ترافُق الحواس
بعد أن وضَع ريتشارد فاجنر أوبرا «تريستان وإيزولده» ذهب إلى المسرح الذي جُهِّز لعرضها، فوجد أن اللون الأزرق يغلبُ عليه. استشاط غضبًا، ومضى يحطِّم كلَّ ما أمامه، ليُصَابَ مهندسُ الديكور بالذعر. أكَّد فاجنر أنه إذا لم يُغيَّر هذا اللون إلى الأحمر الداكن، فلن يسمح بافتتاح الأوبرا. كان الفيزيائيون في تلك الأيام قد أدركوا أن موجاتِ الضوءِ تتوافَق في الشكل مع موجاتِ الصوت، وكان المقام الموسيقي الذي كُتبَت به الأوبرا هو الذي يتوافَق مع اللون الذي أصرَّ عليه فاجنر. كان الموسيقيُّ على حق، اللونُ الأزرقُ كان بالفعل هو اللون «الخطأ».
في قصيدة «الزعفران الأرجواني» يقول الشاعر أليكي بارنستون: «نغماتٌ موسيقيةٌ عابرةٌ لا تُدْرَك، تسمعها العين.» ويكتب ك. بالمونت عن ناي: «صوتُه أزرقُ في لون الفجر.» وهناك مَن تَأَوَّه قائلًا: «آه من رائحتها الزرقاء!» ويتحدث الشاعر أ. رينبو عن «سوناتا اللون.» وكتبتُ أنا يومًا عن صوتها الحزين الذي «يشبه الظل على الموج البطيء.» نَمزجُ الحواسَّ عندما نكتب، ليجدَ القارئ شيئًا جميلًا موحيًا يتسرَّب إلى صميم كيانه. يعشَق الكاتب أن يمدَّ حاسةً لتستوعب حاسةً أخرى أو عاطفةً، فيرى الصوت والموسيقى، ويشم الظلام، ويسمع اللون، ويُحِس الحزن «ضوءًا خافتًا»، ويكتُب عن «صوتها الذي كان يطير كالريح، ويبدو أسود مُبتَلًّا لَيْليًّا، يتألق كجوهرة»، و«يرى الكونَ في حبة رمل، والجنةَ في زهرةٍ برِّية.»
إذا ما وصفتُ لك ورقةَ نباتٍ فقلتُ إنها «خضراء سميكة، تشبه العين»، فستَصِلُك صورةٌ لشكل الورقة، أما إذا قلتُ لك إنها ورقةٌ «تلفُّها رائحةُ ضوء الشمس، ينبضُ في عروقها دم التفاح، تُداعِب أنفَك بنكهة السرور والبهجة، تنفُذ عينُها إلى قلبك فتُثير فيه الأملَ والحبَّ والحق.» فلن تَصِلَك صورةٌ للورقة، وإنما ستبلُغك عنها طاقة روحية. ستتحوَّل من «عِلْم النبات» إلى «عالَم الشعر.»
يعيشُ الفنانُ في حواسِّه، عندما يُبْدِعُ، لا في مُخه. يناشد كاندينسكي المتلقي قائلًا: «اترك أُذنَيك للموسيقى، افتح عَيْنَك للَّوحة … وتَوقَّف عن التفكير! ثم اسأل نفسك: هل مَكَّنَكَ هذا العمل الفني من أن «تتجول» في عالَم ما عرفتَه قَبْلًا؟ إذا كانت إجابتُك: نعم، فبالله ماذا تطلب أكثر؟»
عندما قرأتُ قصيدة «الصمت» القصيرة (جدًّا) للشاعر الأمريكي إن. إ. كامينجز (أو الشاعر الرسَّام كما كان يُحب أن يُسمَّى) (١٨٩٤–١٩٦٢م)، توقَّفتُ عند مطلعها: «الصمتُ … طائر … يَنْظُر.» هزَّتْني هذه الجملةُ القصيرة. زلزلَتْني، حملَتْني إلى عالَمٍ ما عرفتُه قَبْلًا، نقلَت إلى قلبي صورةً هائلةً تلفُّ الوجود. هوَيتُ عميقًا في رَحِم الصمت، لَفَّتْني سحابةُ استغراق، توافدَت إلى مُخيِّلتي صورٌ وخيالاتٌ ما أكثرها، من بينها صورة محمد حسنين هيكل «ينظر.» طائر يجلس وحيدًا على فرعِ شجرةٍ ينظر. لا يُغنِّي. لا يصدَح. لا يقول شيئًا. ينظر. كيف لهذه الجملة القصيرة أن تفعل بي ما فعلَت؟ بها شيءٌ من سرِّ الفنان، بها شيءٌ من سرِّ الوجود.
العاطفة لا يمكن أن تُوصَف بأوصافٍ تخصُّها وحدها. كيف تُصَاغُ شعرًا؟ كيف تُرسَم لوحةً؟ كيف تنسابُ موسيقى؟ كيف تتجسَّد تمثالًا؟ نستعير لها صفاتٍ من حواسَّ أخرى، من العالَم الخارجي كما نَخبُره، لكنَّ أحدًا لن يستطيعَ أبدًا أن يصلَ إلى ما كان في جوفِ الفنان إذ يكتبُ قصيدتَه، أو يرسمُ لوحتَه، أو يرسلُ ألحانَه، أو ينحتُ تمثالَه. سيظل هناك شيءٌ لا يَبِين، يعجزُ المُتلقِّي عن أن يبلُغَه؛ فكل ما يستطيعه هو أن يُحاوِلَ الاقتراب من السر الأعظم في عُمقِ الفنان، هو سِرُّ الوجود الذي لن يبلُغَه بشر، لا ولا حتى صاحب الإبداع نفسه.
