الفصل الرابع

«عن النرجسية»

روزين جوزيف بيرلبِرج

يُشكِّل كتاب «مقدمة عن النرجسية» (صدر في عام ١٩١٤) نقطة تحوُّل في التحليل النفسي؛ فعلى الرغم من أن النرجسية مفهومٌ لم يتناوله كثيرٌ من المُفكِّرِين البارزِين صراحةً على مدى عقودٍ كثيرة، فمن الممكن الدفع بأن كل دراسةٍ كُتبت عن التحليل النفسي منذ زمنِ فرويد تأخذ في اعتبارها ضمنيًّا التعديلات الفكرية التي جلبَها مفهوم النرجسية. لقد أدخل كتابٌ «عن النرجسية» تغيُّراتٍ جذرية على مفهوم الأنا؛ فمُنذُ وقت صدوره فصاعدًا، لم تعُدِ الأنا مُجرَّد مكانٍ للتحكُّم في الدوافع، بل أَصبحَت «موضوعًا»، صورةً، بقايا لتماهياتٍ ماضية. ما عاد يُنظر إلى الأنا بوصفها مستقلة عن أي علاقة، بل بوصفها نتيجةً لاستدخال واستيعاب العلاقات (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٨؛ سيجال وبيل، ١٩٩١؛ ساندلر وآخرون، ١٩٩٧ب). يُطوِّر فرويد هذه الفكرة على نحوٍ أكثر تكاملًا في كتابه «الحداد والسوداوية» (١٩١٧ [١٩١٥])؛ حيث قدَّم عرضًا كاملًا لعلاقة موضوعٍ داخلي تضمَّنَت إسقاطًا وتماهيًا. في هذه الدراسة، يصبح المريض واعيًا بالموضوع عندما يفقده، وهو ما مَهَّد الطريق أمام النظرية التي تدفع بأن الأنا مُكوَّنة من «تركيزاتٍ نفسية مهملة للموضوع»، وهي نظريةٌ قدمها فرويد على نحوٍ أكثر استيفاءً في كتاب «الأنا والهو» (١٩٢٣).

لم يَحظَ مفهوم النرجسية بالكثير من النقاش في الأدبيات البريطانية حتى سبعينيات القرن العشرين، وإن كان قد حظي بأهميةٍ محورية في فرنسا، في أعمال لاكان (١٩٦٦ [١٩٤٩])، وجرونبرجر (١٩٥٧)، وباش (١٩٦٥)، وجرين (١٩٦٦-١٩٦٧). احتل المفهوم مركزًا رئيسًا في فكر لاكان وتأكيداته على الوظيفة البنيوية لمرحلة المرآة. وفي أمريكا، منح كلٌّ من كوهوت (١٩٧١) وكيرنبرج (١٩٧٥) أهميةً بارزة للمفهوم في السبعينيات، ونُوقش كذلك في أعمال روزينفيلد (١٩٧١، ١٩٨٧).

يتسم اختيار الموضوع بالنرجسية عندما يكون الموضوع تجسيدًا للفرد نفسه، أو ما كان عليه في الماضي، أو ما يرغب أن يصبح عليه في المستقبل، أو عندما يُجسِّد جزءًا من الفرد (طفولته مثلًا). وفيما صِيغَت فكرة النرجسية الأولية أثناء معالجة فرويد لحالة شريبر وكانت معنيةً بالخرَف المُبتسَر (الذي أُطلق عليه الفِصام عام ١٩١١) وكذا بالمثلية الجنسية، اكتَسبَت الفكرة معنًى أكثر تكاملًا في كتاب «ما فوق مبدأ اللذة» (١٩٢٠).١ ارتَبطَت النرجسية الأَوَّلية ارتباطًا مُعقدًا بجنون العظمة، وكان النموذج الأَوَّلي لها هو النوم، كحالةٍ من النعيم المثالي، من السيادة التامة أو القدرة الكلية، أو، حسبما أشار روزولاتو، خرافة العودة إلى رحِم الأم (١٩٧٦، صفحة ٢٠). وقد أشار فرويد إلى أن النرجسية تُمثِّل مرحلةً في التطوُّر الجنسي للفرد، تقع بين الشبقية الذاتية وحب الموضوع (١٩١١).
عرض روزولاتو بعضًا من خصائص النرجسية التي تتوازى مع عناصر أسطورة نرسيس،٢ سوف أُشير إلى أربعةٍ منها: (١) رفض نرسيس لإيكو أو أمينينس؛ (٢) اكتشافه لصورته الذاتية، أو صورة شقيقته التوءم الميتة كما في نسخة بوسانياس، (٣) افتنانه بصورته المثالية تلك، (٤) بقاؤه عالقًا في حالة الجدب والعجز التي يعاني منها بين الحياة والموت.

توازي تلك العناصر، حسبما يرى روزولاتو، المتغيرات الموجودة في النرجسية: (أ) تراجع الشهوة الجنسية، (ب) إضفاء المثالية، (ج) التركيز على العلاقة مع توءمٍ مثالي، (د) الوضع العسير الناتج عن نُشوء معضلةٍ مستحيلة الحل في العقل.

يُعَد تراجُع الشهوة الجنسية أكثر الأفكار شيوعًا فيما يتعلق بالنرجسية؛ فهي تُمثِّل المنظور الديناميكي والاقتصادي الذي يعرضه فرويد في البداية، والذي يتضمن الرفض، والتنصُّل، والكبت والانفصال، والذي استكشفه فرويد لاحقًا في دراسته حول الإنكار.

المفهوم الثاني هو إضفاء المثالية أو المثلنة، والاختلاف بين ما إذا كان إضفاء المثالية على الأنا أم على الموضوع. يُلمِّح جرين هنا إلى مصطلح غريزة شبق النظر الخاص بفرويد؛ فعبْر اتخاذه نشاط النظر نقطةَ البداية بالنسبة إليه، ربط فرويد النرجسية بالمرئية (جرين، ٢٠٠١، الصفحة ٦):

لأن نرسيس، حسب الأسطورة اليونانية، كان شابًّا يُفضِّل انعكاس صورته الشخصية على أي شيءٍ آخر، وتحوَّل إلى الزهرة الجميلة التي تحمل الاسم نفسه. (فرويد، ١٩١٠، صفحة ١٠٠)

غير أن النرجسية نفسها ليست إلا مظهرًا؛ لأن خلفه: «يمكن دومًا العثور على ظل الموضوع الخفي» (جرين، ٢٠٠١، صفحة ٦).

العنصر الثالث هو محو أيِّ انقسامٍ أو انفصال، وهو ما نجده في العلاقة مع توءمٍ مثالي. يُشير روزولاتو إلى أنه في مرحلة المرآة يُعتبر التعرُّف على الآخر قبل تعرُّف المرء على ذاته أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ تُعَد مواجهة الآخر شرطًا مسبقًا لتكوين الذات. غير أن جرين يرى أن عدُو النرجسية هو «واقعية الموضوع» (٢٠٠١، الصفحة ١٧)؛ فالتكوين الفكري النرجسي يُهاجِم الاختلاف، بين الداخل والخارج، بين الأنا والموضوع، بين الذكوري والأنثوي. «إن الإحساس النرجسي بالكمال ينبُع من انصهار الأنا مع الموضوع وكذلك من اختفاء الموضوع والأنا داخل كائنٍ محايد، ليس بالذكوري ولا بالأُنثوي» (المصدر السابق، صفحة ٢٣).

أمَّا العنصر الرابع للنرجسية، فهو المأزق المستحيل الذي يفرضه وجود الموضوع، ما يؤدي إلى حلولٍ تنطوي على انفجارٍ وعنف أو، كما سأشير لاحقًا، انسحاب. ويصف روزولاتو تلك الحالة بأنها وضعٌ عسير يخلق أسيجة؛ لذا، يجد الفرد النرجسي، على سبيل المثال، مساواةً بين الحياة والموت.

وقد أتاح لنا علاج الشخصيات النرجسية فهمًا لأحد أنماط الاكتئاب. «بعيدًا عن كون الحزن هجومًا خفيًّا على شخصٍ آخر يُعتقد أنه معادٍ لأنه يسبب الإحباط، يُشير الحزن إلى أنا بدائيةٍ جريحة، تعاني من الفراغ والنقص» (كريستيفا، ١٩٨٧، صفحة ١٢). إن الحزن هو التعبير الأقدم عن جرحٍ نرجسي بلا مُسمى، لا يمكن التعبير عنه بالرموز، وأبعد ما يكون عن النضج، ما يعوق أي فاعلٍ خارجي (سواء كان الفرد أو الموضوع) عن فهمه.

(١) نص فرويد

يُستخدم مصطلحُ نرجسية في دراسة فرويد «عن النرجسية» (فرويد ١٩١٤) من أجل وصف العلاقة التي يعتبر فيها الفرد جسده هو موضوعه الجنسي. وبناءً على ذلك يمكن أيضًا تركيز الطاقة النفسية على الأنا كموضوع، التي كانت تُعتبر حتى ذلك الوقت قوةً كابتة فحسب. ويرى البعض أن هذا يُجسِّد تثبيتًا للشهوة الجنسية في مرحلةٍ مبكرة من النشأة؛ فالنرجسية هي حالة من العلاقات بالموضوع، يشعر الفرد فيها أن أجزاءً من نفسه هي الموضوع. ونجد في هذه الدراسة ثلاثةَ مفاهيمَ محورية: اختيار الموضوع، والتماهي، ومثل الأنا الأعلى.

تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء؛ في الجزء الأول، يعيد فرويد التأكيد على آرائه حول ازدواجية الدوافع، وفي الجزء الثاني يُناقِش أنواع اختيارات الموضوع؛ أمَّا الجزء الثالث ففيه يطرح للمرة الأُولى فكرته حول مثل الأنا الأعلى.

يبحث فرويد عن أدلة على هذه الحالة الأولية في ثلاثة مصادر: التقارير المكتوبة حول رجلٍ مصاب بالذهان (شريبر)، وملاحظات سلوك الأطفال، وروايات الشعوب البدائية.

يفترض فرويد وجود «تركيز أصلي للطاقة النفسية على الأنا، يُمنَح بعض منه لاحقًا لموضوعات، لكنه يظل ثابتًا في الأساس ويرتبط بتركيز الطاقة النفسية للموضوع كارتباط الأميبا بأقدامها الكاذبة التي تبرزها» (فرويد، ١٩١٤، صفحة ٧٥). وتُدمج هذه الصياغة داخل صياغة فرويد الأُولى للصراع بين الدوافع الذي يعتبره صراعًا بين شهوة الأنا وشهوة الموضوع.٣

تَتمثَّل الموضوعات الجنسية الأُولى في الأشخاص المَعنيِّين بالرعاية الجسدية للطفل. ويشير فرويد، إلى جانب هذا النوع من اختيار الموضوع، إلى النوع «الاتكالي» أو «التعلق» من اختيار الموضوع (يُشير المُصطلَح الأخير إلى تعلُّق الغرائز الجنسية بغرائز الأنا) (المصدر السابق، صفحة ٨٧).

يفرق فرويد بين «النرجسية العادية» (أي شعور الطفل بالتميز ووقوعه في حب نفسه) و«النرجسية المرضية» (الانفصام، وجنون الاضطهاد، والألم الجسماني، ووسواس المرض، والانحراف الجنسي). من الممكن أن يتعرض الجميع لكلا النوعين من اختيار الموضوع؛ كما يشير فرويد إلى أن كل إنسان يملك في الأصل موضوعين جنسيين — نفسه والمرأة التي قامت على رعايته والاعتناء به — وبذلك يقترح فرويد وجود نرجسية أولية لدى كل فرد (المصدر السابق، صفحة ٨٨).

في حالة شريبر يحدد فرويد سمتين هما: الانصراف عن العالم الخارجي وجنون العظمة (للاطلاع على نقاش أكثر تفصيلًا لهذه النقطة، انظر الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب).

يمضي فرويد بعد ذلك إلى مناقشة الطريقة التي ينشئ بها كلُّ فردٍ مثلًا أعلى داخل نفسه يقيس عبره الأنا الخاصة به (المصدر السابق، صفحة ٩٣). ويعتبر فرويد هذا التكوين لمثلٍ أعلى العامل الشرطي للكبت؛ إذ يصبح مثل الأنا الأعلى محَط حب الذات الذي كانت تتمتع به الأنا في الطفولة؛ فهذا المثل الأعلى هو «بديل النرجسية المفقودة في طفولته حيث كان هو نفسه مثلَه الأعلى» (المصدر السابق، صفحة ٩٤). إنه «قوةٌ نفسية خاصة تُؤدِّي مهمة التأكد من أن الإشباع النرجسي من جانب مثل الأنا الأعلى مكفول، وفي ضوء هذه الغاية، تعمل دائمًا على مراقبة الأنا الفعلية، ومُعايَرتها بواسطة ذلك المَثَل الأعلى» (المصدر السابق، صفحة ٩٥). ويشير فرويد إلى أن تكوين مثل الأنا الأعلى ينبُع من تأثير الوالدين البالغ الأهمية.

ينبع تطور الأنا من النرجسية الأولية، وينضوي على محاولة لاسترجاع تلك الحالة. وتُوضِّح هذه الدراسة اهتمام فرويد المتنامي بمسألة العالم الداخلي.

من المهم ملاحظة أن دراسة رجل الذئاب لم تُنشر إلا في عام ١٩١٨، على الرغم من أن علاج الحالة جرى بين عامَي ١٩١٠ و١٩١٤. في هذه الدراسة يُعنى فرويد بالأساس بالعلاقة بين النرجسية والتماهي. لقد طوَّر رجل الذئاب توجهًا جنسيًّا سلبيًّا نحو والده بعدما صَدَّته مُربِّيته. وقد احتل هذا التوجُّه السلبي مكانةً مركزية في مثليَّته الجنسية المكبوتة وتماهيه النرجسي. تشترك حالة رجل الذئاب في العديد من السمات مع حالة شريبر، ويُعتبر التفاعل بين التماهيات الذكورية والأُنثوية إحدى القضايا الرئيسة التي ناقشها فرويد في كلتا الحالتَين (راجع مقدمة هذا الكتاب والفصلين الحادي عشر والثاني عشر). في حالة شريبر، يذهب فرويد إلى أن الشهوة الجنسية تُسحب من العالم الخارجي ثم تُوجه نحو الأنا، وينظر إلى الذُّهان كمحاولةٍ فعلية للتعافي.

سيُواصل فرويد تناوُل موضوع التماهيات في دراسته «الحداد والسوداوية» (١٩١٧ [١٩١٥])؛ حيث سيضيف مزيدًا من التطوُّر إلى مفهومَي الإسقاط والتماهي. إن الشخص السوداوي يعود إلى حالةٍ من التماهي النرجسي مع الموضوع، والعلاقة النرجسية مع الموضوع تتضمَّن إضفاءً للمثالية؛ فتُعامِل الأنا نفسها كموضوع وتنقسم إلى جزأين، أحدهما يثور على الآخر. في هذه الدراسة، خطا فرويد خطوةً ضخمة وبارزة فيما يتعلق ﺑ «تحويل الانتباه إلى الأنا».

وبناءً على ذلك نجد أن في السوداوية يحدث استدماجٌ للموضوع وتماهٍ معه؛ فيلوم المريض الموضوع الذي توحَّد معه الأنا، فيبدو الأمر وكأنه يلوم نفسه.

في كتاب «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» (١٩٢١)، يُطوِّر فرويد مفهوم التماهي وأنواع التماهيات. وفي كتاب «الأنا والهو» (١٩٢٣)، يَصوغ فرويد مفهومًا للأنا صياغةً مُكوَّنة من «تركيزاتٍ نفسية مُهمَلة على الموضوع»؛ فيقول:

في جنون الارتياب الاضطهادي يصُد المريض ارتباطًا مثليًّا بالغ القوة بشخصٍ بعينه بطريقةٍ خاصة؛ ومن ثَمَّ يصبح هذا الشخص الذي يُكِن له كل الحب هو المُضطهِد الذي غالبًا ما يُوجِّه نحوه المريض مشاعرَ عُدوانيةً خطيرة. (المصدر السابق، صفحة ٤٣)

أشار جرين إلى قضيتَين رئيستَين أُثير النقاش حولها تزامُنًا مع نشر الدراسة حول النرجسية وهما: تصوُّر النرجسية عمومًا، والنرجسية الأَوَّلية تحديدًا، والعلاقة بين اختيار الموضوع والنرجسية.

يذهب فرويد إلى أن الأنا لم يكن لها وجود من البداية، وأن «فعلًا نفسيًّا جديدًا» لا بد أن يحدث كي يُؤدِّي إلى نشأة النرجسية، فيما أشار لابلانش إلى أن هذه اللحظة هي لحظةُ اتحاد، ما يقتضي ضمنًا «اكتساب الفرد صورةً لنفسه قائمةً على النموذج الذي يُقدِّمه الشخص الآخر، وتكون هذه الصورة هي الأنا نفسها» (لابلانش وبونتاليس، ١٩٨٨، صفحة ٢٥٦). «بعدئذ تتخذ النرجسية شكل الافتنان الغرامي للفرد بهذه الصورة.» ويربط لابلانش هذه الفكرة «بمرحلة المرآة» لدى لاكان، مشيرًا بذلك إلى أن النرجسية تُصبِح عملية «استدخال لعلاقة»، المشابهة لما أسماه فرويد في كتاب «الحداد والسوداوية» لاحقًا «تماهيًا نرجسيًّا» مع الموضوع. ويستشهد لابلانش وبونتاليس في ذلك بورقة فرويد البحثية الصادرة عام ١٩٢٣: «تُنشِئ الشهوة الجنسية المُتدفِّقة في الأنا بفضل التماهيات … النرجسية الثانوية» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٣٠). «وهكذا تُعتبر نرجسية الأنا نرجسيةً ثانوية نابعة من الموضوعات» (المصدر السابق، صفحة ٤٦).

(٢) مزيد من المناقشات حول البحث

يُحدِّد بارانجر تسعة استخداماتٍ مختلفة لمصطلح النرجسية يمكن تقسيمها لثلاثِ مجموعات؛ المجموعة الأولى تربط النرجسية بتقلُّبات الشهوة الجنسية.

