الفصل السابع

الجرح والقوس وظل الموضوع: ملاحظات على بحث فرويد «الحداد والسوداوية»

أجنيس سودريه

مقدمة

لنتأمَّل هذه الاقتباسات من بحث «الحداد والسوداوية»:

وهكذا سقط ظل الموضوع على الأنا، ومن هناك فصاعدًا أصبح من الممكن الحُكم على الأخيرة بواسطةِ قوةٍ خاصة كما لو كانت موضوعًا؛ الموضوع المهجور. (فرويد، ١٩١٥ [١٩١٧]، صفحة ٢٤٩)

اقتباسٌ آخر:

تُريد الأنا دمج هذا الموضوع داخلها، وتُريد فعل هذا عن طريق افتراسه، تماشيًا مع المرحلة الفموية أو الوحشية من التطوُّر الشبقي التي تمُر بها. (المصدر السابق، الصفحات ٢٤٩-٢٥٠)

ولنتأمل هذا:

إذا كان حب الموضوع — وهو حب لا يمكن التخلي عنه رغم التخلي عن الموضوع نفسه — يلوذ بالتماهي النرجسي، فإن الكراهية تبدأ عملها داخل هذا الموضوع البديل؛ فتُسيء معاملته، وتحُط من قدره، وتجعله يعاني وتستمد إشباعًا ساديًّا من هذه المعاناة … وهذه الساديَّة وحدها هي التي تحُل لغز المَيل للانتحار، الذي يجعل السوداوية مسألةً مثيرة للاهتمام للغاية وفي غاية الخطورة؛ فحب الأنا لذاتها يكون ضخمًا للغاية، وهو ما أدركناه بوصفه الحالةَ الأولية التي تنبثق منها الحياة الغريزية؛ كما يكون قدَر الغريزة الجنسية النرجسية هائلًا، وهي الغريزة التي نراها تنطلق بحريةٍ في صورة الخوف الذي ينبثق كتهديدٍ للحياة، حتى إنه لا يمكننا تخيُّل كيف يمكن لهذه الأنا أن ترضى بتدمير ذاتها … يُظهِر تحليل السوداوية الآن أنَّ الأنا يُمكِنها أن تقتل نفسها فقط إذا استطاعت أن تُعامِل نفسها كموضوع؛ بفعل عودةِ تركيزِ الطاقة النفسية على الموضوع، إذا استطاعت توجيه العداء المُرتبط بالموضوع نحو نفسها، الذي يُمثِّل ردَّ فعل الأنا الأصلي تجاه موضوعاتٍ معيَّنة في العالم الخارجي. (المصدر السابق، الصفحات ٢٥١-٢٥٢)

(يُخيِّم على هذا الاقتباس الجوُّ الانفعالي الذي يسود الاقتباس الثاني الذي أَوردتُه أعلاه: افتراسٌ وحشي، «طبيعةٌ دموية لا ترحم»، إذا جاز التعبير، تتماشى مع الإيذاء السادي وقتل الموضوع.)

وهذا الاقتباس من بحث «الأنا والهو»:

إن الخوف من الموت في السوداوية لا يعني إلا تفسيرًا واحدًا فقط؛ أن الأنا تستسلم لأنها تشعر بأنها مكروهة ومُضطهَدة من الأنا العليا، بدلًا من أن تكون محبوبة؛ ومن ثَمَّ يُصبِح معنى العيش بالنسبة إلى الأنا هو أن تكون محبوبة؛ أن تحظى بحب الأنا العليا التي تظهر هنا مرةً أخرى كممثل للهو. تُنجز الأنا العليا وظيفة الحماية والإنقاذ نفسها التي كان الأب يتولى إنجازها في السابق، والعناية الإلهية أو القدَر لاحقًا. لكن عندما تجد الأنا نفسها في خطرٍ حقيقيٍّ بالغ تعتقد أنها غير قادرةٍ على تخطِّيه بما تملكه من قوة، يصبح الوصول إلى النتيجة نفسها أمرًا محتومًا؛ فترى الأنا نفسها وقد نبذها جميع القوى الحامية وتدَع نفسها تموت. علاوةً على ذلك، يتكرر هنا مرةً أخرى الموقف نفسه الذي يُشكِّل الأساس لأُولى حالات القلق الشديد المُتعلِّق بالولادة، والقلق الطفولي من التوق، وهو القلق الناتج عن الانفصال عن الأُم الحامية. (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٥٨)

(يصطبغ هذا الاقتباس بصبغة الاقتباس الأول؛ فنحن هنا في عالمٍ مظلمٍ كئيب مُبهَم، حيث تستسلم الأنا المكروهة، كطفلٍ هجرته والدته، للموت.)

إن هذين الاقتباسَين بدرجتَيهما المختلفتَين تمامًا من الأحمر والأسود — إن جاز التعبير — اللتَين تُشيران إلى عاطفتَين مختلفتَين تمام الاختلاف، هما الغضب والأسى، يُعبِّران عن التبايُن بين حالتَين عقليتَين، هما: المعاناة السلبية والهجوم الإيجابي العنيف، الحزن والغضب، اليأس والميل إلى القتل، وهما معًا، في رأيي، يُمثِّلان جوهر مشكلة السوداوية أو الميلانخوليا؛ لذا سيُصبحان هما مِحورَ نقاشي لبحث «الحداد والسوداوية»، أَحدِ أَكثرِ أعمال فرويد أهميةً وثورية.

وبالرغم من أن الاقتباس الأخير من بحثٍ كُتِب بعد ذلك بثماني سنوات، فإنني أستعين به هنا، لِظنٍّ بداخلي أن هذه الرؤية عن الانتحار من شأنها أن تتماشى مع الاقتباس الأول، من بحث «الحداد والسوداوية»، عن العلاقة بين الذات والموضوع في السوداوية؛ فعند الشعور بضياع الموضوع بلا رجعة، يُلقي بظله على الأنا ويُشكِّلها وفقًا لصورته، ومن خلال التماهي تُصبِح الأنا هي الموضوع. بيد أن هذا الوصف وسلبية الأنا في استسلامها للموت، وارتباط هذا بالتوق إلى الأم وما يرتبط بها، ضمنيًّا، من شعور بفقدانها للأبد، ينقل شعورًا بأن الظل الأسود الذي خلَّفه غياب الموضوع هو ما يطغى على الأنا، وهو ما يَتمثَّل في سلبيتها، وغيابها في حضرة الظلام اللانهائي. إن لدينا هنا أجواءً من الأسى والكآبة، وهو الأمر الذي أراه مرتبطًا بالنظر إلى الانتحار بأنه يستدعي تفسيرًا واحدًا فقط (في هذا السيناريو بالذات بالطبع) ألا وهو: شعور الأنا بهجر الموضوع لها (ونقصد بذلك الموضوع المستدخل وهو الأنا العليا)، وموتها حزنًا وأسًى (لاحظ أن الموضوع «المهجور» في الاقتباس الخاص «بالظل» يضاهي، في إطار الطابع العام للكتابة، النفس المهجورة الواردة بالوصف المذكور في «الأنا والهو»).

لم يُغيِّر فرويد رأيه فيما يخُص السيناريو الآخر — وهو اغتيال الأنا العليا السادية للأنا تماهيًّا مع الموضوع الذي يَتعرَّض للهُجران — لكنه هنا يصف شيئًا آخر؛ يصف مناخًا عقليًّا مختلفًا. ويظل تصوُّر الانتحار ومعاناة مريض السوداوية النابعة من مشاعر العدوانية تجاه الموضوع، مِحورَ نظريته حتى النهاية (انظر، على سبيل المثال، وَصفَه لآليةِ عمل السوداوية في كتاب «محاضراتٌ تمهيدية جديدة» (١٩٣٣))، رغم أن فهم هذه الظاهرة بالطبع أصبح أكثر حدةً ووضوحًا بعد صدور مُقدمةٍ عن النظرية وغريزة الموت (فرويد، ١٩٢٠).

لكن حقيقةَ أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه السيناريوهات المختلفة، رغم تواجُدها جميعًا داخل العقل على نحوٍ متزامن، له القدرة على السيطرة على العقل بالكامل، وإن كان ذلك لفترةٍ وجيزة، مُوضَّحة، على ما أعتقد، من خلال الأسلوب التأكيدي الذي يكتب به فرويد عن السوداوية والموت:

يمكن للأنا أن تقتل نفسها «فقط إذا» استطاعت أن تعامل نفسها كموضوع؛ بفعل عودة تركيز الطاقة النفسية على الموضوع؛ أي إذا استطاعت توجيه العداء المرتبط بالموضوع نحو نفسها. (فرويد، ١٩١٥، صفحة ٢٥٢؛ التنصيص للتوكيد)

وكذلك هنا:

إن الخوف من الموت في السوداوية لا يعني إلا تفسيرًا واحدًا «فقط» وهو: أن الأنا تستسلم لأنها تشعر بأنها مكروهةٌ ومُضطهَدة من قِبل الموضوع، بدلًا من أن تكون محبوبة … فترى الأنا نفسها وقد نُبذت من قِبل جميع القوى الحامية وتدَع نفسها تموت. (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٥٨؛ التنصيص للتوكيد)

إن مريض السوداوية سيميل للقتل «فقط»، وسيبدو هذا كحالةٍ أساسية ثابتة: «فحب الأنا لذاتها يكون ضخمًا للغاية … حتى إنه لا يمكننا تخيُّل كيف يمكن لهذه الأنا أن ترضى بتدميرِ ذاتها» (فرويد، ١٩١٥)؛ أو يائس فقط ويرى نفسه غير جدير تمامًا بالحب إلى حدٍّ يجعل الموت هو العلاج الوحيد؛ وهاتان الحالتان تتسمان خلال فترة استمرارهما — التي قد تتراوح بين ثوانٍ معدودة أو فتراتٍ ممتدة من الوقت — بِسمةٍ جامعة. والأمر يرجع للمُحلِّل في وضع كلتَيهما في اعتباره.

