الفصل الحادي عشر

التحديق والسيطرة والإذلال في حالة شريبر

جون ستاينر

مقدمة

جَذبَت المُذكِّرات الشهيرة لقاضي المحكمة العليا الألمانية، دانييل بول شريبر، اهتمامًا هائلًا يرجع بالأساس إلى تحليلِ فرويد العبقري والمثير للجدَلِ لها الذي ظهر عام ١٩١١. ولِحُسن الحظ أن المطبوعات الغزيرة الخاصة بالمُذكِّرات وتحليل فرويد (ومن ضمنها نيدرلاند، ١٩٥١ و١٩٥٩أ و١٩٥٩ب، ١٩٦٠، وكاتان، ١٩٥٩، ووايت، ١٩٦١، وسانتنر، ١٩٩٦) قد رُوجِعَت ولُخِّصَت ببراعةٍ على يد لوثان (١٩٩٢) ويتبين منها أن كلًّا من المُذكِّرات وبحث فرويد ما زالا يُمثِّلان مادةً بحثيةً تستحق القراءة.

إذا نظرنا لهما الآن، بعد مرور حوالي مائة عام، يمكننا أن نسأل أنفسنا إلى أي مدًى تَغيَّر طب النفس والتحليل النفسي في ذلك الوقت. من المُؤكَّد أن التحليل النفسي قد تغيَّر إلى حدٍّ كبير، وفي هذا الفصل سأُركِّز على بعض المجالات محلِ الاهتمام المعاصر، التي تبدو لي أنها ذاتُ صلةٍ وثيقة بحالة شريبر. أولًا، سأَستثمِر فهمنا للاكتئاب وعلاقته بجنون الارتياب من ناحية، وحالات النرجسية الشديدة من ناحيةٍ أخرى. وسأذهب هنا إلى أن مرض شريبر قد بدأ اكتئابيًّا في الأساس وظل هكذا، لكنه سريعًا ما طوَّر عناصرَ اضطهادية تصاعَدَت حتى أصبح مشوشًا ومريضًا بالشك على نحوٍ فادح. وفي النهاية أصبح التفكُّك الفوضوي مُنظمًا من خلالِ سيطرةٍ نظامٍ نرجسيٍّ كليِّ القدرة أدَّى إلى تحسنٍ إكلينيكيٍّ دون القضاء على أيٍّ من معتقداته الوهمية.

كذلك سأبحث الدور الذي لَعِبه التحديق في علاقاتِ شريبر الوهمية بالموضوع كموضوعٍ ثانوي. ثَمَّةَ قدْرٌ ضَخمٌ من المُؤلَّفات عن دَور التحديق، وخاصةً من وجهةِ تطويرِ إحساسٍ بالذات يربطه الكثير من الكُتاب بتجربةِ التعرُّض للمراقبة. يُعتبر وصفُ مرحلةِ المرآة خلال عملية التطوُّر مهمًّا في كتابات لاكان المُؤثِّرة والمُعقَّدة على حدٍّ سواء (١٩٥٦)، والذي يستعين باهتمامِ سارتر بتجربةِ التعرُّض للمراقبة لمناقشة تطوُّر الذاتية والوعي الذاتي. وتُعتبر ملاحظاتُ وينيكوت قائمةً على أساسٍ تحليلي على نحوٍ أكبر؛ إذ يُعتبر وجه الأم هو المرآة الأُولى. «ما الذي يراه الطفل عندما ينظر إلى وجه والدته؟ أعتقد أنه عادةً ما يرى نفسه» (وينيكوت، ١٩٦٧، صفحة ١١٢). وهذا النوع من النظر إلى الذات في مرآة الموضوع يُعتبر نموذجًا لنوع نرجسي من علاقات الموضوع، ومثل كوهوت (١٩٧١)، يدرك وينيكوت أهمية نظرة الاستحسان من قِبل الأم لتقدير الطفل لذاته. يدعم رايت (١٩٩١) هذا الرأي؛ إذ يشير إلى أن «صورة الطفل التي يُعيدها الآخر إليه تصبح، بهذه الطريقة، الشكل الذي يُدرِك ذاته ويتعرف عليها من خلاله» (صفحة ٢٧٠). إن هذه الرؤى الإيجابية للذات المنعكسة في النظرة التحديقية للموضوع تُشير إلى أن الجوانب السلبية مُنفصِلة، وهو ما ورد ضمنيًّا كذلك في فكرة كلاين (١٩٥٧)، والتي ستُناقَش باستفاضةٍ لاحقًا، عن أن الموضوع الطيب الذي يُمثِّله الثدي، ووجه الأم على نحوٍ خاص، يجب أن يُزيل أي مشاعرَ بالسوء. في بعض الأحيان، تأتي هذه الرؤى السلبية المنفصلة عن الذات من تصوُّرٍ بديل لتحديق الأم بوصفه يحمل اتهاماتٍ ويبُث الرعب، ويرى رايت (١٩٩١، صفحة ٢٧) أنها تَنبثِق من جانبِ بديلٍ مُخيف «للأم في فترة الطفولة». وغالبًا ما تأتي هذه الرؤى لِتصف الجوانب العدائية في العلاقة مع الأب الذي قد يُصبِح حينذاك تجسيدًا لأنا عليا اضطهاديةٍ ومدمرةٍ للأنا.

في حالة شريبر، أصبح هذا الجانب الاضطهادي من التحديق سمةً مهمةً لجنون الارتياب لديه يأتي في شكلِ هجماتٍ بواسطة أشعاتٍ إلهية وأدَّى لبعضٍ من أسوأ حالات الاضطهاد والإذلال. في الوقت نفسه، لعب تحديق شريبر نفسه دورًا رئيسًا في الإسقاطِ المُكثَّف لكلِّ الحاجة والقدرة الكلِّية على موضوعاته. وأخيرًا، وُظِّف التحديق في فحصٍ دقيق ومُكثَّف لموضوعاته من خلال النظر مباشرةً في أعينهم. وعندما خذلوه، تَولَّد إحساسٌ بالخيانة مصحوبٌ بانتصارٍ على الموضوعات، التي تضمَّنَت حتى الرب، والتي كانت حينها قد فَقدَت مصداقيتها وهُزِمت؛ فعندما رأى حقيقة ادعاءاتهم، أهانهم وأصبح بدوره وعاءً لإسقاطٍ مُضادٍّ عنيف كان الهدف منه إعادة تأكيد مكانتهم والسيطرة عليه وقلب الإذلال في الاتجاه المُعاكس.

كان من السمات المأساوية لانهياره الفشلُ في العثور على موضوعٍ ذي قدرةٍ على استيعاب هذا النوع من الإسقاط الكليِّ القدرة والاستجابة بتفهُّمٍ كافٍ لتجنُّب التنفيس تنافسي لأي صراعٍ من أجل السيطرة.

(١) الجوهر الاكتئابي لدى شريبر

أصبحتُ مقتنعًا تمامًا بأن مرض شريبر كان في جوهره اكتئابيًّا، حتى إنني فُوجئتُ باكتشافِ أنَّ عددًا قليلًا فقط من المُعلِّقِين الكُثْر على هذه الحالة الشهيرة، بخلاف لوثان (١٩٩٢)، في سرده الشامل لدراساتِ شريبر، هم من أَوْلَوا هذه السمة أهمية، ربما لأنهم ركَّزوا اهتمامهم، شأنهم في ذلك شأن فرويد، على جنون الارتياب. والحقيقة أن مرض شريبر الأول والمراحل المُبكِّرة لمرضه الثاني كان يُسيطِر عليها أَرقُ مُستعصٍ ووسواسٌ شديدٌ بالمرض واكتئابٌ حاد، وهو ما حدا به إلى محاولة الانتحار مراتٍ عدة. في وقت دخوله للمشفى بسبب مرضه الثاني، كان مضطربًا بشدة ومن الصعب التعامُل معه، وتصف ملاحظاتِ المستشفى، التي اكتشف بوماير (١٩٥٦) نُسخًا منها كيف كان يرفُض تناوُل الطعام، وكان يقضي فتراتٍ طويلةً في حالةِ سكونٍ تام فيما يبدو أنه حالة انشداهٍ وذُهول. كان شريبر مقتنعًا أنه يُحتضَر بأزمةٍ قلبية، واشتكى من تليُّن الدماغ. كان يقول إنه مُصابٌ بالطاعون، وأراد الاستعانة بخادمٍ ليحفر قبرًا له مقابلَ أجر. كان يظن أنه ماتَ وتَحلَّل وفي حالةٍ تمنعه من أن يُدفَن. واشتكى من أن قضيبه قد انتُزع وأصَرَّ على أنه امرأة. كان مهتاجًا وأثار انزعاجَ المرضى الآخرِين، خاصة بالخُوار بصوتٍ عالٍ والصياح بالشتائم في كثيرٍ من الأوقات.

