقت نفسه يُناقش كيف أن الصراع المستمر الذي يشمل الحب والكراهية كان يُمكن أن يظهر خلال ما يُسمِّيه فترة «ما قبل التاريخ» من الطفولة عندما كان من الممكن أن ينفصل السلوكان المُتضادَّان أحدهما عن الآخر ويَتعرَّض أحدهما (الكراهية) للكبت. ويُشير فرويد إلى أن مثل هذا الصراع المُبكِّر بين الحب والكراهية هو وحده ما يمكن أن يكون مسئولًا عن اتساعِ نطاقِ أعراض لورينز وإزمانيتها.

تهتم ملاحظات فرويد النظرية الختامية على نحوٍ أساسي بالشك المُتغلغِل لدى مريض الوسواس والدافع القهري للتغلُّب على هذا الشك. مرةً أخرى تعود جذورُ أفكار فرويد إلى نظريته عن الغرائز ويُستخدم هذا لتفسير بعض الأشكال النفسية التي يتخذها العُصاب الوسواسي؛ إذ يُنظَر إلى الغرائز الجنسية، وخاصةً غريزتَي شبق النظر والفضول، كقُوًى دافعة تقف خلف صراعات المُصاب بالوسواس. وهذا الضغط الغريزي يقود إلى حدوثِ عمليات التحريف والتعميم التي تفصل الصراع الأَوَّلي عن الأشكال التي تُمثِّله. ويمكن أن يكون تحليل الانحرافات النفسية للتفكير المتأصلة في الوسواس مسارًا بحثيًّا مثمرًا، وهو مسارٌ غيرُ مطروقٍ كما يقول فرويد.

يُمكِننا أن نُدرك من خلال هذا الفحص السريع للحالة أن فكر فرويد النظري والتقني يعكس المرحلة التطوُّرية التي وَصَل إليهاه التحليل النفسي بين عامَي ١٩٠٧–١٩٠٩. ويستفيد فرويد من نظرياته الخاصة بالجنسانية وعن دَور الدوافع الجنسية، أقصى استفادة، في تشكيل الأشكال التي تُمثِّل الصراعات الوسواسية. وتُعتبر السادية والازدواجية أدواتٍ نظريةً تُستخدَم لفهم العُدوانية في حالات الاضطرابات الوسواسية، لكن فرويد يُشير إلى أن «العلاقة بين العامل السلبي في الحب والمكونات السادية لليبيدو تظل غامضة تمامًا» (فرويد، ١٩٠٩، صفحة ٢٤٠). وسيُناقش فرويد هذه المشكلة مرةً أخرى في بحث «الغرائز وتقلُّباتها» (١٩١٥ج)، وفي الفصل الرابع من «الأنا والهو» (١٩٢٣). إن تفصيل فرويد لعلاقة الأب والابن في تحليلِ حالةِ لورينز يقتبس من الصراعات الجنسية التي رأى أنها تُمثِّل أساسًا لعلاقتهما. كان من أحد الأمور الأساسية التي تولَّاها فرويد بالتجديد وإعادة التشكيل خلال التحليل ذكرياتُ لورينز عن معاقبةِ والده له وضَربِه بسبب ممارسته للعادة السرية. بالطبع لم يكن بالإمكان إثبات هذا قطعيًّا، لكنه استخدمه للربط بين الجوانب الجنسية والسادية للصراع على نحوٍ أوثق. كان فرويد قادرًا على تفسيرِ نشاطِ تحويل المشاعر تجاه الأب، لكن كانت ثَمَّةَ جوانب بعينها تَفلِت منه. وكما يشير ماهوني (١٩٨٦)، فإن هذا يرجع إلى أن فرويد قد فهم الصلة بين الشخصية الوسواسية والشبق الشرجي لكنه لم يفهم الرابط بين الأخير والعُصاب الوسواسي. كان فرويد يُدرك جيدًا أن الأمر ليس مُجرَّد أن صراعًا بين الحب والكراهية قد حفَّز مرض لورينز، بل إن ما جعل مرضه مُعقدًا هو الشعور بالمتعة والخزي والاشمئزاز من مشاعرَ وأفكارٍ مُرتبطة بالصراع. لم تستطع نظرية التحليل في هذه المرحلة من تطوُّرها أن تُفسِّر الطبيعة البدائية الارتدادية لهذه الحالات العقلية.

