النظام الأبوي وقهر النساء

لا تختلف طبيعة القَهرِ الواقعِ على المرأة في الأنظمةِ الأبَوية الإقطاعية والرأسمالية، سواءٌ عاشتِ المرأةُ في الشرقِ أو في الغرب، في البلادِ الصناعيةِ المُتقدِّمة أو في البلادِ الزراعيةِ الناميةِ. إن القَهرَ قد يَختلِف في الدرجةِ فقط من مُجتمَع إلى مجتمع، ومن طبَقة إلى طبقة، إلَّا أن طبيعةَ القَهر تظَلُّ واحدة؛ لأن الأسبابَ الرئيسيةَ واحدة.

ويُخطئ الذين يقولون: إن درجةَ القهرِ الواقعِ على المرأة العربية أشدُّ من غيرها بسبب الإسلام، أو بسبب التقاليد الشرقية، أو بسبب أن تاريخ المرأة العربية حافل بألوان الاضطهاد الشديد للمرأة؛ مثل وَأْدِ البنات … فلقد حَفَلَ تاريخ المرأة في الغَربِ بألوانِ عذابٍ أشَدَّ، وكانتِ النساء تُحْرَق في أوروبا في العُصورِ الوُسطى لأسبابٍ تافهةٍ، أو لمجرد أن تكون المرأة ذكية،١ ومارَسَ الصينيون وَأدَ البناتِ بأكثرَ مما مارسه العربُ، وكان الأبُ الصيني يَقتُل بناتِه أو يَبيعُهن في السُّوق، والزوجُ يَضرِب زوجتَه حتى الموت، لكن ماذا حدَث للمرأة الصينية بعد الثورةِ الاشتراكيةِ في الصين؟ لقد تقدَّمتِ المرأةُ الصينيةُ، ونالت كثيرًا من الحقوق في المجتمع والأسرة لم تَنلْها بعدُ المرأةُ في أكثرِ البلادِ الرأسماليةِ تقدُّمًا وهي أمريكا … بل إن المرأة العربية في بعض البلاد النامية التي سارت نحو الاشتراكية قد بدأت تنالُ حقوقًا لم تَنلْها بعدُ المرأةُ الأمريكيةُ … فالمرأةُ المصريةُ مثلًا أصبحَتْ مُساويةً للرجل في قوانينِ العملِ والتوظُّفِ والتعليمِ الجامعيِّ، وهذا أمر لم يحدُثْ حتى اليوم في أمريكا، ولا تزال حركاتُ تحرير النساء في أمريكا تُطالِب بهذه الحقوق … والمرأةُ العربيةُ في تونس وسوريا والسودان والصومال حصَلَت على حقوقٍ جديدةٍ لم تحصُلْ عليها بعدُ النساءُ في البلادِ الرأسماليةِ المُتقدِّمة.

وعلى هذا يمكن القول: إن تحريرَ المرأةِ لا يُمكِن أن يَتِمَّ في مجتمعٍ قائمٍ على الاستغلالِ، وإن تحريرَ النساءِ مُرتبِطٌ على الدوامِ بتحريرِ الفئاتِ الأُخرى المقهورة من الرجالِ، سواءٌ كانوا عمالًا أو فلَّاحين، لكنَّ تحريرَ الرجالِ المقهورين لا يَكفِي لتحرير النساء؛ فالمرأةُ لا تُحَرَّر من العبودية والاستغلال إذا تَحرَّر زوجُها من عُبوديةِ واستغلال صاحبِ الأرضِ أو صاحبِ المَصنعِ؛ لأن هذا الزوج يَظَل يَستعبِد زوجتَه ويَستغِلُّها بحُكم قانونِ الزواجِ الجائرِ والنظامِ الأبَويِّ القائمِ على سلطة الرجُل، وقد وُجِدَ أنه برَغمِ الحقوقِ الاقتصاديةِ التي حصَلَت عليها المرأةُ في المجتمَعات الاشتراكية، أو التي تسير نحوَ الاشتراكيةِ، إلا أنها لا تزال مُضطهَدةً داخلَ الأُسرة الأبَوية بسبب سلطة الرجُلِ داخلَ الأسرة.