يصف سردُ شريبر نفسِه للفترة ذاتِها في المُذكِّرات كيف أنه كان يقضي وقته في حالةٍ سوداوية لا تنتهي مشغولًا فقط بأفكار الموت وحاول مرارًا إنهاء حياته. ويَظهَر الشعور الاكتئابي بوضوحٍ في عجزه ويأسه. على سبيل المثال، يصف المهانة التي واجهها بوضعه فيما أسماه:

زنزانة مجهزة للمصابين بالخرف (المجانين) ليناموا فيها … حيث تُرِكتُ هناك لألقى مصيري … لقد قمتُ بمحاولة فاشلة لشنق نفسي على هيكل السرير باستخدام الملاءة. كنتُ واقعًا بالكامل تحت تأثير فكرة أنه لم يتبقَّ شيء أمام إنسان لم يعد قادرًا على النوم بواسطة فنون الطب إلا الانتحار. كنت أعلم أن هذا غير مسموح به في المصحات العقلية، لكني كنت أعيش تحت وهم أنه عندما تُستنفَد كل المحاولات للعلاج، يُطلق سراح المريض من المصحَّة فقط لوضع نهاية لحياته إما في بيته وإما في مكان آخر.

بعد فترة قصيرة اكتسب الوسواس المرضي طابع جنون الارتياب عندما نُسِبت المعاناة لمعجزات إلهية موجهة إليه بنوايا عدوانية، نبعت في البداية، وبالأساس، من روح طبيبه النفسي البروفيسور فلكسيج، ولاحقًا من الرب. غير أن هذا الانشغال التام بجسده كان اكتئابيًّا على نحو نموذجي. فكان يعتقد أن فصي رئته معتلان وأنه مصاب بالتقمُّل ودودة الرئة. كانت فصوص الرئة في بعض الأحيان غائرة بالكامل تقريبًا وكان الحجاب الحاجز يرتفع حتى حنجرته تقريبًا بحيث لم يكن يتبقى إلا جزء صغير فقط يمكنه التنفس به بالكاد (شريبر، ١٩٠٣، صفحة ١٤٣). وفي محلِّ المعدة، كان يمتلك «معدة يهودي»١ وضيع، أو كثيرًا ما كانت معدته تختفي تمامًا حتى إن الطعام والشراب اللذَين كان يستهلكهما كانا يُصبَّان صبًّا في تجويف البطن ومنه إلى الفخذَين (المصدر السابق، صفحة ١٤٤). كان المريء والأمعاء متمزقَين أو يختفيان بشكلٍ متكرر، وكان يُخفي جزءًا من البلعوم على نحوٍ متكرر. كانت الهجمات المُوجَّهة ضد أعضائه التناسُلية واضحةً ومرتبطةً بقناعةٍ لديه بأن رجولته قد انتُزِعَت لغرضٍ إلهي، وكان هذا الغرض في البداية يتمثل في الانتهاك الجنسي، وفيما بعدُ صار هذا الغرض هو لأجل افتداءِ العالم وإنقاذه. وأدَّى تعفن بطنه إلى انبعاثِ رائحةٍ نتنة من فمه على نحوٍ مثير للاشمئزاز الشديد (المصدر السابق، صفحة ١٤٦). كانت الأعصاب تُنزَع من رأسه الذي كان هو الآخر يُضغَط بمِلزَمةٍ بواسطةِ «شياطينَ صغار». كما كان لديه حالةٌ مؤلمة للغاية أَشبهَت التسوُّس في فقراتِ الظهر السفلية كانت تُسمَّى معجزة العُصعُص (المصدر السابق، صفحة ١٥١).

كان عقله كذلك مُتأثِّرًا تأثُّرًا بالغًا على نحوٍ مماثل لما يحدث في التفكير الاكتئابي. على سبيل المثال، كانت الأصوات الصادرة منه تشير إليه باسم «أمير الجحيم» وأنه سيُدفن حيًّا. وقد عزا هذا إلى الانحلال الأخلاقي الذي تطوَّر بداخله إلى «قوةٍ خارقةٍ معاديةٍ للرب».

يصف فرويد أحد أكثر أوهام الاكتئاب التي كانت تُسيطِر عليه كما يلي:

تحت تأثير الرؤى التي كانت تتسم بطابعٍ مرعب في جزءٍ منها، ولكنها في جزءٍ آخر كانت تحمل إحساسًا لا يُوصف بالعظمة، أصبح شريبر مقتنعًا بقربِ حلولِ كارثةٍ كبرى مُتمثلةٍ في نهاية العالم. (فرويد، ١٩١١، صفحة ٦٨)

وكان دائمًا يؤمن بأنه:

الرجل الوحيد المُتبقِّي على قيدِ الحياة وفسَّر وجود الأشكال البشرية القليلة التي لا يزال يراها — كالطبيب والمساعدِين والمرضى الآخرِين — بأنهم رجالٌ صُنِعوا «بمعجزة» على عُجالةٍ بغير إتقان. (المصدر السابق)

كان المفهوم الذي صاغه فرويد لذلك أن وهم «نهاية العالم» كان نتيجةَ انسحابِ طاقةٍ نفسية شهوانية من الناس في بيئته مما جعل كل شيءٍ حولَه غيرَ مُهمٍّ وغيرَ ذي صلةٍ بالنسبة له. «يُعتبر وهم نهاية العالم إسقاطًا لهذه الكارثة الداخلية؛ فعالمه الذاتي وصل إلى نهايته منذ انتهاءِ حبه له.» إن هذه الصورة التحليلية تُشخِّص اكتئابًا حادًّا مصحوبًا بأوهامٍ عدمية وسماتٍ أخرى عديدة يُشار إليها أحيانًا باسم متلازمةِ كوتار (١٨٨٠).٢

كان بحث فرويد عن «الحداد والسوداوية» (١٩١٧) والذي نُشِر بعد ست سنوات تقريبًا من البحث الخاص بشريبر، هو ما وضَّح رؤيتنا للعالم الداخلي لمريض الاكتئاب (انظر الفصل السابع من هذا الكتاب). فقد أوضَح فرويد أن العقبة أمام التغيير في السوداوية تكمن في التماهي مع موضوع مدمر أو ميت لم يتمكن المريض من التخلص منه والحداد عليه، والذي يستمر في العيش داخل المريض مسقطًا ظله على الأنا. وقد بنت ميلاني كلاين على هذه النتائج، ويحاول أتباعها اليوم الربط بين موقف المريض الحالي وبين تجارب الطفولة المبكرة، ويرون أن الاكتئاب قائم على مرحلة من التطور يدرك فيها الطفل أن حبه وكراهيته موجهان مباشرةً إلى الموضوع نفسه، وهو الموضوع الأبرز والأهم في حياته، بل الموضوع الرئيس، وهو الأم أو ثديها. وعدم القدرة على تجنُّب الكراهية القائمة على مشاعر الإحباط والحسد والغيرة والطمع، يعني أن الهجمات على الثدي لا يمكن صدها وقد تقود إلى أوهامٍ وصور للموضوع الميت أو المُحتضَر أو المُدمَّر الذي يتماهى معه الطفل كآليةٍ دفاعية ضد الشعور بالذنب والخسارة. في هذه المراحل من التطوُّر، يُنظَر إلى الثدي بوصفه تمثيلًا للعالم بأكمل؛ ومن ثَمَّ يُنظر إلى فنائه ودماره له كنهاية العالم. في الوقت نفسه، يظهر التماهي مع موضوعاتٍ داخلية مدمرة أو مريضة عضويًّا في إطارٍ عضوي على هيئة أعراضٍ جسدية لوسواس المرض (كلاين، ١٩٣٥).