(١) «الحداد والسوداوية»

في رسالة إلى فليس يعود تاريخها على الأرجح إلى يناير عام ١٨٩٥، وأصبحت تُعرَف باسم «المسوَّدة G» عن «السوداوية» (فرويد، ١٩٥٠، صفحة ٢٠٠)؛ حيث تَوصَّل فرويد إلى تفسيرٍ عصبي لهذا المرض، كان فرويد يربط بالفعل بين السوداوية والحزن: «إن الشعور المرتبط بالسوداوية هو الحداد، أي التوق لشيء مفقود؛ لذا لا بد أن الأمر في السوداوية يتعلق بالفقدان؛ فقدان في الحياة «الغرائزية».» يربط فرويد السوداوية بالخَدَر أو فقدان الحس الجنسي الذي يظهر «في وجود نوعٍ من النساء لهن متطلباتٌ كثيرة على المستوى النفسي، وهن اللاتي يتحول لديهن شعور التوق بسهولة إلى اكتئابٍ ويُصَبن بالخَدَر»؛ لذا، وبرغم أن الجنسانية وتقلُّباتها تُمثِّل بلا ريبٍ مِحورَ تَصوُّره للأداء الوظيفي للعقل في هذه المرحلة، فإن مسألة أهمية الفقدان قد صِيغت بالفعل، والفقدان هنا يَتعلَّق بفقدان الغريزة الجنسية وليس فقدان الموضوع، أمَّا في «النوع الكثير المتطلبات من النساء»، واللاتي يتحول التوق لديهن إلى اكتئاب، فأعتقد أنه من الممكن إدراكُ بدايةِ فكرةِ فقدان الموضوع وما سيُصبِح لاحقًا اتكالًا فمويًّا مفرطًا على الموضوع كسماتٍ للشخص السوداوي.
في المُسوَّدة N التي تعود إلى مايو ١٨٩٧ (المصدر السابق، صفحة ٢٥٤)، يقول فرويد:

تُعتبَر الدوافع العدائية تجاه الوالدَين (كَتمَنِّي موتهما) أيضًا مُكونًا رئيسًا للاضطرابات العصابية، وهي دوافع تخرج للنور على نحو واعٍ كأفكار وسواسية. في جنون الارتياب، تَتَشابه أسوأ أوهام الاضطهاد … مع هذه الدوافع؛ إذ تخضع هذه الدوافع للكبت خلال الفترات التي تنشط فيها العاطفة نحو الأبوين، في أوقات المرض أو الموت. وفي مثل هذه المواقف، يتجلَّى الحداد في صورةِ توبيخ الذات لموتهما (وهو ما يُعرف بالسوداوية)، أو عقاب الذات على نحوٍ هستيري (من خلال فكرة الجزاء) بنفسِ الحالات [المرضية] التي كانا مُصابَين بها. والتماهي الذي يحدُث هنا، كما نرى، ليس إلا نمطًا من التفكير ولا يُعفينا من ضرورة البحث عن دافع.

إذن فالسوداوية هي نتيجةٌ للعداء اللاواعي والإحساس بالذنب الذي يُصاحِبه، وبالطبع فإن التماهي اللاواعي مع الموضوع المفقود — وهو ما سيُصبِح عنصرًا جوهريًّا في فهم السوداوية المَرَضية في بحث «الحداد والسوداوية» — مُشارٌ إليه في هذه الفِقرة (وإن كان يرتبط هنا بالهستيريا)؛ أمَّا السوداوية، كما يُعلِّق سترايتشي، فقلَّما يَرِد لها ذِكرٌ مرةً أخرى قبل بحث «الحداد والسوداوية»، باستثناء النقاش الذي أُثِير عام ١٩١٠ عن الانتحار.

في عام ١٩١١، نشر كارل أبراهام؛ أَحد أوائل مُساعدي فرويد ومُنظِّر وطبيب بارز، بحثه بعنوان «ملاحظات حول فحص وعلاج الجنون الهوسي الاكتئابي والحالات المرتبطة به بواسطة التحليل النفسي». في هذا البحث، يلفت أبراهام الانتباه إلى التناقُض اللاواعي لدى الشخص السوداوي تجاه الموضوع، مع وجود غلبةٍ للكراهية على الحب، ويعزو «مشاعر العجز» التي يُعاني منها الشخص السوداوي إلى «الإدراك الداخلي المزعج» (أبراهام، ١٩١١، الصفحات ١٤٤-١٤٥)؛ إذ يعاني الشخص السوداوي من شعورٍ لا واعٍ بعدم قدرته على الحب، وهو ما يترتب عليه شعورٌ بعدم جدارته بالحب. إذا ربطنا هذا باقتباسي من المسودة G، يمكننا القول إن ما يُسمِّيه فرويد «فقدان في الحياة الغريزية» أو فقدان الغريزة الجنسية يمكن اعتباره هنا فقدانًا للقدرة على الحب. إن الموضوع المحبوب مكروه بسبب هَجرِه القاسي، لكن ثَمَّةَ شعورًا بأن الأنا التي تُدرك تشبُّعها بكراهية الموضوع غيرُ محبوبة كذلك.

وهكذا يُصبِح هذا التناقُض والطبيعة الفموية للعلاقة مع الموضوع نقاطًا أساسية بالطبع في مناقشة فرويد للسوداوية. كذلك سوف يرتبط الإدراك اللاواعي لعدم القدرة على الحب بفهم فرويد للنرجسية التي كتَب عنها بحثًا عظيمًا (عام ١٩١٤) سبق «الحداد والسوداوية» مباشرة. لكن من أَهمِّ المساهمات في هذا البحث هو فهم أن الانسحاب النرجسي من الموضوع لا يعني حقًّا أن الارتباط بهذا الموضوع يتضاءل أو يخمد، بل على العكس؛ فهناك في الواقع علاقةٌ قوية وتملُّكية إلى حدٍّ هائل مع الموضوع تحدُث في العالم الداخلي بشكلٍ لا واعٍ.

إن الأمر يتعلق بملاحظةٍ عامة وهي أن الناس لا يتخلَّون طواعيةً أبدًا عن موقفٍ شهواني، ولا حتى عندما يعمد بديل إلى إغوائهم. (المصدر السابق، ١٩١٥، صفحة ٢٤٤)

هذا التصريح المُهِم عن الطبيعة البشرية هنا لا يُخاطِب الشخص المحزون فقط، بل يتناول كذلك الانعدام اللاواعي لقدرة الشخص السوداوي على التخلِّي عن ارتباطٍ تملُّكي بالموضوع المفقود.

تُعتبَر عملية الحداد، التي تُعَد ردَّ فعل ضروريًّا وصحيًّا إزاء خسارةٍ بالغة، مثالًا بارزًا يُوضِّح كيف أن شخصًا لم يعُد له وجود في العالم الخارجي يستمر وجوده في العقل على نحوٍ واقعي تام؛ يصنع الشخص المحزون رابطًا ذهنيًّا قويًّا، «في الحاضر»، مع الشخص المُتوفَّى، وغالبًا ما يشعر بأن المتوفَّى يتفاعل معه على نحوٍ نشط. على النحو نفسه، فإن السوداوية «ترتبط بفقدان الموضوع الذي ينسحب من الوعي» (المصدر السابق، صفحة ٢٤٥)، ونشأة علاقة مع الموضوع المفقود في الحاضر في اللاوعي. لكن بينما تفصل الأنا نفسها ببطء وبألمٍ شديد «شيئًا فشيئًا» عن الموضوع في حالة الحداد — ومن ثَمَّ تتقبل في النهاية أن الموضوع لم يعُد له وجود، وينتهي بها الحال بتوجيه الحب لموضوعاتٍ أخرى في الواقع الخارجي — فإن ما يُميِّز السوداوية هو المقابل تمامًا؛ أي الرفض اللاواعيٍ للتخلي عن الموضوع.

يفترض فرويد أن العلاقة مع الموضوع لدى الشخصِ السوداوي قائمةٌ في الأساس على اختيارٍ نرجسي للموضوع، تاركًا الطريق مفتوحًا للنكوص إلى انسحابٍ نرجسي. ويَذكُر فرويد الفكرة المتناقضة ظاهريًّا، وهي أن أحد الشروط المُسبَّقة للإصابة بالسوداوية هو وجوبُ تثبيتٍ على الموضوع، يُصاحِبه «تركيز للطاقة النفسية على الموضوع [مع] قليلٍ من القُدرة على المُقاوَمة» (المصدر السابق، صفحة ٢٤٩). من السهل فقدان الرابط مع الموضوع الخارجي، لكن الانسحاب ظاهريًّا إلى حالةٍ بلا موضوعٍ يشير ضِمنيًّا في الحقيقة إلى علاقةٍ داخلية تملُّكية إلى حدٍّ كبير مع الموضوع الذي يسكن العالم الداخلي فقط الآن (بطريقةٍ ما، يمكن القول إن الموضوع الكامن داخل العقل هو فقط ما يمكن تملُّكه على نحوٍ كامل؛ فأيُّ رابطٍ في الواقع، مهما كان مستبدًّا وطاغيًا، يُشير ضمنًا إلى قدْرٍ من فقدان السيطرة مهما كان ضئيلًا).