وعلى هذا فإن طبيعة الاضطِهاد الواقعِ على المرأة في أيِّ بلدٍ في العالم — ومنها البلادُ العربيةُ — تَمتدُّ جُذورُها من النظامِ الاقتصاديِّ الاستغلاليِّ في المجتمَع والنظامِ الأبَويِّ داخلَ الأُسرة.

وحيث إن مُعظمَ البلادِ العربيةِ لا تزال تَخضعُ للنُّظمِ الاقتصاديةِ أو الرأسماليةِ المحليةِ والعالميةِ، وأيضًا للنظامِ الأبَويِّ، فإن الاضطِهادَ الواقعَ على المرأةِ هو اضطِهادٌ اقتصاديٌّ وجِنسيٌّ في وقتٍ واحدٍ، ويَقوم الزواجُ في النظام الأبَوي على إخضاعِ المرأةِ لِلرجُلِ اقتصاديًّا وجسديًّا، وتدعيمِ ذلِك بالقِيَم الأخلاقية والدينية والقانونية اللازمة. إن قوانينَ الزواجِ والطلاقِ في مُعظَم البلاد العربية — ومِنها مصرُ — تُبيحُ للرجُلِ الزواجَ بأكثرَ من واحدةٍ، وتُبيحُ له الطلاقَ بسببٍ أو بغير سبب، وتُعطيه السلطة في ضَرْب زوجتِه وإهانتِها وتشغيلِها في البيت، وعقابِها إن أخطأَتْ، ومَنعِها من العمَلِ خارجَ البيتِ إذا أرادَ، والوصايةِ عليها فكريًّا وجسديًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا.

ومن هنا فإن عَقدَ الزَّواجِ ليس إلا عَقدَ تَمليكِ الرجُل للمرأة، يَمتلِكها اقتصاديًّا وجسديًّا، ويَقهرُها اقتصاديًّا وجنسيًّا باسم الحِفاظ على الأُسرة الأبَوية، والتي يفرض المجتمع على المرأة وحدها الحفاظ عليها، أما الرجل فليس مُطالَبًا بالحفاظ على الأسرة، فهو يتزوَّج كما شاء، ويُطلِّق كما شاء، ويُشرِّد من الأطفالِ كما شاء.

والرجُل بهذه الفوضى التي يمنحها له قانونُ الزواجِ والطلاقِ لا يُشرِّد الأسرة فحسْبُ، ولا يُشرِّد الأطفالَ الشرعيين فحسبُ، ولكنه أيضًا يُشرِّد الأطفال غَيرَ الشرعيين الذين هم نتيجةُ الحريةِ الجنسيةِ الممنوحةِ للرجلِ قبلَ الزواجِ وبعدَ الزواج، كما أن موقفَ الأب من أطفالِه غيرِ الشرعيِّين موقفٌ غيرُ أخلاقي وغير إنساني؛ لأنه يَحرِمُهم من الحقوقِ الممنوحةِ لإِخْوتِهم الشرعيين، مع أنه هو الذي أنجَبَهم بمثل ما أنجَبَ الآخَرين، هذه ازدواجيَّة أخلاقيَّة قائمة على ظُلم أطفالٍ أبرياءَ اقتصاديًّا وأخلاقيًّا؛ فالطفلُ غيرُ الشرعيِّ لا يَحظى بالشرفِ ولا بالميراثِ كالطفلِ الشرعيِّ، وفي الوقت الذي يُظلَم فيه هؤلاءِ الأطفالُ الأبرياءُ يُطلَقُ سَراحُ الآباء المُذنِبينَ.

وقد أَنتَج النظامُ الأبَوي — بالإضافة إلى الازدواجيةِ وظاهرة الأطفالِ غيرِ الشرعيين — كثيرًا من الظواهرِ الأُخرى غيرِ الإنسانية وغيرِ الأخلاقية، منها ظاهرةُ البِغاءِ، فما كان لهذهِ الظاهرة أن تُوجَدَ على ظَهرِ الأرضِ لولا وُجودُ النظامِ الأبَوي الذي مَنح للذكورِ الحريةَ الجنسيةَ وألْبَسَ الفتياتِ والنساءَ حِزامَ العِفَّة الحديديَّ جسديًّا ونفسيًّا وفكريًّا؛ فقد كان لا بُدَّ من خَلقِ فئةٍ من النساءِ المُومِساتِ ليُمارِسَ معَهُن الرجالُ الجنسَ، وإلَّا فكيف كان لهؤلاءِ الرجالِ أن يمارسوا الحريةَ الممنوحةَ لهم خارجَ الزواج؟!