إن هذا الصراع الداخلي هو ما يُميِّز الوضع الاكتئابي الذي يتلامس فيه حب الشخص للموضوع المُدمَّر مع الكراهية المُستشعَرة تجاه الموضوع نفسه، ما يُؤدِّي للشعور بالذنب. واتحاد الحب والكراهية يعني أن الطفل قادر على الاهتمام بموضوعاته، ويصبح مدركًا لعدم قدرته على حمايتهم وحفظهم من نزعته التدميرية. وإذا كان بالإمكان تحمُّل الألم واليأس الناتجَين عن هذا، فإن الشعور بالذنب يمكن أن يكون عاملًا قويًّا في تحفيز الشعور بالندم وتأنيب الضمير ويُؤدِّي لظهور رغبةٍ في ترميم الموضوع المُدمَّر واستعادته.

أعطى فرويد (١٩١٧) كذلك لمحةً لفهمٍ مستقبلي للأنا العليا من خلال وصفه لتأسيس قوةٍ خاصة قادرة على معاملةِ جزءٍ من الأنا كموضوعٍ بسبب التماهي مع الموضوع الخارجي المفقود. ليس معروفًا دائمًا أنه إذا كان الموضوع المفقود يُلقي ظلًّا على الأنا، فإن الضوء الذي ينتج هذا الظل لا بد أن يكون قادمًا من مكانٍ ما. وأعتقد أن فرويد يُشير ضمنيًّا إلى أنه يأتي من أعلى ويُمثِّل الموضوع المُراقِب الذي يقيِّم الأنا على نحوٍ نقدي مثلما قيَّم الموضوع الأَوَّلي فيما سبق؛٣ فالانتقال من الاكتئاب إلى جنون الارتياب ينطوي على انتقالٍ مماثل من الاهتمام بالموضوع الأَوَّلي إلى انشغالٍ تامٍّ بالموضوع الذي يفرض مراقبةً نقدية، ويُصاحِبه، بسبب الطبيعة النقدية لهذا النوع من الأنا العليا، انتقالٌ من الاهتمام بشعور الذنب إلى انشغالٍ بشعور الخزي والمهانة؛ وهذا هو الوضع تقريبًا في مُذكِّرات شريبر، حيث الغياب اللافت لأيِّ اهتمامٍ بشعور الذنب، مع ذكرٍ محدود للغاية لأيِّ رموزٍ أمومية، إلا من خلال التماهي.

(٢) جنون الارتياب (البارانويا)

عندما يُصبِح الشعورُ بالذنب واليأسُ الناتجان عن الاكتئاب مُؤلِمَين أكثر من اللازم، تُستخدَم الدفاعات لجعل التجربة الشعورية أكثر احتمالًا. وتنطوي أبرز هذه الدفاعات على انتقالٍ إلى جنون الارتياب وتوظيفِ آليَّاتٍ مثل الانفصال والتفكُّك والتماهي الإسقاطي. وقد وَصفَت كلاين العلاقة الوثيقة بين الاكتئاب وجنون الارتياب (١٩٣٥)، وصاغتها لاحقًا (١٩٤٦)، في إطارِ تحوُّلٍ بين الوضع الاكتئابي وأوضاع جنون الارتياب الانفصامي. وقد أَصبحَت هذه النزعة البارانويدية واضحة تمامًا في مرحلة مبكرة للغاية من انهيار شريبر عندما عُزِيَت معاناته إلى اضطهاده بواسطة الأشعة الإلهية. لا يُقلِّل الإسقاط دائمًا من المعاناة، لكنه على الأقل يُؤدِّي إلى التخلُّص من المسئولية تجاهها والشعور بالذنب المُرتبِط بها؛ الأمر الذي يبدو أنه يُتيح راحةً ضرورية.

يظهر الطابع الاكتئابي لاضطهادِ شريبر في العديد من الفِقرات المُقتبَسة من المُذكِّرات التي تُؤكِّد اقتناعه بأنه لا علاج له؛ فيكتب على سبيل المثال، قائلًا:

وعلى ذلك حِيكَت مؤامرةٌ ضدي غرضها تسليمي إلى شخصٍ آخر بعد إدراكِ أن مرضي العصبي، أو كما افتُرِض، مُستعصٍ على الشفاء، بطريقة سلَّمت روحي له لكن جسدي — الذي تحول إلى جسدِ أُنثى — تُرِك بعدها لذلك الشخصِ ليُصبِح عُرضةً للانتهاك الجنسي و«الهجران ببساطة»؛ بمعنى آخر تُرِك ليتعفن … كانت الفكرة الأساسية دائمًا هي «هَجري»، أو بمعنًى آخر التخلِّي عني … للسماح بتعهيرِ جسدي والمتاجرةِ به كجسدِ عاهرة، أحيانًا عن طريق قتلي ولاحقًا عن طريقِ تدميرِ صوابي.

يُشار إلى أسوأ أشكال المعاناة بأنها «قتل الروح» الذي لا يحظى بتعريفٍ دقيق، لكن يبدو أنه ينطوي على أعنفِ أشكال الاستغلال والإذلال التي يمكن أن يخضع لها شخص، والتي تتضمن الإقدام على محاولةِ تدميرِ جوهرِ هُويَّته لمصلحة شخصٍ آخر.

لفترةٍ من الوقت، أَصبحَت أوهامُ الاضطهادِ أكثر تشرذمًا وتفكُّكًا، وصارت تضُم هجماتٍ تصدُر من فلكسيج، ولاحقًا من أرواحٍ أخرى، وفي النهاية من الرب الذي أصبح مُنقسمًا إلى إلهٍ أمامي وآخرَ خلفي، مع تحوُّل الخلفي بدوره إلى آلهةٍ عُليا وسفلى. كذلك كانت الأرواح التي هاجمَته مُتعدِّدةً تُمثِّلها الساحاتُ الأمامية للفردوس، وطيورٌ مُغرِّدة، ورجالٌ صِغار عدَّة يندفعون بأعدادٍ كبيرة على جسده. كانت هذه الفترة التي كان فيها اضطرابه الواضح في أقصى حالات الفوضى والارتباك، وسادت النزعة التدميرية على نحوٍ تجاوَزَ أيَّ سيطرة للحب أو المنطق.

(٣) منظومة الوهم المخلِّص

قلَّ التفكُّك والتشظي لاحقًا وأُنشئ نظامٌ للوهم يتمحور حول فكرةٍ رئيسة مفادُها أن شريبر يمكنه أن يُعيد البشرية إلى حالة من النعيم والسعادة، بالتحوُّل إلى أنثى حتى يتسنَّى نكاحه من قِبل الرب. كانت منزلته الخاصة كشخصٍ له القدرة على جذبِ إشعاعات الرب قد بدأ في اكتسابِ طابعٍ شبقي تدريجيًّا، وبدأ «نظام العالم» الذي كان يكمن في مبدأ وجودِ سلطةٍ عليا قادمةٍ من الرب نفسه، في المطالبة باكتسابِ «شهوانيةٍ وفتنةٍ جنسية». في البداية كانت حالة السعادة والنعيم التي ترتقي إليها الروح بعد الموت بواسطة التطهير يُنظر إليها كإحدى المُتع المستمرة المرتبطة بالتفكير في الرب، لكن سرعان ما صارت تُعتبر حالةً من الإحساس المتواصل «بالشهوانية الجنسية». والحق أنها تُشير إلى أن تصالُحًا نهائيًّا مع الرب سيُنهي معاناة شريبر، بما أن الإشعاعات الإلهية قد تخلَّت عن عدوانيتها بمجرد أن تأكدَت أنها ستمُر بحالةٍ من الشهوانية الروحانية، حتى الرب نفسه طالَب أن تكون لديه القُدرة على أن يجد الشهوانية الحسية لدى شريبر وهدَّده بسَحبِ إشعاعاته إذا أهمل العناية بها ولم يُقدِّم للرب ما يُريد. وقد كُرِّس جزءٌ كبير من المذكرات لتفسير طلب التأنيث وتبنِّي توجُّهٍ خاضع نحو الرب يفقد طابعه الاضطهادي بالتدريج ويكتسب السمة التخليصية المرتبطة بحالة النعيم. ومع فقدان الاضطهادات المزعجة قوتها، يصبح شريبر قادرًا على أن يصبح أكثر تماسكًا بل اكتساب بعض المتعة من موقفه. وبينما يُصِر أنه من واجبه أن يُنتِج أكبر قدْرٍ ممكنٍ من الشهوانية الروحية، يضيف قائلًا: «إذا حَصَلتُ على قدْر من المتعة الحسية في الأثناء، أشعر بأنني معذور في قَبولها كتعويضٍ بسيط عن القدْر المُبالَغ فيه من المعاناة والحرمان الذي يلازمني منذ سنواتٍ عديدة …»