في المجموعة الثانية، يَنصبُّ التركيز على الموضوع في الحالات النرجسية، ويُشير لنوع التماهي في شكله المُستدمَج. أمَّا المجموعة الثالثة، فتتألف من توسيعاتٍ للمصطلح للإشارة إلى التوجُّهات، والمشاعر، والسمات الشخصية الدالة على التقدير، أو نقص التقدير، أو المبالغة في التقدير لجانبٍ من جوانب الشخص (١٩٩١، الصفحات ١٠٩-١١٠).

في فرنسا، اقترح جرونبرجر مفهوم النرجسية البحتة المُجرَّدة من أي عنصرٍ غرائزي (١٩٥٧ [١٩٨٩]، صفحة ١٨٥). في البداية، تُشكِّل الأم والطفل جوهرًا أُحاديًّا تشكله النرجسية؛ وتُؤكِّد الأم نرجسية الطفل، المحمية من الصراع. إن نرجسية الطفل في الأساس هي نرجسية الأم، وهذا يُؤكِّد أهمية نظرة الأم المُحدِقة وأهمية التأمُّل. يُشير جرونبرجر كذلك إلى أصول النرجسية التي تعود إلى مرحلةِ ما قبل الولادة، كحالةٍ من السعادة المثالية، أو السلطة المُطلَقة أو القدرة الكلِّية، وهي حالةٌ يَتمنَّى الطفل العودة إليها (المصدر السابق، صفحة ١٨٧).

في أمريكا، عمِل كيرنبرج على مفهوم الشخصيات النرجسية، وأشار إلى أن الشخصية النرجسية تمتلك مفهومًا ذاتيًّا مُدمجًا، وهو مفهومٌ مَرَضي وينطوي على وهمٍ بالعظمة، وتفتقد للاندماج والتكامُل مع الأشخاص الآخرِين المُهمِّين في حياة الشخص، وهو ما يُشير إلى أن الدفاعات الأولية قيد العمل، وخاصة القُدرة الكلية وانتقاص القدْر.

تميل السمات البنيوية للظهور ببطء، متمثلة في سطحية غريبة أو عدم توافُر وصف مُفصَّل للآخرِين المُؤثِّرِين في حياة الشخص.

أشار جرين إلى أن النرجسية أحدُ أشرسِ أشكالِ مقاومة التحليل: «أليس صحيحًا أن الدفاع عن الفرد يَتضمَّن، بطبيعة الحال، رفضًا للاوعي؛ إذ يشير الأخير ضمنيًّا إلى وجودِ جزءٍ من النفس يتصرف بما يتماشى مع مصالحه الخاصة، معترضًا بذلك طريق إمبراطورية الأنا؟» (٢٠٠١، صفحة ٩).

في مَعرِض نقاشه لمصير مفهوم النرجسية في أعمال فرويد، يُشير جرين كذلك إلى الارتباط المحتمل بين النرجسية وغريزة الموت: «إن التحوُّل الذي يطرأ إذن على الشهوة الجنسية للموضوع … إلى شهوةٍ جنسيةٍ نرجسية (إذ تنتحل الأنا سماتِ الموضوع لكي تحلَّ محلَّه بعد فقدان الهو)، إنما يُلمِّح بوضوح إلى تخلٍّ عن الموضوعات الجنسية، أو تجريدٍ من الخصائص الجنسية، ما يُعد إذن نوعًا من التسامي» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٣٠، مقتبس في جرين، ٢٠٠١).

إن ما يُؤكِّد عليه جرين باقتباس الفِقرة السابقة أن عملية التجريد من الخصائص الجنسية التي لاحظها فرويد في مثل هذا التسامي هي عمليةٌ تحذو حَذو غريزة الموت، مشيرًا إلى أن ثَمَّةَ بضعةَ جوانب للنرجسية، على الأقل، ربما تتبع حَذْو مقاومة الشبق التي تتضمنها الغريزة التدميرية.

«لمَّا كان فرويد قد انتهى إلى أن التسامي يحدُث بانتظام داخل الأنا، يمكننا استنتاج أن عملية التجريد من الخصائص الجنسية المترتبة على التسامي وعملية التفكيك المُضادَّة يحدثان أيضًا، ولو جزئيًّا على الأقل، داخل الأنا.» وقد كتب فرويد (١٩٢٣) بوضوح شديد قائلًا: «تعمل الأنا في اتجاهٍ مُضادٍّ لأغراض الغريزة الجنسية وتضع نفسها في خدمة الدوافع الغريزية المُضادة» (صفحة ٤٦).

أشار فرويد، وفقًا لجرين، إلى أن نرجسية الأنا هي نوعٌ ثانوي من النرجسية ارتدَّت من الموضوع، «لكنه لم يعُد صراحةً إلى موضوع الطاقة المتسامية باعتبارها مرتبطةً بالنرجسية وتخدم الدوافع المضادة للغريزة الجنسية. وأعتقد أن علينا تفسير مقولته الأخيرة عن النرجسية كمقولةٍ شاملة جامعة تتضمن عناصرَ تحتاج للمزيد من التحليل الوافي» (جرين، ٢٠٠٢، صفحة ٦٣٦). ونستشهد هنا بجرين:

لقد تَوصلتُ إلى افتراض مفاده أنه منذ وقتِ ظهور آخرِ نظرياتِ فرويد عن الدوافع، كان علينا أخذ احتماليةِ وجودِ نرجسيةٍ مزدوجة في الاعتبار: نرجسيةٍ إيجابية، والتي تهدف للوصول للوحدة؛ وهي نرجسية تهدف للتفرُّد والوحدانية، بما يعني تغذية التركيز النفسي للذات، ولو جزئيًّا على الأقل، على حساب التركيز النفسي للموضوع؛ ونرجسيةٍ سلبية تكافح للوصول للمستوى صفر وتتجه نحو العدَمية وتتحرك نحو الموت النفسي. ولا يمكن استيعاب هذا التمييز بتبسيطٍ مُفرِط من خلال الاختلافات والتمايُزات المعتادة بين النرجسية الصحية والنرجسية المرضية. ربما يكون وجود اختلالٍ لصالح النرجسية أمرًا إيجابيًّا، ولكنه يظل مَرَضيًّا؛ لأنه يضعف العلاقات مع الموضوعات المُوجَّهة نحوها مشاعر الفرد. غير أنها أقل تدميرًا من النرجسية السلبية التي تهدف للإضعاف الذاتي للفرد وصولًا إلى درجةٍ أقرب إلى الفناء. (جرين، ٢٠٠٢، الصفحات ٦٣٦-٦٣٧)

سأتفق مع جرين في أنه بدلًا من الدخول في جدالٍ لا طائل من ورائه يتضمن قضايا نشوئيةُ تتعلق بمفهوم النرجسية، وبدلًا من الوقوع في مصائدِ علم الوراثة، سيكون من الأنفع كثيرًا تحديد «كيفية تنظيم التكوينات التحليلية المختلفة؛ وإدراك طبيعةِ ترابُطها الداخلي» (٢٠٠٢، صفحة ٦٣٧). يجب التفريق بين الجانب النرجسي لأي علاقةٍ تحليلية، وتحديد التحويل النرجسي في مختلف أنواع علوم الأمراض النفسية.

في ورقةٍ بحثيةٍ سابقة (بيرلبِرج، ١٩٩٩)، قارنتُ بين نوعَين من التكوينات النرجسية، التي أَودُّ استكشافها على نحوٍ أعمق في الفصل الحالي. في النوع الأول، يُقابل تعصُّب الآخر وحساسيته المُفرِطة بالطرد والعنف. في النوع الثاني، يُقابَل بالانسحاب. في هذا البحث، سأُقارِن بين مرضى يُظهِرون سلوكًا عنيفًا جليًّا ومرضى لا يُظهِرون هذا السلوك، لكنهم، على الرغم من ذلك، يُظهِرون خلفياتٍ تاريخية مشابهة، وهو ما قد يقود لتوقُّعِ حدوثِ عنف. هم كذلك مختلفون أَشد الاختلاف فيما يتعلق بما يُثيرونه في التحويل المُضادِّ للمشاعر.

من ناحية، ثَمَّةَ مرضى «يملئون» غرفة الكشف، ليس فقط بعواطفهم وأفعالهم، بل كذلك بكلماتهم وأحلامهم وتداعي خواطرهم وأفكارهم؛ حتى إن المرء لَينتابُه إحساس «كما لو كانت ثَمَّةَ وفرةٌ مُفرِطة من التمثيلات تُهيمِن على غرفة الكشف.» إن التجربة هنا تتلخص في أن المُحلِّل «يندمج على نحوٍ مفرط» في عالم المريض؛ إذ يكون لدى المرضى أحلامٌ تُشير مباشرة للمُحلِّل ويشعر دائمًا بأنه منهمك على نحوٍ مُبالَغ فيه في تحليل المريض.

من ناحيةٍ أخرى، ثَمَّةَ مرضى يخلُقون «مساحةً شاغرة» في غرفة الكشف؛ فرَدُّ الفعل الذي يُثيرونه هناك هو عدمُ وجودِ سلسلةٍ من التداعيات لدى المُحلِّل، وهو نوعٌ من المشاعر الكئيبة يبقى حتى بعد مُغادرتِهم. ربما يُحضر المريض معه أحلامًا وتداعيات، لكنها لا تَتردَّد في عقل المُحلِّل؛ ومن ثَمَّ تُصبِح التجربة تجربةً من الجفاف والندرة في الذكريات ربما تترك لدى المحلل — في بعض الأوقات — «إحساسًا بالإقصاء من عالم المريض الداخلي»؛ فالرغبة الجنسية، بحسب تعبير جان كورنو (١٩٧٥)، لا تتحدث وحتى الموت يكون أكثر صمتًا من المُعتاد.