لكن النقطة الأهم في البحث، والتي غيَّرَت فهمنا للعقل البشري جذريًّا، تبدأ بإحدى عبارات فرويد التنصُّلية التقليدية: «ثَمَّةَ ملاحظةٌ واحدة ليس من الصعب تمامًا إبداؤها» (المصدر السابق، صفحة ٢٤٨). ويمضي لِيَصف آلية اللاوعي التي تُسبِّب السوداوية: علاقة بموضوع قد تهشَّمَت، وأثبتت الطاقة النفسية للموضوع أنها تمتلك قدرًا ضئيلًا من المقاومة ووصلت لنهايتها:

لكن الليبيدو الحُرَّة لم تنتقل إلى موضوعٍ آخر، بل انسَحبَت داخل الأنا. غير أنها لم تستخدم هناك بأيِّ طريقة مُحدَّدة، بل ساعَدَت في تكوين «تماهٍ» للأنا مع الموضوع المهجور. وهكذا سَقطَ ظِل الموضوع على الأنا، ومن هناك فصاعدًا أَصبحَ من الممكن الحكم عليها بقوةٍ خاصة، كما لو كانت موضوعًا؛ الموضوع المهجور. وبهذا تَحوَّل فقدان الموضوع إلى فقدانٍ للأنا وتَحوَّل الصراع بين الأنا والشخص المحبوب إلى انقسام بين النشاط الحرِج للأنا والأنا بعد تغيُّرها بفعل التماهي. (المصدر السابق، صفحة ٢٤٩)

وصف فرويد آلية الاستبدال بالتماهي تركيزَ الطاقة النفسية على الموضوع من خلال الإدماج اللاواعي للموضوع لأول مرة في كتابه «ليوناردو» (١٩١٠) ليفسر نوعًا مُعيَّنًا من المثلية الجنسية (ويتضمن التماهي مع الأُم واتخاذ شخصٍ يُمثِّل جانبًا من جوانب النفس كموضوع للحب). لكن في بحث «الحداد والسوداوية»، وفي سياق التطوُّر اللاحق لفهم الأنا العليا، تُصبِح التماهيات والاستدماجات جزءًا من التطوُّر الطبيعي: «شخصية الأنا هي راسبٌ من تركيزات الطاقة النفسية على الموضوع المهجور وتحوي تاريخَ اختياراتِ ذلك الموضوع» (فرويد، ١٩٢٣).

يَتحوَّل العامل المُحفِّز لحدوث نوبة السوداوية، وهو فقدان الموضوع، في الوهم اللاواعي إلى التملُّك الكامل لذلك الموضوع في الواقع الداخلي، وهذا يتحقق من خلال عملية الدمج — والتي يمكن وصفها إمَّا كافتراسٍ نشط للموضوع أو ككيانٍ أكثر سلبية يُسيطِر عليه ظله — يتبعها التماهي؛ فيصبح جزءٌ من الأنا هو الموضوع، وهو موضوع حبٍّ مكروه، استُشعِرت قسوته، والآن سيتعرض لهذه القسوة بفعل «النشاط الحرِج للأنا». وهذا النشاط الحرج، الذي يُعتبَر وظيفة «القوة النفسية الخاصة» التي وَردَت في البحث الخاص بالنرجسية (فرويد، ١٩١٤) هو ما سيُسمَّى عما قريب بالأنا العليا، التي سيُنظَر إليها أنها تشكلت أيضًا عبر استدماجِ موضوعٍ ما في الواقع الخارجي وهو الذي سيقبع الآن في العقل. لن تكون الأنا العليا مجرد وظيفةٍ فقط أو كيان (الضمير)، بل ستكون كذلك مثل «شخص» يسكن العالم الداخلي وله علاقات من أنواعٍ بعينها بالجوانب المختلفة للنفس (كأبٍ ميَّال للنقد، أو أُمٍّ غير مُحبَّة).

لذا وبمجرد أن تتضح كيفية تكوُّن الأنا العليا — بالاستدماج والتماهي مع سلطةٍ أبوية — يمكن إعادة وصف الصراع اللاواعي لدى الشخص السوداوي؛ ومن ثَمَّ فإن عبارة «وبهذا تَحوَّل فقدان الموضوع إلى فقدان للأنا وتَحوَّل الصراع بين الأنا والشخص المحبوب إلى انقسام بين النشاط الحرج للأنا والأنا بعد تغيُّرها بفعل التماهي» (فرويد، ١٩١٥، صفحة ٢٤٩) يمكن أن تُصبِح: «إلى انقسام بين النشاط الحرج [لجزء من الأنا تبدَّل بفعل التماهي مع موضوعٍ مُستدمَج]، وبين الأنا بعد تَبدُّلها بفعل التماهي مع [موضوعٍ مُستدمَج آخر].» وهذه هي بدايةُ نظرية العلاقات الداخلية للموضوع؛ إذ يُتصَوَّر العالم الداخلي كمساحةٍ حقيقية مُجسَّمة حيث يُصبِح للموضوع والنفس جوانبُ أو أَوجهٌ عدة، ولهما علاقاتٌ قابلة للتغيُّر بأوجهٍ مختلفة أحدها عن الأخرى:

وهكذا تكون الطاقة النفسية الجنسية للشخص السوداوي فيما يتعلق بموضوعه قد خَضعَت لِتغيُّرٍ مزدوج: جزء منها تَراجَع إلى حالة التماهي، أمَّا الجزء الآخر، وتحت تأثير الصراع الناجم عن الازدواجية والتناقُض، فيُردُّ إلى مرحلة الساديَّة التي هي أقرب إلى ذلك الصراع (السادية الفموية، على سبيل المثال). (المصدر السابق، الصفحات ٢٥١-٢٥٢)

النقطة المهمة هنا هي أن الارتداد إلى وضع الارتباط بالموضوع هذا — إلى علاقةٍ بدائية تطغى عليها العدائية — له تبعاتٌ على ذلك النوع من العلاقات التي تَتشكَّل داخل العالم الداخلي مع الموضوع؛ ومن ثَمَّ على نوعِ الموضوعات التي يستشعر أنها تَسكُن العالم الداخلي. في هذا العالم، تأتي الاتهامات من المرارة الناجمة عن الإساءة، وتأتي كذلك من السادية والرغبة في التعذيب، ودمجُ كل هذا من خلال الافتراس يُسبِّب ألمًا مستمرًّا للموضوع وللنفس المتماهية معه — ألمًا مريرًا ومُدمِّرًا — وكذلك الأسى: «ظل الموضوع». لكن كيف ترتبط هذه الأشياء كلها معًا؟ وكيف تنتقل من واحد إلى الآخر؟ هل «الافتراس» هو رد الفعل المُبكِّر المُعبِّر عن الغضب والخوف الصادر من طفلٍ رضيع تجاه فقدانٍ غيرِ مُتوقَّع (ذلك الثدي كان مِلْكي وفجأةً لم يصبح مِلْكي، يجب أن أُمسك به وأَلتقِمه وأجعله مِلْكي مرةً أخرى)، وهل «الظل» — وهو تماهٍ قائم على التقبُّل السلبي للموضوع كونه مملوكًا للظل لا مالكًا له — متصلٌ على نحوٍ أكبر بالإحساس اللاواعي بالذنب وكذلك الحزن الناتج عن الهجران؟ وهل الإحساس بالذنب الذي يُسبِّبه الألم الواقع على الموضوع بسبب التملُّك الغاضب، والحزن الناتج عن كونه ليس موضوع الحب الوحيد، أو لعدم التوافُقِ التامِّ مع الموضوع المحبوب؟

وكما رأينا، فمنذ بداية عمله، ربط فرويد السوداوية بكلٍّ من فقدان الموضوع والعداء تجاهه؛ فيقول في كتاب «محاضراتٌ تمهيدية جديدة» الصادر عام ١٩٣٣ عندما يتحدث عن الإحساس اللاواعي بالذنب:

عندما تَشكَّلَتِ الأنا العُليا لأول مرة، لا شك أنه من خلال إعداد هذه القوة، استُخدِم جزءٌ من عدوانية الطفل تجاه والدَيه لم يكن قادرًا على التنفيس عنه إلى الخارج بسبب التثبيت الشبقي، وكذلك المصاعب الخارجية؛ ولهذا السبب ليس بالضرورة أن تكون صرامةُ الأنا العليا متوافقة مع صرامة التربية. (فرويد، ١٩٣٣، صفحة ١٠٩)

تُسبِّب السادية الإحساس بالذنب، والذنب يُسبِّب السادية. «إن الأشخاص الذين يكون لديهم هذا الإحساس اللاواعي بالذنب قويًّا على نحوٍ مُفرِط يخونون أنفسهم في العلاج التحليلي بِردِّ فعلٍ علاجي سلبي وهو أَمرٌ «مزعج للغاية» من وجهة النظر التشخيصية» (المصدر السابق، صفحة ١٠٩). إن الأمر المزعج للغاية — خلال التحويل المُضادِّ للمشاعر — هو الطبيعة المُستبِدة لتقييد الحركة التي تُسبِّبها الحاجة للإبقاء على الموضوع (الموضوع الداخلي، وكذلك المُحلِّل في تحويل المشاعر) سجينًا للأبد.