كان فرويد منبهرًا بالدعم الذي تمنحه هذه الأوهام لأهمية الجنسانية في الحياة العقلية ولفرضيةِ أن علاقة شريبر بوالده كانت في الأساس علاقةً مثلية. لم تعُد فكرة الازدواجية الجنسية العالمية اليوم فكرةً مثيرة للجدل وأصبح اهتمامنا مُنصبًّا أكثر على فهمِ كيفيةِ اكتساب العلاقات مع أيٍّ من الجنسَين طابعًا جنسيًّا كوسيلةٍ للتكيف معها. يُلاحَظ غالبًا ردُّ فعلٍ مُعيَّن في التحليل، وهو أن المرور بتجربةِ اضطهادٍ وقسوةٍ يصبح تجربةً شهوانية وتصبح أكثر احتمالًا من خلال اصطباغها بالجنسانية في شكل سادية-مازوخية. ولعل ما هو أكثر شيوعًا أن تجد القسوة مرتبطة بالعضو الذكري، والتماهي القضيبي لا يبطل المعاناة فحسب، بل يبطل الإذلال بإذلالِ شخصٍ آخر، عن طريق توجيه القسوة. ومثلما يتماهى مريض الاكتئاب مع ثدي داخلي مُدمَّر، عادةً ما يتماهى المريض الكليُّ القدرة مع قضيبٍ داخلي منتصب. في هذا السياق، نجد وَهْم الخلاص الخاص بشريبر غير مألوف؛ إذ يواجه تجربته مع الاضطهاد القاسي بتماهٍ مع المرأة المُنصاعة، مُحولًا هذه القسوة إلى متعةٍ جنسية ومُحولًا الهدف من الإساءة إلى إصلاحٍ كليِّ القدرة. في بعض الأوقات كان شريبر يتلاعب بوهم التماهي مع المسيح الهابط إلى السماء بعد مُعاناته لِيتمتَّع باتحادٍ سعيد مع الرب، الذي للمفارقة يصبح اتحادًا مثليًّا على نحوٍ أكثر وضوحًا. غير أنه في معظم الأحيان كانت محاولته لإعادةِ بناءِ عالمه المُدمَّر عادةً ما تنطوي على تحوُّل الجنس ومغايرة الجنس.

ربما يكون هذا تمييزًا غيرَ ضروري؛ لأن التماهيات الساديَّة الفعَّالة والتماهيات المازوخية السلبية عادةً ما توجد جنبًا إلى جنب. من المُؤكَّد أن ثَمَّةَ علاقةً ذات طابعٍ شهواني بالغ بين شريبر والرب وهي التي بلا شكٍّ كانت صدًى للعلاقة الأُولى مع الأب؛ ففكرةُ أنَّ حالة النعيم والسعادة تتكون من الشهوانية الحسية المستمرة لكلا الطرفَين تُماثِل وهمًا شائعًا في الطفولة عن المتعة التي يمنحها كلٌّ من الأبوَين للآخر عندما يكونان بمفردهما. غير أنه من الممكن إرجاعُ أصلِ هذا الوهم إلى التجارب الأُولى للطفل الرضيع أثناء الرضاعة؛ حيث يُضفَى على الثدي صفةٌ شهوانية ومثالية كشيءٍ مُشبِع تمامًا للأم والابن؛ فيشعر كلٌّ منهما أن الآخر هو كل ما يحتاجه ولا يهتم كلٌّ منهما إلا بالآخر، ربما قبل ظهورِ شخصٍ ثالث كأبٍ أو شقيق. لقد صارت هذه الخيالات الجنسية الضخمة أوهامًا بالنسبة إلى شريبر وبدا أنها ساعدَته في تنظيم قُدراته العقلية وتفادي التجربة البشعة المتمثلة في الشعور بالضآلة والضعف والتعرُّض للازدراء والتهكُّم. كذلك كان التماهي مع الأم التي حَملَت الطفل وأنجَبَت بمنزلةِ درعٍ واقٍ له من إدراك شعوره بالحسد والذنب تجاه النساء؛ إذ إنه كان الآن من يمتلك الثديَين والقُدرات الأنثوية لِيُخرج «جنسًا جديدًا من الرجال».

يبدو الجانب الأكثرُ إثارةً للإعجاب في رؤية فرويد هو إدراكه للعنصر الإصلاحي في منظومة الأوهام لدى شريبر؛ فبعد أن دُمِّر عالمه من خلالِ هجماتٍ كُلية القدرة على موضوعه الجيد، يصف فرويد كيف أن:

مريض جنون الارتياب يَبنيه مجددًا، صحيحٌ أنه لا يبنيه على نحوٍ أكثر عظمة، لكنه على الأقل يبنيه بالشكل الذي يُمكِّنه من العيش بداخله مرةً أخرى. إنه يبنيه بفعل أوهامه؛ فالتكوين الخيالي، الذي ننظر إليه كنتاجٍ مرضي، هو في الواقع محاولةٌ للتعافي وعمليةُ إعادةِ بناء. (١٩١١، الصفحات ٧٠-٧١؛ التأكيد وارد في النسخة الأصلية)

في الواقع، يبدو أن منظومة الأوهام قد ساعدَت شريبر في بلوغ درجةٍ كبيرة من التكامُل وحقَّق تَحسُّنًا اجتماعيًّا ملحوظًا دون التخلُّص من أيٍّ من معتقداته الأساسية، ليصبح في النهاية قادرًا على التصرُّف على نحوٍ ملائم في معظم المواقف الاجتماعية، وكتابةِ مُذكِّراته والتماسِ حريته بأسلوبٍ متماسك. وأُطلِق سراحه من المصحة في ديسمبر عام ١٩٠٢ ونجح في التصرُّف جيدًا على نحوٍ معقول مع كتمانِ أوهامِه وهلاوسِه، حتى انتكس بعد حوالي خمسِ سنواتٍ ليدخل في مرضه الأخير بعد إصابة زوجته بسكتةٍ دماغية.

(٤) منظومة الوهم كملاذ نفسي

ذَهبتُ حتى الآن إلى أنه من الممكن التمييز بين ثلاثةِ عناصرَ في مرض شريبر: الأول هو الاكتئاب واليأس اللذان لم يسيطرا فقط على المرحلة المبكرة من انهياره بل استمرَّا لِيصبغا مظاهره الذُّهانية الأفدح. العنصر الثاني: أدَّى جنون الارتياب الذي بدأ مع إسقاط المسئولية والشعور بالذنب واتسم بفوضى متفاقمةٍ كانفصالٍ دفاعي إلى تفكُّك المُضطهدِين وكذلك الذات مما أدَّى إلى صراعٍ فوضوي كامل من أجل البقاء. وأخيرًا: تألَّف العنصر الثالث من حالةِ وهمٍ مُنظَّمة نسبيًّا، أصبح فيها الاضطهاد مقبولًا من خلال التماهي مع جانبٍ أنثوي مُخلِّص وخُنوعٍ ذي طابعٍ شهواني للأب. أجد أنه من المفيد أن ننظر إلى هذه الحالات الثلاث باعتبارها في حالةِ توازُن حيث الحركة ذهابًا وإيابًا بينها دائمًا ما تحدث، رغم إمكانية رصد انتقالٍ من الاكتئاب إلى جنون الارتياب ومن ثَمَّ إلى منظومة الوهم. والواقع أنني فكرتُ في منظومة الوهم لدى شريبر كملاذٍ نفسي قائم على نظام ذُهاني (ستاينر، ١٩٩٣)، والذي لُجِئ إليه عندما أصبح كلٌّ من الاكتئاب وجنون الارتياب لا يُحتمَلان. ولسوف أذهب إلى أن كلًّا من فشله في العثور على موضوعٍ احتوائي يستجيب لإسقاطاته الكلية القدرة والإذلال الذي نشأ كنتيجة كانا عاملَين جعلا من المستحيل على شريبر تحمُّل الاكتئاب والتعامُل معه، وهو ما دفعه بالتبعية نحو جنون الارتياب ومن ثَمَّ إلى النظام الذُّهاني.