أَودُّ الإشارة إلى أن الفئة الأُولى من المرضى يُبدون قناعة «بتطفُّلهم» على المشهد الجنسي الأَوَّلي، بينما تُشير الفئة الثانية إلى «عدم قدرة» على تخيُّله؛ فكلا الفئتين تنكر، بطرقٍ مختلفة، المشهد الجنسي الأَوَّلي واستبعاده منه.

يتواصل هذان النوعان من المرضى من خلال الكلمات وكذا الأفعال، ورغم الاختلافات بينهما، فإنهما يتشاركان تجربةَ شيء «لا يمكن تمثيله» في عالمهما الداخلي ويشغل كلاهما مساحة ربما يُنظَر إليها كمساحةٍ تقع «بعد» أو «قبل» النطاق التحليلي التقليدي للتمثيلات. والسبيل الذي يمكن للمُحلِّل من خلاله فهم كلا النوعَين من المرضى إمَّا عبر التحويل المُضاد للمشاعر، أو بأسلوبٍ مختلف، من خلال عاطفة المُحلِّل، بل إن بيون أشار في الواقع إلى أن التفسير الذي يُقدِّمه التحليل النفسي يجب أن يُعرِّف أي موضوعٍ في إطار عوالم «الإدراك والخرافة والعاطفة» (١٩٨٤، صفحة ١١).

يَتنقَّل العديد من المرضى بين هذَين النوعَين من التجارب. كلنا نعلم ذلك النوع من المرضى الذين يملئون الجلسة العلاجية لكي يُفرِغونها، أو أولئك الذين يملئون الجلسة بإحساسهم بالخواء والفراغ. غير أن كلا النوعَين من المرضى اللذَين أَشرت إليهما ربما يعملان كنموذجَين للتفكير في تأثير هؤلاء المرضى داخل غرفة الكشف.

(٢-١) روبرت

تَواصَل معي روبرت لأَوَّل مرةٍ من خلال رسالةٍ أخبرني فيها بقصةِ حياته، وأَرفَق مع الرسالة لوحةً شخصية له رُسِمت قبل سنواتٍ طويلة مضت. لم يكن يشعر بأنه قادر على ممارسة الرسم؛ كونه رسَّامًا، خلال السنوات العشر الأخيرة. كان روبرت ينحدر من عائلةٍ إيطالية فنية من الطبقة المتوسطة العُليا لديها ثمانيةُ أطفالٍ قَرَّر هجرها. كان والده وشقيقته فنانَين ناجحَين، وكذلك والدته قبل أن تُصاب بسلسلةٍ من الانهيارات العصبية أدت لإدخالها المصحَّة عدة مرات. كانت والدته تُمارِس العنف ضد أطفالها في طفولتهم، وكان الأبُ غائبًا وليس له دورٌ فعَّال. أثناء قراءة رسالته المكتوبة جيدًا والجاذبة للانتباه، راوَدَني شكٌّ بشأن الموقع الذي كان روبرت يرغب في وضعي فيه؛ فلم يكن الأمر قصةً رواها في وجودي وهو ما كان سيسمح ببعض النقاشات بيننا، فكان عليَّ أن أقرأ ما كتبه خارج سياقِ تفاعُلٍ حقيقي بيننا.

في هذه الرسالة، بدأ روبرت أيضًا يُطلِعني على بعضٍ من مواجهاته العنيفة؛ فقد انهارت علاقته بحبيبته بعد تصاعُد عنفه تجاهها، كما أَقدَم على الانتحار مرتَين. كان أكثر ما جذب انتباهي في رسالته الطويلة المُفصَّلة هو تعامُله مع تجربته مع الإحباط ومعركته العميقة ضد مشاعر اليأس والقنوط.

بعد ذلك اتصل بي روبرت ورتَّبنا لاستشارةٍ أَوَّلية. دخل روبرت، وكان رجلًا وسيمًا في أوائل الثلاثينيات، الغرفة يملؤه شعورٌ بالحيوية الجنسية المغرية، لكنه أيضًا استطاع بالكاد إخفاء خوفه مني. وسرعان ما انتابني خاطرٌ بأنه يشعر بالارتباك بخصوص هذا اللقاء، وأنه ربما يشعر بأنها مشهدُ إغواء. وبالفعل، استمر روبرت على مدى النصف الأول من الجلسة في إخباري عن دخوله علاقاتٍ غراميةً متعددة مع نساء يكبرنه سنًّا لم ينجح في الحفاظ عليها إلا لفتراتٍ قصيرة من الوقت. ظننتُ أن من المهم التعامُل مع ارتباكه في البداية، وسرعان ما أَعلَمتُه أنني ظننتُ أنه كان مرتبكًا بشأن ما أَتوقَّعه منه، فهدأ بشكلٍ واضح واضطجع مُسترخيًا في المقعد، وحينها واتَتْه القدرة على إخباري بألمه الشديد لعدم قدرته على الرسم منذ مدةٍ طويلة، وأن حياته مليئةٌ بالمواجهات العنيفة التي خاضها منذ أن توقَّف عن الرسم. وعبَّر روبرت عن قلقه وعدم يقينه حِيال المستقبل وحِيال تجربته حتى إنه قد يُقدِم يومًا ما على إنهاء حياته لوضع حدٍّ لهذا العذاب.

فيما يلي وصفٌ لنوبةٍ عنيفة كشف عنها أثناء تلك الجلسة؛ أثناء زيارةٍ قام بها مُؤخرًا إلى إيطاليا، كان ينتظر امرأةً لتُنهي محادثتها الهاتفية في كابينة للهاتف، واستَغرقَت أكثر مما يمكنه انتظاره. فجأةً وجد نفسه يُهاجم الكابينة مُحطِّمًا إياها وأَلحَق إصابةً بالسيدة التي فرَّت بدورها في هلع، بينما انتابه ذُعرٌ شديد من مدى العنف الذي أَظهرَه.

وهكذا بَرزَت معضلة في بداية عملنا معًا. هل سيقدر على احتمال المساحات والفواصل والإيقاعات المختلفة المُتأصِّلة في عملية التحليل النفسي؟ استطاع روبرت فهم هذه الأسئلة وتناوَلَها بالتفصيل، وأتاحت لي تجربتي معه وملاحظتي أنه مُدرِك ليأسه أن أُقرِّر إخضاعه للتحليل.

بدأنا العلاج الأسبوع التالي. وفي أول جلسة له، جاءني روبرت يروي الحُلم التالي: «كان هناك بيتٌ جميل، أجمل بيت يمكن للمرء تخيُّله، مُحاط بحدائقَ وارفة غنَّاء ومليء بأعمالٍ فنية ولوحاتٍ شهيرة. كان البيت فسيحًا للغاية، وكل غرفةٍ تقود للتالية. غير أنه كان مُحاطًا بزجاجٍ لا يمكن اختراقه ولا يسع المرءَ إلا الإعجابُ به من الخارج فقط.»

أصبح هذا الحلم، بالتداعيات التي سبقَته وتلَته، نُموذجًا للطبقات المُتعدِّدة التي ينطوي عليها تحليل روبرت. وسرعان ما خَطَر ببالي تجربتي مع رسالته، ورغبته في نيلِ إعجاب الآخرين مثل المنزل الجميل المليء بالأعمال الفنية والذي ترك نفسه والآخر خارجه. إن الإضفاء النرجسي للمثالية على ذاته ينطوي ضمنًا على انسحابٍ من الواقع الخارجي نحو موضوعٍ داخلي أُضفِيَت عليه المثالية. واللافت للنظر في هذا المثال الإشارة إلى السمات الأربعِ التي حدَّدها روزولاتو: الانسحاب الشهواني من عالم الموضوعات الحياتية، وإضفاء المثالية الذاتية، وهو ما ظهر بالفعل في اللوحات الشخصية التي أَرسلَها لي روبرت، والتركيز على العلاقة مع توءمٍ مثالي (إذ كان قد أرسل لي لوحتَين بالفعل)، والمعضلة المستحيلة التي نَشأَت في العقل، والمأزق المستحيل الذي يفرضه وجود الموضوع، والذي يُؤدِّي لحلولٍ تتضمن العنف والانفجار (كما في واقعة كابينة الهاتف).

بالنسبة إلى روبرت، وهو ما تَجسَّد في هذا الحلم، لم يكن ثَمَّةَ تواصُلٌ حيٌّ بين الداخل والخارج، بين عالمه الداخلي والواقع الخارجي. كان كل شيء إمَّا محبوسًا أو حرًّا طليقًا.

لقد كُنا نعود مرارًا إلى هذا الحلم أثناء عملنا معًا. كان المنزل كذلك يُمثِّل جسدَ أُمٍّ كان يراها غير معطاءة وعديمة الإحساس. وأيُّ تواصُل كان لا بد أن يكون نتيجة اختراقٍ عنيف (كما حدث مع كابينة الهاتف)؛ وبالطريقة نفسها كان ينظر إليها كشخصٍ مُتطفِّل على حياته بالشكلين؛ النفسي (بنوباتها الذُّهانية)، والجسدي (بالوقائع العديدة للعنف الجسدي). أخيرًا، كان الحُلم يُمثِّل خوفه من أنه أيًّا كان ما سيُنتجه فسيظل محبوسًا داخله. كان خوفه مما يحتويه جسدُ وعقلُ والدته المضطربة عقليًّا يُمثِّل جوهرَ ما كُنا نستكشفه أثناء تحليله.