ثَمَّةَ تركيزٌ على المرحلة الفموية لليبيدو، بشكلها الخاص من العدوانية، واعتمادها الشديد على الموضوع والتملُّك اللاحق، يَتخلَّل الطرح الخاص بالسوداوية. وفي هذا البحث يَذكُر فرويد الشبقية الشرجية على نحوٍ عارض:

فيما يتعلق بإحدى السمات البارزة للسوداوية التي تناولناها بالذكر (المصدر السابق، صفحة ٢٤٨)، وهي ظهور الخوف من التحوُّل إلى الضعف والعَوَز، يبدو من المعقول افتراضُ أن هذا مُستمَد من الشبق الشرجي الذي نُزِع من سياقه وتَبدَّل في إطارٍ نكوصي.

في بحثه البارز الصادر عام ١٩٢٤، يستفيد أبراهام استفادةً كاملة من الفهم الخاص بالشرجية فيما يتعلق بالسوداوية، مميزًا بين التحكُّم في الموضوع والتشبُّث به (الذي يعتبره الطور الثاني للمرحلة الشرجية وسمةً من سمات المُصاب بالعُصاب الوسواسي)، وبين طرده والتخلُّص منه، الذي يُعد نكوصًا إلى الطور الأول من المرحلة الشرجية، وسمةً للشخص السوداوي. في الحالات البدائية للعقل، ثَمَّةَ شعورٌ بأن الموضوع في حوزة النفس، بينما يُعامل في اللاوعي كأنه رواسب؛ فالشخص السوداوي يطرد الموضوع ويخسره، بينما يرتبط به المصاب بالعُصاب الوسواسي بعلاقةٍ مرهقةٍ قاسية. ويربط أبراهام بين هذا الطور الثاني وبداية ظهور القدرة على الاحتفاظ بالموضوع، والتي ستُصبِح في ظل التطوُّر الطبيعي مَصدرَ قَلقٍ للموضوع الذي يُستشعَر أن له وجودًا مستقلًّا خاصًّا به.

لكن بالطبع يجب ألا ننسى أن الموضوع الذي فُقِد أو تم التخلُّص منه في العالم الخارجي، يتم التمسُّك به على نحوٍ تملُّكي في العالم الداخلي في السوداوية، وأن هذا الموضوع الذي يَتعرَّض للتعذيب والقتل باستمرار، ليس الموضوع المكروه الشديد السوء، بل هو دائمًا موضوع «الحب» المكروه. «إذا كان شعور الحب تجاه الموضوع — «وهو حب لا يمكن التخلي عنه رغم التخلي عن الموضوع نفسه» — يجد ملاذه في التماهي النرجسي، فإن الكراهية تبدأ عملها على ذلك الموضوع البديل» (المصدر السابق، صفحة ٢٥١).

إذن فذلك الإحساس (الذي ينتمي إلى جنون العظمة إلى حدٍّ ما) الذي ينتاب الشخص السوداوي بأنه أسوأ شخص في العالم يتوافق مع كلٍّ من تماهيه مع موضوع الحب المكروه الذي يسود شعورٌ تجاهه بالفعل بأنه «أسوأ شخص في العالم» — أو مصدر كل المعاناة — وكذلك مع الإدراك الداخلي بانخراطه في القيام دائمًا «بأسوأ شيء في العالم» وهو كونه مصدر معاناةٍ شديدة لأكثر موضوعاتك حبًّا إليك. «في حالة الحداد، يكون العالم هو من أصبح بائسًا وفارغًا، أمَّا في السوداوية، فينطبق هذا على الأنا ذاتها» (المصدر السابق، صفحة ٢٤٦). «إن عقدة السوداوية تُحاكي الجُرح المفتوح؛ إذ تجتذب نحوها الطاقات النفسية … من جميع الاتجاهات، مُفرغة الأنا حتى تصبح مُعدمةً تمامًا» (المصدر السابق، صفحة ٢٥٣). إن العالم الداخلي للشخص السوداوي عالمٌ بائس ومُقفِر نظرًا للإحساس المزدوج بفقدان القدرة على حب الموضوع، ولأن الموضوع مصدر الحب يُقتَل باستمرار. وتنشأ السادية ضد الأنا من كلِّ كراهيةِ الموضوع الذي تتوحد معه الأنا، ومن كراهية الأنا لامتلائها بالكراهية (يطلق كلاين (١٩٣٥) على هذا «كراهية الأنا للهو» بسبب هجماته على الموضوع؛ أو فيما يمكننا أن نصفه بكراهية الامتلاء بالكراهية، التي من الواضح أنها حالةٌ ذاتية الاستدامة والتجدُّد).

بالطبع تتسم العمليات المذكورة في اكتشاف فرويد المُذهِل للآليات التي تخلق السوداوية بتعقيدٍ لا نهائي (فالأمر في النهاية يستغرق سنواتٍ وسنواتٍ من التحليل لِحلِّ لغزها)؛ وكم أتمنى تسليط بعض الضوء عليها من خلال استعراضِ أمثلةٍ ووجهاتِ نظرٍ مختلفة. ولمَّا لم يكن لبحث «الحداد والسوداوية» أيُّ مادةٍ تحليلية، سأبدأ بتوضيح تلك الآليات بما أعتقد أنه المثال الأروع، والمأخوذ من أحدِ أوائلِ رواد التحليل النفسي، وهي المُحلِّلة النفسية النمساوية هيلين دويتش.

(٢) دراسة لحالة هيلين دويتش عن السوداوية

كان لِدويتش السبق في تقديمِ مثالٍ رائع لبيان التأرجُح بين القسوة على الأنا تماهيًا مع الموضوع، وبين الأسى والخوف من أجل الأنا والموضوع، وذلك في بحثها الصادر عام ١٩٣٠ بعنوان «السوداوية». تصف دويتش في السيرة المَرَضية لأحد مرضاها المصابين بالذُّهان العملية المُعقَّدة لعدةِ تماهياتٍ مختلفة، والتي تبلغ ذروتها عند الفكرة التخيُّلية للمريض والتوجُّهات الانفعالية المختلفة نحو الذات والموضوع في الدراما الداخلية.

كانت مريضة دويتش، وهي سيدةٌ عزباءُ في الخمسينيات، تعاني من انهيارٍ عصبي اكتئابي بعد اختفاء كلبها الصغير، وسرعان ما اتضح أن هذا الكلب كان بديلًا لأختها التي تَصغُرها بثماني سنوات والتي تفانَت في العناية بها ورعايتها بعد وفاةِ والدتهما في سنٍّ مبكرة — عندما كانت المريضة في الثانية عشرة من عمرها — وضحَّت من أجلها بمسيرتها الوظيفية الواعدة، لتتركها الأخت، والتي أَشبَعت أمنيتها النرجسية بالنجاح من خلال التماهي، فجأةَ وبجحودٍ لتتزوج، وانتَقلت إلى بلدٍ آخر:

على مدى عامٍ تقريبًا كانت المريضة في اكتئابٍ شديد، تتخلله نوباتُ قلقٍ شديدَة وحالاتٌ تُقارب الهذيان الانفعالي على نحوٍ دوري. كانت كُلُّ مخاوفها تتمحور حول فكرةٍ واحدة تشبَّثَت بها بعنادٍ وتصلُّب، رغم أنها كانت قادرةً على أن ترى بنفسها سخافة الفكرة المُتسلِّطة المسيطرة عليها. ولكن بالرغم من هذا الإدراك النابه العارض لِسخافة الفكرة، ظلَّت متعلقةً بها بدرجاتٍ متفاوتة من الأثر العاطفي؛ فكانت تتخيل أنها سيُزج بها في الشارع عاريةً بينما هي نائمةٌ لتواجه ميتةً فظيعة، وحيدةً مهجورة. وأحيانًا كانت تُصرِّح بهذه الفكرة لفظًا في لا مبالاةٍ تامة، وأحيانًا كانت تَتوسَّل حدوثها «عاجلًا لا آجلًا»، وفي أوقاتٍ أخرى كانت تَصرُخ طالبة المساعدة وهي في أشد حالات الخوف الهذَياني: «إنهم قادمون! إنهم قادمون! لا تدَعوهم يأخذوني! ترفَّقوا بي!» ومن وقتٍ لآخر، كانت تُصر على أنها لا تستحق غير هذا وحسنًا تفعل إن عاقبَتها بهذه القسوة. (دويتش، ١٩٣٠، صفحة ١٤٦)

إن تاريخ المريضة كما تصفه دويتش هو تاريخُ تماهياتها العديدة، فيما يُعَد مثالًا توضيحيًّا لوجهة نظر فرويد من أن «شخصية الأنا هي راسبٌ من تركيزاتِ الطاقة النفسية على الموضوع المهجور وتحوي تاريخَ اختياراتِ ذلك الموضوع» (فرويد، ١٩٢٣). لقد كانت المريضة تشعر بالغَيرة الشديدة عندما وُلِدت شقيقتها؛ لكن التماهي مع الأم عمِل كآليةِ دفاعٍ ناجعة ضدها، ولاحقًا نَقلَت هذا التماهي إلى الأخت التي أصبحت موضوع الحُب الأوحد في حياتها، الذي تمثل في أُمنيتها أن تُصبِح كاتبةً ناجحة. وهذا التماهي النرجسي اللاواعي، حسب دويتش، يُمهِّد الطريق أمام التماهي السوداوي:

بِتتبُّع التطور النفسي للمريضة، نستطيع تكوينَ مخُطَّطٍ تتابُعيٍّ لما دار بداخلها؛ أولًا: الكراهية والعدوانية تجاه شقيقتها؛ التصدي لهذه الدوافع من خلال آليات العُصاب الوسواسي؛ بعدئذٍ تعويض مفرط ناجح عن الكراهية من خلال الحب والعطف؛ ثم إشباع للجروح النرجسية من خلال التماهي مع شقيقتها، وأخيرًا، تحوُّل العدوانية إلى تضحيةٍ مُشبعة بالذات على نحوٍ مازوخي من أجلها وهو إنجازٌ رائع ويُعتبر أسلوبًا إداريًّا ممتازًا في البيت النفسي.