(٥) دور التحديق في الذُّهان لدى شريبر

يلعب التحديق دورًا بارزًا في مُذكِّرات شريبر؛ فقد كان تحديق الآخرِين، الذي غالبًا ما يتمثل في هيئةِ إشعاعاتٍ إلهية في أوهامه، مسئولًا عن إذلاله، وزادت معاناته إلى حدٍّ هائل عندما شَعَر بأنه مُراقَب، وأنه «وصل إلى القاع» وتعرَّض للسخرية والازدراء. كان لتحديق شريبر نفسه دَورٌ مهم أيضًا في قدرته على تحدِّي السلطة والدفاع عن نفسه، والانتصار أحيانًا على رموزٍ قوية مثل فلكسيج وحتى الرب. وقد انطوت هذه القدرة على قوةٍ كلية وهمية وتجلَّت على نحوٍ مدهش، على سبيل المثال، في قدرته على التحديق في الشمس حتى ضَعُفَت أشعتها نتيجةً لهذا. كان التحديق كذلك وسيلةً استطاع من خلالها الإسقاط داخل موضوعاته واعتقَد من خلالها أن موضوعاته يمكنها إعادة الإسقاط داخله. وقد حَدثَت مجموعةٌ من التماهيات الذُّهانية، على سبيل المثال، مع قدرة الله الكلية ولاحقًا، من خلال وهمٍ مُخلِّص، مع رمزٍ أمومي خانع لكنه كليُّ القدرة كذلك.

ليس من الممكن تتبُّع التطوُّر المُعقَّد لهذه الإسقاطات والتماهيات بالتفصيل، لكني أومن بأن بعض التلميحات عن آليةِ عمل التحديق يُمكِن العثور عليها بالنظر في تطوُّر علاقةِ شريبر بالبروفيسور فلكسيج في المراحل الأُولى لمرضه. وأعتقد أنه يمكن أن نرى كيف أن إسقاط القدرة الكلية على طبيبه النفسي أعقبه نجاح في تشويهِ سُمعة المُعالِج عندما كشف زيف ادعاءاته، وكان هذا أحد العوامل التي أدَّت إلى انحدارٍ كارثي نحو جنون الارتياب.

(٦) الاحتياج المُلح للراحة وإسقاط القدرة الكلية

عندما أقدم شريبر على استشارة البروفيسور فلكسيج، في بداية انهياره الثاني، كان بالفعل قد سقط في غياهب الاكتئاب، وبدأ يشعُر بالاضطهاد ولم يعُد قادرًا على الحصول على الراحة أثناء النوم؛ فسافر على عُجالةٍ من دريسدن إلى ليبزج مؤكدًا على موعده تلغرافيًّا، ووصل مع زوجته إلى عيادة البروفيسور في حالةٍ بائسة. وتحت ضغط الاحتياج للراحة، وربما لما وجده من إرضاءٍ لكبريائه جرَّاءَ الآمال الكبيرة التي تُعلِّقها عليه العائلة في الحصول على علاج، استجاب البروفيسور فلكسيج في تفاؤل. وقد وصف شريبر في مُذكِّراته فيما بعدُ كيف:

تلا ذلك مقابلةٌ طويلة يجب أن أُقِر بأن البروفيسور فلكسيج قد أظهر خلالها فصاحةً رائعة أَثَّرت فيَّ بشدة. كان يتحدث عن التطوُّرات التي طَرأَت على الطب النفسي منذ مرضي الأول، والمُنوِّمات التي اكتُشِفَت حديثًا وما إلى ذلك، ومنحني أملًا في تخليصي من المرض بالكامل من خلالِ نومةٍ واحدة وافرة … ومن ثَمَّ أصبح مزاجي أكثر استقرارًا …

غير أن العلاج فشِل، ولعل ذلك كان أمرًا محتومًا؛ فلعدة أسباب، تَأخَّر النوم، وأصبح السرير باردًا، وظَهرَت أعراضٌ أخرى؛ ولذا أظهر الدواء فشلًا شبهَ تامٍّ في إحداث الأَثَر المنشود منه. وبعد ليلةٍ «بلا نوم تقريبًا»، أصبح مُكتئبًا بشدة واضطُرَّت زوجته لمنعه من الانتحار باستخدام مِنشَفة. وفي صباح اليوم التالي اتصَلتْ بالبروفيسور واصطَحبَته بسيارة أجرة بنفسها إلى المصحَّة (شريبر، ١٩٠٣، الصفحات ٤٨-٤٩).

من السهل إدراك مدى احتياجه الشديد للراحة الذي صرَّح به للطبيب النفسي في وقتٍ لم يكن فيه قادرًا على إيجاد الراحة في النوم. غير أن ردَّ فعلِ البروفيسور يُشير إلى أنه وُضع تحت ضغطٍ لدرجة أنه لم يستطع مقاومةَ تولِّي مُهمةٍ ستُثبت أنها تفوقُ قدراته.

بعد إدخاله المصحة، استمرَّت حالة شريبر العقلية في التذبذُب. وقد وصف كيف أن مزاجه الاكتئابي الحادَّ قد تحسَّن عندما حاوَلَ مساعد البروفيسور فلكسيج رفع معنوياته وطمأنَه بعدمِ وجودِ أي نيةٍ للتخلي عن العلاج؛ مما جعل هذا اليوم هو «اليوم الوحيد الذي كان فيه مُفعمًا بالحياة بروح الأمل المُبهِجة». ومرةً أخرى اضطُر الطبيب تحت الضغط للردِّ بتفاؤل، ومرةً أخرى تعرَّض شريبر للخيانة؛ فقد تدهور مزاجه مرةً أخرى بشكلٍ دراماتيكي بعد واقعتَين حَدثَتا لم يفصل بينهما إلا زمنٌ قصير. في البداية سافَرَت زوجته، التي كانت تُداوم على زيارته وتناوُل الغداء معه يوميًّا، لمدة أربعةِ أيامٍ للإقامة مع والدها في برلين التماسًا لبعض الراحة. وبعد عودتها، كانت حالته قد تدَهورَت للغاية لدرجة أنه طَلب منها ألا تزوره بعد اليوم لأنه لم يعُد يستطيع أن يتحمل أن تراه في «هذه الحالة السيئة التي انحدَر إليها». وعندما جاءت لاحقًا، لم يعُد يعتبرها كائنًا حيًّا. يبدو أنه حتى ذلك الحين كان وجودها اليومي قادرًا على امتصاصِ واحتواءِ بعضٍ من إسقاطاته، وربما تعزيز إيمانه بأطبائه الذي تَقوَّض في غيابها. وعندما عادت كان مُتأكدًا من أنها ستُعامله بتعالٍ وازدراء.

تضَمَّنَت الواقعة الثانية مقابلةً مع البروفيسور فلكسيج تحدَّاه المريض خلالها مرةً أخرى فيما يخص مسألة قابليته للشفاء. يصف شريبر كيف أنه «كان يحمل بداخله آمالًا مُؤكَّدة، «لكنه لم يعُد يستطيع» — على الأقل كما تراءى لي — أن ينظر في عينيَّ مباشرة» (ورد التأكيد في النسخة الأصلية). وكانت الإشاحة بنظره عنه هي الشيء الذي أكَّد له رؤيته من أن البروفيسور فلكسيج لم يستطع الوفاء بوعدِه ولم يعُد في استطاعته الاستجابة لإسقاطات الاحتياج. كان شريبر يؤمن بأن عدم قابليته للشفاء قد هَزمَت الطبيب النفسي وأن فلكسيج لم يستطع تحمُّل الاتهامات وشعَر بالإهانة ومن ثَمَّ أصبح توَّاقًا للانتقام. ومنذ ذلك الحين تأكَّد لديه أن قوًى خارقة للطبيعة يُوجِّهها فلكسيج هي مصدر اضطهاده.