ولو دَرَسْنا القَهرَ الذي تُعانيه البناتُ والزوجاتُ، ثُمَّ القَهرَ الذي يُعانيه الأطفالُ غَيرُ الشرعيِّين، ثم القَهرَ الذي تُعانيه المُومِساتُ؛ لأدركنا أن النساءَ والأطفالَ في مُعظَم الأحيان يَدفعون وحدَهم ثَمنَ حريةِ الرجالِ وفوضاهُمُ الجنسيةِ المَكفولةِ لهُم في النظامِ الأبَويِّ.

  • (١)

    «القُيود الاقتِصادية»: حِرمان المرأةِ من العمَل بأجْر حتى لا تَستقِلَّ عن زوجِها اقتصاديًّا، وتظَلَّ خاضعةً لِسيطرتِه بصفتِه العائلَ لها؛ ولهذا تَعملُ النساءُ في البيوتِ في الغَسلِ والكَنسِ والطَّبخِ ورعايةِ الأطفالِ بغَيرِ أَجرٍ، وتَعملُ أيضًا ملايينُ الفلَّاحاتِ منَ النساءِ بغَيرِ أَجرٍ، وكذلك أيضًا تُحْرَم النساءُ من العمَل في الوظائفِ التي تأخذُ عنها أجرًا، ويُحْبَسْنَ داخل البيوتِ بحُجَّة أن خروجَ المرأةِ من البيت قد يُعرِّضُها للزَّلَل، وفي حالة العامِلةِ التي تَعملُ في مَصنعٍ ما بأَجرٍ فإن هذا الأجرَ قد يكونُ أَقلَّ مِن أَجرِ الرجُلِ عن العملِ الواحدِ، وفي حالةِ الموظَّفةِ التي تَنالُ أجرًا مُساويًا لِزوجِها فإنها تَشتغِل في البيتِ، وتَتحملُ وحدَها عِبءَ العملَين داخلَ البيت وخارجَه، بالإضافة إلى أن سُلطة الزوجِ بحُكم قانونِ الزواجِ تَجعلُ الرجُلَ مُسيطِرًا على زوجتِه وإن كانت تَعملُ بأَجرٍ، وذلك بقُدرتِه على حِرمانِها منَ العملِ، أو تَهديدِها بالطلاقِ، أو الزواجِ بأُخرى.

    وعلى هذا نَجِد أن المرأة لا يُمكِن أن تَحظى بالاستقلالِ الاقتصاديِّ بمعناهُ الحقيقي في ظِلِّ النظام الأبَوي، كما أن خُروجَها إلى العملِ في ظلِّ هذا النظامِ قد لا يكونُ إلا مزيدًا من استِغلالِها جسديًّا واقتصاديًّا، وذلك بالعملِ داخلَ البيتِ وخارجَه، وتعرُّضِها للإرهاقِ الجسَدي والنفْسِي.

  • (٢)