أثَمَّة مِن الصفات ما نجده في كل فنانٍ حق؟ نعم، القدرة على ربط مجالاتٍ متفرقةٍ من الخبرة، مجالاتٍ تبدو لغير الفنان وكأنْ لا شيء يجمع بينها. الفنان يجاهد كي يتمكَّن من المجاز، من الاستعارة، من مَزجِ الحقائق، لكنَّ هناك من الناس الكثيرين ممن يشتركون معه في هذه الخبرة، وهم مَن يحملون صفةَ «ترافُق الحواس» (وهذا اسمٌ لظاهرةٍ فريدةٍ تمتزج فيها حواسُّ الفرد بعضها مع بعض). إثارةُ حاسَّة من الحواس الخمس، الشم مثلًا، تتسبَّب تلقائيًّا وفَورًا في استثارة حاسةٍ أخرى أو أكثر، كالسمع أو البصر. ليس من الغريب إذن أن نجدَ هذه الخصيصة منتشرةً بين الفنانين بمختلف طوائفهم بنسبة تبلُغ سبعةَ أضعافِ النسبة في العشيرة، بل إن هناك مَن أَكَّد أن الموهبة الشعرية الجوهرية هي ترافُق الحواس، مترافقو الحواس يَخبُرونَ العالم بكثافةٍ أكبر، ويرَون عالمًا مختلفًا، وإن كان الكثيرون منهم لا يُدرِكون أنهم يمتلكون هذه القدرة المتفرِّدة، بل إن البعضَ منهم يعتقدون أن أحاسيسَهم هي نفسُ أحاسيس الآخرين، ويشعرون أن ما بهم هو الطبيعي، فهذا واحدٌ منهم يقول (ولم يكن يعرف أنه يمتلك هذه الخصيصة): «ألا يرى الناسُ جميعًا الأرقامَ ملوَّنة؟»
كتب السيكولوجي الروسي «أ. ر. لوريا» عن شخصٍ عمره ٣٠ عامًا، له ذاكرةٌ فوتوغرافية لا تُمحَى، وكانت حواسُّه مترافقة. وصَفَ لوريا حالة الرجل، لكنه لم يقدِّم تفسيرًا لهذه الذاكرة الهائلة ولا لترافُق حواسِّه. لم يكن هذا الرجل يُدرِك خطوطًا تفصل الرؤية عن السمع، أو السمع عن أيةِ حاسةٍ أخرى. إليك كيف وَصَفَ الرجلُ العالَمَ الذي يعيش فيه:
تكاد تُحِس بأديبٍ يكتب!
ترافُق الحواس
كنا في الستينيات نُقابل فتاةً فقيرةً عمياء، على كورنيش النيل في المنيل قُرب كوبري الجامعة. كانت تفعل شيئًا عجبًا. كانت تضَع يدَها على أية سيارة، فتعرفُ لونها دون خطأ! لم أكن أصدِّق، وكنتُ أقول إنها ليست عمياء كما تدَّعي، حتى قرأتُ عن ترافُق الحواس، وعلمتُ أن الله قد وهَب البعض منا قدراتٍ حسيةً خارقةً بالفعل.
تعلَّمنا أن حواسَّنا الخمس — السمع، البصر، الشم، الذوق، اللمس — منفصلة، متخصِّصة، ومستقلة بعضُها عن بعض، وأن كلًّا منها يرتبط بعضوٍ بذاته من أعضاء الجسم؛ فلا نحن نرى بأذاننا ولا نحن نسمعُ بأعيننا، لكن العلم يتحدَّى الآن هذه الأفكار بأبحاثه في ظاهرة «ترافُق الحواس» الساحرة هذه، التي يَخبُر فيها الفرد تشوُّشًا في حواسه، فيبدو الأمر كما لو كانت إحداها قد «اندمجَت» في أخرى؛ حاسة تقدح زناد حاسةٍ أخرى غيرها؛ فصَوْتي عند مثل هذا الشخص ليس مجرَّد شيءٍ يسمعُه، وإنما أيضًا شيءٌ يراه أو يشمُّه أو يلمسُه — هو يستطيع أن يسمعَ اللونَ أو أن يرى الصوتَ أو أن يلمسَ الطَّعْمَ. طَعْم الكينين «كالخشب الناعم المصقول»، السكَّر يجعل طعم الأشياء «أكثر استدارة»، أما الموالح فتعطي طعمًا «مُدبَّبًا.» هي ظاهرةٌ لا إرادية، ولا يُمكِن للفرد أن يتحكَّم فيها، وتبقَى معه طول العمر، وإن كانت تضعُف بعضَ الشيء مع تقدُّم العمر.