كان وصف «البلاغة الاستثنائية» للطبيب يُشير إلى تلميحٍ بالسخرية، والواقع أن شكوك شريبر بشأن فلكسيج كانت حاضرةً حتى في فترة مرضه الأَوَّل قبل تسع سنوات؛ إذ كتب يقول إنه في ذلك الوقت «لم يكن يمتلك في العموم إلا انطباعاتٍ إيجابية عن طرق البروفيسور فلكسيج العلاجية.» لكنه بعد ذلك يمضي قائلًا:
ربما تكون بعض الأخطاء قد وقعت … فحتى في سياق ذلك المرض كنتُ، وما زلتُ، مقتنعًا بالرأي القائل إن «الكذبات البيضاء» — التي ربما لا يستطيع أي أخصائيِّ أعصابٍ الاستغناء عنها كليًّا في حالة بعض المرضى العقليِّين، ولكن عليه توظيفها فقط بأكبرِ قدْرٍ من الحيطة والحذر — كانت بالكاد مناسبة لحالتي؛ إذ لا بد أنه قد أدرك مُبكرًا أنه عندما يتعامل معي، فإنه يتعامل مع إنسانٍ ذي قدْرٍ عالٍ من الذكاء، وقدرةٍ استثنائية على الفهم، وقوى ملاحظةٍ حادة. (شريبر، ١٩٠٣، صفحة ٥١)٤

(٧) النظر مباشرة في عينَي الموضوع وحكاية فرويد عن النسر

لم يكن البروفيسور فلكسيج فقط هو من فشل في التواصُل البصري المباشر مع شريبر؛ فقد تجلى تفوُّقه وتحديه بإيمانه بأنه يُمكنه التحديق في الشمس «دون أن يصيبه شيء إلا القليل من الدوار»، وأن أشعتها قد بهتَت بالفعل أمامه. وعندما كان يجأر بقوةٍ أثناء اضطرابه، كان أحيانًا ما يصرخ قائلًا «فلكسيج الصغير»، وأحيانًا يقول إن «الشمس عاهرة» كما لو كان يُهين هذه الرموز العليا مثلما أهانَته كما يعتقد.

تُوجد كذلك عدة أقسام من المُذكِّرات تصف كيف أن شريبر انتصر على الرب، بالنظر إليه ككيانٍ أدنى، بسبب عدم قدرته على فهم الناس؛ لكونه قد ألِفَ الأمواتَ فقط، وغير قادرٍ على فهم طبيعة البشر، ولم يستطع التعلم من التجربة. علاوةً على ذلك، فإن قدرة الله كانت تسير «عكس نظام العالم» والذي يُمثِّل قوةً أعلى كان الرب نفسه مُجبرًا على الاستسلام لها.

كانت قدرة شريبر على التحديق في الشمس تُمثِّل أهميةً خاصة بالنسبة إلى فرويد الذي وَصفَ في حاشيةٍ ملحقة لبحث شريبر، الخُرافات التي نَسبَت القدرة على التحديق في الشمس إلى النسر فقط «الذي جعلَته معيشته في أعلى مناطق الجو على علاقةٍ وثيقة للغاية مع السموات، والشمس، والبرق.» علاوةً على ذلك، «يضع النسر صغيره في اختبارٍ قبل الاعتراف بأنه ابنه الشرعي؛ فما لم ينجح في التحديق في الشمس دون أن تطرُف له عين، يُلقى خارج الوكر» (فرويد، ١٩١١، صفحة ٨١). ينظر فرويد لهذه الأسطورة كمثالٍ لمحنة، واختبارٍ للنسب، وتأكيدٍ على أن الشمس رمزٌ أبوي بالفعل. يقول فرويد: «إن النسر يتصرَّف كما لو كان هو نفسه ينحدر من نَسلِ الشمس ويُخضِع صغاره لاختبار نسبهم … وبذلك يكون شريبر قد أعاد اكتشافَ الطريقة الأسطورية للتعبير عن علاقة البُنوة التي تربطه بالشمس» (المصدر السابق، صفحة ٨١). غير أن الوصف يُشير كذلك إلى أن فرويد كان بذلك يستجيب للصورة الذهنية البشِعة للسقوط في هاوية الاكتئاب عند التعرُّض للاستهجان والإهانة بسبب تصميم الأب على تأكيد تفوُّقه.

صُنِع عدد من الروابط المثيرة للاهتمام بين شخصية الأب الحقيقي لشريبر والأب الوهمي الذي كان يتجسد له في صورة فلكسيج والرب (نيدرلاند، ١٩٥١، ١٩٥٩أ، ١٩٥٩ب، ١٩٦٠؛ كاتان، ١٩٥٩؛ لوثان، ١٩٩٢). كان الدكتور موريتز شريبر طبيبًا بارزًا طوَّر نظامًا للتدريبات البدنية ووسائلَ ردعٍ جسدية ومبادئَ تعليميةً للأطفال خَلقَت مناخًا فاشيًّا مُتسلطًا، ربما كان مألوفًا في أوروبا في القرن التاسع عشر، وكان من الصعب التمرُّد عليه. يمكننا تخمين أنه أراد تقليد والده الذي كان ينظر إليه بعين الإعجاب والتقدير، لكنه في الوقت نفسه أدرك الطبيعة النرجسية الدفاعية لنظام تدريب الأطفال الخاصة بوالده بتأكيده على الطاعة وإنكار الذات. لقد كان شخصًا يفرض تَدخُّلَه بتسلُّط لدرجةِ أنه لم يكن قادرًا على إظهار أيِّ احترامٍ لقدرة زوجته على العناية بأبنائها.

(٨) الإسقاط المُضاد من جانب الموضوع المؤدي للانحدار إلى جنون الارتياب والمهانة

مع تطوُّر جنون الارتياب لدى شريبر، صار فلكسيج والرب يتصرَّفان كما لو كانا يتعرضان لتهديد من شريبر، وبدآ في إنزالِ عقوباتٍ به؛ الأمر الذي لعب فيه الإذلال دورًا مُهمًّا في جعل معاناته لا تُطاق. فكان يُعامَل بازدراءٍ وتعالٍ، ويُشعِره مُضطهِدوه، الذين سَخِروا منه وعذَّبوه، بالضآلة والحقارة والدُّونيَّة. وحاوَلَا إجباره على الخضوع بإشعالِ صراعٍ على السيطرة لعب فيه التحديق دورًا محوريًّا. وقد كان التحديق في اتجاهٍ هابط يشير إلى الدونية لدى شريبر، الذي كان يفزع من فكرة النظر إليه بتعالٍ، حتى إنه، كما رأينا، لم يستطع حتى تحمُّل أن تراه زوجته في «حالته السيئة» التي انحَدَر إليها.

كان الإذلال مؤلمًا للغاية فيما يتعلق بالاضطهاد الجوهري المتمثل في نزع رجولته؛ حيث اشتكى شريبر من أن الأصوات كانت تنظر دائمًا لتحوُّلِه إلى امرأةٍ كعارٍ جنسي أعطاها عذرًا للتحقير من شأنه. «كانت إشعاعات الرب كثيرًا ما تظن أنَّ من حقها أن تسخر مني بمُناداتي بالآنسة شريبر، في إشارة إلى الإخصاء الذي زُعِم أنني على وشك الخضوع إليه.» أو كانت تقول: «إذن هذا هو الشخص الذي يدَّعي أنه كان رئيسًا لمجلس الشيوخ، ذلك الشخص الذي يترك نفسه ليُضَاجَع.» كانت الطريقة التي اعتقَد بها أن الله يُقنِعه أنه كان غبيًّا مُهينةً بالقدْر نفسه؛ فهنا كانت الفضَلات تُوضع في أمعائه مما يخلُق لديه الحاجة لإخراجها، وكانت بقايا برازٍ صغيرة تُلوِّث مُؤخِّرتَه. وكان يعتقد أن الرب ينظر إلى رغبة شريبر الملحة في التغوُّط بأنها انتصارٌ عليه، وأن الهدف المُمثَّل في تدمير صوابه قد تَحقَّق. كما اشتكى من أن الخِداع الذي تنطوي عليه هذه السياسة يظهر في حقيقة أنه كلما نَشأَت الحاجة للتغوُّط، كان شخصٌ آخر يُرسَل إلى المرحاض الذي دائمًا ما يكون مشغولًا عندما كان يحتاجه. بل إن الرب سَخِر منه بالإشارة إلى أنه لم يستطع التغوُّط لأنه في غاية الغباء والحماقة. وكانت هذه إحدى الطرق التي أصبح من خلالها مقتنعًا بجهل الرب وعدم درايتِه بطبيعة البشر (شريبر، ١٩٠٣، الصفحات ٢٠٥-٢٠٦).