    «القيود الجنسية»: من أَجلِ فَرْض العِفَّة والعُذْرية على الفتاةِ قبلَ الزواجِ؛ فقد فُرِضَت عليها عملياتٌ جسديةٌ ونفسيةٌ مشوِّهة لِطبيعتِها التي خُلِقَت بها؛ مثلَ عمليةِ الخِتانِ، وهي عادةٌ انتشَرَت في مِصرَ وبعضِ البلادِ الأخرى، وفيها يُقْطَع بَظْر الطِّفلةِ البِنتِ قبل أن تُتِمَّ العاشرةَ من العُمرِ؛ من أَجلِ إضعافِ رَغبتِها الجنسيةِ؛ لِتُحافِظ على عُذْريَّتِها قبلَ الزواج، وهذه عمليةٌ وحشيةٌ ضارَّة تَفتِكُ بِصحةِ المرأة النفسية والجنسية، وتَفتِك أيضًا بصحة الأُسرة وعلاقةِ الزوجِ بزوجتِه؛ إذ تعجز الزوجة — في مُعظَم الأحيان — عن إشباعِ رغبتِها أو رغبةِ زوجِها، وتُعرِّض الأزواجَ لإدمان الحَشيشِ، وتَتعرَّض البناتُ أيضًا لمآسٍ عَديدةٍ ليلةَ الزِّفافِ من أجلِ إثباتِ العُذرية. ومن المعروف طبيًّا أن إثبات العُذريةِ أمرٌ مُستحيلٌ في أكثرَ مِن ٣٠٪ من البنات؛ بسبب اختلاف نوعية أغشية البكارة، أو عدم وجودها أصلًا في جسَد الفتاة، أو رِقَّة الغشاء إلى حَد أن قَطراتِ الدمِ لا تُرَى على مُلاءةِ العُرسِ. وحيثُ إن الوسيلةَ الوحيدةَ لمعرفةِ العُذرية هو تلوُّث المُلاءة بالدمِ، فيُمكِنُنا أن نُدرِك كَمْ من فتياتٍ يَنلْن العقابَ أحيانًا إلى حَد القتلِ وهُنَّ بريئاتٌ. وتتَعرَّض البنتُ المِصريةُ في الرِّيفِ لعملياتٍ مُهينةٍ ومُؤلمةٍ من أجلِ إثباتِ العُذرية، وكُلُّنا نَعرِف طريقةَ فَضِّ غِشاء البَكَارة بالأُصْبُعِ، واستِقبال النَّزيفِ الدمَويِّ على بَشْكيرٍ أبيضَ، وعَرضه للناس.

    هذا بالإضافة إلى التربيةِ الصارمةِ القائمةِ على كَبتِ البنتِ جنسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا؛ وكل ذلك بسببِ الخَوفِ على عُذريتِها. هذا في الوقت الذي يَنطلِق فيه الذكورُ يُطارِدون الفتياتِ وقد منَحَهم القانونُ والعُرْف الحِمايةَ، بل الفَخْر والشَّرف.

  • (٣)

    «القيود القانونية»: القانونُ العادلُ هو الذي يَحكُم على الناسِ بمقياسٍ واحدٍ، لكنَّ القوانينَ في ظِل النظامِ الأبَوي غيرُ عادلةٍ؛ لأن الفِعلَ الواحدَ الذي يقومُ به الرجلُ والمرأةُ تُعاقَب عليه المرأةُ وحدَها ولا يُعاقَب الرجلُ؛ مثلًا: الرجل الذي يُمارِس الجِنسَ مع المرأةِ المُومِسِ وهو الذي يَذهبُ إليها ويَدفَع لها ويَخرُج دون أن يُعاقَب، أما المُومِسُ فتُساقُ إلى السِّجنِ وحدَها، والرجلُ في القانونِ المصريِّ يكونُ شاهدًا فقط. وفي الخيانةِ الزوجيةِ أيضًا يَسمَح القانونُ المصريُّ للزوجِ أن يَخونَ زوجتَه في أيِّ مكانٍ فيما عدا بيتَ زَوجتِه، فإذا خانَها في بيتِها حُكِمَ عَليهِ بستةِ شُهورٍ فَقط، أما الزوجةُ التي تخُون زَوجَها في أيِّ مكانٍ فوقَ ظَهرِ الأَرضِ فيُحْكَم عليها بسنَتينِ في القانونِ المصريِّ. هذا بالإضافة إلى قانونِ الزواجِ والطلاقِ الذي يُعْطِي للزوجِ السلطةَ المُطلَقةَ على زَوجتِه، والذي تُعامَل فيه الزوجةُ مُعاملةَ العَبيدِ، بل إن العَبدَ لا يُسْتَغَل جسديًّا وجنسيًّا كما تُسْتَغَل المرأة.

  • (٤)

    «القيود الأخلاقية والدينية»: من أجلِ تدعيمِ القيودِ الاقتصاديةِ والجنسيةِ كان لا بُدَّ من فَرضِ قوانينَ أخلاقيةٍ على النساءِ وحدَهن، تَفرِضُ عليهِن ما لا تَفرِضه على الرجالِ، وكان لا بُدَّ من إرجاعِ هذه القوانينِ الأخلاقيةِ إلى الأديان، في حين أن الدينَ الحقيقيَّ لا يُفرِّق بين البشر أخلاقيًّا أو اقتصاديًّا، ويُساوِي بينَ الناسِ بصَرفِ النظَر عن الجنسِ أو اللونِ أو الطبقةِ.