بَعدَ ما تلقَّته من إحباطٍ وخيبةِ أملٍ على يد الأخت، لا يتم التخلي عن هذا الترتيب النفسي؛ فقط يُضاف إليه كمِّياتٌ جديدة من الدوافع العدوانية، حتى تصل المريضة إلى مرحلةٍ خطيرة من المرض. كذلك يبقى التماهي وأيضًا النزعة المازوخية نحو الأنا؛ فالعقاب الذي حَكمَت به المريضة على شقيقتها وهو «الزجُّ بها إلى الشارع»؛ لكي تلقى نهايتها البائسة، الذي نسمعها تطالب به بوتيرةٍ منتظمة، لم يعد تهديدًا مُوجَّهًا لشقيقتها، بل مُوجَّهًا إلى ذاتها، وأحيانًا تتوسل لتنفيذ العقاب، وفي أوقاتٍ أخرى تُدافع عن نفسها ضده وهي في أقصى حالات الخوف والقلق عنفًا. والآن صِرنا مُدركِين بمن يرتبط هذا العقاب، ولماذا صرَّحَت المريضة في أشد حالات اتهامها لذاتها: «أنا لا أستحق غير هذا.» لقد كانت الجرائم التي نَسبَتها إلى نفسها بالفعل جرائمَ تافهة إلى حدٍّ بعيد، لكن فعلة شقيقتها «لم تكن تستحق أي شيء» إلا أن تُقابَل بأقصى درجات العقاب. (دويتش، ١٩٣٠، الصفحات ١٤٩-١٥٠)

بالعودة إلى بحث «الحداد والسوداوية»:

إذا كان الحب تجاه الموضوع — وهو حبٌّ لا يمكن التخلي عنه رغم التخلي عن الموضوع نفسه — يجد ملاذًا في التماهي النرجسي، فإن الكراهية تبدأ عملها داخل ذلك الموضوع البديل، فتُسيء معاملته، وتُحقِّر من شأنه، وتجعله يعاني، وتستمد إشباعًا ساديًّا من معاناته. … وهكذا تكون الطاقة النفسية الجنسية للشخص السوداوي فيما يتعلق بموضوعه قد خَضعَت لتغيُّرٍ مزدوج: جزء منها تراجَعَ إلى حالة التماهي، أمَّا الجزء الآخر، وتحت تأثير الصراع الناجم عن الازدواجية والتناقض، فيُرَدُّ إلى مرحلة السادية التي هي أقرب إلى ذلك الصراع. (المصدر السابق، صفحة ٢٤٩)

سوف تتركز هذه السادية في الأنا العليا التي ستحكم على الأنا «كما لو كانت موضوعًا؛ الموضوع المهجور» (المصدر السابق، صفحة ٢٤٩).

إن مثال دويتش التحليلي يجعل بالإمكان تفسير الاختلافات الدقيقة في التماهيات؛ فالمريضة تتأرجح بين حالةٍ عقلية تقول فيها «اقتلوني!» وأخرى تقول فيها «أرجوكم أنقذوني من القتل!» يمكن القول إن الأُولى (اقتلوني) تنتمي لنسخة فرويد الأُولى من الانتحار، التي تتوحَّد فيها الأنا لا شعوريًّا مع الموضوع القاسي الراحل الذي يستحق الموت، والذي يجب قتلُه إذن بواسطة الأنا العليا؛ لكن بالطبع فإن عبارة «زُجُّوا بي في الشارع واتركوني لأموت» يمكن أيضًا أن يكون لها طابعٌ انفعاليٌّ مختلف؛ طابع الأنا التي تشعر بأنها غيرُ محبوبةٍ لدرجة أن الموت هو الحل الوحيد؛ فعبارة «الأنا تترك نفسها لتموت» تعني أيضًا «الموت وحده هو ما يمكنه إنقاذي من عذاب الشعور بعدم الحب.» بالطبع يُوجد موضوعٌ لا يستحق إلا هذا، ولكن تُوجد أيضًا أنا تُدرِك تناقُضًا عميقًا ولا يمكنها تحمُّل ما فعلته بالموضوع.

في سيناريو «أنقذوني!» يسود شعور بأن الأنا العليا القاتلة «مُستبعَدة»، وأن ذات الطفل التي هجرها الموضوع العطوف تُواجه رعبًا شديدًا على يد الموضوع القاسي الاضطهادي، لكنها كذلك تأمُل أنَّ ثَمَّةَ موضوعًا عطوفًا ربما يُظهِر تعاطفًا ويأتي لنجدتها (وهكذا فإن الحب ما زال موجودًا في مكان ما). لكن بالطبع يمكن لسيناريو «أنقذوني!» أن يكون أيضًا تماهيًّا مع الموضوع المُعذَّب المهجور. فالجرح دائمًا ما يكون مزدوجًا: النفس الجريحة والموضوع الجريح؛ لكنه دائمًا مزدوج في الطابع الشعوري كذلك؛ فنرى شعورًا جامحًا بالظلم، وامتلاءً بالكراهية تجاه الموضوع، وأسًى لا يُحتَمَل لعدم وجودِ حبٍّ متبادل. إن النفس منخرطة في جزء منها في تماهٍ إسقاطي مع موضوعٍ داخلي عدائي — الأنا العليا القاسية — وفي تماهٍ مع الموضوع الصارخ المُحطَّم في جزءٍ آخر.

وهكذا يُصبِح فهم مريض السوداوية مرادفًا للحاجة لفكِّ لُغزِ كل هذه العلاقات والتماهيات المختلفة مع مختلفِ جوانب الموضوعات الداخلية، وكذا كل أشكال الطابع الشعوري الانفعالي، من الغضب الوحشي القاتل إلى الحزن والإحساس بالذنب والرعب من الدمار الذي تتسبب فيه النفس، وما يعقُب ذلك من تجربة الألم الناتج عن عدمِ حصولها على الحب، عن استحقاق، لو جاز التعبير، ومن ثَمَّ فهي غيرُ جديرةٍ بأن تكون محبوبةً للأبد: «تدَع الأنا نفسها لتموت».

يبدو واضحًا في حالة دويتش أن الاسترضاء المُفرِط للأنا العليا من بدايةِ تاريخ المريضة فصاعدًا مرتبطٌ بتجربتها (التي تكون لا واعية في معظم الوقت) مع قسوتها الذاتية؛ ففي البداية ينبثق الخيال لدى المريضة في إطارِ أولِ موضوعٍ عمد إلى الهجران (إذا تتبعنا فكرة فرويد عن الوحشية الفموية حتى الثدي المحبط)، ثم في إطار الشقيقة المولودة حديثًا، والتي يفترض أنها النقطة التي ينبع منها الوهم الأَوَّلي (وهمٌ يُحقِّق الأمنية) الذي يُجسِّد شخصًا «يُرفَع من فوق سريره ويُلقى به عاريًا في بالوعة».

عندما ينقلب الجزء النشط الواعي من الأنا بوحشيةٍ شديدة ضد الأنا المتماهية مع الموضوع، يجب أن نفترض أن ما يحدث «للنفس المتحدثة»، التي تطلب العقاب الوحشي، يتمثل في كونها متماهية على نحوٍ لا واعٍ مع المعتدي؛ أي الأنا العليا القاتلة، التي أصبَحَت، حسب تعبير فرويد (اللاحق)، «ثقافة خالصة لغريزة الموت» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٥٣).

عندما نتحدث عن أنا عُليا لا تعرف أيَّ شفقةٍ في تلك اللحظة، ولا تملك أي رحمةٍ أو تسامُح؛ وربما تُجسِّد نسخةً مغالًى فيها لوالدٍ مُستدمَج غيرِ متسامح، كان لديه ذُعرٌ شديد من دوافع الطفل الصغير العدوانية (مع وضع ما قاله فرويد عن إدراك اصطباغ قسوة الأب بعدوانية الطفل اللاشعورية، بالطبع، في الاعتبار)، أو يُمكِننا تخيُّل أُمٍّ ضعيفة، يُنظَر إليها كأُمٍّ تحطَّمَت بسهولةٍ بفعلِ عدوانية الطفل، تثير مثل هذا الإحساس غير المُحتمَل بالذنب، لدرجةٍ يتعذَّر معها التعامُل معه والخوض فيه؛ فالموضوع الداخلي المُحطَّم يُشكِّل اتهامًا دائمًا يُستخدَم على نحوٍ لا نهائي كدليلٍ على وجود المُضطهد الداخلي.