كان حُلم روبرت الأول بالنسبة إلينا بمنزلةِ خريطةٍ كُنا نرجع إليها لفهم الكثير عن تطوُّر العلاقة التحليلية. كان المطلب الضمني لروبرت هو أنني يجب عليَّ الإعجاب به دون محاولة الانخراط في تواصُلٍ مُبالَغ فيه معه. كان يأتي للجلسات العلاجية مُحمَّلًا بأحلام وأفكارٍ مُفعَمة بالحيوية وتداعياتٍ وتفسيراتٍ تتعلق بها. وكان يبذل جهدًا جبَّارًا سواء في الجلسات أو خارجها فيما يخص هذه الأفكار والتجارب والانطباعات العديدة. كان مطلبه الأساسي ببساطة هو أن أُظهِر إعجابي به وبعمله دون تَدخُّل. لقد أصبحتُ خارجَ المنزل. كانت النقطة المثيرة بالنسبة لي في أسلوبي في التعامُل مع روبرت أن هذا ما كنتُ أفعله في الأساس لفترةٍ من الوقت، مُدرِكةً أن هذا ما كُنتُ أفعله؛ فقد كانت تعليقاتي وتأويلاتي، خاصة في البداية، نادرةً بالفعل رغم شعوري بحضوري القوي معه في الجلسات. كنتُ مُدركةً أن التفاعل معه أمرٌ لا يُحتمل بالنسبة إليه وأن التفاعُلات التي لا يُطيقها هي ما قادته إلى العنف.

بِبطءٍ شديد، تَغيَّر خوفُ روبرت من نشوءِ علاقةٍ بيننا وصار بالإمكان أن يكون ثَمَّةَ طريقةٌ مختلفة للتواصُل معه خلال الجلسات؛ نوعٌ من الحوار يمكن صياغته بسهولةٍ أكبر في كلماتٍ يمكنه تحملُّها. حتى وقتٍ قريب، كانت حياته الجنسية منحلَّة حيث كان منخرطًا باستمرارٍ في علاقاتٍ جنسية مع عدة نساء — يكبرنه سنًّا — في آنٍ واحد. كانت هذه العلاقات تُمثِّل محاولاته للشعور بالانخراط المستمر في مشهدٍ جنسيٍّ أَوَّلي متواصل يستطيع فيه الإمساك بزمام السيطرة (أي الدخول في العلاقة ثم التخلي عنها)، وفي الوقت نفسه، النأيَ بذاته عن أي علاقةٍ حميمية.

بعد مرور حوالي ثمانية عشر شهرًا من جلسات التحليل، دخل روبرت في علاقةٍ عاطفية مع فتاة، وبعد عامَين من بدء التحليل، عاود الرسم مرةً أخرى. وقد عبَّر عن الصراع الذي كان يُواجهه تعبيرًا واضحًا وحيًّا عندما أراد أن يُهديني أول لوحةٍ استطاع رسمها بعد فترةٍ طويلة من الانقطاع. وأتاح رفضي لقبولها ودهشته الشديدة لهذا الرفض أن يؤمن إيمانًا كاملًا، ربما لأول مرة، أن عملنا معًا كان لصالحه في الأساس، وبدأ يُشارك في مَعارضَ ومُسابقات، وفاز بجائزةٍ مرموقة في إيطاليا. وهكذا تَغيَّرت نوعية أحلامه تدريجيًّا.

في أحد أحلامه الأخيرة التي جاءني بها، «كان روبرت في المطبخ يطهو بصحبة حبيبته، ثُمَّ ذهبا في تمشيةٍ طويلة في حديقةٍ جميلة مليئة بأزهارٍ نادرة وغريبة.» كان روبرت في ذلك الوقت قد تَلقَّى عرضًا للعمل مُدرسَ رسمٍ في بلدةٍ صغيرة في إيطاليا، وهو ما كان سيُتيح له وقتًا لتطوير رسمه، وذَهبَت حبيبته معه. كان جانبٌ ما من علاقته بي ما زال يُنظَر إليه كأمرٍ مثالي، لكن عندما رَحلَ كان ثَمَّةَ إحساسٌ بأنه سيستطيع الاستمرار في العمل الذي بدأناه.

(٢-٢) مايكل

مايكل شابٌّ ألماني جاء لجلسات التحليل النفسي بعد محاولةِ انتحارٍ جِدِّية أدَّت لإيداعه المستشفى. وُلِد مايكل كفيفًا وظل كذلك أول سنتَين من عمره، ثم أتاحت سلسلةٌ من العمليات له الإبصار مرةً أخرى. قضى مايكل طفولته في ارتباطٍ جسدي شديد مع والدته، وعاش مُحاطًا بحماية والدَيه اللذَين كانا في شدة القلق عليه بسبب موقفه الطبي، فنشأ طفلًا خجولًا شديد التعلُّق بوالدته وخائفًا من العالم عمومًا. كان يشعر بأن المصدر الأساسي للتحفيز الفكري هو والده الذي اعتاد القراءة له كثيرًا، وأَصرَّ لاحقًا أن يقرأ مايكل له. ومنذ مرحلةٍ مُبكِّرة من عمره، كان فكره المُتَّقد واضحًا، وتَفوَّق في المدرسة.

كبِر مايكل وحظي بمسيرةٍ عملية متميزة في الوظيفة التي اختارها. كان مايكل في البداية خجولًا في التعامُل مع الفتيات ثم النساء، لكن في أوائل مرحلة الرشد، أخذ عُنفُه في علاقاته مع النساء يزداد تدريجيًّا. وكان من الممكن أن يتحول من العنف تجاه الفتيات إلى ظهورِ دوافعَ انتحارية. في آخر علاقةٍ طويلة الأمد له مع امرأة قبل البدء في جلسات التحليل، حدث عنفٌ شديد أَنهَت على أَثَره العلاقة بينهما. أدت محاولةُ مايكل للانتحار إلى دخوله المستشفى وظل نزيلًا في مُستشفًى للأمراض النفسية خارج لندن لشهورٍ عديدة، وبثَّت هذه التجربة الخوف في نفسه وقرَّر السعي للحصول على المساعدة.

كانت تجربتي مع مايكل في أَوَّل استشارة لنا تجربةً متناقضة؛ فمن ناحية، استطعتُ الوقوف على القوة الفكرية التي سَمحَت له بالنجاح في عمله وأسلوبه المُباشِر المُتحدِّي وشبه العدواني في التحدُّث معي، وهو ما جاء مُتناقضًا مع إحساسه بالضعف والارتباك تجاه ذاته وعلاقاته بالآخرين. غير أن أكثر ما أَثَّر فيَّ ودفعني لأعرض عليه الخضوع للتحليل النفسي كان اختباري لإحساسه بمدى الضررِ النفسي بداخله، وفقدانه للثقة في أن ثَمَّةَ من يجرؤ على العمل معه من أجل استكشاف الألم والظلام الطاغيَين على عالمه الداخلي.

كان مايكل رجلًا طويلًا أسمر اللون في أوائل الثلاثينيات، وكان ينتابه حُلمٌ مُتكرِّر منذ الطفولة: «كان يرى شاشةً بيضاء كبيرة أمامه. فجأة يظهر حيوانٌ أسود يندفع عبر الجزء السفلي من الشاشة أو نقطةٌ سوداءُ ما اندَفعَت عبر الشاشة وأَتلفَتها.» كان هذا الحلم يُرعبه. وتَذكَّر أنه كان يراه بينما كان في المستشفى بعد إجرائه عمليةً جراحية في عينه. كان الحلم يُشعره بالغثيان آنذاك، وكان ما زال يشعر بأنه مريض عندما كان يرى الحلم رغم أنه نادرًا ما يراه الآن. وعلى مدى جلسات التحليل استطعنا فهم جزءٍ من معنى هذا الحلم، وإن كان أعظم رؤية له جاءت بعد حدثٍ في إحدى الجلسات أدى لجلب الحُلم على نحوٍ دراماتيكي داخل دائرة التحويل. كانت الشاشة البيضاء ترمُز إلى الثدي المثالي؛ ذلك العالم الخالي من العقبات أو المثالب التي كنا نُواجهها حتمًا في خِضم تقلُّبات مرحلة العلاج.

ثَمَّةَ حُلمٌ آخر سرده مايكل في أول جلسة وهو حُلمٌ كان يشعر بأنه أحدُ أكثرِ الأحلام التي رآها إزعاجًا على الإطلاق: «كان يجلس في غرفة، وكان هو إلهًا داخل تلك الغرفة. كان هناك حادثُ سيارة ومهدُ طفل. كانت لديه القوة، بوصفه إلهًا، على تقرير ما إذا كان ذلك الرضيع سيعيش أم سيموت، وقَرَّر أن الرضيع يجب أن يعيش. ظلَّت الأحداث تَتكرَّر في حلقةٍ مفرغة وكان هو في الأعلى ينظر إلى كلِّ ما يحدث، ومرةً أخرى كان في موضعٍ يتيح له تقريرُ ما إذا كان الطفل الرضيع سيموت أم سيعيش. في النهاية، قرَّر أن الطفل سيموت.» استيقظ مايكل في منتصف الحلم وشعر بالخوف حقًّا وأراد العودة إلى الحُلم لكي يدع الطفل يعيش.