  • (٥)

    «القيود النفسية والفكرية»: من أَجلِ تَدعيمِ القُيودِ الاقتصاديةِ والجنسيةِ والقانونيةِ كان لا بُدَّ من فَرضِ قُيودٍ نفسيةٍ وفكريةٍ على النساء؛ بحيثُ لا تَستطيعُ المرأةُ التفكيرَ في الظُّلمِ الواقعِ علَيها، وتَظُن أن هذا الظلمَ مَفروضٌ من الله، أو مَفروضٌ من الطبيعةِ التي جعلَتْها أُنثى. وكان لا بُدَّ من تَشويهِ طبيعةِ المرأةِ بالمفاهيمِ النفسيةِ الخاطئةِ عن الأُنوثةِ والجمالِ الأُنثوي، وتَشويهِ عَقلِها بالحِرمانِ من المَعرفةِ والفَهمِ، وبلَغَ هذا التشويهُ إلى حَد إقناعِ النساءِ بأنَّهن بالطبيعةِ «ماسُوشِيَّاتٌ» يَعشَقن الضَّربَ والإهانةَ، ومن هنا يَسهُل على الرجال ضربُ النساءِ دون أن يَتمرَّدْن، بل إن المرأةَ التي تَشعُر أنها لا تُحِب الضربَ، وأنها لا تُحِب الإيلامَ (ليست ماسُوشِيةً) يُنْظَر إليها على أنَّها امرأةٌ غيرُ طبيعية.

وبِسبَبِ تخبُّط المرأةِ بينَ طبيعتِها الحقيقية وبين الطبيعة الأُنثوية المفروضة عليها بالنظام الأَبَوي فقد سقطَتْ كثيرٌ من النساء ضحايا العِقاب والقَلقِ والبُرودِ الفكريِّ، وغيرِ ذلك منَ الأمراضِ النفسيةِ والعصبيةِ.

إن أيَّ مجتمعٍ قائمٍ على الاستغلالِ لا بُد وأن تتناقضَ فيه القِيمُ التجاريةُ والاقتصاديةُ معَ القيمِ الأخلاقيةِ والدينيةِ؛ ولهذا تَتفشَّى التناقُضاتُ في النُّظمِ الأبويةِ الإقطاعيةِ والرأسماليةِ، وتَنتشِر الازدواجيةُ في كل شيء، ويَدفع ثَمنَ هذا التناقضِ المحكومون لا الحُكامُ، والنساءُ لا الرجالُ، والطبقاتُ الكادحةُ وليسَتِ الطبَقات العالية.

وتَزِيد هذه التناقضاتُ حِدَّةً في المجتمَعاتِ الفقيرةِ المتخلِّفة، وبالرغم من أن المَنطِقةَ العربيةَ تُعْتَبَر (بِسبب البِتْرولِ ومُنتجاتِها الزراعيةِ) مَنطِقةً ثَريةً اقتصاديةً إلَّا أن ثَراءَها لا يَعودُ إلى أبنائها، وإنما إلى أبناءِ الدولِ الاستعماريةِ الكُبرى، وإلى القِلَّة القليلةِ الحاكمةِ داخلَ البلدِ العربيِّ؛ ولهذا السَّببِ تَعيشُ الأغلبية الساحقة من الشعوبِ العربيةِ في فَقرٍ وتخلُّفٍ اقتصاديٍّ واجتماعي، ويؤدِّي هذا التخلُّف بالضرورة إلى تخلُّفٍ فكريٍّ ونفسيٍّ وأخلاقيٍّ. وفي ظِل التخلُّف يَزيد اضطهادُ المرأةِ الاقتصاديُّ والجنسيُّ والأخلاقيُّ؛ فالمرأةُ الفقيرةُ تُعاقَب على تصرُّفاتِها أكثرَ مما تُعاقَب المرأةُ الثَّرِيةُ، وقد يَغفِر الثراءُ للمرأة فسادَها الأخلاقيَّ، بل إن الثراءَ قد يُحوِّل الرذائلَ إلى فضائلَ في أحوالٍ كثيرةٍ. ويَحمي المالُ أيضًا المرأةَ المُطلَّقة من التشرُّد أو التسوُّل أو بَيعِ الجَسدِ في سُوقِ البِغاءِ الرسميِّ أو غيرِ الرسميِّ. ويُساعِد المالُ المرأةَ على التخلُّص من الجنينِ غَيرِ المرغوبِ فيه عند بعضِ الأطِبَّاء رغمَ تحريمِ الإجهاضِ، إلى غيرِ ذلك منَ الأمور.