إن مهمة المحلل، من وجهةِ نظرٍ إكلينيكية، هي الخوض تدريجيًّا في حلِّ لُغزِ كل النُّسَخ المختلفة للصراع النفسي، من خلال فهم التماهيات المختلفة والتغييرات المُتسارِعة في العلاقات اللاواعية مع الموضوع، لاكتشاف من يرتبط بمن، وبأيِّ طريقة، من خلال تحويل المشاعر.

(٣) «الجرح والقوس»

يأتي هذا العنوان من مقالٍ شهير ومُؤثِّر للغاية كتبه الناقد الأدبي إدموند ويلسون بعنوان «الجرح والقوس» (١٩٤١) يُناقش فيه مسرحية «فيلوكتيتس» لسوفوكليس. يستخدم ويلسون ببراعةٍ جرح فيلوكتيتس المُتعذِّر شفاؤه وقوسه الذي لا يُقهر كاستعارةٍ مجازية للجوانب الإيجابية والسلبية للدافع الإبداعي، ويُشير إلى شيخوخة سوفوكليس (إذ كان عمره ٨٧ عامًا وقت تأليفه المسرحية) على نحوٍ جزئي كتفسيرٍ لأسلوبه في تصوير الصراعات؛ إذ تدور المسرحية حول صراعات النضج. أتى سوفوكليس بتجديدٍ عظيم في الدراما، بزيادة عدد المُمثلِين إلى ثلاثة (ويتلينج، ١٩٥٣)؛ وقد ترتب على ذلك، بحسب ويتلينج، أن «أصبَحَت الشخصية الآن، وليس الحدث المقدَّر حدوثه سلفًا، هي محور تركيز الدراما» (المصدر السابق). ولا شك بالفعل في أنه على الرغم من أن إرادة الآلهة هي كالمعتاد دائمًا إرادةٌ عليا، فإن المسرحية تُقدِّم دراساتٍ لشخصياتها، وصراعاتها الداخلية وكذلك الصراعات فيما بينها برؤيةٍ نفسيةٍ منطقية ثاقبة.

كُتِبَت فيلكوتيتس قبل مسرحية «أوديب في كلونا» مباشرة، وهي المسرحية التي تُناقِش اقتراب أوديب من الموت، والتي يتراجع فيها أوديب، كما بيَّن جون ستاينر (١٩٩٣) على نحوٍ لافت للنظر للغاية، عن مواجهة الحقيقة إلى حالةٍ من القدرة الكلية وإنكار الذنب، وهو الذنب الذي كان قادرًا على تقبُّله في نهاية مسرحية «أوديب». تتمحور الصراعات في المسرحية التي سأُناقشها حول الذنب والمسئولية والضيم؛ وأظن أنها مثالٌ توضيحيٌّ جيد لمقولة فرويد: «عقدة السوداوية تحاكي الجرح المفتوح؛ إذ تجذب إليها الطاقات النفسية … من جميع الاتجاهات، مُفرغةً الأنا من كل طاقاتها حتى تسلبها خِصبها» (صفحة ٢٥٣).

ورث فيلوكتيتس من هرقل قوسًا لا يُقهر كان الإغريق يأمُلون أن يساعد في هزيمة الطرواديِّين. قبل بدء أحداث المسرحية بعشر سنوات، يُبحر المحاربون الإغريق، وبينهم فيلوكتيتس وأوديسيوس، إلى طروادة، ويقطعون رحلتهم عند إحدى الجزر ليزوروا معبد الإلهة كريسي. وبالقرب من المعبد، يتعرض فيلوكتيتس للدغةِ أَفعى سامَّة. لا يلتئم الجرح وتفوح منه رائحةٌ نتنة لا تُطاق. في أول مشاهد مسرحية سوفوكليس، يصف أوديسيوس ما حدث بعد ذلك لنيوبتوليموس ابن المحارب الإغريقي الراحل آخيل:

تركتُ فيلوكتيتس في خليج ماليان، وكان ابن بوياس (في جزيرة ليمنوس المهجورة) يعرُج بسبب جرحٍ مُتقيح في قدمه كان يئن ويصرخ بلا انقطاع بسببه؛ كان معسكرنا لا يخلو من نحيبه الشديد؛ لم يكن يتوقف ولو لِلحظةٍ لصلاة أو شراب، بل كانت صرخاته المُعذبة تُدنِّس الصمت. (سوفوكليس، ١٩٥٣)

لذا فعند بداية المسرحية كان فيلوكتيتس قد مكث في ليمنوس عشر سنواتٍ بمفرده، في بؤسٍ شديد وعذابٍ لا ينقطع بسبب ألم جرحه الذي لا يُحتَمل إلى جانب الجُرح الذي خلَّفه ما تعرَّض له من ضيمٍ شديد؛ فقد هُجر، وهو البطل العظيم، رغم مُعاناته، و«بسببها» أيضًا كما يرى أوديسيوس. كان الإغريق عاجزِين عن الفوز بالحرب، وكان أوديسيوس يُريد الاحتيالَ على فيلوكتيتس وسرقةَ القوس السحري عن طريق خِداعِه بواسطة نيوبتوليموس الشاب الذي لم يلتقِ به فيلوكتيتس من قبل. كان نيوبتوليموس قلقًا من استغلاله بهذه الطريقة؛ فهو لا يُريد الكذب حتى لو كان هذا لغرضٍ نبيل كما هو مُفترَض. يُخبِره أوديسيوس أنه سيستطيع إقناع فيلوكتيتس أنه في صفِّه إذا أخبره بأنه أيضًا لديه مظلمة؛ عليه أن يكذب ويُخبره بأن الإغريق قد أعطَوا درع آخيل أوديسيوس بدلًا منه، وهو الوريث الشرعي. ويتمكن أوديسيوس من إغرائه مؤقتًا بخطَّته الخادعة بحافزٍ مزدوج، وهو الوفاء بواجبه الوطني وحصد المجد والشهرة. لكن في النهاية كانت الكلمة النهائية لصدق نيوبتوليموس ومشاعره النبيلة؛ إذ يُخبر فيلوكتيتس بالحقيقة، ويصطحبه معه في السفينة رغم صرخاتِ أَلمِ الأخير المُدوِّية ورائحة جُرحه النتِنة، ويَعِد فيلوكتيتس أنه بعد فوزهم بالحرب بمساعدة القوس، سوف يتولى أبناء اسكلبيوس علاجه. من الواضح كذلك أن الآلهة قد قرَّرَت أنه لكي يفوز الإغريق بالحرب، فعليهم اصطحاب فيلوكتيتس وقوسه معهم إلى طروادة.

أَودُّ استخدامَ مسرحيةِ سوفوكليس لتوضيح كلٍّ من مشاعر الأسى والظلم الناجمَين عن السوداوية؛ ذلك الجرح الذي لا يلتئم قَط ويتغذَّى على ذاته، ويتضاعف بفعل مشاعرِ الكراهية تجاه الموضوع القاسي الهَاجِر. كذلك سأستعين بها لتوضيحِ نوعٍ مُعيَّن من شعور الذنب اللاواعي الذي يصفه كلاين (١٩٣٥، ١٩٤٠) كشعورٍ اضطهاديٍّ بالذنب، حين تجد النفس أنها لا تُطيق تحمُّلَ منظرِ جُرح الموضوع، الذي يُنظَر إليه كهجومٍ رهيب وتهديدٍ لبقاء النفس على قيد الحياة. إن هذا النوع من الشعور بالذنب يحتاج لِفصله وإسقاط الضوء علَيه في أبعد «جزيرة» في العالم الداخلي، وفي النهاية ينبغي تدمير الموضوع المُحطَّم الذي يُعاني؛ للتخلُّص من الاتهامات والرعب الناشئَين عن معاناته (سودريه، ٢٠٠٠) (يرى كلاين أن هذه المسرحية تُعتبر توضيحًا مثاليًّا للصراعات المؤلمة التي تحدث في بداية حالة الاكتئاب).

تُقدِّم الشخصيات الثلاث الرئيسة في المسرحية توضيحًا جيدًا لآليات الصراع العقلي؛ فيُمثِّل أوديسيوس أمنية الابتعاد بدونِ شفقةٍ عن الألم الذي تُسبِّبه العدوانية والنزعة إلى القتل المتمثلتَين في الرائحة النتِنة الرهيبة وصَرَخات الموضوع التي لا تُحتمَل؛ يمكن القول إن نيوبتوليموس يشغل موقع الأنا مقسمًا بين الألم للموضوع الجريح، والإحساس بالمسئولية تجاه الجُرح وتمنِّي الخضوع لإغراء الدفاعات الهوَسِية التي يُمثِّلها أوديسيوس العديم الرحمة، بينما يُمثِّل فيلوكتيتس الموضوع المُعذَّب بالنسبة إلى أوديسيوس ونيوبتوليموس، ودليلَ استحقاق اللوم الذي تُقدِّمه الأنا العليا؛ ولكنه كذلك يُوضِّح مأزِق الشخص السوداوي الذي هجره موضوعُ حُبه المُفعَم بالكراهية وكراهية الذات وغير القادر على الثقة أو التمسُّك باحتمالِ وجودِ أيِّ أمل.