والحق أنه كان من الصعب حتى وصف هذه الظاهرة؛ ذاك أنه إذا حاول واحدٌ من ذوي الحواس المترافقة وصفَ ما يعتريه، فمن الصعب علينا أن نتفهَّمه؛ إذ سيبدو كمثل من يريد وَصْفَ اللون لشخصٍ وُلِدَ ضريرًا. إلَيكَ ما قاله أحدهم: «إنها بالتأكيد ألوان، لكني لست متأكدًا من أن كلمة «رؤية» هي أدق الأوصاف. الإحساس بالترافق مؤكدًا ليس «في عقلي»، لكنه هناك بشكلٍ ما. الأمرُ يبدو كما لو كان ثمَّة غشاءٌ نصفُ شفَّافٍ له عُمْق يُمكِنُني أن أرى من خلاله. هو شيءٌ كمثل جيَشَان حرارة، إنما دون التشويه.» وهذا وصف لنغمةٍ موسيقيةٍ على لسان شخصٍ ترافقَت لديه حواسُّ كثيرة، ولم يكن يستطيع إلا أن يُترجِمَ الأصوات إلى شكلٍ وطعمٍ وملمسٍ ولونٍ وحركة: «إنها تُشبِه شيئًا كالألعاب النارية — يشوبها لونٌ أحمرُ قرنفلي. أَشْعُرُ بشريحةِ لونٍ خشنةٍ كريهة، لها طعمٌ قبيح — طعمٌ أشبه ما يكون بالمُخلل المالح … إنها تجرح يدَك إذا أنتَ لمستَها.»
نُولَد مترافقي الحواس
ثمَّة شواهدُ قويةٌ تقول إننا نُولَد جميعًا ونحن نحمل هذه الخصيصة؛ نولد وحواسُّنا الخمس مبهَمة ممتزجة معًا، لتتمايز مع تقدُّم العمر وتصبح أكثر وأكثر تخصُّصًا. لأعيننا سُبُلٌ حسِّية من خلالها تُرسَل المعلوماتُ إلى المخ، ومنه. تكونُ هذه السُّبُلُ في الطفولة غيرَ ناضجة، وتُرسِل إشاراتٍ تختلف عما تُرسِله بعد البلوغ. لا تنضج هذه المسالكُ إلا مع تمام نُضج المخ. تُبيِّن الأبحاث أن الوليدَ النائمَ يسمع في نومه مثلما يسمع في صحوه، أما الشخص البالغ فينخفض سمْعُه عندما ينام. وهناك من نتائجِ البحوثِ ما يقول إن المولود في عمر ٣-٤ أسابيع يُسوِّي بين الأضواء الساطعة والأصوات المرتفعة، هذه تَعْني تلك، وهذا مؤكدًا أمرٌ لا يحدُث مع الكبار.
تكونُ حواسُّنا عندما نُولَد مُترافِقة، ويحتفظ عددٌ قليلٌ منا بهذا الترافُق طيلةَ حياته، عددٌ تتراوح نسبتُه في العشيرة ما بين واحدٍ في كل ٢٠٠٠٠ فرد، وواحدٍ في كل ٢٠٠٠، وإن كان هناك الآن مَن قد رفَع هذه النسبة إلى واحدٍ في كل مائتَين. والواقع أنْ ليس ثمَّة تقديرٌ مضبوط يُمكِن الاعتدادُ به؛ لأن معظم مَن يحمل هذه الخصيصة لا يُفصِحُ عنها خشية أن يُتَّهمُوا بغرابة الأطوار أو بالجنون! فعندما تَحَدَّثَ، على الأثير، الدكتور «ريتشارد إدموند سيتويك» — الطبيبُ الذي أثارَ هذه الظاهرة مجدَّدًا في أوائل تسعينيات القرن الماضي بكتابه «الرجل الذي يتذوَّق الأشكال» — وطمأَن حامليها من المشاهدين بأنهم ليسوا «مَرضَى»؛ أنَّ ما بهم ليس حالةً مرَضِية، بل إن البعضَ يعتبرُها موهبة، ويشعُرون بأنها تُثرِي حياتَهم، وطلَب منهم الاتصالَ به، انهال عليه سيلٌ من المكالمات التليفونية والرسائل! والواقع أن هذه الظاهرة لم تخضَع لبحوثٍ جادَّة إلا مؤخَّرًا، ولقد كانت تُعزَى بالفعل في الأدبيات العلمية القديمة إلى جنون حامليها، أو إلى تعاطيهم عقاقيرَ الهَلْوسة، لكن هذا لم يكن يُفسِّر السببَ في أن معظم حامليها لا يتعاطَوْن هذه العقاقير. كما كانت تُفَسَّر بأنها نتيجةٌ للألعاب التي يُدرَّبُ بها الأطفال على القراءة والكتابة، فإذا كان الرقم ٦ أحمر والرقم ٧ أزرق، ثَبَتَ هذا في عقولهم، لكن لماذا إذن لا نكونُ جميعًا هكذا؟ وكان هناك من فَسَّرها بأنها مجرَّد صورة من صور المجاز، فإذا كانت النَّغْمة «حمراء» فلأنها زاعقة، مثل قرن الفلفل الأحمر الحريف الزاعق!