وتُعاني المرأةُ العربيةُ منَ الاضطِهاد بسبب الازدواجية الأخلاقية؛ فالاستِعمارُ الرأسماليُّ والاقتصاديُّ إلى جانب امتصاصِه لخيراتِ المنطقةِ العربيةِ فإنه يَنقل إلى المجتمعِ العربيِّ ازدواجيتَه الأخلاقيةَ الناتجةَ عنِ التناقضِ بينَ قِيَمه التجاريةِ وقِيَمه الأخلاقيةِ والدينيةِ. وتُعاني المرأةُ أكثرَ من غَيرِها الاضطِهادَ بسببِ هذه الازدواجيةِ، فجسَدُها يَجبُ أن يُعَرَّى لشَدِّ انتِباهِ الناسِ وإثارتِهم من أجلِ تَرويج السِّلَع عن طريقِ الإعلاناتِ وأجهزةِ الإعلامِ والأفلامِ والأغانِي والفُنون والصُّحُف والمجَلَّات، وجسَدُها عَورةٌ ويَجِب أن يُحْجَبَ بمَنطِق القِيَم الدينيةِ والأخلاقيةِ. وتُصبح المرأةُ أداةً للإعلان التجاري، أو أداةً للعملِ بغير أجرِ في البيت أو الحقل، أو أداةً للعملَين معًا داخلَ البيت وخارجَه، أو أداةً للوِلادةِ من أجل إنتاج البَشَر للدولةِ، أو أداةً جنسيةً من أجلِ إشباع رغَبات الرجُل أو تَرويجِ السِّلَع.

إنَّ إزالةَ الاضطِهادِ الواقعِ على المرأة العربية لا يُمكِن أن يَتِم إلا بإزالة الأسباب الحقيقية والأصلية لهذا الاضطهاد، كما أنه لا يُمكِن تحريرُ المرأةِ حقيقةً إلا بإزالة جميع أنواع الاضطهادِ سواءٌ كانتِ اقتصاديةً أم جنسيةً أم أخلاقيةً. إن تحريرَ المرأةِ اقتصاديًّا فقَط لا يَكفِي، وخُروجَ المرأةِ إلى العملِ وحصولَها على أَجرِ مساوٍ لأجرِ الرجُلِ لا يَقودُ إلى تحريرِها الحقيقي إذا ظل النظام أبويًّا تخضع فيه المرأة للرجلِ في ظِل قوانينِ الزواجِ والطلاقِ، وتحريرَ العُمَّال والفلَّاحِين من استغلالِ الرأسماليينَ والإقطاعيينَ لا يَقودُ إلى تحريرِ المرأةِ؛ لأن المرأةَ تظَلُّ عَبدةً لزَوجِها. إن تحريرَ الرجالِ المَقهورِين لا يَقودُ إلى تحريرِ النساءِ المَقهوراتِ، إلا أن إزالة الاضطِهادِ الاقتصاديِّ الواقعِ على المرأة هو خُطوةٌ في سبيلِ تحريرِها الكامل، ولا بُدَّ من إزالةِ الاضطهاد الجنسي والأخلاقي أيضًا، وذلك بإزالةِ أسبابِه في نظامِ الأُسرةِ الأبَويةِ. وإزالةُ الاضطهادِ الاقتصاديِّ تَقتضي — أوَّلَ ما تَقتضي — تخلُّصَ الشعوب العربية من كافَّة أنواع الاستغلال والاستثمار الرأسمالي الأجنبي، والتخلُّصَ من النُّظم التقليدية والإقطاعية.

١  انظر: الأنثى هي الأصل، ٢٨–٤٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