يبدو واضحًا أن شريبر قد حاوَلَ المُقاوَمة وهزيمةَ مُضطهِدِيه وأدى هذا التمرُّد إلى صراعٍ أقرب إلى الحرب بينه وبين الرب، وحال دون الشعور بالمزيد من الاكتئاب الذي كان يُمثِّل لشريبر هزيمةً وخضوعًا. تتكشَّف مواطن القصور لدى شريبر وتُفرَض عليه أشكالُ الإذلال بواسطةِ رموزٍ قوية تُؤكِّد سيطرتها عليه. حينها يُصبِح الإذلال هو ما يجب أن يُحارَب، ويجب التصدي لمن يُراقبه وإنزال الهزيمة به. في حالة شريبر، بدا كما لو كان يجبُ شنُّ حربٍ ضمن صراعٍ على السيطرة يُذكِّرنا بالحرب بين الرب والشيطان في ملحمة «الفردوس المفقود» الشعرية. يُشير فرويد إلى أنه «في هذه العلاقة مع الرب، أظهر شريبر مزيجًا من أغرب ما يكون من النقد الكُفريِّ والعصيان المتمرِّد من جانب، والتقوى الممزوجة بالتبجيل من جانبٍ آخر» (فرويد، ١٩١١، صفحة ٥١)، وهو ما يشير فرويد إلى أنه يُميِّز السلوك الطفولي للصبية تجاه آبائهم. كان شريبر يُهزم أحيانًا ويُخصى ويُعاقب عقابًا شنيعًا، وأحيانًا يكون قادرًا على ردِّ الهُجوم والنظَر بتعالٍ إلى «فلكسيج الصغير»، بل هزيمة الرب.

(٩) الغياب المأساوي لموضوعٍ احتوائي

كان الصراع على السيطرة الذي مر به شريبر والمحاولات المستمرة لإهانته من ضمن العوامل التي دفعَته تجاهَ إيجادِ حلٍّ كليِّ القدرة في شكلِ نظام مَرَضي من نوعٍ ضلالي. ثَمَّةَ عاملٌ آخر ذو صلة يبدو أنه ينبثق من المُذكِّرات مصحوبًا ببعض الحدة والانفعال، وهو فشلُه في العثور على موضوعٍ قادر على احتواء أزمته والتعامُل مع إسقاطاته التي كان مُضطرًّا لاستخدامها.

من الجوانب الجوهرية للاحتواء وجوبُ قدرة الموضوع على الانفتاح تجاهَ إسقاطات المريض وفهم التجربة التي تُستحضر داخله بشكلٍ يحافظ على وجودِ صلةٍ بالواقع. وقد كان من المستحيل على شريبر أن يجد شخصًا يمكنه فهم يأسه وفي الوقت نفسه الحفاظ على قدرته على مُعامَلته كفردٍ مستقلٍّ له احتياجاتٌ بشرية، إلى جانب القدرة على إدراك حقيقة المرض ومُواجَهة المريض به وبحقيقةِ ما يمكن وما لا يمكن فعلُه لِمساعدته. كان شريبر منشغلًا للغاية بالحصول على الراحة حتى إنه كان بالكاد يهتم بالحاجة إلى أن يُفهَم. وكان الضغطُ الواقع على موضوعاته هائلًا لدرجة أنهم أصبحوا أيضًا مُهتمِّين بإيجادِ علاجٍ له، ومرةً أخرى، لم يستطيعوا إعطاء مساحةٍ للحاجة إلى التفهُّم.

أَدركَت كلاين أن الطفل يتجه نحو الموضوع الجيد ليس فقط للحصول على التغذية والفهم، بل غالبًا ما يكون ذلك في الأساس طلبًا للتخلُّص من مشاعره السيئة. والمطلب هنا هو القدرة على تفريغ السوء داخل موضوعٍ ما، وهو الذي سوف يتخلَّص بدوره من النزعة التدميرية والشعور بالذنب وجنون الارتياب.٥ وبينما من المفهوم أنه يجب على المريض اليائس السعي طلبًا لهذه الراحة، يجب أن يمتلك الموضوعُ القدرة على الحفاظ على الاتصال بالواقع ورؤية المريض وتقبُّلِه كما هو، سواء في طبيعته الخيِّرة أو في نزعته التدميرية على حدٍّ سواء.
بالطبع كلما كانت الأوهام كليَّة القدرة، زادت صعوبة احتوائها، وقد كان هوَس العظمة لدى شريبر جليًّا في مُذكِّراته؛ ففي مرحلة جنون العظمة من انهياره، وصف شريبر كيف أنه «كان الموضوع الوحيد الذي أُعمِلت عليه المعجزات الإلهية؛ ومن ثَمَّ كان أكثر البشر الذين عاشوا على الأرض أهمية.» انعَكسَت هذه القدرة الكلِّية أيضًا في موضوعاتِه التي اكتَسبَت قدراتٍ علاجيةً كليةَ القُدرة كان الوسيط في تحقُّقها هو الإشعاعات الإلهية، شأنها في ذلك شأن النزعة التدميرية؛ فقد كان يؤمن بأن «أعضاءه عانت الكثير من الإصاباتِ المُدمِّرة كانت ستؤدي حتمًا لِموتِ أيِّ إنسانٍ آخر … لكن المعجزات الإلهية دائمًا ما كانت تُعيد إحياء ما دُمِّر؛ ولذا كان يظل خالدًا تمامًا طالما ظل إنسانًا» (فرويد، ١٩١١، صفحة ١٧). ربما كان الأمرُ أنْ لا أحد استطاع أن يتعامل مع هذه الدرجة من اليقين الوهمي، ولكن يبدو أن شريبر كان يدرك الحاجة لأن يُفهَم ويُعَامَل كإنسان، وأظن أن تجربته مع نبذه كإنسانٍ هي ما كان يُريد إيصاله بمصطلح «قتل الروح»،٦ الذي يُشير إلى بعض الوعي بالفشل في الاحتواء. هنا تبرُز أهمية اتجاه التحديق مرةً أخرى، وُيوضِّح أن العين لا تُستخدم فقط في استيعاب الانطباعات الشعورية، بل تُعتبر كذلك وسيلة للإسقاط. عندما كان شريبر ينظر بعين التقدير إلى والده وأطبائه وإلى الرب، كان لديه أملٌ في أن يكون قادرًا على إسقاط مشاعره بالضآلة والدونية وأن يجد من الفهم والاحتواء ما قد يجعل هذه المشاعرَ مُحتمَلة. وعندما لم يستطع البروفيسور تحمُّل الإسقاطات، أشاح بنظرِه بعيدًا دون أن تكون لديه القدرةُ على الاعتراف بعجزه. غير أن شريبر كان مؤمنًا بأن تلك الرموز المُوقَّرة لم تخذله فقط، بل بدأت أيضًا في اضطهاده. وعندما شَعرَت بأن مكانتها مُهدَّدة، بدأت في التبرُّؤ من عناصرها المُخزِية بإسقاطها على المريض وعزَّزَت سيطرتها من خلال الإهانة والسخرية منه.

(١٠) جرأة الحل الذُّهاني

حينما أَسَّس شريبر منظومته للأوهام المُخلِّصة كان قد حوَّل الاضطهادات المُوجَّهة ضده إلى خضوعٍ ذي طابعٍ مثالي، وعمِلَت منظومته للأوهام كملاذٍ نفسيِّ بدا يُوفِّر له الحماية الكاملة من الشعور بالخزي. وكان هذا التحرُّر من الخزي هو ما جعل بإمكانه أن يُقدِّم توصيفاتٍ دقيقة، ويمكن القول إنها جريئة، لِجُنونه؛ ففي رسالته المفتوحة للبروفيسور فلكسيج التي تسبق مُذكراته، يعترف باحتمالية أن مُكاشَفاته قد تكون مؤلمةً لفلكسيج وآخرِين، لكن يقينه الوهمي بحقه الأخلاقي يجعله يُبرِّر نشرها؛ إذ يقول: «يُحزنني هذا كثيرًا لكن لسوء الحظ لا يمكن إحداث أي تغييراتٍ دون أن أجعل نفسي من البداية مفهومًا … إن هدفي الوحيد هو تعميقُ معرفة الحقيقة في مجالٍ حيوي، وهو الدين.» وامتد قلقه إلى «أخذ بعض الأشخاص الذين ما زالوا على قيد الحياة في الاعتبار» لكنه يختتم بقوله: «لكني أعتقد أن فحصًا خبيرًا لجسدي ومراقبة مصيري الشخصي على مدى حياتي سيكون قيِّمًا لكلٍّ من العلم ومعرفة الحقائق الدينية. وفي ضَوء مثل هذه الاعتبارات يجب أن تتراجع كل المشكلات والأمور الشخصية.»

