الفصل التاسع

نحو النموذج البنيوي للعقل

مارجريت تونزمان

عندما قدَّم فرويد عام ١٩٢٣ النموذج البِنيوي للعقل، الذي أحيانًا ما يُسمَّى النموذج الطبوغرافي الثاني، كان قد أصبح أكثر وعيًا بالحاجة لتغيير بعض الافتراضات الأساسية الخاصة بالنموذج الطبوغرافي الأول.

في هذا الفصل أَعتزِم تتبُّع التغيير بين نموذجٍ مكاني للعقل مُكوَّنٍ من مناطق عدة إلى نموذجٍ للعقل مُكوَّن من عدة قُوًى: الهو، والأنا، والأنا العليا. وسوف أُركِّز، على نحوٍ خاص، على كيفية استبدال مفهوم الأنا العُليا جزئيًّا بمفهوم المثل الأعلى للأنا.

قسَّم فرويد العقل في النموذج الطبوغرافي إلى ثلاثِ مناطقَ نفسية، وفقًا لما إذا كانت تعمل على مستويات اللاوعي، أم ما قبل الوعي، أم الوعي. تَخيَّل فرويد وجودَ رقيبٍ بين نظامَي اللاوعي وما قبل الوعي له القدرة على كبح النشاط العقلي اللاواعي من خلال الكبت. فقط عندما يسمح هذا الرقيب لعمليات التفكير بالمرور، قد تستطيع هذه العمليات أن تُصبِح عملياتٍ واعية من خلال تسجيلها في منطقة ما قبل الوعي، وإلا ظلَّت لا واعيةً ديناميكيًّا. غير أن عملياتِ التفكير في مستوى ما قبل الوعي كانت لا تزال لا واعيةً من حيث الوصف، لكن يمكنها أن تصبح عملياتٍ واعيةً من خلال توظيفها بواسطة طاقةٍ نفسيةٍ إضافية، وقد افترض فرويد أن هذه هي وظيفة الانتباه؛ ففي بحث «اللاوعي» (١٩١٥)، أشار إلى ملاحظاتٍ تحليلية كَشفَت أن ثمة أفكارًا في مستوى ما قبل الوعي في بعض الأحيان تبقى لا واعيةً ديناميكيًّا، وأشار إلى احتماليةِ وجودِ عمليةِ رقابةٍ أخرى أيضًا في مستوى ما قبل الوعي. ما لم يعد في الإمكان التأكيد عليه أن النشاط العقلي في نظامِ ما قبل الوعي ربما كان واعيًّا ولا واعيًّا على مستوى الوصف فقط؛ لذا وبحلول عام ١٩٢٣، كان فرويد قد قدم ما يُعرَف بالنموذج البنيوي للعقل في كتاب «الأنا والهو».

في معرض مقدمته لهذا الكتاب، أشار جيمس سترايتشي إلى أن المصطلحات الجديدة «كان لها أثر توضيحي كبير ومن ثَمَّ جعلت من الممكن حدوث مزيد من التطورات التحليلية،١ لكنها في حد ذاتها لم تتضمن أي تغييرات جوهرية في رؤى فرويد لبناء العقل وأدائه الوظيفي. والحق أن الكيانات الثلاث التي عرضت حديثًا؛ وهي الهو، والأنا، والأنا العليا، كان لها جميعًا ماضٍ طويل … وستستحق التوقف عندها ودراستها» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٧).

أشار فرويد في «الأنا والهو» إلى أنه ليس كافيًا مساواة اللاوعي النشط بما كُبِتَ وكذلك بنظام اللاوعي؛ وهو المنطقة التي يظل بها النشاط الوظيفي للعملية الأولية هو المسيطر. ووجد فرويد في عمله التحليلي أن آلياتِ دفاعِ الأنا التي تندرج تحت نظامِ ما قبل الوعي وتظهر خلال العلاج كمقاوماتٍ خاصة بالمرضى هي آليَّاتٌ لا واعية ديناميكيًّا أيضًا؛ لذا يمكنه الآن القول إن كل ما هو مكبوتٌ لا واعٍ لكن ليس كل ما هو لا واعٍ مكبوت. وفي نموذجه الجديد، ربط فرويد الهُو باللاوعي المكبوت وكذلك بالتمثيل الخاص بدوافع رغباتنا. لكن الهُو ليس له نظام، والبناء الخاص به هو العملية الأَوَّلية.

يَنصَب تركيز فرويد الأساسي في هذا الكتاب على الأنا. منذ بداية دراساته، كان تعريفه للأنا تعريفًا فضفاضًا كنظامٍ ذي طاقةٍ نفسيةٍ دائمة، ومن خلال رقيبها، تسمح بمرور أفكارٍ بعينها إلى الوعي في حينِ تمنع أخرى. في بحثه «صياغات عن مبدأَي النشاط الوظيفي للعقل» (١٩١١أ)، ناقش فرويد تطوُّر الأنا أثناء الانتقال من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقعية. في البداية، يكون الطفل الرضيع مخلوقًا يسعى وراء اللذة المدعومة بما تُقدِّمه له الأم من خِدماتٍ وعون، مما يجعل نشوءَ حالةٍ من اللذة الخالصة أمرًا ممكنًا. يسود مبدأ اللذة في اللاوعي على مدى حياتنا، لكن مع تطوُّر الطفل، يبدأ الاصطدام بالواقع. بعد ذلك يعمل مبدأ الواقعية على تعديل مبدأ اللذة ويُصبِح مبدأً مُنظِّمًا للأنا. وفي عام ١٩٢٣، عرَّف فرويد الأنا بأنها المُنظِّم المركزي للنشاط الوظيفي النفسي بواسطة ثالوث التكيف والسيطرة والاندماج؛ إذ تمتلك المدخل الوحيد إلى الوعي ومنهجًا للدافعية واختبار الواقع.