في تلك الجلسة، تحدَّثتُ إليه عن الوضعَين المُستحيلَين اللذَين يحويهما الحلم: الأول هو أنه كان إلهًا وهو ما يشير إلى جزءٍ كليِّ القدرة داخله له سلطة الحياة والموت على جزءٍ آخر من ذاته كان يراه طفلًا عاجزًا. الوضع الآخر هو كونه طفلًا عاجزًا؛ نفسٌ شهوانية طفولية مصيرها في يدِ شخصٍ بالغ القدرة. كنتُ أظن أنه يخشى أن هذا كلُّ ما سيحصل عليه من جلسات التحليل. أنا كذلك كان يمكن أن أكون في وضعٍ واحد فقط من الوضعَين: إله أو طفلٍ عاجز سألقى مصيري على يد ذلك الإله. كان مايكل خائفًا مما يمكن لأحدنا أن يفعله بالآخر. لم أستطع إغفال أن حتمية الموت كانت موجودةً منذ بداية هذه القصة.

خلال الأشهر الأولى، كان القدر المناسب من التواصل أمرًا جوهريًّا في جلساتنا: فإذا أَقللتُ من الحديث يصمت مايكل وينطوي على نفسه ويُصبِح هامدًا شبه فاقد الوعي؛ وإذا أسرفتُ، يشعر بأن هناك من يَتطفَّل عليه وينتابه الاضطراب. لقد كان التفاعُل بيننا يتطلب إيقاعًا مُحدَّدًا انخرطنا بموجبه معًا انخراطًا قويًّا، وأثار هذا بداخلي أفكارًا بشأنِ إيقاعٍ كان يجب أن يكون حاضرًا في تفاعُلاته مع والدته وهو طفلٌ صغير. لقد كانت علاقةً لم يستطع الطفل وأمه النظر أحدهما إلى الآخر من خلالها، وكان التواصُل الجسدي والصوتي يبدو لي شديدًا.

ظَهرَت أبعادٌ زمنية أخرى ببطء لدى مايكل. في سن المراهقة، كان عقله مليئًا بخيالاتِ عنفٍ واعية، وفي بداية مرحلة الرشد، انخرط في علاقاتٍ عنيفة مع عشيقاته وأقرانه. لقد كان يُحاول من خلال العنفِ ممارسةَ السيادة والسيطرة على عالم كان يراه مُخيفًا ولا معنى له. بعد مرورِ بضعةِ أَشهرٍ من جلسات التحليل، بَدأتُ أُدرك أيضًا كمَّ ما يُعانيه مايكل، خلال تحويل المشاعر، من لبسٍ بين الحميمية والجنسانية. لقد كان يَتنقَّل بين خيالاتٍ كليَّة القدرة بأنه قد أغواني لأُصبِح مُحلِّلته النفسية من ناحية، ورعب الهجران من ناحيةٍ أخرى.

كانت الجلسة التالية بعد مُرورِ بضعةِ أسابيع قبل إجازة الصيف الأُولى. شَعَرتُ برعب مايكل من العطلة القادمة وأخبرتُه بذلك، وكان ردُّه بمقولة: «كل إنسان يقتل الشيء الذي يحبه.»٤ صاحَبَ هذا شعورٌ بالقشعريرة كان ينتابني خلال التحويل المضاد. شَعرتُ لبرهة بخوفٍ شديد لا تفسير له. وخيَّم صمتٌ طويل ثقيل الوطء قطعه مايكل في النهاية بقوله إن لديه شعورًا غريبًا بأن فكَّيه جافَّان. كان هذا الإحساس الذي كان عادةً ما يُصاحب حُلم الشاشة البيضاء التي كانت تتعرَّض للتآكل والتلف. لم يكن قد شعر بهذا الإحساس منذ وقتٍ طويل، حتى إنه نسي أن الحُلم كان يصحبه هذا الشعور. وهكذا اكتَملَت تجربةُ اختبار القوة الحقيقية للضرر والقتل والانتحار خلال تحويل المشاعر. كانت هذه الجلسة قبل عطلة، وكُنا نواجه، على مستوًى مختلف، تجربة الظلام الوشيك الحدوث قُبيل انفصال تركه في الظلام. وقد أَخبرتُه بهذا التفسير.

جاءني مايكل بحُلمٍ آخر في الجلسة التالية: «دخل مبنًى حيث تُوجد مكتبةٌ مليئة بالكتب. كانت داخل متحفٍ للجريمة على الطراز الفيكتوري. كان هناك رجل يعمل طبيبًا سيقوم بإجراء عمليةٍ جراحية لسيدةٍ تعاني من كسرٍ في الساق. استغرقت العملية خمسين دقيقةً حيث قتلها خلال تلك الفترة، مستبدلًا بها امرأةً أخرى لديها كسرٌ في الساق أيضًا؛ لكيلا يشُكَّ أحدٌ فيما حدث. غير أنه كانت تُوجد دلائلُ كافية لمن يستخدم الطرق الحديثة في التحقيق للوصول إلى الحقيقة. كان مايكل يشاهد ما يحدث وحاوَلَ الهرب؛ فركض إلى طابقٍ آخر وظلَّ يُحاول الهرب بالركض بعيدًا ثم استيقظ.»

لا يمكنني سردُ تفاصيل الجلسة بالكامل ضمن هذا الفصل. لكن عندما أخبرني مايكل بالحُلم، تَذكَّرتُ على الفور الخوف الذي تَوغَّل بداخلي في الجلسة السابقة، وظننتُ أنه على وشكِ إيقاف الجلسات بسبب خوفه من التدمير الملموس سواء بواسطتي أو بواسطته. غير أن أكثر ما أدهشني خلال سرده للحُلم كان أسلوبه البطيء والرتيب في السرد ذي الطابع التنويمي، الذي يتعارض مع كلٍّ من المحتوى المخيف لحلمه والطابع الحاد المعهود لتفاعُلنا معًا في الجلسات. انتظرتُ، وبعد فترةٍ استمر مايكل في سرد المزيد والمزيد من التفاصيل، واصفًا النوافذ الزجاجية وخِزاناتِ الكتب في المكتبة وهي تفاصيلُ ثانويةٌ مقارنةً بالأحداث الأساسية للحُلم. صرَّحتُ بإحساسي بانفصاله عن الحُلم خلال الجلسة ووافقني الرأي، رغم أنه استيقظ مُرتعبًا. وبَرزَت هذه السمة الانفصالية كذلك في محتوى الحلم نفسه (على سبيل المثال، مشاهدته للأحداث كمراقب، ووقوع هذه الأحداث داخل متحف). أَخبرتُ مايكل أنني أشعر بأن هذا الحلم كان مخيفًا له أكثر مما ينبغي، وأنه لم يستطع فهمه. كان يبدو أنه يفهم هذا ويفهم كذلك فكرة أن رُعبه من الضرر الذي شَعَر أن أحدنا قد يُسبِّبه للآخر كانت حاضرة كذلك في الجلسة.

كان الحُلم يحكي مشهدًا أوليًّا بين امرأةٍ مُحطَّمة مخصية، اتضح أيضًا في النهاية أنها مزيفةٌ لأنها كانت مجرَّد بديلٍ لامرأةٍ أخرى ميتة، وبين قاتل. شَعَر مايكل أن هذا اللقاء مشابه لما يحدث في الجلسات بيننا؛ ففي الحلم، هرب المريض رغم أن جانبًا إيجابيًّا يمكن العثور عليه في فكرةِ وجودِ دلائلَ كافية لمحققٍ حديثٍ لاكتشاف ما حدث فعلًا؛ أي اكتشاف حدوث القتل والإخصاء. وبمجرد أن بدأ مايكل في الارتباط بي وبتحليله أكثر وبدأ في اكتساب معرفةٍ بذاته، أصبح مُهددًا من ذاته وهدَّد هو ذاته بارتكاب جريمةِ قتلٍ في حلمه. وعندما بدأ في الوقوع في حُب مُحلِّلته النفسية، كان عليه قتلُها (كل إنسان يقتل الشيء الذي يحبه)؛ لأنها لو أحبته، فسيكون هذا بسبب أنها كانت متحالفة مع الجزء القاتل من ذاته؛ وهكذا ستكون مساعدتها زائفة. على مدى بعض الجلسات التي تلت هذا الحلم، أَصبحَت معضلة مايكل واضحة: لقد كان يخشى أن الطريقة الوحيدة لِتجنُّب الضرر رُبما تكمُن في الهروب، وأن عليه قتلَ التحليل بدلًا من أن يقتله التحليل.

لم يمنع ما قُمنا به معًا تجاه هذا الحُلم والاضطرابات الكامنة خلفه مايكل من ترك جلسات التحليل؛ فلم يأتِ إلى الجلسات في الأسبوع التالي، وكان الأسبوع الأخير قبل عُطلة الصيف. راسلتُه قائلةً إنني أتفهم أسباب شعوره بالحاجة للابتعاد، لكني سأُبقي الجلساتِ مفتوحةً له حتى أسبوع بعد نهايةِ عُطلة الصيف.