أُعجب الدكتور ويبر، مدير مصحة زونينشتاين العقلية، بهذه الجُرأة، واستخدم في تقريره الذي قدَّمه إلى المحكمة والذي يعود تاريخه إلى نوفمبر عام ١٩٠٠، للدفع بأنه لم يكن يتعمَّق في أوهام شريبر.٧ كان لدى فرويد كذلك بعضُ الشكوك حيال تأثيرِ نَشرِ مُذكراتِ شريبر مطبوعة، وقال، كما لو كان يعتذر، إنه:

ربما يكون الدكتور شريبر ما زال على قيد الحياة حتى اليوم وربما فَصَل نفسه عن منظومة الأوهام التي طرحها في عام ١٩٠٣؛ إذ كانت تلك الملاحظات المذكورة عن كتابه ستُؤلمه. … غير أنه عند هذا الحد، وبينما يحتفظ بهُويته جنبًا إلى جنب مع شخصيته السابقة، يُمكِنني التعويل على الحجج التي استخدمها هو نفسه … للتصدِّي للجهود المبذولة لمنعه من نشر المذكرات.

ويستشهد ببعض النقاط التي وضَّحَها شريبر والتي اقتبستُها بدوري. يبدو أن هذا يعني أن قُوَّتَه الكلية ستحميه من الألم الذي ربما يُسبِّبه نشرُ المذكرات، شريطة أن يظل شريبر موهومًا. لقد عمِلَت منظومة الأوهام كملاذٍ نفسي كما كانت بمنزلةِ مخبأٍ ينقطع فيه الاتصال مع الواقع على نحوٍ مهين.

والواقع أن قدرة المصاب بالذُّهان على تحدي الشعور بالخزي هي ما يسمح له بكشف جوانبَ خاصةٍ من تكوينه تكون خفيةً عند أفرادٍ أقلَّ اضطرابًا. وأدرك فرويد هذا عندما كتب يقول:

إن بحث التحليل النفسي في جنون الارتياب سيكون مستحيلًا كليًّا لو كان المَرضَى أنفسهم لا يمتلكون خاصيةَ إفشاءِ تلك الأشياء (وإن كان على نحوٍ مُشوَّه) التي يُخفِيها المُصابون بالعُصاب كأسرار. (فرويد، ١٩١١، صفحة ٩)

إن الجُرأة وغياب الخجل لدى مريض الذُّهان هما ما يسمحان له أحيانًا بكشف الغطاء عن الأمور التي يخجل منها الآخرون، ويُمكِّناننا من رؤية الآليات العقلية باديةً للعيان. والوصف الدقيق لصرخات الاستغاثة التي يُطلِقها وما يعقبها من إهاناتٍ هما ما يجعلان من الممكن إعادة النظر في مرض شريبر من منظورٍ مُعاصِر واستخدام المُلاحظات التي دوَّنها عن نفسه لفهمِ بعضٍ من الألم الذي عاناه فهمًا أفضل، وربما تحديد معاناةٍ مماثلة لدى مرضانا.

هوامش

(١) يُوضِّح سانتنر (١٩٩٦) نقطةً مثيرة للاهتمام وهي أن اليهودية والأُنوثة في ألمانيا في القرن التاسع عشر كانتا يُنظَر إليهما كعلاماتٍ للدونية وربما يُساعِد هذا في فهمِ لماذا أصبح شريبر مشغولًا بقصة «اليهودي الجوَّال» وكان يخشى أن تكون لديه معدةُ يهوديٍّ وضيع.
(٢) متلازمة كوتار: هذيان الإنكار. هي متلازمة تتسم بالاكتئاب النفسي والنزعات الانتحارية حيث يشتكي المريض أنه خسِر كل شيء؛ ممتلكاته، وجزءًا من جسده، وغالبًا ما يعتقد أنه مات وأصبح جثةً متحركة. وعادةً ما يتسع هذا الوهم لدرجة أن المريض قد يدَّعي أنه يمكنه شمَّ لحمه المُتعفِّن ويَشعُر بالديدان تزحف تحت جلده. وعلى نحوٍ متناقض، غالبًا ما يُوحي «الموت» للمريض بفكرة أنه خالد. وربما تَتواجَد بعض الأفكار المُتعلِّقة بجنون العظمة والسوداوية (كوتار، ١٨٨٠).
(٣) كتب فرويد: «وهكذا سقط ظل الموضوع على الأنا، ومن هناك فصاعدًا أصبح من الممكن الحكم على الأخيرة بواسطة قوةٍ خاصة كما لو كانت موضوعًا؛ الموضوع المهجور. بهذه الطريقة تحوَّلَت خسارة الموضوع إلى خسارة للأنا وتحوَّل الصراع بين الأنا والشخص المحبوب إلى انقسام بين القوة الانتقادية للأنا والأنا التي تبدَّلَت بسبب التماهي» (١٩١٧، صفحة ٢٤٩).
(٤) عُزِيَت هذه الكذبات البيضاء المرتبطة بمرضه «إلى تسمُّمه ببروميد البوتاسيوم، وهو ما تقع مسئوليته على … الدكتور آر في مصحة إس»، كما يشتكي كذلك من أنه «كان يمكن شفائي على نحوٍ أسرع من بعض الأفكار المرتبطة بالوسواس المَرَضي التي كنتُ مُنشغلًا بها في ذلك الوقت، لا سيما القلق بشأن فقدان الوزن، لو سُمِح لي باستخدام الموازِين التي تُستخدم لمعرفةِ أوزان المرضى بضعَ مراتٍ بنفسي.»
(٥) كَتبَت كلاين (١٩٥٧، الصفحات ١٧٩-١٨٠) كما يلي: «كذلك، فإن توق الطفل إلى ثديٍ لا ينضب ولا يختفي أبدًا لا ينبثق بأيِّ حالٍ فقط من رغبةٍ شديدة في الطعام ومن الرغبات الجنسية؛ فالحاجة المُلِحَّة، حتى في المراحل المُبكِّرة، للحصول على برهانٍ مستمر على حب الأم ترجع جذورها إلى القلق النفسي بالأساس. والصراع بين غريزتَي الحياة والموت وما يستتبعه من تهديدٍ بفناء النفس والموضوع بواسطة دوافعَ تدميريةٍ هي عواملُ أساسية في علاقة الطفل المُبكِّرة بأمه؛ فرغبات الطفل تشير ضمنيًّا إلى أن الثدي، والأُم بعد ذلك، يجب أن يقضيا على هذه الدوافعِ التدميرية وألم القلق الاضطهادي.»
(٦) يُعرِّف شينجولد (١٩٧٨) قتل الروح بأنه محاولةٌ مُتعمَّدة لاعتراض الهوية المنفصلة لشخصٍ آخر، ومتعته في الحياة وقدرته على الحب.
(٧) في هذا السياق، كتب الدكتور ويبر يقول: «عند النظر إلى محتوى كتاباته وأخذ ما ورد فيها من قدْرٍ ضخم من الحماقات المُرتبِطة به وبآخرين في الاعتبار، والتفصيل الجريء لأكثر المواقف والأحداث المشكوك فيها والمستحيلة جماليًّا، واستخدام أكثر الكلمات الدارجة بذاءة، وغير ذلك، نجد صعوبة كبيرة في فهمِ إقدامِ شخصٍ لبقٍ ذي حسٍّ مُرهَف على القيام بما من شأنه أن يُعرِّضه لشبهةٍ حادة في عيون العامة، ما لم يكن تَوجُّهه نحو الحياة بالكامل توجهًا مرضيًّا، وغير قادرٍ على رؤية الأمور في منظورها الصحيح، وما لم يكن التقدير المُبالَغ فيه لشخصه الذي تسبَّب فيه انعدام إدراكه لمرضه قد ألقى غمامةً على تقديرِه للحدود التي يفرضها المجتمع على الإنسان» (شريبر، ١٩٠٣، الصفحات ٢٤٧-٢٤٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