(١) النرجسية والمثل الأعلى للأنا والتماهي

لكن الأنا كذلك موضوع، ويمكننا اعتبار أنفسنا موضوعًا؛ فلدينا تخيُّلاتٌ وأوهام عن أنفسنا. وفي اللغة يمكننا التحدث عن «ذاتنا».

ذهب فرويد في بحثه «مقدمة عن النرجسية» (١٩١٤) إلى أن الأنا موضوعٌ وفرد على حدٍّ سواء، وأضفى عليها أهميةً جديدةً جوهرية، وقدَّم بضعةَ أمثلةٍ تُوضِّح كيف يمكننا اعتبار الأنا موضوعًا للطاقات النفسية الشهوانية.

إن مريض الفصام يفعل هذا ثم يتحول إلى مُصابٍ بجنون العظمة؛ فهو يسحب الطاقة النفسية الشهوانية من الموضوع، ويُركزها بدلًا من ذلك على الأنا الخاصة به. وقد درس فرويد (١٩١١ب) يومياتِ قاضٍ ألمانيٍّ كان يُعاني من نوباتِ جنونِ ارتيابٍ ذُهاني (انظر الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب)؛ فقد شعر أنه بحاجةٍ لفهم الأنا المضطربة أثناء عملها من أجل استيعابِ طبيعة النشاط الوظيفي للأنا في الظروف الطبيعية وظروف العُصاب النفسي. أراد فرويد استكشاف تلك القُوى الخاصة بالأنا التي أدَّت إلى الكبت؛ فحتى ذلك الوقت، كان يتحدث بمصطلحاتٍ عامة عن الأنا كقوةٍ كابتةٍ تدفعها تجارب الخزي والاشمئزاز وتأثير معاييرها الأخلاقية.

كُلنا نرتَد إلى حالةٍ من النرجسية عندما نخلُد إلى النوم ونهجُر العالم، وأيضًا نسحب اهتمامنا بالكامل من العالم الخارجي عندما نُعاني من مرضٍ ما، ويتوجه تركيزنا النفسي نحو العضو المريض. وقد اقتبس فرويد من الكاتب الألماني فيلهلم بوش قوله: «مُتركِّزة هي رُوحُه في ثُقب الضرس الضيِّق.»

ناقش فرويد كذلك دَور النرجسية في التطوُّر المُبكِّر في ذلك البحث، وراجع التتابُع التطوُّري الذي كان قد عَرضَه في بحث «ثلاثة مقالات عن نظرية الجنسانية» (١٩٠٥). في البداية تتمثل موضوعاتنا في تلك التي تُشبع الوظائف الحيوية لحفظ الذات مثل الجوع والعطش، وهي موضوعاتُ غرائز الأنا التي تُبقينا على قيد الحياة. تَتْبعها على الدرب نفسه دوافع الليبيدو، وينشأ حينذاك ما أسماه فرويد الارتباط الاتكالي بموضوعات دوافع البقاء وحفظ الذات. وسرعان ما تُصبِح الدوافع الشهوانية مستقلةً عن تلك الخاصة بحفظ الذات لكنها تظل مرتبطةً بالموضوعات الاتكالية نفسها. وحتى في مرحلة النضج، عندما نقع في الحب أو نرتبط بعلاقاتٍ عاطفية، نحتفظ بنماذج الموضوعات الاتكالية المُبكِّرة في حياتنا، وتحديدًا تلك التي تُغذِّينا وتحمينا. لكن فرويد يقول إننا أيضًا نُشكِّل علاقاتٍ نرجسية؛ ففي البداية يحب الطفل الرضيع نفسه، لكن عندما يعاني الطفل من أوائل الكوابح المعيارية النرجسية لقدرته الطفلية الكلية خلال طور النمو، ويبني داخل ذاته صورةً مثالية لنفسه وهي مثل الأنا الأعلى. يحصل مثل الأنا الأعلى على محتواه من البيئة؛ فالطفل يُعتبر طفلًا جيدًا إذا تبع المثل الأعلى لأنَاه، الذي يحوي أفكار الأم عن السلوك الواجب أن ينتهجه أيُّ طفلٍ صغير صالح. عند هذا يُقحم فرويد مرحلةً نرجسية بين المرحلة المبكرة للشبق الذاتي ومرحلة الموضوع من التطوُّر؛ فنظل نحمل نفسنا المثالية معنا على مدى حياتنا، وعندما يَترسَّخ المثل الأعلى للأنا، يُصبِح تقديرنا واحترامنا لذاتنا نابعًا من اعتقادنا بأننا قريبون من حالتنا المثالية. لكننا كذلك نُكوِّن علاقاتٍ نرجسية مع الموضوع عندما نختار موضوعًا يُمثِّل حالتنا المثالية ونقع في حُبه. وفي ذلك قال فرويد إن ما نحن عليه وما كُنا عليه وما نَودُّ أن نكون عليه يمكن العثور عليه مرةً أخرى في علاقةٍ نرجسية. ووصف فرويد كيف أن الآباء يُغالون في تقدير أبنائهم، واعتبر هذا إعادةَ إحياءٍ لنرجسيتهم واستنساخًا لها. وربما يصف الآباء صغارهم قائلِين: «أليس لطيفًا؟»