وعاد مايكل بعد الصيف واستطعنا الاستمرار في العمل معًا لبضعِ سنواتٍ تالية. ومع تقدُّم التحليل، أَصبحَت الحياة طبيعيةً أكثر إلى حدٍّ ما.

وهكذا، كان التحليل خلال السنوات القليلة الأُولى يتسم باحتماليةِ وقوعِ أذًى بيننا في شكلِ عنف، أو انهياراتٍ عصبية، أو حوادثَ وخاصة في عُطلات نهاية الأسبوع والإجازات. وبمرور الوقت فُهِم هذا وأُدخِل في لغة تحويل المشاعر وأَصبحتِ الكلمات تدريجيًّا وسائط للأفعال.

خلال إحدى الجلسات بعد مرور عامٍ تقريبًا على حُلمِ متحف الجريمة، حلم مايكل بأنه «سيُطرد من العمل بسبب انتمائه لمنظمةٍ فوضوية تُدعى «شاتوبريان» (نوع من الطعام يتكون من شرائح اللحم).» وقد أدَّتِ التداعيات المرتبطة بهذا النوع من الطعام إلى أفكارٍ تتعلق بالترف والوفرة؛ وجبةٍ لذيذة يمكنه الآن الربط بينها وبين التحليل والمجيء للجلسات. لقد كان يظُن أنني فرنسيةٌ بسبب لهجتي وسيارتي الفرنسية الصنع وكتابٍ فرنسي رآه في غرفة الاستشارات الخاصة بي. كان ينظر إليَّ كمن يُدخل الفوضى والرغبة إلى عالمٍ كان ينظر إليه في السابق كعالمٍ بيروقراطيٍّ واستبدادي في الأساس.

لم يُحاوِل مايكل الانتحار مُجدَّدًا بعد بداية التحليل. وعندما وصلنا إلى نهاية العلاج، كان في علاقةٍ مستقرة مع امرأة وصارت لديه خُطط للمستقبل.

أَودُّ أن أُقارن بين هذَين المريضَين؛ مايكل، وروبرت، اللذَين أدَّى وجودُ موضوعٍ لديهما إلى حلولٍ مُتعلِّقة بالعنف والانفجار، كما ناقش روزولاتو، وبين سايمون.

(٢-٣) سايمون

كان سايمون في أواخر العشرينيات عندما جاءني لأَوَّل مرة وظل يرتاد جلسات التحليل لعدة سنوات. في أَوَّل جلسةِ استشارة، كانت نظرتي إليه بالفعل كشخصٍ غيرِ ناضج ومحدود عاطفيًّا. أخبرني بعدةِ أُمورٍ عن نفسه، لكنه بدا غيرَ مُدركٍ عاطفيًّا لما يقوله. تَأثَّرتُ بسرده لصراعاته النفسية على مدى حياته وشَعَرتُ بأنه رُبما يُبدي حزنًا مُتأخرًا كردِّ فعلٍ لموت والده منذ سنتَين تقريبًا.

ما أدهشني بشأن سايمون منذ البداية لم يكن محتوى الأحلام العديدة التي أغرقني بها والتي كانت تُجسِّد على نحوٍ متكرر إحساسه بالرفض، والهجر، والتردِّي، والاكتئاب. لقد كان أكثر ما أَثَّر فيَّ تدريجيًّا هو اختباري لإحساس الغياب بداخله، شعوره بأنه كِيانٌ مُهمَل بائس، وفي حالةٍ ما بين الحياة والموت طوَّقَتني أنا أيضًا خلال جلساتي معه مانعةً أي فعلٍ ترابطي من الحدوث داخل عقلي. قدَّم سايمون نفسه كشخصٍ منفصل على نحوٍ دراماتيكي عن ذاته، ولم يبدُ أن لديه أيُّ اهتمامٍ بأفكاره أو أحلامه أو كلَيهما؛ فقد كان يستطيع بكلِّ سهولةٍ أن يقطع حبل أفكاره وينصرف عنها بدون أي إدراكٍ أنني ربما أُتابِعه باهتمام. ربما لم يكن لديه بالفعل في تلك المرحلة أي تصوُّر أن ثَمَّةَ من يستمع إليه.

وُلد سايمون في اليونان وكان الأصغر بين ستة أولاد. كانت والدته على قيد الحياة وما زالت تعيش في اليونان حيث قضى سايمون أول عشرين عامًا من حياته. توفي والده قبل عامَين من بدء جلسات التحليل. كان لدى سايمون ذكرياتٌ لخلافات ومشاحناتٍ أبوية وعنفٍ جسدي مُروِّع. كان يبدو أن والدته تُعاني من اكتئاب حاد، وكانت تنتابها نوباتٌ ذُهانية على مدى طفولة سايمون؛ حيث كانت تحبس نفسها في الحمَّام وتُهدِّد بإشعال النار في جسدها. كان الأب يترك الأطفال يطرقون باب الحمام عبثًا مُتوسِّلِين إليها أن تخرج. كانوا يرَونَه كأبٍ غائب وغيرِ مبالٍ، منشغلٍ بعمله (كان يعاملني كابنٍ غير شرعي!) على النحو نفسه، أصبح الأب جزءًا غيرَ شرعيٍّ من عقل سايمون.

في أَوَّل حُلم سرده سايمون في جلسات التحليل، حلم أنه «كان في البحر وشعر بحركةٍ ابتَلعَته على أَثَرها المياه العميقة ثم قَذفَته لأعلى.» أتاح هذا الحلم والتداعيات التي تبعته صورًا قوية للطريقة التي انغمس بها سايمون في تحويلٍ أَوَّلي للمشاعر اتسم بخوفٍ من الانهيار العصبي. صورةٌ أخرى كانت حاضرةً في حُلمه وهي نظرته لجسده بالكامل على أنه عضوٌ ذكري. لقد صوَّر سايمون تجربته مع فقدان ذاته وشعوره بالانفصال.

تعرَّض تمثيل سايمون لذاته كرجلٍ لطيف المعشر ومستسلم للتشويش خلال التحويل المضاد باستفزازي المُتدرِّج له. وبالتدريج فهمتُ إحساسي بالجمود وشعوري بوقوعي تحت السيطرة بفعل الإيقاع الذي وضعه؛ إذ اتسَمَت السنواتُ الثلاث الأولى من التحليل بإحساسٍ بالجمود و«انعدام التبادلية». كان يبدو أنه يمتلك قدرةً غريبة على الاستجابة لي على نحوٍ كان يشل حركتي.

كذلك كنتُ أشعر بأني مُراقبة؛ فقد دَفعَت محاولاتي للتعبير عن هذه التجارب لفظيًّا وصياغتها في تفسيراتِ سايمون إلى الإفصاح عن قيامه مراتٍ عديدة بركن سيارته أمام منزلي لمراقبتي أنا وعائلتي، ولكنه كان ينام دائمًا قبل أن يرى أيًّا منا. لقد كان سايمون يسعى سرًّا إلى التحكُّم في موضوعاته بمجرد التواجُد هناك، وربما ربط هذا ذهنيًّا بشعوره أنه لم يستطع أن يكون له تأثيرٌ على والدته.

ذات مرةٍ حلم سايمون «برجل يرتدي ثيابًا بيضاء ويقف قُبالة حائط أبيض. كان ساكنًا لدرجة تعذَّرت معها ملاحظته.» لقد عادت الفكرة المألوفة لاختفاء سايمون للظهور مرةً أخرى كما في الحُلم الأول الذي شعر فيه بأن البحر يبتلعه. وقد جاءه هذا الحُلم بعد جلسةٍ شعرتُ بأننا حققنا فيها بعض التواصُل. كان السكون والاختفاء انعكاسًا للعنف الذي كان يخشى حدوثه خلال أيِّ تواصل، وصدًى للمشهد الأَوَّلي العنيف الذي شاهده يحدث بين والدَيه عندما كان يضرب كلٌّ منهما الآخر. وكان سايمون يُعبِّر دائمًا عن هذا الصراع بين الرغبة في أن يُرَى والرغبة في ألا يُرى؛ بين شوقه للمعرفة وعدم المعرفة، فيما يُعد تذكيرًا برغبةِ رجل الذئاب في عدم معرفةِ أيِّ شيء والاستبعاد (طالع جرين، ١٩٨٦، صفحة ٢٣٠). عندما كان سايمون يُوقِف سيارته أمام منزلي، كان هدفه هو المراقبة للقضاء على موضوعه الثالث (الهلوسة السلبية)، الذي تَمثَّل في هذه الحالة في معرفته بوجود عائلتي وحياتي بعيدًا عنه.

إن هذا الجانب من تحليله، المُتمثِّل في التخلُّص المُتواصِل من ذاته وموضوعاته حتى تَتوقَّف عن الوجود، يستعصي على الفهم والتفسير؛ فلا يظل للمرء إلا الخواء والفراغ. ورغم أن فكرة الإضرار بالنفس والموضوع تقع دائمًا على الحد الفاصل للتواجُد في تحليل سايمون، يتم تجنُّب توتُّر الاضطهاد. أظن أن أحد مخاطر مثل هذا التحليل هي أن يُصبِح التحليل نفسه بديلًا للحياة، فيصير كنفًا (أو شونيسي، ١٩٩٢) من الجمود والثبات؛ كل الأمور متشابهة بلا أي تغيير. يمكن أن يحدث هذا نتيجة إمَّا للتفسير الزائد عن الحد أو الأقل مما ينبغي. فإذا أسرف المُحلِّل في التفسير — وهو ما أظن أنني كنتُ أميل للقيام به في السنوات الأُولى من تحليل سايمون — فإن المريض يعيش حياته من خلال المُحلِّل. وإذا قدَّم تفسيرًا أقل مما ينبغي، يغزو الجلساتِ صمتُ الموت.