في بحث «الحداد والسوداوية»، ينظر فرويد إلى الهوس كانتصارٍ على الحالة السوداوية إذ يقول: «يُظهِر الشخص المصاب بالهَوَس بوضوحٍ تَحرُّره من الموضوع الذي كان سببَ مُعاناتِه بالبحث كرجلٍ لديه جوعٌ شديد عن تركيزاتٍ جديدة للطاقة النفسية على الموضوع» (فرويد، ١٩١٥، صفحة ٢٥٥). يُمكِن النظر إلى الهوَس كانتصارٍ على الأنا العليا؛ فنرى أوديسيوس المهووس يحاول إغواء نيوبتوليموس ودفعه للتصرُّف بقسوةٍ وشراسةٍ وتجاهُل ضميره بأن يعرض عليه النصر في الحرب كمكافأة. لكن نيوبتوليموس، وبعد صراعٍ مرير، يُدرِك أنه لا يمكنه القيام بهذا؛ فالألم والمعاناة، من وجهةِ نظره، يجب تحمُّلهما لا محالة. من الصعب تحمُّل صَرَخات الموضوع المُتضرِّر ورائحته النتِنة، لكن ليس بقَدْر عدم تحمُّل أوديسيوس لها. يمكن القول إنه بعيدًا عن طبيعته الأكثر طيبةً وتعاطفًا، ثَمَّةَ عاملٌ آخر يلعب دورًا هنا؛ لقد قابل فيلوكتيتس للتو؛ فهو ليس متهمًا بهجرانه في معاناته الشديدة لمدة عشر سنوات؛ ومن ثَمَّ ليس لديه أيُّ سببٍ لكراهيته، بينما في عقل أوديسيوس (وفي الواقع كذلك)، كانت كل لحظةٍ في تلك السنوات العشر كان يُعذَّب فيها فيلوكتيتس على نحوٍ سادي؛ لقد سمع (على نحوٍ لا واعٍ) الصرخات التي لا تنتهي، وهذا يزيد من نزْعته للقتل تجاهه بدلًا من أن يُقلِّلها.

ترى الجوقة فيلوكتيتس وهو يتعذَّب بالسم الذي في جُرحه يتجول «ذهابًا وإيابًا، على الأرض القاحلة، كطفلٍ دون مُربِّية» (سوفوكليس، ١٩٥٣، صفحة ١٨٧)، كالأنا المهجورة التي وَصفَها فرويد التي «تترك نفسها تموت»؛ لكن في غمرة يأسه وغضبه، يطلب منهم فأسًا أو سيفًا «لأُقطِّع نفسي إربًا، لأُمزِّق أوصالي!» إن مسألة الانتحار مسألةٌ محورية لهذه المسرحية؛ والمثير في الأمر أن فيلكوتيتس لم يقتل نفسه بعد، رغم أنه ظل في الموقف اليائس نفسه الذي لا يُحتمَل لِعشر سنوات؛ وهو ما يجعل الأمر يبدو كما لو كان سوفوكليس يتمنى أن يُناقِش هذه المشكلة ليس فقط فيما يتعلق بدرجة المعاناة التي يتحمَّلها فيلوكتيتس، بل فيما يتعلق بكونها مركزَ علاقتِه بموضوعاته.

على مدى المسرحية، يتأرجح فيلوكتيتس بين النزعة لقتل مُضطهِديه وقتل ذاته، ومع معرفته بنيوبتوليموس، يتأرجح بين الثقة وعدم الثقة في موضوعه الخيِّر المُحتمَل. وتأتي دوافعه الانتحارية في هيئتَين فَحَصتُهما في تفكير فرويد: قتل نفسه/موضوعه، والتمني السلبي للموت. عندما يطلب قائلًا «ألقُوا بي في فوهة البركان»، مثل مريضةِ دويتش التي تَتوسَّل لكي يُزج بها في الشارع لِتموت، نجده أكثر سلبيةً واتكالًا؛ بينما عندما يطلب من الجوقة فأسًا لِيُقطِّع جسده كله إربًا وليس قدمَيه فقط، نراه ثائرًا وشديدَ العنف، يفعل بجسده ما يتمنى أن يفعله بموضوعهِ بساديَّة.

في ترجمة ويلسون (١٩٤١، صفحة ٢٥٠)، يهاجم الألم فيلوكتيتس كمسٍّ شيطانيٍّ استحواذي من قِبل عنصرٍ مُعذب يتخذ صيغة المؤنث:

لكن بينما هم يستعدون للذهاب إلى السفينة، تبدأ القرحة في قدم فيلوكتيتس في إصدارِ نبضٍ مؤلم نحو مُنذرٍ بسوء استعدادًا لإحدى نوباتها الانفجارية المُتكرِّرة؛ فيقول المريض: «إنها تعود من وقتٍ لآخر، كأنها شبِعَت من جولاتها.» وفي لحظةٍ يتمدَّد على الأرض ويتلوَّى في ألمٍ مُبرِّح مُذِلٍّ ويَتوسَّل الشاب لكي تُقطَع قدمه.

يُعزِّز هذا تجربتنا عن كون الألم يأتي من موضوعٍ داخليٍّ مُوجعٍ يتولى السيطرة فجأة. والتنقُّل بين اليأس والأمل يرتبط باحتمالية القدرة (أو عم القدرة) على الثقة بموضوعٍ طيب وخيِّر:

يُعطي القوس نيوبتوليموس مُخبرًا إياه أن يعتني به حتى تنتهي النوبة، ثم يصاب بنوبة تشنج ثانية، أسوأ من سابقتها، تُجبِره على أن يناشده أن يرميه في فُوَّهة بركان ليمنوس … يخمد الألم قليلًا، فيقول فيلوكتيتس: «إن الألم يروح ويجيء.» ويستعطف الشاب ألا يتركه. «لا تقلق، سوف نبقى.» «لن أجعلك حتى تقسم على البقاء يا بُنيَّ.» «لن يكون من الصواب أن أتركك.» … يَتلوَّى الأعرج بسبب نوبةٍ ثالثة؛ ويطلب الآن من نيوبتوليموس أن يصطحبه إلى الكهف، لكنه يسقط من قبضته ويقاوم. في النهاية ينفجِر الخُرَّاج ويَتدفَّق ويبدأ دَفقٌ من الدم الأسود، ويخلُد فيلكوتيتس إلى النوم وقد أصابه الإعياء وأغرقه العرق.

عندما يكون أَلمُه شديدًا، تُصبِح كل الموضوعات غيرَ جديرةٍ بالثقة. لكن تَشبُّثه بالشكوى من الضيم والظلم يُديم الألم كما في ترجمة شيموس هيني:
الجوقة : جُرحك هو ما يتغذَّى عليك يا فيلوكتيتس. أقولها لك مرةً أخرى بروح الصداقة: توقَّف عن تدمير نفسِكَ بالكراهية وتعالَ معنا.
ويجيب فيلوكتيتس بعد عدة أبيات:

أبدًا. كلَّا. مهما ضاق الخناق من حولي، فسأكون طروادة الخاصة بي. (هيني، ١٩٩٠، الصفحات ٦١–٦٣)

إن عبارة «سأكون طروادة الخاصة بي» إنما تنقل بعناية درجة الميل إلى تدمير الذات في أرض المعركة النفسية والانتصار الذي يصحبها؛ فنجد سوفوكليس يتناول مسألةَ تدميرِ الذات التي ينطوي عليها الشعور السوداوي بالظلم بدفع نيوبتوليموس نحو إدراكِ أن فيلوكتيتس عالقٌ في حالةٍ من الرفض الثائر للسماح لنفسه بتلقِّي المساعدة من أحد، وهو ما يحدُث بعد أن يستطيع نيوبتوليموس فهم الموقف الذي هو فيه والتعامُل مع نزاعه الخاص ومن ثَمَّ العثور على الحل الحكيم، ألا وهو: اصطحاب الجُرح والقوس معه، وهو ما أستخدمه هنا للرمز إلى القدرة على تحمل المسئولية عن العدوانية.

عندما يرفض فيلوكتيتس عرض نيوبتوليموس باصطحابه إلى المعركة، وإلى من سيُعالجونه أيضًا في الأثناء، رغم إدراكه الآن أن ثمة أملًا في تواجُد الثقة وإمكانية، يقول نيوبتوليموس:

… لا عذر أو شفقة لمن يختارون التعلُّق بالمعاناة والمشقة التي صَنعَتها أيديهم كما تفعل أنت. لقد أَغلقتَ قلبك ولن تستمع إلى النصيحة. من يُحاولون إقناعك، بكلِّ نيةٍ حسنة، تُقابِلهم بالعداء والكراهية والتشكُّك. (سوفوكليس، ١٩٥٣، صفحة ٢٠٧)

ثم يطلب مُجددًا أن يوافق فيلوكتيتس على المجيء معه، لِيرُد الأخير:

لماذا حُكِم عليَّ بالعيش طويلًا هكذا؟ ألا يمكنني الموت؟ ألا يمكنني الموت أيتها الآلهة؟ ماذا عساني أن أفعل؟ لا يُمكِنني عدم سماع ناصحي الطيب. لكن هل يمكنني الخروج من حالة البؤس الطويلة هذه والعودة إلى ضوء النهار ورؤية البشر؟ (المصدر السابق، صفحة ٢٠٨)

ثم يتذكر الأسباب التي تجعله يشعر بالجُرح والظلم البالغَين:

أَعرِفُ ما تريد؛ تريد استدراجي إلى مصيري.