أكَّد فرويد أننا على مدى حياتنا نُكوِّن علاقات هي مزيج من حب الموضوع والحب النرجسي؛ فعندما نشعر بالرضا عن أنفسنا، يتوافر لدينا قدْرٌ كبير من احترام وتقدير الذات. وعندما نعكس المثال الأعلى للأنا الخاصة بنا في علاقةٍ ما، نُكسب الموضوع صفة المثالية ونشعر بالتواضُع والذِّلة. لكن برجوع هذا الحب إلينا، نستعيد حُبنا النرجسي.

ومن ثَمَّ يُصبِح مثل الأنا الأعلى قوةً خاصة داخل الأنا؛ فما أشار إليه فرويد بأنها القُوى التي تَكبِت معاييرنا الأخلاقية وإحساسنا بالخزي والاشمئزاز، تُصبِح الآن القوى التي تكبت مثل الأنا الأعلى؛ وقد أطلق فرويد ذاتَ مرةٍ على تلك القُوى المُراقبِين الذين يقومون بوظيفة ضميرنا، وهي كذلك الرقيب على الأحلام.

(٢) التماهي والسوداوية

في عام ١٩١٥، أرسل فرويد مخطوطةَ بَحثِه عن السوداوية إلى كارل أبراهام، وهو مُحلِّل وطبيبٌ نفسي في برلين، من أجل استطلاع رأيه النقدي. كان أبراهام قد كتب بحثًا عن السوداوية في عام ١٩١١. وقد درس فرويد بعض تفسيرات أبراهام، منها على سبيل المثال، أن السوداوية مرضٌ عقلي يأتي استجابةً لخسارة موضوعٍ ظلت دفينةً في اللاوعي. وقد قارن كل من فرويد وأبراهام بينها وبين الحِداد الذي يُعتبَر ردَّ فعل صحيًّا إزاء المُعاناة من خسارةٍ حقيقية. وفي حين كان أبراهام يظن أن الدمج السادي الفموي اللاواعي للموضوع المفقود هو المسئول عن الحالة الذُّهانية، صَمَّم فرويد على أن النكوص للنظام الفموي المُبكِّر هو ما يؤدي إلى تماهي الأنا مع الموضوع؛ فكان فرويد يظن أن الموضوعات التي تَتعرَّض للاندماج دائمًا ما تؤدي إلى حدوثِ تماهٍ مع الموضوع. يبدو هذا مجرد فارقٍ نظريٍّ طفيف لكنه مهم؛ إذ يمكننا أن نعتبره البداية المُبكِّرة للتباعُد والانقسام بين ما أصبح لاحقًا نظرية العلاقات بالموضوع في مقابل النظرية الكلاسيكية للتحليل النفسي.

في «الحداد والسوداوية» (١٩١٧)، كان فرويد يظن، مثل أبراهام، أن الشخص المحزون قد عانى من خَسارةٍ حقيقية، لكن علاقته مع الموضوع ظلَّت باقيةً لفترة من الوقت؛ لأن الرابط الشهواني به لا يمكن حلَّه إلا ببطء بفعلِ فترةٍ ممتدة من عمل الحداد، الذي يهدف إلى تحرير الليبيدو حتى يمكن تكوينُ علاقاتٍ جديدة. أمَّا الشخص السوداوي، فقد عانى من فقدان الصورة المثالية لموضوعٍ نرجسي مكبوت لا واعٍ مكبوت، ربما كان شخصًا أو موضوعًا مُجردًا. لقد كانت العلاقة ازدواجية؛ فكراهيته كانت مُوجَّهة إلى تدمير الموضوع، أمَّا حبه فكان يريد الحفاظ على ذلك الموضوع. ومن أجل حماية الموضوع، تَحوَّلَت العلاقة النرجسية مع الموضوع إلى النرجسية؛ فيتم إدماج الموضوع وتماهت الأنا معه. لقد «سقط ظل الموضوع على الأنا» حسب تعبير فرويد. تنقسم الأنا الآن إلى جزأين؛ يهاجم أحدهما الأنا المتماهية مع الموضوع بلا رحمة، علمًا بأن الأنا المُهاجِمة هي بالطبع مثل الأنا الأعلى الذي كان يُراقب الأنا ويُحافظ على وظائف الضمير. يُستنزف الشخص السوداوي بفعلِ مشاعرِ انعدام القيمة، لكن من خلال محتوى تأنيبِ ولومِ الذات الخاص به، يُمكننا التخمين بأن الموضوع الذي تماهت معه الأنا هو ما يتعرض للهجوم على نحوٍ أساسي.

