أحمد مستجير والمقال العلمي

مَن يكتب عن أحمد مستجير؟

آلاف الذين عرَفوه، قرَءوا له، احتكُّوا به، تفاعَلُوا معه، شاهَدُوه في وسائل الإعلام، لجَئُوا إليه.

كلٌّ من انطباعه الخاص وتجربته الشخصية معه.

أزعُم أن القلة القليلة هم مَن يستطيعون ذلك أو يملكون الحس، القدرة الموهبة، الإلمام، أو الأدوات اللازمة للقيام بذلك، مؤلَّفاته، ترجماته، أشعاره، أسلوبه؛ كلها تحتاج إلى الناقد، اللغوي، العالِم، الكاتب الموهوب، ذي الذائقة الرفيعة، الحس الرهيف والخيال.

موضوعنا هنا هو مقالاته العلمية. أزعُم أن أحمد مستجير أبدَع شكله الخاص للمقال العلمي.

كتب المقال العلمي شاعرًا عاشقًا لموضوعه. يبدأ وقد أدمج «الأنا» و«نحن»، ويتغنَّى بوحيٍ من موضوعه، ثم يفصلُ بينهما ليدقِّق، ويقيِّم، ويروي ويعلِّق، ويَعرِض دقائق الموضوع … كل ذلك بأسلوبٍ ثري مفعَم، سلِس، سهلٍ ممتنع، يلمسُ منا الأحاسيس، يُداعب الخيال، ثم يُوقِظ الفكر ويتوجَّه للعقل، يَدْعونا للتفكير والتأمُّل والاستيعاب، ويلجُ بنا إلى عوالم كل ما هو جديدٌ مدهشٌ في آفاق العلم، والهندسة الوراثية تحديدًا.

ساحرٌ هو، يستدرجُنا في مقالاته مطمئنِّين متشكِّكين، أَسْرى أسلوبه، تَسارُع أفكاره، تركيبات جُمله، ألفاظه المنحوتة والمبتدَعة ودُعاباته. ثم يدفع بنا في آفاق البحث، وعوالم الاكتشافات وجدالات العلماء والمُنظِّرين لنجد أنفسنا في عالمٍ غرائبي فسيح، وكأنه مألوفٌ لنا، مليءٌ بما لم نتوقَّع، لكنه حادث، قد أُنجز أو هو في سبيله للإنجاز.

معيارُه لتقييم الإنجاز العلمي هو نفعُه للبشرية؛ يُحابي من يعمل لخيرها جميعها، ويفضَح مِن العلماء مَن يستخدمون أدواتهم للسيطرة والاستغلال وتجريد البشرية من إنسانيتها، للوصول إلى السوبر مان مثلًا، أو للدفع بأبحاث اليوجينيا، تارةً بزعم أن العلم من أجل العلم، وأخرى من منطلَق عقيدة أن البقاء للأسمى، للأبيض الغربي.

عَشِق الأرضَ والإنسان، عَشِق الأرضَ كوكبنا الأوحد الذي، ورغم كل ما نُحدثه به من تدمير واستغلال، لا غنى له عنا، ولا غنى لنا عنه. لم يهتمَّ كثيرًا بما يحدث في الفضاء، الأرضُ وعلاقةُ الإنسان بها مجالُه، والإنجاز العلمي في هذا الإطار ملحمتُه.

ثم ينتهي بنا الساحر مستجير وقد نقل إلينا رسالةً واضحةً بأن الإنجاز العلمي، مهما عظُم، هو من صُنعِ بشرٍ يملكون الإرادة، والإعداد، والأدوات، والثقافة، والتفكير السليم. يعملون في بيئة تحتضنُهم، تُشجِّعهم وتسهِّل مهامهم، لهم فيها رفاقٌ، يؤازِرون بعضَهم، يتبادلون الأفكار، ويتنافَسون معًا. بشرٌ يحاولون، يفشَلون، وينجَحون، يُحبون ويَكْرهون ويتحيَّزون ويَلهُون، لكنهم جميعًا يبدَءون من إدراكٍ لغايات مجتمعهم وأهدافهم العلمية الخاصة المباشرة والبعيدة، يثقون بهبة العقل البشري، ليس بينهم مَن يملك رأيًا أوحد، أو يأتي بما يعتقد أنه إنجازٌ كاملٌ يضع نهاية للعلم، أو مَن يؤمن أن كلمته هي الأخيرة الفاصلة، يعلمون جيدًا أن تلك ما هي إلا بداياتٌ على دربٍ سيتقدَّم فيه آخرون، وآخرون إلى ما لا نهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