ونشعر أنه الآن يستخدم جنون الارتياب كآليةِ دفاعٍ ضد كلٍّ من خوفه من عدم تحسُّن حالته أبدًا وخوفه من تحسُّنها. إنه يعرف الآن أن نيوبتوليموس يُريد «استدراجه» إلى الحياة لا إلى حتفه؛ وهذا هو رد فعل فيلوكتيتس العلاجي السلبي. يمكن القول هنا إن «العودة إلى رؤية البشر» يمكن أن تعني كلًّا من الخوف من أن يُنظَر إليه، وشعوره بالخزي مما أصبح عليه، والخوف من رؤية الحياة (لا بسبب ما فاته فقط، بل أيضًا بسبب الذي ما زال في إمكانه الحصول عليه وعليه الشعور بالامتنان من أجله). يُذكِّرني هذا بإحدى مريضاتي التي صَرخَت ذاتَ مرة بعزمٍ غاضب، بعد قضائها عُطلة نهاية الأسبوع مع والدتها (التي هي كذلك مُحلِّلتها النفسية) واضطرارِها للاعتراف بأن والدتها كانت تُحاوِل مساعدتها بكل ما أُوتِيَت من قوة: «لتحل عليَّ اللعنة لو شَعَرتُ بالسعادة!» إذن يمكن القول، فيما يتعلق بإدمان الشكوى والشعور بالمظلومية، إن «الناس لا يَتخلَّون طواعيةً قَط عن موقفٍ شهواني، ولا حتى عندما يعمد بديلٌ إلى إغوائهم …»

إن النظرة للجُرح هنا هي نظرةٌ مزدوجة، تماشيًّا مع اقتباساتي لفرويد؛ فهو يتعلق، من وجهة نظر فيلوكتيتس، بالألم الناجم عن مهاجمته للموضوع وخيانته له، والجُرح الناجم عن شعوره بالظلم والاضطهاد الذي يعتني به ويُغذِّيه؛ ومن وجهة نظر أوديسيوس، فإنه يرمز إلى جُرح الموضوع وشعور الذنب غير المحتمل الذي يُسبِّبه، ممثلًا في الصرخات والرائحة النتِنة. ويمكن استخدام القوس، الذي يُمثِّل العُدوانية ويُمثِّل في الوقت نفسه الحياة والحركة والقوة، على نحوٍ إبداعي فقط، بطريقةٍ ناضجة، إذا كان مُتحدًا بشكلٍ ما مع الألم والذنب؛ فكلما ابتَعدَت عن الموضوع المُتضرِّر، ازدادت صرخاته علوًّا في العالم الداخلي (كلاين، ١٩٣٥)؛ وازدادت ضرورة تجنُّب الاستبطان وسبر أغوارِ النفس عن طريق الانفصال والدفاعات الهوسية؛ فموقف أوديسيوس غير الأخلاقي المهووس الذي «لا يهمه إلا الفوز مهما كانت الوسيلة، لن يقوده إلى النصر في حقيقة الأمر.

لذا أعتقد أن هذه الأسطورة وطريقة استخدام سوفوكليس لها في نسج مسرحيته يمكن أن تعمل كتوضيحٍ لكلٍّ من صورة فرويد للسوداوية كجرح وللدفاعات ضده:

إن عقدة السوداوية تحاكي الجرح المفتوح؛ إذ تجتذب نحوها الطاقات النفسية — والتي أطلقنا عليها في إطار الاضطرابات العُصابية المرتبطة بتحويل المشاعر «التركيز النفسي المضاد» — من جميع الاتجاهات، مُفرغة الأنا حتى تصبح معدمةً تمامًا. (فرويد، ١٩١٥، صفحة ٢٥٣)

تأتي قدرة هذا الجرح على جذبِ كلِّ طاقات التركيز النفسي إلى نفسه من خلال اشتماله على العالم الكامل لهذه العلاقة الخاصة بين الأنا والموضوع؛ فكلاهما مجروحٌ وجُرحهما يَتعذَّر علاجه والشفاء منه؛ فالأنا مُعدَمة والعالم من وجهة نظر السوداوية، خالٍ من المعنى والخير؛ وفي مثل هذه الحالة من اليأس وانعدام الأمل، ستختار النفس «أن تدَع نفسها تموت». ولكن بالتزامُن مع ذلك، تندلع حربٌ مُروِّعة؛ حيث تتحد كراهية الموضوع الذي يُسبِّب مثلَ هذا الألم مع كراهية النفس التي تُسبِّب مثل هذا الألم للموضوع. وتُتيح لنا الرؤية الثاقبة الرائعة لفرويد عن الاستدماج والتماهي إمكانيةَ رؤيةٍ عملية استثنائية؛ إذ نرى النفس تُعاني أثناء كونها الموضوع. صوتُ من يندب، ومن يَبكي في أسًى، ومَن يَصرُخ في غضب؟ مَن تَمزَّق إلى أشلاء؟ ثَمَّةَ دراما مُعقَّدة للغاية تدور، تتغير فيها الشخصيات بانتظام؛ فالأنا العليا، الميالة للانتقاد القاسي والتأنيب كالأب، ولكنها مُفعَمة بنزعةٍ لقتل الهو، تُهاجِم الأنا المتماهية مع الموضوع — أو تهاجم الأنا التي تُصبحِ النفس — تلك الأنا المُجسَّدة في هيئة «ذاتي»، والتي تَشعرُ بالهجران، على عكس الأنا التي تُمثِّل الآخر والمُتخفِّية كذاتي.

من الواضح أنه كان على أوديسيوس، الذي يُمثِّل «شرير» المسرحية، والمستعد لأن يكذب ويتصرف بخسَّة، الهرب ليس فقط من المسئولية بل من الشعور بالذنب كذلك؛ فقد كانت رائحة الجُرح النتنة وصرخات فيلوكتيتس أمورًا غيرَ مَحتملَة بالنسبة له. وإني لأعتقد أنه مثالٌ جيد لشعور الاضطهاد بالذنب؛ ذلك الذنب الذي لا يمكن مواجهته ويجب التعامُل معه بالنكران والابتعاد والقدرة الكلية (وفقًا لما يراه ستاينر، فيما يتعلق بموقف أوديب في مسرحية «أوديب في كلونا»). إن أوديسيوس يَوَد لو حصل على القوس بدون الجُرح؛ فهو يظن أنه يمكنه الفوز بحربٍ كهذه بدون الدمج بين العدوانية وبين الذنب والألم. أمَّا نيوبتوليموس، فيشعر بشعورٍ مختلف، وبسبب شفقته وقلقه؛ بسبب معاناة موضوعه، يتمكن من تحقيق هذا الدمج؛ إذ يُمكنه تحمُّل الصرخات والرائحة النتِنة، ويعِد فيلوكتيتس بالأمل؛ فالآلهة تعرف أنه لا يمكنكَ الفوز إذا كنت تمتلك القوسَ فقَط دون الجُرح.

تنتهي أحداث المسرحية بتدخُّلٍ إلهي كُلي القدر على هيئة هرقل الذي كان يمتلك القوس في الأساس؛ حيث يظهر ويُوجِّه فيلوكتيتس نحو إدراكِ مصيره التاريخي، لكن الصراع النفسي بين الشخصيات من الواضحِ أنه كان قابلًا للحل؛ إذ يجد نيوبتوليموس طريقةً لعلاج فيلوكتيتس من سوداويته، وكذلك الحفاظ على التحكُّم والسيطرة على دفاع أوديسيوس الهَوَسي الذي لا يرحم.

•••

لقد شَرحتُ فيما سبق كيف أن بحث «الحداد والسوداوية»، وأفكار فرويد اللاحقة بشأن موضوع السوداوية، يُقدِّم وصفًا ضمنيًّا لموقفٍ داخلي مُعقَّد للغاية؛ إذ يتضمن تماهياتٍ واستدماجاتٍ عديدة مع الأنا والموضوع (أو الموضوعات) المستدخل، من شأنها تغيير الأدوار والأوضاع الجغرافية داخل العقل، وكذلك في سيناريوهَين لكلٍّ منهما طابعٌ عاطفيٌّ مختلف تمامًا يتشابكان باستمرار: الأنا المظلمة بسبب سقوط ظل الموضوع عليها، والأنا التي تلتهم الموضوع بوحشية؛ فالحزن والشعور بالذنب في تأرجُحٍ مستمر مع الكراهية والشعور بالظلم. يمكن فهم الاكتئاب فقط إذا لم يَنسَ المرء الآليات الخاصة بهذه الحالات المتبادلةِ التأثير بعضها على بعض والتي تتسِم دومًا بكلية الوجود بدرجةٍ ما.

إن اكتشاف فرويد لآلية الاستدماج في «الحِداد والسوداوية»، والتي تقود إلى ترسيخِ مكانة الموضوع ككيانٍ منفصل في العالم الداخلي يُمكِن التماهي معه لاحقًا وكذلك الارتباط به بعدةِ طرقٍ مختلفة فيما بعدُ، لَهُو أحدُ أهم الاكتشافات في التحليل النفسي، كان من شأنه تغيير فهم وظيفة العقل بالكامل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