إن مرض السوداوية يُحجِّم نفسه بنفسه؛ فقد أشار فرويد إلى أن الكراهية تكون قد انقضت، أو تُخلِّي عن التماهي مع الموضوع أو دُمِّر بفعل الحكم على الموضوع بكونه تافهًا وعديم القيمة. في بعض حالات السوداوية أو الذُّهان الاكتئابي الهَوَسي كما يُطلَق عليه حاليًّا في الأغلب، يتبع زوال الاكتئاب حالة من الجنون أو الهوس. في كتاب «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» (١٩٢١)، لفَت فرويد الانتباه إلى مناقشاته وطروحاته السابقة. من وقتٍ لآخر، نسمَح للمكبوت بالتحايُل على مُقاومة الكبت ونسمح له بالمرور إلى داخل الأنا لزيادة مُتعتنا؛ ونحن نختبر هذا على سبيل المثال من خلال النِّكات والدُّعابة. كما أشار إلى أننا لا يمكننا بالمثل تحمُّلُ انفصالِ مثلِ الأنا عن الأنا طويلًا؛ ففي كل حالاتِ التخلي والزهد والقيود التي يفرضها مثل الأنا الأعلى على الأنا، يحدث من وقتٍ لآخر إطاحةٌ بهذه القيود؛ وهو ما يُمكننا رؤيته في الاحتفالات التي يُسمَح فيها بالمفاسد والتهتُّك بل يُشجَّع على الانغماس فيها، على غرار ما كان يحدث في الاحتفال بعيد الإله ساتورن لدى الرومان أو الكرنفالات في العصور الحديثة. في باثولوجيا حالات الهوس، كما يُشير فرويد، ربما يحدث شيءٌ مماثل؛ إذ ينصهر مثل الأنا الأعلى والأنا معًا ويذوب مثل الأنا الأعلى مؤقتًا داخل الأنا. في حالاتِ الهَوَس، يستشعر المريض إحساسًا بالانتصار والإشباع الذاتي تزامُنًا مع التخلُّص من اتهاماته لذاته وكوابحها. وقد أشار فرويد إلى أنه أثناء حالات السوداوية، ينشِب صراعٌ شديد بين الأنا ومثل الأنا، لكن إذا تحوَّل هذا إلى نوبةِ هوس، إذن فقد حدث تمرُّد من قِبل جُزءٍ من الأنا ضد مثل الأنا الأعلى.

(٣) مستويات التماهي المتعددة

ناقش فرويد في كتاب «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» (١٩٢١) التماهي في سياقِ علاقةِ مجموعةٍ ما بقائدها، وكان قد تأمَّل بالفعل في كتاب «التابو والطوطم» (١٩١٣) في التطوُّر ما قبل التاريخي للبشر وبدايات النظام الاجتماعي. واستعان فرويد بدارون وبعض أدبيات الأنثروبولوجيا في زمنه لافتراضِ أسطورةٍ حول أصول المجتمع. كان القطيع البدائي يمتلك زعيمًا شرسًا كان يُبعد كل الأبناء الذكور خارج القبيلة رافضًا اقترابهم من نسائها، ولم يكن يُسمَح بالتناسُل إلَّا لأصغرهم. كان الأبناء يحبون أبيهم ويكرهونه في الوقت نفسه، وفي غمرة كراهيتهم اجتمعوا معًا وقتلوه والتهموا جسده، وبعد أن امتزجوا به، تَبيَّن حُبهم له وشَعَروا بالندم. لقد تَوحَّدوا وجدانيًّا مع الأب وعليه شُرعت قوانين ضد قتل الأب وسِفاح القُربى. وصَنعَت القبيلة طوطمًا كرمز للأب. لم يكن مسموحًا بتناول الطوطم خارج إطارِ وجبةٍ جماعية ضمن احتفالٍ سنوي. وقد تناول فرويد في كتاب «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» الآليَّات الخاصة بالجماعات ذات القادة الأقوياء. وذهب فرويد إلى أن كل أفراد المجموعة سينظرون للقائد كمثلهم الأعلى، ومع تقاسم الجميع لهذا المثل الأعلى، يتماهَون جميعًا أحدهم مع الآخر؛ فيحدث تماهٍ مزدوج، وتتلاشى مُثُل الأنا الفردية لكل فردٍ لصالحِ موضوعٍ مثالي مشترك، وتُؤدِّي هذه الآليَّة إلى رباطٍ قوي مع الموضوع مقارنةً بتماهي الأنا مع الموضوع؛ ففي الحالة الأولى تكون الأنا مُعدمة وقد سلَّمَت نفسها إلى الموضوع. أمَّا في الحالة الثانية، تُدَعَّم الأنا بسمات الموضوع المُستدمَج.