يمكننا أيضًا أن نرى كيف يُوظِّف فرويد نموذجًا طبوغرافيًّا للعقل لفهم لورينز، مقسِّمًا إياه إلى شخصيةٍ تحللت إلى ثلاثة أجزاء: لا وعي يشمل دوافعَ عاطفية وقاسيةً مكبوتة، ووعي تنتابه أعراض، وما قبل وعي منخرط في خلق السلوك القائم على الخُرافات والطقوس المُستهدف منه مواجهة دوافعه اللاواعية والتصدِّي لها (انظر هولاند، ١٩٧٥). وأخيرًا، تلعب إعادة التشكيل دورًا محوريًّا في نظرية فرويد عن التقنية؛ بمعنًى آخر، يشرع فرويد في تحديد الفجوات في تاريخِ مرضِ لورينز ويمضي نحو سدِّها، واضعًا الأساس لمُخطَّطه التوضيحي خلال قيامه بهذا. وقد ميَّز فرويد تطوُّر عُصاب التحويل، الذي أصبح ذا أهميةٍ جوهرية للمُحلِّلين اليوم، على نحوٍ جزئي فقط ولعب دورًا أكثرَ ثانويةً في العلاج بكثير مقارنةً بإعادة التشكيل.

(٤) مصير الأفكار في تفكير فرويد

يُعتبر ربط فرويد للتفكير الوسواسي بالشبق الشرجي رؤيةً تحليليةً ثاقبة يجب عدم الاستخفاف بها، خاصةً أن المعرفة بالصلة بين العُصاب الوسواسي القهري والارتداد الشرجي قد ظَهرَت فقط عام ١٩٢٦، أي بعد عشرين عامًا من تحليل لورينز. إن غياب فهمٍ نظريٍّ أو تحليلي لنتائج التحويل الأمومي في البحث يعكس، كما أُشير، المرحلة التي وصل إليها التحليل النفسي بحلول عام ١٩٠٧؛ فلم يُشدِّد فرويد كثيرًا نسبيًّا على علاقة الأُم والابن في حالة لورينز، برغم وجودِ إشاراتٍ إلى الأُم في السجِل الكامل للحالة. لقد شَغلَ كلٌّ من التطوُّر النفسي فيما قبل المرحلة التناسُلية وتنظيم الرغبة الجنسية قدْرًا أكبرَ من مرحلة التحليل النفسي حين بدأ فرويد تطويرَ أفكارِه فيما يخُص ظهورَ نقاطِ تثبيتٍ يمكن أن تقود إلى النكوص وتشكُّل العَرَض. بالنسبة إلى القُراء المُعاصرِين الذين وُهِبوا مَيزة الإدراك المُتأخِّر، من المُحتمل تفسير نطاقِ تجاربِ لورينز مع فقدان الموضوع وغضبه تجاه هذه الخسائر، وما يُصاحب ذلك من نشاط للأنا العليا (الذي غالبًا ما يتم إسقاطه على فرويد) كدليلٍ على ازدواجيته الشديدة فيما يتعلق بالموضوع الرئيس. هذا ليس للتقليل من مشكلات لورينز الأوديبية لكنه إشارةٌ إلى مستوًى من الجُرح النرجسي المرتبط بالفصل بين الموضوع والأنا، بين الإسقاط والاضطهاد. ثَمَّةَ طريقةٌ أخرى للتفكير في هذه الأزمة تتمثَّل في النظر إلى مدى انشغالِ لورينز بتخليصِ نفسه من الأمور السيئة ومنعِ تغلغُلها في ذاته (هولاند، ١٩٧٥، صفحة ١٦٣)؛ فقد تخلل هذا الصراعُ حياتَه واجتاحها. لعلنا ننظر اليوم إلى الفصل والتماهي الإسقاطي المُكثَّف كآلياتٍ دفاعية تُستخدم لإحباط أيِّ إحساسٍ بالتفكُّك والتحطُّم مرتبطٍ بخسارة الموضوع على نحوٍ استباقي. وقد بدأ التعامل مع مثل هذه الحساسية وسُرعة التأثر لدى الأنا وتشتُّت الإحساس بالهوية على نحوٍ أكثرَ استيفاءً من قِبل فرويد في «الحداد والسوداوية» (١٩١٧) و«عن النرجسية» (١٩١٤)، حيث يُناقش الضرر الذي يقع على الشخصية، والذي قد يتأتى من التماهي مع الموضوع المفقود. وقد شَغلَت التداعيات التطوُّرية لهذه الأزمات المحلِّلِين النفسيِّين منذ ذلك الحين.

