تذييل

كتبت هذه المسرحية في صورتها الأولى عام ۱۹۹۱م، أي بعد عشر سنوات من المجاذيب (التي كُتبت عام ۱۹۸۱م، وقُدِّمت على مسرح «الطليعة» عام ۱۹۸۳م، ونُشرت عام ١٩٨٦م)، وكانت آنذاك مسرحية «مستوحاة» من عمليات توظيف الأموال التي شغلت الرأي العام فترة طويلة آنذاك، وتضاربت بشأنها الآراء، خصوصًا بسبب تستُّر أصحابها بالدين، واشتداد ساعد السلفيين الذين شاعت تسميتهم بالأصوليين (ترجمة لكلمة FUNDAMENTALISTS)، وكان المقصود بهم دعاة العودة إلى أيام الإسلام الأولى، أي إلى أيام الأسلاف، وهي فترة غير محددة من فترات التاريخ الإسلامي، قالوا إنها تمثل الإسلام خير تمثيل. وكان الرمز الأول لهذه الفترة شكليًّا محضًا، أي إنه كان ينحصر في إطلاق اللحية، وارتداء الجلباب الأبيض، وتكوين «زبيبة» في الجبهة «تدل» على ممارسة الصلاة.
وكانت المسرحية في صورتها الأولى موجَّهة للسخرية من الخداع المتستِّر بالدين، مثل المجاذيب، وكنت أحاول فيها متابعة ما حدث لأبطال المجاذيب، وأهمهم أبو صباع وتابعه عتريس، بعد أن لفظهما مجتمع البلدة الصغيرة المجاورة للإسكندرية (اسمها أبو الريش)، فخرجا منها بعد أن أقسما أن يعودا بعد حين. واشتبك مع خط الأحداث في تلك المسرحية خطٌّ آخر، هو خط الموسيقى الجديدة التي تُشبه الموسيقى الشائعة بين طبقات الشباب في الغرب، والتي برزت في الستينيات أول الأمر، وأُطلق عليها، من باب التملُّح، لفظ الموسيقى المحبوبة أو الشائعة (POP، وهو اختصار لكلمة POPULAR، تفرقةً لها عن الموسيقى الشعبية التي تنتمي إلى الفنون الشعبية التي يُطلق عليها اسم FOLKLORE).

وقد اتسمت هذه الموسيقى الجديدة بالإيقاعات «الجاهزة»، المُسجَّلة أو المُولَّدة على آلة الأورغ (وهي اختصار وتحريف لكلمة الأورغن)، وابتعادها عن صُلب الموسيقى الشرقية وإيقاعاتها، وخصوصًا أرباع النغمة، ولا غرو، فإن الآلات التي تستخدمها لا تتضمَّن هذه الأرباع، وأهمها آلة البيانو، وبعض الآلات المشابهة لها، مثل الأكورديون والأورغ، وبعض آلات النفخ مثل الكلارينيت والأوبوا والساكس، بل وبعض الآلات الوترية التي أدخلها عبد الوهاب فيما أدخل من آلات، إلى الفرقة الشرقية المستحدثة، وأهمها الجيتار والماندولين والبزق.

وكنت أرى في الظواهر الثلاثة المذكورة سمة مشتركة تربط بينها، وتوثق صلاتها، ألا وهي الخداع؛ فالتظاهرُ بأن فوائد رأس المال تتضاعف إذا استثمرها من لا دراية لهم بالاقتصاد، ومن يتمثَّل فضلهم الوحيد في عدم التعامل مع المصارف بسبب فوائدها «الربوية»، خداع، وارتداء الأردية البيضاء وإطلاق اللحى، ابتغاء عَرَض الدنيا الزائل، خداع وبيع الإنتاج الموسيقي الجديد (الذي لا هو شرقي ولا هو غربي) باعتباره موسيقى محبوبة أو شعبية، خداع. وفي أعماق هذا الخداع صراع أقل ما يوصف به أنه صراع درامي؛ فهو صراع بين القديم والجديد، أو إن شئت بين الماضي والحاضر، بل إنه لصراع بين مقومات الشخصية العصرية نفسها وانتماءاتها، تلك المقومات طالما عملت معًا في توافق وتناغم، والواقع أن توافقها وتناغمها هو الذي يحدد «شخصية مصر»، كما أثبت العبقري الراحل جمال حمدان.