ناقش فرويد كذلك المستويات المتعددة للتماهي. يُعتبر التماهي، في سياق التطوُّر البشري، هو أَوَّل نوع من الروابط العاطفية بالآخرين يحدث قبل أن تنشأ علاقةٌ بالموضوع. وقد ضرب فرويد مثالًا لذلك بالصبي الصغير الذي يتماهى مع والده ويُريد أن يُصبح مثله في كلِّ شيء. يمكننا القول إنه ينظر إلى أبيه كمثل أعلى، أمَّا بالنسبة إلى والدته، فهو يمتلك علاقةً شهوانية بها من النوع الاتكالي. وبذلك يكون لدى الصبي الصغير رابطتان مختلفتان: التماهي مع والده، وتركيزٌ نفسي مُوَجَّه إلى موضوعٍ جنسي مع والدته. تتعايش كلتا الرابطتَين باستقلاليةٍ لفترةٍ ما جنبًا إلى جنبٍ وتستعدان لظهورِ عُقدة أوديب؛ إذ يُلاحظ الطفل الصغير بعد ذلك أن والده يقف في طريق علاقته بوالدته، ويرغب في استبداله، ليتخذ تماهيَه مع والده الآن جانبًا عدوانيًّا. دائمًا ما يكون التماهي متناقضًا ويمكن النظر إليه كاشتقاق من المرحلة الفموية المُبكِّرة: «أنا أُحبك، ومن ثَمَّ ألتهمك وأقضي عليك في الأثناء.» ومن الممكن أن يحدُث التماهي مع المُكافئ الإيجابي أو السلبي.

يُمكن أن يُصبح التماهي مع الموضوع هو النذير بحدوثِ رابطٍ مع الموضوع، كما يحدُث، على سبيل المثال، عندما يبحث الطفل الصغير ذو الطابع والسلوك الأُنثوي عن الإشباع من والده كموضوعٍ جنسي له. إذا كان هناك رابطُ تماهٍ مع الأب، يرغب الطفل في أن «يكون» مثل الأب، وإذا اتخذ الأب كموضوعٍ له، فإنه يرغب في «امتلاك» الأب.

يضرب فرويد مثالًا بالطفلة الصغيرة التي تُريد استبدال والدتها في صراعٍ عدائي، ومن ثَمَّ تظهر نفس السعال المُزعِج الذي أصِيبَت به والدتها. إنها تريد استبدال والدتها في علاقتها بوالدها، وهذا العَرَض إنما يُعبِّر عن الصراع بين حبها لوالدها وإحساسها بالذنب تجاه والدتها. ربما تكون طفلةٌ أخرى مصابةً بالسعال مثل والدها، وبما أنها لا يمكنها الحصول على والدها (كموضوع للحب)، فإنها تتماهى معه طبقًا لفلسفة «ما لا أستطيع امتلاكه يمكن أن أكونه»، فيما يُعد هنا نكوصًا لاختيار الموضوع ليصبح تماهيًا.

من الممكن كذلك تقليد سمةٍ مُعيَّنة لشخصٍ ما دون وجود علاقة به، وغالبًا ما يقوم هذا على تمني المرء أن يكون في الموقف نفسه. ويضرب فرويد مثالًا على ذلك بفتيات في مدرسةٍ داخلية، حيث إحدى الفتيات على علاقةِ حبٍّ سرية بأحد الأشخاص وتلقَّت رسالةً أثارت غَيرتها، فتنتابها نوبةٌ هستيرية وتتماهى معها الفتيات الأخريات، اللاتي ربما لا يكنَّ على علاقةِ صداقةٍ شخصية بها، لكنهن وَدَدن لو كنَّ في علاقاتٍ غرامية سرية كذلك، وتنتابُهن نوباتٌ هستيرية أيضًا. لقد أُزيح التماهي ليتحول إلى عَرَض الفتاة الذي يُشير إلى الرغبة التي يجب أن تظل سرًّا. وقد لخَّص فرويد هذه المصادر الثلاثة كما يلي:

أولًا: يُعتبَر التماهي هو الشكل الأصلي للارتباط العاطفي بموضوعٍ ما. ثانيًا: يُصبِح بديلًا على نحوٍ نكوصي لارتباطٍ شهواني بالموضوع، ربما بواسطة استدماج الموضوع داخل الأنا. وثالثًا: ربما يأتي مصاحبًا لأي إدراكٍ جديد لصفةٍ مشتركة مع شخصٍ آخر ليس موضوعًا للغريزة الجنسية. (١٩٢١، صفحة ١٠٧)

في كتاب «الأنا والهو» (١٩٢٣)، أشار فرويد إلى أنَّ طبيعة الأنا بالكامل تتكوَّن من رواسب التماهي من موضوعاتٍ مهجورة. فتُجرَّد الشحنة الشهوانية للطاقة النفسية المُوجَّهة للموضوع المُتخلَّى عنه من خصائصها الجنسية وتتحول إلى طاقةٍ نرجسية. ويحدث نوعٌ من التسامي بواسطة التحوُّل من تركيز الطاقة النفسية على الموضوع إلى تركيزها على النفس، ويتغير معها هدف الشحنة الشهوانية. وقد قال فرويد في ذلك إن الأنا تحوي تاريخَ اختياراتِ الموضوع المهجور ويجب اعتبارها كبيئةٍ مُستدخلة.