لُوحظ كيف أن فرويد كان مُدركًا لتحويل المشاعر تجاهه، ومدى حساسيته تجاه ذلك، خاصةً فيما يخص صورةَ لورينز الداخلية لوالده. غير أنه سيكون من الخطأ القول إن فرويد كان في هذه المرحلة قد أدرك الحاجة لتحليلٍ ديناميكي للتحويل المباشر. لكنه لم يكن بعد قد قدَّر مدى الارتباط المُعقَّد لذكرياتِ الماضي بسلوكياتِ وتوجهاتِ الحاضر خاصة تجاه المُحلِّل النفسي. إن لورينز يرى رموزًا سلطوية تُمثِّل تهديدًا له في كل مكان، وفرويد ليس استثناءً، لكن بعض المُعلِّقين (مثل كانزر ١٩٥٢ وجوتليب ١٩٨٩) انتقدوا فرويد لعدم توجيهه انتباهًا كافيًا لهذا التحويل (علمًا بأن اتهامه بعدم الانتباه إلى التحويل الأمومي تُهمةٌ مُجحِفةٌ بالنظر إلى المرحلة النظرية التي كان فرويد قد وصل إليها). يقول ماهوني (١٩٨٦، صفحة ٢٤٠) إنه في تلك المرحلة من تفكير فرويد بشأن الحالة، لم يكن التخلُّص من التحويل هدفًا للتحليل؛ إذ كانت إعادة التشكيل والتربية هما الهدفَين الغالبَين. كذلك اتُّهم فرويد بالتصرُّف على نحوٍ يُنافي الأهداف العلاجية بطمأنةِ لورينز تجاه نواياه الحسنة ومحاولةِ التأثير على المريض إيجابيًّا باستخدام وسائلَ وعظيةٍ وتربوية. وغالبًا ما يُستشهد في ذلك بما فعله فرويد من النأي بنفسه عن قسوة النقيب، وفي الوقت نفسه عدم التعامُل على النحو الملائم مع الصورة التي تشكَّلَت لدى لورينز لفرويد، من خلال التحويل، بوصفه النقيب القاسي. كذلك نجد فرويد ينفجر في الضحك عندما يُخبِره لورينز بأن شقيقه (أي شقيق فرويد) كان قاتلًا أُعدِم في بودابست، مُؤكدًا للورينز أنه ليس له أي أقارب يعيشون في بودابست. حدث هذا خلال فترةٍ كان لورينز فيها مُرتعبًا من احتمالِ قيامِ فرويد بإيذائه جسديًّا.

ثَمَّةَ مثالٌ آخرُ شهيرٌ عن قيامِ فرويد بإعطاءِ لورينز وجبةَ طعام. لماذا لم يكن فرويد قادرًا على مواجهة هذه التفاعُلات المُتوتِّرة بعُمقٍ أكبر؟ ربما تكمن الإجابة في التفسير غير الكافي لتحويل المشاعر، إلا أن جوتليب (١٩٨٩)، من بينِ آخرِين، يُشير إلى وجود توتُّراتٍ مضادة للتحويل لدى فرويد لم يكن قادرًا على التعامُل معها على النحو الملائم، سواء نظريًّا أو عمليًّا، في هذه المرحلة من تطوُّره. على سبيل المثال، ينظر جوتليب لاتهام لورينز لشقيق فرويد بأنه قاتلٌ كشكلٍ مختلفٍ لوهمٍ تحويليٍّ أساسيٍّ يَسُود تحليل لورينز، لكن هذه النسخة من الوَهمِ أثارت داخلَ فرويد مخاوفَ بعينها ارتَبطَت بوجودِ عمٍّ له قُبِض عليه بسبب نشاطٍ إجرامي. ويصوغ جوتليب حُجةً مثيرة للاهتمام لدعم رؤيته تلك (المصدر السابق، صفحة ٤٦–٥٨). وسواء كان جوتليب على صوابٍ أم لا، فسيكون منطقيًّا استنتاجُ أن استخدام فرويد المكثَّف للتفسير والتوجيه في القصة التي صاغها مع لورينز في إطارِ عمليةِ إعادة التشكيل، وبعض أفعاله التلقائية غير المُتعلِّقة بالتحليل كانت على الأقل جزءًا من استجابةٍ لتأثير التحويل المضاد لمريضٍ مضطرب ولديه قوةٌ تدميريةٌ مضمرة. ويجب عدم استخدام هذه الملاحظة للمقارنة بين معاييرِ فرويد في العمل في عام ١٩٠٧ بمعاييرَ فنيةٍ في الفترات التالية. حاول ليبتون (١٩٧٧) جاهدًا الدفاع عن فرويد ضد انتقاداتِ علاجه للورينز، رغم أن ليبتون نفسه اتُّهم بالانزلاق في الجدلية. وضَّح ليبتون نقطتَين مهمتَين؛ الأُولى هي أن جزءًا كبيرًا من الأسلوب الذي استخدمه فرويد في حالة لورينز قد صُنِّف لاحقًا كمعيارٍ قياسي في أبحاثه اللاحقة عن الأسلوب. النقطة الثانية هي أن الأسلوب الحديث قد توسَّع كثيرًا للتعامُل مع تعقيد العلاقة بين المريض والمُحلِّل، وهذا يتضمن الحد من التأثير الشخصي ومحاولات إحداثِ «تجاربَ شعوريةٍ تصحيحية»؛ لذا من غير المناسب مقارنة الأسلوب الحديث بأسلوب فرويد في ذلك الوقت.