وما إن فرغت من كتابة المسرحية ودفعت بها إلى المخرج الفنان عبد الرحمن الشافعي، واتفقنا على عرضها في ذلك الصيف نفسه، حتى خرجت إلى المسرح عدة مسرحيات تتناول عنصرًا من عناصر مسرحيتي، وهو توظيف الأموال، وكانت اثنتان منها في مسرح الدولة، فترددتُ وتردد المخرج، وحبست النص في درج المكتب، وإذا بالأحداث السياسية المتلاحقة تصرفنا جميعًا عن هذا الموضوع وأمثاله، وأهمها الحرب العراقية التي استمرت سبعة أشهر (أغسطس ۱۹۹۰–فبراير ١٩٩١م)، وما جرَّته في أعقابها من انهيار في الروح المعنوية العربية، والتساؤلات وعلامات الاستفهام التي طفقت تتراقص أمام أعين العرب كلهم. ووجدت أن يدي قد شلَّت عن الكتابة، بل لم أستطع حتى كتابة مقالات «الأهرام» الأسبوعية. وفي نهاية العام اتصل بي الفنان كرم مطاوع ليخبرني أنه بصدد إخراج مسرحيتي الشعرية جاسوس في قصر السلطان، وفعلًا قدمها المسرح القومي في الشهور الأربعة الأولى من عام ١٩٩٢م.

وكنت على امتداد فترة الحرب العراقية، أطرح على نفسي الأسئلة الأكبر والأشمل من قضية تآلف مقومات الشخصية المصرية، وأهمُّها قضية الخداع على المستوى العربي، بل والمستوى الدولي، والمزايدات في التمسح بالدين، ولجوء كل من يبغي مغنمًا في هذه الدنيا إلى الصياح باسم الإسلام، بل لقد عيَّن الكثيرون أنفسهم حججًا في الدين يصدرون الفتاوى باسمه، وينعتون من يخالفهم الرأي بالكفر والإلحاد، وتحولت «العلامات» التي تحكم العلاقات الفردية والوطنية والدولية إلى «رموز» و«شفرات» دينية، بل لقد حل الخوف محل الاطمئنان في قلوب المؤمنين، وسرعان ما انفجرت الصراعات الدامية بين السنغال وموريتانيا جارتها، وسقط آلاف الضحايا الذين لم يأبه العالم «المتقدم» لهم؛ فقد كانوا مسلمين وكان لونهم أسود، كما انفجرت الصراعات في أوروبا وراح ضحيتها المسلمون أيضًا في البوسنة والهرسك، ولم يأبه العالم لهم أيضًا، ولو أن أجهزة الإعلام قد أبدت بعض التعاطف معهم لأن لونهم أبيض؛ فالعالم مشغول بما يسمى بالمصلحة وجمع المال، وفي غمرة انشغاله بجمع المال أصبح يتوسل بعبارات مثل: التغلب على الانكماش الاقتصادي، أو تحقيق النمو، أو رفع مستوى المعيشة!