الأمرُ الغريبُ أن نسبةَ مَن يتحلى بهذه الخصيصة من النساء تبلُغ على الأقل ضعفَين ونصفَ ضعفِ نسبةِ مَن يحملُها من الرجال، بل إن هناك مَن رَفَعَ هذه النسبة إلى ستة أضعاف. كما أن نسبة اليُسْر (الذين يعملون باليد اليسرى) من أصحابِ ترافُقِ الحواسِّ تزيد كثيرًا عن نسبتهم في العشيرة العريضة. ثم إن أكثر صُور ترافُق الحواسِّ شيوعًا تكون بين حاستَين اثنتَين فقط، والترافُق بين البصر والسمع هو الأكثر انتشارًا، وهو ما يُسَمَّى السمع الملوَّن، وفيه يرى الشخص الصوتَ أو الموسيقى ألوانًا. ومعظم مَن يتحلى بمثل هذا الترافُق يقولون إنهم «يرَوْن» هذه الأصوات «داخليًّا»، «في عين العقل»، لكنَّ قلةً منهم يرَوْنها خارج الجسم، على بُعد ذراع. وهناك بالطبع نسبةٌ ضئيلةٌ تمزُج بين أكثَرَ من حاستَين.
الصفة وراثية
يبدو أن هذه الصفة وراثيةٌ تجري في العائلة كما يقولون. كان الروائي الشاعر فلاديمير نابوكوف، مؤلف رواية «لوليتا»، يتصفُ بهذه الخصيصة، وكذا كانت أمه وكان ابنه — ثلاثةُ أجيالٍ متعاقبة في العائلة حَمَلَت هذه الصفة. عندما اشتكى فلاديمير الطفل لأمه من أن ألوان المكعَّبات الخشبية التي تحمل حروف الهجاء كانت كلها خاطئة؛ فالحرف «ش» على المكعَّبات، مثلًا، لونه «أحمر»، في حين أن المفروض أن يكون لونه «أزرق»، وقال لها: «كيف يُمكِن لأحدٍ أن يكونَ في مثل هذا الغَباء فيرتكب خطأً كهذا؟» فَهِمَتْه أُمُّه على الفَور وتعاطفَت معه؛ فقد كانت مثلَهُ ممَّنْ يرَون الحروف والأرقام — المطبوعة بالحبر الأسود — ملوَّنة. هذا الترافُق الذي يجري في عائلة نابوكوف «توافُق مفاهيمي»، بين مفهومٍ ما وبين حاسةٍ من الحواس الخمس. فإذا كان الرقم ٧ مثلًا يثير اللونَ الأصفرَ عند أحدهم، فسيرى هذا اللونَ حتى دون أن يرى الرقم ٧ إذا ما سُئل عن حاصل جمع ٤ + ٣، وهناك أيضًا التوافق بين اللون والوحدات الزمنية؛ فيومَ الأربعاء مثلًا قد يكون «أزرق»، وشهر أبريل «أحمر.»
كيف سيعرف الباحثُ ما إذا كان الشخصُ بالفعل من أصحاب الحواس المترافقة؟ إن أهم ما يميِّز هؤلاء هو ثبات الصفة، فإذا كان الشخص يرى الرقم ٢ مثلًا أحمر اللون، فلا بد أن يراه هكذا طُولَ عمره، وليس من المهم أن يراه أمثالُه الآخرون بنفس هذا اللون؛ فالصفة شخصية. ثمَّة تجربةٌ غاية في الذكاء صُمِّمَت للتأكد من وجود الترافق لدى الشخص بين الأرقام واللون، قُلْ مثلًا بين الرقم ٢ واللون الأحمر؛ إذ تُعرَضُ عليه ورقةٌ بها صفوفٌ عديدة من الرقم ٥ يتناثر داخلها عدد محدود من الرقم ٢ — وكل الأرقام ٥ و٢ مطبوعةٌ باللون الأسود. يَحْتَاج أيٌّ منا وقتًا كي يكتشفَ مواقعَ أرقامِ ٢ هذه المتناثرة داخل صفوف الرقم ٥، أما صاحب الترافق فسيُمكِنه على الفور بنظرةٍ واحدةٍ أن يقعَ على كل الأرقام ٢ ويعرف إن كانت تتخذ مثلًا شكلَ مثلَّث؛ لأنه سيراها حمراء اللون بين أرقام ٥ التي يراها بلونها الأسود. هذا اختبارٌ تشخيصي وحسَّاسٌ جدًّا، ويُبيِّن أن أصحاب الترافق ليس بهم «مَسٌّ من جنون»، وأن الصفة ليست صورةً من صور المجاز، ولا هي تَصَاحُبًا في الذاكرة. إنها موهبةٌ من الإحساس الثري.