خاتمة

لعل أَفضلَ وصفٍ اليوم لحالة «رجل الجرذان» هو أنها عَرضٌ لوصفٍ سردي متماسك وجذَّاب لشكل وأعراض مرضٍ وسواسي مزمن يُستكشَف في سياق تطوُّر المريض وتاريخ حياته. وقد وُصِف تاريخ الحالة بأنه «موضوعٌ جمالي» بُنِي لدراسة فكرة الهُوية المركزية لدى المريض (هولاند، ١٩٧٥، صفحة ١٦٨). ورغم أن فرويد كان يتمنى أن يُقدِّم هذه الورقة البحثية كوصفٍ علميٍّ رسمي لتحليلٍ نفسي كشف عن أصول عُصاب الوسواس القهري (كان قد عرضه للحالة في فيينا عرضًا مطولًا؛ حيث استغرق خمس ساعات)، فإن الأكثر معقوليةً أن ننظر إلى هذا السرد كنوعٍ من التفكير المبتكر المُتكامِل الذي يمتد إلى حدود الأدوات النظرية والمنهجية التي كانت مُتاحةً لفرويد في ذلك الوقت. كان حتميًّا أن يُؤدِّي نطاقُ تنفيذِ وتوافُرِ سجلاتٍ تحليلية مُفصَّلة إلى تحفيز المُحلِّلِين النفسيِّين من شتى المدارس لمُراجعة الحالة مع نشأةِ منهجيةٍ خاصة بالتحليل النفسي؛ ويُعتبر جوتليب وجرونبرجر وهولاند ولاكان وريد وشيروود وزيتزيل نماذجَ بارزةً في هذا الشأن. في وقتِ كتابةِ هذا الفصل، ثَمَّةَ إسهامٌ مُعاصِر مُبتكَر يتخذ من مشكلاتِ تحوُّل المشاعرِ في حالةِ رجلِ الجرذان نقطةَ انطلاقٍ له، ويَتمثَّل في دراسةٍ لآلياتِ عمل الأوهام اللاواعية والتماهي الإسقاطي (لير، ٢٠٠٢).

يجب أن نمتن لفرويد لرؤاه المبتكرة في مشكلات لورينز وشخصيته، وللشرح المُستفيض لأسلوبه، وهو الذي أظهر، من بين أمورٍ أخرى، قُدرةً حَدْسية على «تَحسُّس» عالَم المريض، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بموضوعيةٍ تحليلية (ناقش ماهوني (١٩٨٦) الطريقة التي «يُوازي» بها فرويد فكره ولغته مع فكر ولغة لورينز). وينبغي أن نكون حَذرِين بشأن التسرُّع في اللجوء إلى استنكار الإخفاقات المُتعلِّقة بالتحويل والتحويل المضاد، بالنظر إلى أن المُحلِّلين النفسيِّين لم يكونوا قد استوعبوهما بعدُ. يبدو محتملًا أن تقلُّبات التحويل المضاد وأسلوب فرويد التوضيحي، والتوجيهي إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت، قد اتحدا معًا لإنتاجِ موقفٍ تحليلي ستراه الأجيال القادمة من المُحلِّلِين محايدًا على نحوٍ غيرِ كافٍ. ثَمَّةَ صفةٌ مماثلة تنطبق على ادِّعاء فرويد بأن لورينز قد «شُفِي تمامًا»؛ فربما كان هناك بعض المبالغة في هذا الادعاء لكي يُثير إعجابَ المجتمع العلمي، لكن من المُرجَّح أن التحسُّن في حالة لورينز، بمعايير اليوم، كان كبيرًا مثلما زعم فرويد بالنسبة لكلٍّ من المُحلِّل وللمريض. وباستخدام مَيزة الإدراك المتأخر، من الممكن أن نذهب إلى أن جزءًا لا بأس به من تحسُّن لورينز يمكن أن يرجع إلى العلاج بالتحويل. تبقى حالةُ «رجل الجرذان» نتاجَ زمانها، لكنه نتاجٌ يكشف عن رؤيةٍ مستبصرة ومهارةٍ تحليلية من طرازٍ رفيع. ولعل أكثر الجوانب إثارةً للاهتمام بالنسبة إلى القُرَّاء اليوم هو قراءة الحالة في سياقِ تطوُّر فرويد الفكري السابق واللاحق؛ فهو يُتيح لنا المشاركة في تطوُّر أفكار التحليلِ النفسي الأساسية مع ظهورها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