(٣) مناقشة

أشار فرويد وأبراهام إلى أن الحزن يُخفي العدوانية تجاه الموضوع المفقود؛ ومن ثَمَّ يكشف تناقُضَ مريض الاكتئاب وازدواجيته تجاه الشخص موضوع الحزن. وهذه العملية تشير ضمنيًّا إلى أنا عليا قاسيةٍ وجدل بين إضفاءِ المثالية على النفس والآخر وتشويهِهما وكلُّ هذا قائمٌ على آلية التماهي. غير أن علاج الأفراد النرجسيِّين قد أشار كذلك إلى وجود نفسٍ بدائية غيرِ مكتملة وخاوية (كريستيفا، ١٩٨٧، الصفحات ١١-١٢)، وهذا الخواء يُشير إلى تجربةٍ قديمة لم تبلغ مرحلة التمثيل.

أشار جرين إلى أنه «قبل النرجسية، كانت هناك دوافع الحفاظ على الذات؛ أما بعدها، فصار هناك دوافع الموت» (٢٠٠١، صفحة ١٠). ونظرًا لتعرُّض دافع الموت للإسكات، فإنه يُعبر عنه من خلال التَّكرار القهري، مما مهَّد الطريق لفهمِ ما لم يصل بعدُ إلى مرحلة الترامُز. وأوضح جرين أن احتمالية وجود نرجسيةٍ مزدوجة: نرجسية إيجابية تهدف للوصول للوحدة والاتساق؛ نرجسية تهدف إلى التوحد؛ ونرجسيةٍ سلبية تكافح للوصول لمستوى الصفر وتهدف للعدَم والتحرُّك نحو الموت النفسي؛ إذ تتوق النفس لفنائها. والنرجسية السلبية، من منظور جرين، هي الشكل الذي تتخذه السلبية عندما تندمج مع دوافع تدمير الذات. وهذه الطريقة في الفهم غيرُ مقتصرة على طرق تعبير المرضى عن الدمار، لكنها تتضمن كذلك حالاتٍ عقلية تكون الموضوعات فيها مجردةً من مَيزة التفرُّد أو غيرَ قابلة للاستبدال بالنسبة إلى المريض (جرين، ٢٠٠١).

لقد أظهر المرضى الثلاثة جميعًا الذين نُوقشت حالاتهم في هذه الورقة البحثية، بطرقٍ مختلفة، عدم تركيزٍ فكري في التمثيلات؛ فقد بدا أن علاقاتهم بموضوعاتهم الداخلية قد تمثَّلَت على نحوٍ واهٍ، وتعرَّضَت للإضعاف والإفقار والتفتُّت؛ ولذا تَحتَّم التنفيس عنها، فكان لزامًا تجنُّب الحاجة للموضوع، والتعامُل معها إمَّا بالعنف أو الانسحاب. وكان من الضروري بالنسبة للمرضى الثلاثة التمييزُ بين الأجزاء الإيجابية والهدَّامة من شخصياتهم.

تنبع الرغبة من وعي بالانفصال عن الموضوع والتأخير الحتمي في الحصول على الإشباع، فلا يمكن إشباع الرغبة أبدًا. وقد أكَّد فرويد أن إدراك الموضوع مرتبط بغيابه؛ فعلى خلفية هذا الغياب تُنقش العلامات والإشارات حتمًا أينما وُجِد نقص. لكن هذا الإدراك للغياب يسير جنبًا إلى جنب مع إدراك الخسارة؛ إذ يُظهر المريض بالنرجسية عدم قدرته نفسيًّا على شرح أو تمثيلِ موقفِ غيابٍ أو نقص.

عندما يحدث الانفصال بين الأم والطفل، تُستبدل صورة الأم في عقل الطفل تدريجيًّا بعدة بدائل. وبحسب الطرح المُؤثِّر الذي أثاره أولانييه (٢٠٠١)، فإن الأم لا تترك لدى الطفل طريقةَ تفكيرٍ مُعيَّنة فحسب، بل إنها تغرس لديه صورًا ذهنية ومشاعرَ وأحاسيسَ جسدية. وأضيف إلى هذه النقطة أن فكرة زنا المحارم لدى كل البشر قد واجَهَت حتمًا كبتًا كافيًا حتى تُصبِح رغبةُ منحِ حضانة الطفل للأم، وهي رغبةٌ عامة لدى الجنسَين، جزءًا من نسيج الخيال. وإذا لم يُسهَّل حدوث هذا الكبت بفعل العلاقة برغبة الأم، فإنني أَظُن أنه لا تُوجد أي حرية لمعايشة التجربة الجنسية على نحوٍ آمن. وهذا ما يُسمِّيه أولانييه «فائض» الأم، والمرتبط في النهاية بنرجسية الأم التي تتخذ شكلَ أمنيةٍ من جانبها أن يظل الطفل في احتياجٍ دائم لما تمنحه إياه.

أظن أن تحقيق كلٍّ من الثقة في الموضوع والانفصال عنه بالنسبة إلى كل المرضى الذين نُوقِشَت حالاتهم في هذا الفصل، ربما يُعد المهمة الأصعب في تحقيقها؛ فجسم الأم بالنسبة إلى كل مريضٍ من هؤلاء، لم يُنظَر إليه كوطن أو مكانٍ آمن يسمح بالاستكشاف والإبداع؛ فقد احتوى كُل تحليلٍ على بحث عن مساحةٍ عقلية يمكنهم فيها استكشاف علاقاتهم بموضوعاتهم الداخلية، والتفكير فيها وتغييرها.

هوامش

(١) في مقاله «ليوناردو دافنشي وذكرى من طفولته» (١٩١٠)، يُصرِّح فرويد بأول تصريحٍ نظري له عن النرجسية؛ إذ يحاول تفسير آلية الطاقة النفسية الشهوانية التي تؤدي للاختيار النرجسي: «يكبت الصبي حُبه لأمه؛ فيضع نفسه محلها، ويتماهى معها، وينظر إلى شخصه كنموذجٍ يختار موضوعاتٍ جديدة لحبه تتماثل معه … ويعثُر على موضوعات حبه على طول طريق النرجسية» (١٩١٠، صفحة ١٠٠). ويمكن فهم الاختيارات النرجسية للموضوع في مقالات فرويد عن ليوناردو (١٩١٠)، ورجل الجرذان (١٩٠٩)، وشريبر (١٩١١)، ورجل الذئاب (١٩١٤).
(٢) يخبرنا أوفيد بالنسخة الأكثر شهرة من القصة. نارسيسوس هو ابن إله الأنهار، كيفيسوس، وحورية تُدعى ليريوبي. يتحدث تيريسياس عن نبوءة عند مولد نارسيسوس وهي أنه سيعيش عمرًا طويلًا، شريطة ألا يعرف نفسه. تقع العديد من العَذارى في حبه لكنه يقابل حبهن بلا مبالاة. لكن إيكو لا تفقد الأمل؛ فتنعزل عن العالم، وتَتوقَّف عن تناول الطعام حتى أَصبحَت مجرد صوت. ذات يوم، يشعر نارسيسوس بالعطش بعد الصيد. يعكس النبع صورةً يقع في حبها. يميل نارسيسوس للأمام نحو صورته حتى مات. أمَّا في نسخة باوسانياس من القصة، فكان لنارسيسوس شقيقة توءم تموت ويظن أنه رأى انعكاس صورتها في الماء.
(٣) في نماذج فرويد للعقل، تُمثِّل فكرة النزاع بين الدوافع حاجةً أساسية؛ فحتى صدور البحث الخاص بالنرجسية، كان يُنظَر إلى النزاع بين الدوافع الشهوانية ودوافع الحفاظ على النفس (من ناحية الأنا) وهو ما يتطابق مع التفرقة بين الحب والجوع. يُشير فرويد إلى أن فصل الدوافع الجنسية عن دوافع الأنا يعكس الوظيفة الثنائية للفرد: إشباع أغراضه الخاصة، وكفرد من الجنس البشري. تُقدِّم ورقة النرجسية البحثية تناقضًا؛ إذ يمكن للدوافع الشهوانية الآن توجيه نفسها إلى الأنا. عندما يتحدث فرويد عن التركيز الفكري الشهواني للأنا، يتعرض التمييز بين شهوة الأنا والشهوة الجنسية للتهديد؛ لأن كلا الدافعين يتشاركان الآن الأصل نفسه. علاوةً على ذلك، فإن الصراع الديناميكي بينهما الآن غيرُ محتمل. سينحصر الصراع بين الشهوة الجنسية للموضوع والشهوة الجنسية النرجسية، لكن حينها سيُختزل كل شيء في الجنسانية، وسيكون الصراع بين شكلين من الغريزة الجنسية. يدرك فرويد هذا ويُعيد التأكيد على الحاجة للحفاظ على الفصل بين الشهوة الجنسية والطاقة غير الجنسية لغرائز الأنا.
(٤) أوسكار وايلد، «قصيدة سجن ريدينج»، ١٨٩٨، جزء ١، ٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