إذا نحنُ نظَرنا إلى اللفيفة المغزلية بالفصِّ الصدغي بالمخ، فسنلحظ أن منطقة اللون به تُجاوِر مباشرةً، بل وتكاد تلمسُ المنطقة المختصة بالرسوم البصرية والأعداد؛ الأمر الذي قاد الدكتور راما شاندران إلى الفَرْض بأن البعضَ منا يحملون جينًا طافرًا إذا عمل بالتحديد في اللفيفة المغزلية هذه، وأوقَف أو ثَبَّط تشذيبَ الروابط بين وحدات المخ المجاورة، فستبقَى الوصلاتُ العصبية بين هذه المناطق، مما يسبِّب ترافُق الأرقام والألوان. أما إذا عَمِل هذا الجين الطافر في كل مكانٍ بالمخ فسيتسبَّب في روابطَ فائقةٍ في المخ بأكمله — وهذا هو السبب في أن يكون ترافُق الحواسِّ في الفنانين والشعراء والروائيين أكثر شيوعًا. هم كما ذكَرنا يستخدمون المجاز والاستعارة. هم بارعون في الوقوع على أفكارٍ تبدو متباينةً تمامًا، لتُصبِح على أيديهم وقد ارتبطَت برباطٍ وثيقٍ! مخاخُهم تتخلَّلها شبكةُ اتصالٍ عصبي أكثر كثافة، تُسهِّل عليهم الربطَ بين مفاهيمَ ما أبعدَها عن بعضها بعضًا!
اقْتُرِحَ أن الجينَ الخاصَّ بهذه الصفة سائد ويقع على كروموزوم الجنس ت؛ «لأن الأب الحامل الصفة ينقلها إلى بناته جميعًا»، لكن نسبة مَن يحمل الصفة من الإناث كما ذكَرنا يبلغ ٢٫٥٠–٦ أضعاف نسبة حامليها من الرجال، والتحليل الوراثي الرياضي لصفةٍ كهذه يقول إنه لا يمكن أن تصلَ النسبة في الإناث إلى ضعفِ النسبة في الرجال؛ فهذا التفسير بالتأكيد خاطئ، والأمر يحتاج إلى تفسيرٍ وراثيٍّ آخر.
كيف يعمل المخ؟
كيف يعمل المخ؟ لوجهة النظر التقليدية السائدة منذ نحو خمسين عامًا، ثلاثةُ مفاهيمَ أساسية؛ أولها أن انسيابَ المعلومات خطِّي، وثانيها أنه من الممكن أن تُحدَّد للوظائف الفيزيقية والعقلية مواقعُ معيَّنة بقشرة المخ، وثالثها أن هناك هيراركيةً تجعل لقشرة المخ المحلَّ الأسمى، فتسُود كلَّ ما تحتها. تسري الدفقاتُ العصبية؛ أي المعلومات، بشكلٍ خطِّي، الواحدة وراء الأخرى، حتى أن تصلَ كاملةً إلى نهاية الخط. هكذا تمضي الانطباعات الحسية الوافدة إلى المخ والأفعال الحركية الخارجة منه. في الخطوة الأولى يقوم عضو الحس بتحويل الطاقة الكهرومغنطيسية (في حاسة البصر) أو الطاقة الميكانيكية (في حاستَي السمع واللمس) أو الطاقة الكيماوية (في حاستَي الذَّوق والشَّم) إلى دفقاتٍ عصبية، لتتحرَّك هذه إلى محطاتٍ في جذع المخ والمهاد (الثَّالامَصْ)، ومن هناك إلى محطاتٍ أكثر وأكثر تعقيدًا بقشرة المخ؛ حيث تُستَخلَص — متعاقبةً — الأوجه المختلفة للمُنبِّه الخارجي من تيَّار الدفقاتِ العصبية. تُجمَع أخيرًا هذه الأوجه بطريقةٍ ما في شكل خبرَةٍ مُدرَكة، فنفهم الشيء بالعالم الخارجي الذي قَدَحَ زنادَ أعضاءِ الحس.
لِقِشْرَة المخ، هذا السطح المجعَّد الذي يُشكِّل أكبر أجزاء المخ، تركيبٌ غاية في التعقيد، وهي أيضًا أحدثُ الأجزاء من الناحية التطورية، وهي الأكثر تطورًا مقارنةً ببقية الحيوانات؛ لهذا السبب اعتُبرَت هذه القشرة المنطقة الأساسية التي تُميِّزنا عن غيرنا من الكائنات، حتى ليؤكِّد عليها العلماء لحَدِّ استبعاد المنطقتَين من المخ اللتَين تقعان تحتها عند تمييزهم لنا نحن البشر. يقع تحت قشرة المخ مباشرةً الجزءُ الحافِيُّ الذي «وَرِثناه عن الثدييات الشبيهة بالزواحف.» وهو يختص بحفظ النوع (الجنس، التكاثر، السلوك الاجتماعي) ويمثِّل في الإنسان المُخَّ العاطفي. ثم يأتي جذع المخ والعُقَدُ العصبية الأساسية، أو «مخ الزواحف»، الذي يختص بالحفاظ على الذات (التغذية، والخوف، والصراع). غير أن قشرة المخ كانت تُعتبر المنفذ الرئيسي الذي يسيطر على الجزأَين الآخرَين. ثم بزَغ الأمل في أوائل الخمسينيات بالقرن الماضي في أن نتمكَّن من ربط كلِّ جزء من نسيج المخ بوظيفةٍ محدَّدة — في اختزاليةٍ صريحة.