(٤) الأنا العليا والتماهي

أَهمُّ التماهيات التي نصنعها خلال الطفولة هي تلك التي تبني قوةً خاصة للأنا: الأنا العليا. إن التماهي الأَوَّلي للصبي مع والده يُعتبر تماهيًا مباشرًا يسبق تكوين طاقةٍ نفسية مُوجَّهة نحو الموضوع، كما ناقش فرويد من قبلُ، ليضيف في عام ١٩٢٣ أن مثل هذا التماهي ربما يكون مُوجَّهًا جينيًّا. إن خيارات الطفل للموضوع بوجهٍ عام ترتبط بوالده ووالدته، لكنه عندما يدخل مرحلة التطوُّر الأوديبية، يجب أن نأخذ في الاعتبار وجود علاقةٍ ثلاثية الآن، وازدواجيةٍ فطرية في الميول الجنسية تلعب دورًا مهمًّا. افتَرَض فرويد أن الصبي يرتبط لفترةٍ ما بأبيه عبر التماهي الأَوَّلي وبوالدته بواسطةِ علاقةٍ مُبكِّرة بالموضوع. وتتعايش هاتان الحالتان جنبًا إلى جنبٍ لفترة حتى تشتد رغباته الجنسية تجاه والدته، ثم تصبح علاقته بوالده متناقضة، ويتمنى لو تَخلَّص منه. لقد دخل الصبي الآن مرحلةَ عُقدةِ أوديب الثلاثية. وعند حسم الموقف الأوديبي في النهاية، يحدث شيءٌ من اثنين: إمَّا التخلي عن الطاقة النفسية المُوجَّهة نحو الموضوع؛ أي الأم، وسيُؤدي هذا إلى تماهٍ معها، وإمَّا تكثيفٌ للتماهي مع الأب، مما يسمح بحدوثِ علاقةِ حبٍّ تنطوي على هدفٍ مكبوت مع الأم. والموقف بالنسبة إلى الفتاة مُشابِه: إمَّا سيحدث تكثيفٌ لتماهيها مع الأم وهو ما سيُعزِّز تطوُّر شخصيةٍ أُنثويةٍ لديها، وإمَّا ستتماهى الفتاة مع والدها وتصبح فتاةً غُلامية، وتَتطوَّر لديها سِمات شخصية ذكورية.٢ وكان فرويد يرى أن ازدواجية الميول الجنسية تُؤثِّر على تقلُّباتِ عُقدةِ أوديب بالنسبة إلى كلٍّ من الصبية والفتيات؛ إذ تتباين القوى النسبية للميول الذكورية والأُنثوية.

تعتمد عقدة أوديب السلبية كذلك على الميل نحو الازدواجية الجنسية، وغالبًا ما نجد أن عقدة أوديب في الواقع مُزدوجة؛ فالصبي يتصرف في بعض الأوقات كفتاةٍ صغيرة، ويظهر سلوكًا أنثويًّا حنونًا ورقيقًا تجاه والده، ومشاعرَ منافسةٍ وغَيرة تجاه والدته؛ الأمر نفسه ينطبق على عقدة أوديب السلبية لدى الفتيات الصغار؛ ففي نهاية مرحلة التطوُّر الأوديبي نجد أنا عُليا لدى الصبية والفتيات قد تكوَّنَت بفعل التماهيات مع الأم والأب.

إن التماهي مع الأب بالنسبة إلى الصبي يُحافظ على علاقة الموضوع بالأم ويحل مَحلَّ علاقة الموضوع الأُنثوي مع الأب. يقود ترسُّب عقدةِ أوديب في الأنا إلى حدوث تغيير بها؛ إذ تُواجَه محتويات الأنا بجزءٍ منفصِلٍ وهو الأنا العليا، التي تشغل موقعًا خاصًّا، وليست فقط مُجرَّد راسبٍ للخياراتِ الأُولى للموضوع الخاصة بدوافع الهو. وقد صرَّح فرويد بأنها أقوى من مُجرَّدِ راسبٍ بل هي تُشكِّل لِردِّ فعلٍ نَشِطٍ ضد هذه الخيارات. يزعم في «الأنا والهو» أن هذا المفهوم للأنا العليا يجب أن يُنظَر إليه كمكافئ لمثل الأنا الأعلى. فقد كان فرويد يعتقد أن المثل الأعلى للأنا المثالية كان يُنظَر إليه كمرحلةٍ خاصة، أو شكلٍ مختلف للأنا، لكن الجديد هنا هو أن ذلك الجزء من الأنا كان أقلَّ قوةً في الارتباط بالوعي.

وكما أشار سترايتشي بعد نشرِ كتابِ «الأنا والهو»، فإن «مثل الأنا الأعلى» كمُصطلَحٍ مُتخصص قد اختفى بالكامل تقريبًا ليحل محله مصطلح «الأنا العليا». في هذا الكتاب توصَّل فرويد لرؤاه النهائية بشأن اشتقاقِ الأنا العليا من علاقات الموضوع المُبكِّرة للطفل. إن الأنا العليا تحوي المطلب المزدوج الذي يقول «يجب أن تكون مثل والدك.» و«قد لا تُصبِح مثل والدك.» ومهمة الأنا العليا هي كبت المساعي الأوديبية للطفل؛ فقد أصبح والداه عقبةً في طريق إدراكهما والتشبُّه بهما؛ فيتماهى الطفل مع الوالدَين ويُعلي من شأنهما في أناه العليا، وهو ما يصبح بدوره جزءًا منفصلًا من الأنا. يستقي الطفل قوته من الأب، كما يقول فرويد، وتحتفظ الأنا العليا بهذه الشخصية للأب؛ لذا، كلما زادت قوة الأمنيات الأوديبية، زادت سرعة كبتها.