كانت السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه في أوروبا سنواتٍ حافلة بالصراعات العرقية و«القومية»، وكان الخلط القديم ما يزال قائمًا بين «الإسلام» باعتباره دينًا سماويًّا رفيعًا، وبين المسلمين، كما اكتسى ذلك الخلط اضطرابًا في المفاهيم انعكست آثاره على بلادنا، حيث لجأ الكثيرون هربًا منه إلى الماضي، وإن كانوا لا يهربون إليه هذه المرة ابتغاء النقاء والصفاء، بل ابتغاء ما رأوا فيه الحياة المثلى. وعُدت في صيف ۱۹۹۲م إلى المسرحية، وقد صحَّ عزمي على تجسيد الخلط بين الماضي والحاضر، أو بين صور الماضي والحاضر، في إطار الصراع الدرامي الذي ألمحت إليه، خصوصًا بعد أن انتهيت من قراءة بعض الكتب التراثية، وعلى رأسها تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري، وإعادة قراءة الأغاني للأصفهاني قراءة متمهلة، ثم وقعت في آخر عام ۱۹۹۲م فريسة المرض العياء، الذي كتب الله شفائي منه بعد شهور طويلة من المعاناة والجراحات المتوالية في مستشفًى منعزل، في ضاحية من ضواحي باريس. وعندما استأنفت العمل في المسرحية في صيف عام ١٩٩٤م، كانت الصورة قد اتضحت لعيني، وأرجو أن يجد القارئ ملامحها في النص بالوضوح نفسه.

المسرحية الجديدة إذن مسرحية «مركَّبة»، بل تكاد أن تتكوَّن من «مسرحيتَين» إذا اعتبرنا، وفقًا لأرسطو، أن وحدة الحدث هي جوهر المسرحية، ولكن حجتي في ذلك هي أن «الوقائع» التي تجري في إطار أحداث الماضي هي التي تفسر أحداث الحاضر، واختفاء «أبو صباع» في ثنايا الماضي محتوم لأن قرينه عبد الله يحل محله في أحداث الزمن الحاضر، وعنصر الفانتازيا، أو الحدث الخيالي الخارق، محتوم أيضًا؛ لأن أبو صباع لا يعيش الحاضر إلا تمثيلًا؛ فهو ينتمي إلى الماضي، ولا بد له من العودة إليه. فإذا اعتبرنا أن التمثيل، أو ما أسميته بالخداع، هو مفتاح الظواهر الاجتماعية والثقافية الحاضرة في مجتمعاتنا، وجدنا أن الحدثَين يمثلان حدثًا واحدًا، وهو حدث لا ينتهي في الحقيقة بنهاية المسرحية؛ لأن عبد الله يقوم اليوم بدور أبو صباع، وهو يستمر في عمله على مستوى الخداع، وإن توسل بوسائل أخرى.

ولذلك فأنا أتطلع، إن كتب الله لي الحياة ووهبني سنواتٍ أخرى على ظهر هذه الأرض، أن أنظر في أمر عبد الله، وما آل إليه بعد زواجه من فتحية، وما آلت إليه شركة الكاسيتات التي كوَّنتها — فرقة شنشال للفن الشعبي — وما آل إليه أهل أبو الريش، بعد أن عاد معظمهم من البلدان الغنية المجاورة، وعادوا إلى العمل بفلاحة الأرض.

وتبقى كلمة أخيرة بخصوص الشعر الذي وضعته على ألسنة الأبطال: أما شعر الوليد بن يزيد فهو موجود في الأغاني (ج۷)، وكذلك البيتان غير المنسوبَين عن انحرافه، وأما ما يأتي على ألسنة سائر الشخوص بالفصحى أو بالعامية، فهو موضوع، وهو يمثل جزءًا أساسيًّا من أجزاء الحوار؛ ولذلك وددت تنبيه القارئ؛ فأنا — على إيماني بأن حياة المسرحية الحقيقية لا توجد إلا في المسرح — أعتقد أن هذا النص يصلح للقراءة، وأن قراءته دون تمثيل يمكن أن تؤتي بعض الثمار.

أرجو أن أكون قد وُفِّقت في هذه التجربة الجديدة، والتي لا أزعم أنها جديدة كل الجدة، لا عربيًّا ولا عالميًّا، وكما أرجو ألَّا يبخل عليَّ القراء والنقاد بآرائهم؛ حتى أسترشد بها في متابعة حياة عبد الله، إن شاء الله تعالى أن يمدَّ في عمري.

والله الموفِّق.

محمد عناني
جنيف، ١٩٩٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