في داخل النصف الحسِّي من المخ، خُصِّصَت مساحاتٌ حسِّية «أولية» للبصر والسمع واللمس — وظلَّ تحديدُ منطقة لكلٍّ من التذوُّق والشمِّ أمرًا مستعصيًا (رغم «معرفة» العلماء بأن لكلٍّ منهما منطقتَه بالقشرة التي ستُكشَف يومًا ما). هذه المساحات الحسِّية «الأولية» هي أولى المحطَّات بالقشرة، وتلَفُها يسبِّب العمى أو الصَّمَم أو الأفازيا (تعذُّر الكلام). ثم اكتُشفَت مناطقُ الارتباطات «الثانوية» لكلٍّ من هذه الحواسِّ الثلاث، واعتُبرَت محطَّاتٍ على طول طريق الإحساس، وهي تستقبل المعلومات بعد أن تكونَ قد جُهِّزَت بشكلٍ أفضل. وتلَفُ هذه المناطق «الثانوية» يسبِّب تشويهًا — لا فقدانًا — لهذه الحاسة أو تلك، مثل «العَمَه» (في العَمَه البصري يُمكِن للمصاب أن يصفَ الشي، لكنه لا يُدرِك كُنهَه ولا فيمَا يُستخدَم). وعند نهاية الخط بقشرة المخ تُوجَد الارتباطات «الثالثة» في الفص الجداري. هنا يتجمع البصر والسمع واللمس، وهنا يحدث الترابط بين هذه الحواسِّ الثلاث. صحيحٌ أن لكل حاسة مَنطِقَتَهَا الثانويةَ الخاصة، لكنَّ هناك منطقةً «ثالثة» واحدة، وبها — فيما كان يُعتَقَد — تحدُث أعلى مستويات التفكير تجريدًا.
الشمُّ والذوقُ لا ينتظمان داخل هذه الصورة؛ لأن موقعَيْهما في قشرة المخ يبعُدان عن منطقة الربط «الثالثة.» أُهملَت إذن هاتان الحاستان «لأنهما أقلُّ أهميةً من البصر والسمع واللمس.» ثمَّة وظيفةٌ أخرى لم تَلْقَ إلا اهتمامًا عابرًا، هي العاطفة، وهذه خصيصةٌ بشرية عُرف أنها، معظمها، من اختصاص تراكيب تُوجَد تحت قشرة المخ؛ فمَن اهتم بالعاطفة من العلماء — وكانوا قلَّة — اعتبرَها تفرعًا جانبيًّا يخرج من التيار الخَطِّي للمعلومات. وحتى عندئذٍ كانت العواطف تُعتبَر ثانويةً مقارنةً بما يحدُث في القشرة ذاتها.
سيتويك ونظرة جديدة
قادت هذه الآراء إلى مفهومٍ أهم، وهو أن قشرة المخ هي موقع التفكير والعقل، هي التي تجعلنا بشرًا. والواقع أن علم الأعصاب لم يكن يهتم، أثناء تطوُّره، بالعقل. كان كبار علماء الأعصاب حتى عام ١٩٥٠م، يعتقدون أن المخ لا علاقة له بالسلوك؛ ومن ثَمَّ كانوا يرفضون «ترافُق الحواس» على أنه شيءٌ ذاتيٌّ تمامًا. برَزَ الاهتمام بهذا الترافُق فيما بين عامَي ١٨٦٠م و١٩٢٠م، ثم خَبَا؛ لأن أحدًا لم يتمكَّن من العثور على تفسيرٍ فيزيقيٍ له. وكان هذا المفهوم مسيطرًا على سيتويك عندما بدأ دراستَه على ترافُق الحواس. كان عليه في البداية أن يتأكَّد من أن هذه الظاهرة حقيقية، ليَمضيَ بعد ذلك يبحثُ في منطقة الربط الثالثة بالقشرة عن الآلية الفيزيقية.
ثم اكتَشفَ أن هذا الخَطَّ من التفكير خاطئ: «النظرة المعيارية لتنظيم المخ خاطئة» — كما يقول؛ فهي تقول إن مخ الإنسان يعمل خَطِّيًّا كماكينة، وتقول إن الإدراك والعقل والتفكير والحقيقة تُوجَد جميعًا في قشرة المخ، وكُلُّ ما تحتها ثانوي. بقيَت هذه النظرةُ المعياريةُ سائدةً بين الناس؛ لأن أحدًا لم يَنقلْ إليهم المفاهيمَ المتغيِّرة لطريقة عمل المخ، أو يَعرِضْ عليهم الصورةَ الكبيرة التي تكشَّفَت. كانت «الأشجار» تُعرض عليهم هنا وهناك، لمحةً في تلفزيون أو كلمةً في مجلة. وبَقِيَت «الغابة» مجهولة، الغابة التي فيها يَنطمِر ترافُق الحواس.