زعم فرويد أن الأنا العليا هي نتاجُ عاملَين مهمَّين: عامل بيولوجي، وتحديدًا الفترة الطويلة من العجز وانعدام الحيلة والاتكال في مرحلة الطفولة؛ وعامل تاريخي ويتمثل في حقيقة عقدة أوديب وكبتها. كان فرويد مؤيدًا لفكرة ساندور فرينزي من أن العصر الجليدي قد عرَّض البشر إلى مشاق وصعاب بالغة، مما استلزم إحداثَ تعديلاتٍ في أسلوب حياتنا؛ فقد اضطر النسل للامتناع عن التكاثُر لفترةٍ طويلة؛ ومن ثَمَّ أصبح تطوُّر الحياة الجنسية لدى البشر ثنائيَّ الطَّور بمرور الوقت.

تتراجع الجنسانية الطفلية مؤقَّتًا بعد كبتِ عُقدة أوديب معياريًّا؛ إذ تخمد الجنسانية خلال السنوات القليلة التالية حتى البلوغ عندما يكتمل التطوُّر الجنسي بفعل نُضج الأعضاء التناسُلية. وفي ذلك يقول فرويد إن الأنا العليا هي وريثُ عقدةِ أوديب؛ فبناء الأنا العليا هو ما يكبح جماحَ عقدةِ أوديب ويُروِّضها. وكان قلقًا من أن نُقَّاد نظرية التحليل النفسي كانوا غالبًا ما يشتكون من أنها تعاملَت فقط مع الجزء الأدنى من الوجود البشري دون الالتفات إلى القيم العليا والإنجازات الثقافية للجنس البشري. وذهب إلى أنه من خلال وصفِ كيفيةِ خضوع الأنا العليا إلى الهو، أوضح التحليل النفسي أن الهو الذي ينتمي إلى أدنى جزء من الحياة العقلية قد تغيَّر بفعل تحوُّل الأنا العليا إلى أعلى ما في حياة البشر: الأخلاق والدين والحسِّ الاجتماعي.

تنشأ الأنا العليا من تماهياتنا الأُولى، وتُعتبر كذلك الوريث لعقدة أوديب. وكان فرويد يعتقد أن تماهيات الأنا التي حَدثَت على مدى آلاف السنوات أَصبحَت المحتويات الجينية للهُو. ورسم صورةً تخيُّليةً لأبٍ وأمٍّ أصليَّين في الهُو. في التطوُّر الفردي، تُفعَّل أمنيات الهُو المبرمج جينيًّا بواسطةِ أُمنيات الطفل لوالدَيه خلال المرحلة الأوديبية القضيبية من التطور. والتماهي مع الوالدَين موضوعِ أُمنياتنا الأوديبية يُقرِّب الأنا العليا من الهُو ويُبعدها عن الوعي؛ لذا، فإن الأنا العليا تُمثِّل الواقع النفسي على النقيض من الأنا التي تُمثِّل بيئةً مستدخلة.

ناقش فرويد مسألةَ ما إذا كانت الأنا العليا تتكوَّن من رواسب الذاكرة الكلامية أم البصرية. تتألَّف الأنا العليا، شأنها شأن الأنا، من رواسب كلامية؛ إذ تأتي تلك الرواسب من كلماتٍ مسموعة. لكن عندما تكون وظيفة الأنا العُليا غيرَ واعية، فإن التركيز النشِط للطاقة النفسية يأتي من الهُو ومن ثَمَّ فهي أقرب إلى العملية الأَوَّلية. تأتي قسوة الأنا العليا جزئيًّا من تماهي الطفل مع مُتطلَّبات وتعاليم والدَيه، أو بشكلٍ أكبر من المُثُل والأنا العليا للوالدَين؛ ومن ثَمَّ تُحافظ على ثقافة وتقاليد المجتمع. لكنها، وعلى نحوٍ جزئي أيضًا، تُعد نتاجًا لقوة وشدةِ دوافعِ أُمنيات الطفل الأوديبية. وقد برهن فرويد على أن التماهي دائمًا ما يكون ازدواجيًّا؛ كونه قائمًا على النموذج الفموي: «أنا أُحبك ولذا سألتهِمُك وأُدمِّرك في الأثناء.» وعند التخلي عن تركيز الطاقة النفسية على الموضوع مع التوجُّه نحو التماهي، يحدث تفكُّك للدوافع. فتُنزَع السمات الجنسية عن دوافع الغريزة الجنسية وتُصبح طاقةَ أنا نرجسية، لكن الجزء المنبثق من الطاقة النفسية الغريزية التدميرية يَتحرَّر ويدعم الأنا العليا في هجماتها القاسية الساديَّة على الأنا. وكلما زادت قوةُ دوافعِ أمنيات الطفل الأوديبية، أصبحت الأنا العليا أكثرَ صرامةً وقسوة؛ لذا فإن فرويد قال إنه كلما كبح المرء عُدوانيته ازدادت الأنا العليا قسوة. والعكسُ غيرُ صحيح.

تعمل الأنا العليا عمل المثل الأعلى للأنا وعمل الضمير كذلك؛ فالأنا تستشعر الأخير كإحساس بالذنب. نحن نختبر شعورًا واعيًا بالذنب عندما نشعُر بالندم بسبب تصرُّفٍ عدواني، لكن قد نشعر كذلك بالذنب عندما لا تشعر الأنا بدافعٍ عدوانيٍّ مكبوت، لكن تُسجِّله الأنا العليا. وهذا يُبيِّن العلاقة الوطيدة بين الأنا العليا والهُو. بالمثل يحدث هذا في حالات العُصاب الوسواسي عندما تجعل الأنا العليا الأنا تشعر بالذنب لأجل دوافعَ عدوانيةٍ مكبوتة. وقد قال فرويد إن الأنا حينها تعترض ولا تشعر بالذنب بل بالمرض. أمَّا في حالات السوداوية، فتخضع الأنا المتماهية مع الموضوع إلى مثل هذه الدوافع وتشعر بأنها مُعذَّبة. ولفت فرويد الانتباه إلى هذا الاستخدام الخاطئ لمصطلح «المشاعر اللاواعية بالذنب». تحرِّيًا للدقة، نحن لا نستطيع اختبار المشاعر إلا عندما نشعر بها، ولا يُمكِننا الشعور بأيِّ مشاعرَ على نحوٍ لا واعٍ. أمَّا «المشاعر اللاواعية»، فيُقصد بها الإزاحة الدفاعية للمشاعر على موضوعٍ آخر. يمكننا كذلك السعي وراء العِقاب بسبب إحساسٍ لا واعٍ بالذنب، والمثال على ذلك ردُّ الفعل العلاجي السلبي خلال فترة العلاج.٣ يمكن كذلك أن يتسبب الشعور اللاواعي بالذنب في تحوُّل الأشخاص إلى مُذنبِين؛ فقد نتصرف تصرُّفًا إجراميًّا لكي نُخفِّف من حالات التوتُّر التي لا يُمكن للأنا أن تُميِّزها كشعورٍ بالذنب؛ فالمازوخية الأخلاقية تُشبِع الحاجة إلى العِقاب وتختفي عندما تُواجهنا المواقف الحياتية الخارجية بما يكفي من المشقَّة.

خاتمة

لقد سعيتُ في هذا الفصل إلى توضيحِ كيف ناقش فرويد في بحث «مقدمة عن النرجسية» (١٩١٤) تكوُّن المثل الأعلى للأنا من تماهي الطفل مع الوالدَين، وكيف تناوَل في مطبوعاتٍ أخرى لاحقةِ الجوانب والمستويات المتعددة للتماهي قبل أن يُقدِّم مفهوم الأنا العُليا في كتاب «الأنا والهُو» عام ١٩٢٣. كان العامل الجديد الذي ناقشه هنا هو أن المثل الأعلى للأنا كان يُمثِّل جزءًا أقل من الوعي عما افترضه من قبلُ. ومنذ ذلك الحين استخدم مُصطلح الأنا العليا، والذي تضمن عدةَ جوانبَ لمثل الأنا الأعلى، بينما استخدم مصطلح المثل الأعلى للأنا بعد ذلك مراتٍ قليلةً فقط في كلِّ ما نشره لاحقًا.

هوامش

(١) لا يُمكن ترجمة المصطلح الألماني Über-Ich حرفيًّا؛ إذ سيعني «فوق-أنا». وقد ناقش جيمس سترايتشي هذه المشكلة مع فرويد الذي وافق على وجوب استخدام سترايتشي مُصطلحَي الأنا والأنا العليا. ولسوء الحظ، فُقِد قَدْر من الأثر القوي للمصطلح الألماني الأصلي خلال الترجمة.
(٢) في كتاب «الأنا والهو» (١٩٢٣)، افترض فرويد أن كلًّا من الفتية والفتيات يمُرون بالمرحلة الأوديبية على النحو نفسه. بعد ذلك بفترةٍ قصيرة (١٩٢٣، ١٩٣١)، غيَّر فرويد آراءه بشأن المرحلة الأوديبية لدى الفتيات؛ فقد أشار فرويد إلى أن الفتيات والفتيان يُصبِحون على وعي بالاختلافات التشريحية بينهم خلال هذه المرحلة من التطوُّر، ثم افترض أن الفتياتِ يدخلن المرحلة الأوديبية عندما يبتعدن عن الأم؛ لإلقائهن اللومَ عليها لافتقادهن للقضيب الذكري، مما يدفعهن للاتجاه نحو الأب وتمنِّي إنجابِ طفلٍ منه. وينتهي هذا الموقف الأوديبي بإحباطٍ متجدد؛ إذ تتجه الفتاة مرةً أخرى إلى الأُم أو تتماهى مع الأبِ وتتطور لديها سماتٌ شخصية رجولية قبل أن تُطوِّر هويةً أُنثوية خلال مرحلة البلوغ.
(٣) أشار فرويد إلى أن بعض المرضى يستجيبون بمقاومةٍ شديدة عند حدوث تحسُّن في حالتهم خلال العلاج. إنهم يرهبون التحسُّن كما لو كان خطرًا بالنسبة إليهم؛ فهم يجدون إشباعًا في مرضهم ويرفضون التخلي عن عِقاب المُعاناة. وتعود هذه الاستجابة العلاجية السلبية إلى عاملٍ أخلاقي وهو إحساسٌ بالذنب يظل في اللاوعي؛ فهؤلاء المرضى لا يشعرون بأنهم مُذنبون، بل يشعرون بأنهم مُعتلُّون. وهذا الإحساس بالذنب يُعبِّر عن نفسه فقط في صورةِ مقاومةٍ للشفاء من الصعب جدًّا التغلُّب عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