العمل البيولوجي يتطلَّب طاقة. عضلاتك تستهلك طاقة وأنت تصعد السُّلم؛ لأنها تقوم بعملٍ ميكانيكي هو رَفْع وزنك ضد الجاذبية. الكُلْية تقوم بعملٍ كيماوي يحتاج طاقة؛ إذ تستخلصُ الفَضَلاتِ من الدم. والمخ نَهِمٌ في استهلاك الطاقة. المخ وحده يستهلك ٢٥٪ من الطاقة التي يستخدمها جسم الإنسان (١٠٪ في القرد و٥٪ في الكلب)، فإذا أردنا أن نعرف مناطق المخ التي تشترك في مهمةٍ ذهنيةٍ معيَّنة، فعلينا أن نبحثَ عن الأجزاء التي يزدادُ فيها الأيضُ عند القيام بهذه المهمة. ثمَّة جهازٌ يُمكِنه أن يفحصَ كلَّ مناطقِ قشرة المخ واحدةً واحدةً في نفس الوقت. إذا كنتَ تقرأ أو تتذكَّر أو تتفحَّص شكلًا أو تَحسبُ أو تقوم بأي عملٍ ذهني آخر، فسيزداد الأيضُ في المناطق التي تشترك في المهمة، مقارنةً بتلك الخاملة التي لا تشارك فيها. ولأن الدم يحمل سكر الجلوكوز والأكسجين اللذَين يوفِّران الطاقة للأيض، فإن قياس تدفُّق الدم إلى المناطق المختلفة لقشرة المخ يدُلنا على المناطق النشِطة. وقد اتضح أن معدل زيادة الأيض في مثل هذه المناطق النشِطة لا يقل عن ١٠٪ وعادةً ما يصل إلى ٢٠–٢٥٪.
أجرى سيتويك التقدير على واحدٍ من أصحاب ترافُق الحواس، واتضح له بجلاءٍ أن الأيضَ في قشرة المخ لا يزداد عندما يَخبُر الفرد هذه الظاهرة. بل الحق أن العكس كان هو الصحيح — كان تدفُّق الدم في النصف الأيسر من المخ يقل بنسبة ١٨٪ عما كان عليه قبل الترافق؛ الأمر الذي يؤكِّد أن ترافُق الحواس لا يحدث في قشرة المخ. في نفس الوقت بَيَّنَت القياسات الإشعاعية أن هناك زيادةً عامةً في أيضِ المخ ككل؛ الأمر الذي يعني أن ثمَّة عملًا أيضيًّا يجري عندما يخبُر الفرد ترافُق حواسه، فإذا كان الأيض الكلي للمخ يزداد وقت تُغلَقُ القشرة، فلا بد أن الترافق يحدُث في المخ الحافي. النسيج تحت القشرة ليس مجرد شيءٍ وظيفته حَمْل القشرة، إنه يقوم بقدْرٍ هائلٍ من العمل البيوكيماوي. الحَكَمُ الأخير ليس سوى الجهازِ الحافِيِّ المطمور عميقًا في الفصِّ الصدغي من المخ — وهو عميقٌ حتى لَيصعُب قياسُ تدفُّق الدم إليه. الجهازُ الحافِيُّ، لا قشرة المخ، هو مركزُ ترافُق الحواس.
ثم مضى ليقدِّم أفكارًا جديدة تُعارِض النظرة التقليدية مستعينًا بما ظهر عن العلم من نتائج. رفض التدفُّق الخطى للمعلومات بعد أن اتضح أن هناك مجموعةً عريضة من الجُزيئات — كالهرمونات والببتيدات — تعمل أيضًا في نقل المعلومات (ولقد اكتُشِفَ منها العشرات)، ومعنى هذا أن المعلومات يمكن أن تُنْقَل من خلال الجسم كله، وليس فقط عن الطريق الخطِّي للنيورونات (الخلايا العصبية). هناك إذن طرقٌ عديدةٌ لنقل المعلومات يلزمُها جهازٌ يُنظمها — وكان هذا هو الجهازَ الحافِيَّ بالمخ؛ الجهازُ الحافِيُّ يشكِّل «اللُّب العاطفي» للجهاز العصبي البشري.
كانت الكياناتُ الرئيسيةُ لما نسمِّيه الآن الجهازَ الحافِيَّ مرتبطةً سويًّا في «دارة» من خلالها يُفصَح عن العواطف، نعني أن العاطفة ليست محدَّدةً في مركزِ تَحَكُّم محدَّد، وإنما هي تنتشر عبْر سُبل، والسُّبل لا بد أن تكون موجودةً في مكانٍ ما؛ ومن ثَم لا بد أن تكون هناك مَرْكَزَة، لكنَّ المَرْكَزَةَ هنا ستكون أكثر انتشارًا عما تقولُ به النظرة القديمة. وعلى مدى السبعينيات بالقرن الماضي كان هذا المدخل قد غَيَّر جذريًّا الطريقة التي نتفهَّم بها تحرُّك المعلومات عبْر المخ. انتهت الفكرة الخطِّية لمحطاتٍ متتابعة على طول خَطِّ نَقْل، وحلَّ محلَّها مفهومٌ عن مخٍّ له قنواتُ اتصالٍ متعدِّدة يُمكِنه أن يعالج المعلومات في مواقعَ عديدةٍ في ذات الوقت؛ ما إن تتشابك الدفقاتُ العصبية الواردة من أعضاء الحس، في مواقع الحس الأولية، حتى تنشعبَ متزامنةً إلى مناطقِ اتصالٍ عديدة بالقشرة؛ حيث تخضع لمزيدٍ من المعالجة. تختص كل منطقة من مناطق الاتصال هذه بناحيةٍ من الخبرة مختلفة؛ ففي حالة البصر مثلًا تختص إحداها بإدراك اللون، وأخرى بتحديد الشكل، وغيرها بتحديد المكان، وهكذا.
اعتُبرَت العاطفة «بدائية»، وظل العقل يمثلُ التطور الفائق؛ كذا يعني الفرضُ الشائع القائل إن قشرة المخ المتطورة هي ما يجعلنا بشرًا متفرِّدين، هي التي تقوم بتحليل العالم الخارجي، وهي التي تحمل نموذجنا للواقع. وهذا يعني أيضًا أن المخَّ البشريَّ الحافي لا يختلف عن مثيله في غيرنا من الثدييات. العواطف البشرية «بدائية»، لكن الدراسات التشريحية توضِّح أن التطور لم يُهمِل الجهاز الحافي. لقد تطوَّر الجهاز الحافي في مصاحبة القشرة، وأصبح الجهاز العاطفي البشري أقوى من مثيله في الثدييات. تطوَّر العقل والعاطفة مترادفَين سويًّا، والمادةُ العصبية بينهما مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا، وإن كانت لكلٍّ مهمَّتُه المختلفة. ثمَّة علاقةٌ تبادلية بينهما، كلٌّ ينظِّم الآخر، وكلاهما في نهاية المطاف يؤثِّر في حياتنا العقلية، لكن المُدْخَلات التي تصل القشرة من الجهاز الحافي تفوقُ ما يصل إلى الجهاز الحافي (عيننا الداخلية) من القشرة — على عكس ما نتوقع. للجهاز الحافي المقامُ الأول. تمُر المعلوماتُ من الحواسِّ الخمس جميعًا خلال العين الداخلية قبل أن تتجه إلى المخ الأعلى؛ تنقل الأعصابُ من حواسِّنا المعلوماتِ خلال العين الداخلية؛ حيث يمكن أن تُدرجَ أو تُهمَل أو تلوَّن قبل أن تُعَالجَها القشرة ووعينا الأعلى. الجهاز الحافي هو الذي يحدِّد هويتنا. إن ما يميِّزنا هو قدرتنا المتطوِّرة على التعبير عن العواطف، وليس قدرتنا المتطورة على التفكير، كذا يرى سيتويك.
الفن ضرورة
قد تُصبِح للظاهرة الشاذة أهميةٌ قصوى في العلم. إذا عرفتَ أية ظاهرة تَنتَقِي للدراسة، فقد تتمكَّن من تغييرِ اتجاهِ بُحوثك، وأن تخلُقَ ثورةً علمية. يلزم أولًا أن تتأكَّد من أن الظاهرةَ حقيقيةٌ وأنها ليست زائفة، وأن تقترحَ آلياتٍ لتفسيرها، ثم أن تكونَ لها تضميناتٌ عريضة. وظاهرةُ ترافُق الحواس ظاهرةٌ بالفعل شاذة، نعني أنها نادرةُ الحدوث؛ فهي لا تَبين صراحةً إلا في قلةٍ هي حقيقية، لاحظَها حتى فرانسيس جالتون (صاحب «اليوجينيا») منذ أكثر من قرن، غير أنها لم تجد، ولفترةٍ طويلة، مَن يُوليها الاهتمام، وينتقيها للدراسة، ويبحث عن آليات لتفسيرها. دار البحث عن أساسها المادي في المخ؛ فهي مدخلٌ ممتازٌ للولوج إلى علم الأعصاب، وفَسَّرت النتائجُ الكثيرَ من ألغازه، وهي قد تقود إلى تبصُّراتٍ عن تطور اللغة، وربما عن طريقة بزوغ الفكر التجريدي الذي يميِّزنا نحن البشر. ثم اقتُرح — كما ذكَرنا — وجودُ جينٍ أو مجموعةٍ من الجينات تؤثِّر فيها؛ فهذه الخصيصة تجري في العائلات، فإذا كان ثمَّة جينٌ من ورائها، وكان تكرارُه منخفضًا كما تشير ندرةُ وجود حامليه (أعلى نسبة رُصدَت هي واحدٌ في كل مائتَين) فلماذا لم يعمل عليه الانتخابُ الطبيعي ويجتثُّه إذا كان بلا قيمة أو كان ضارًّا؟ لماذا بَقِي؟ لا بد أن لهذا الجين وظيفةً ما هامةً في حياتنا. هذه الظاهرة تَشيع أكثر ما تَشيع بين الفنانين والشعراء والروائيين الذين تترافَق في إبداعاتهم مفاهيمُ متباينة (كان منهم بودلير ورينبو ولِيسْت وريمسكي كورساكوف). هل الفنُّ ضرورةٌ للبشر بحيث تُحافِظ الطبيعة على بقائه؟ ماذا كان يفعل مَن رسموا أكثر من ١٥٠٠ لوحةٍ رائعةٍ للحيوانات على جدران كهف لاسْكو منذ سبعةَ عشرَ ألف عام؟ وجودُنا يحتاج إلى الإنسان الفنان، مثلما يحتاج إلى الإنسان العالِم. كلنا على أية حال يحملُ بعضًا مكنونًا من ترافُق الحواس. وكلنا يمكن أن «يفهَم» الفن — بدرجةٍ أو بأخرى. «الفن أكذوبةٌ تكشف الحقيقة.» كما يقول بيكاسو. والحقيقة هي «الإنسان.» يتكشَّف «الإنسان» بأكذوبةٍ اسمُها الفن، سوى أنها أكذوبةٌ لها أساسها الوراثي!