خُصلة من شعر بيتهوفن

الموسيقَى تُغلِّفُنا. لا يخلو منها في حياتنا مكان. هي في الموجِ يُلاقي الشط. هي في أوراق شجرة تُعابثها الريحُ. في صوت نحلة تُغازِل زهرة. في غناء طيرٍ يُناجي إلفَه. في ضحكة طفلة، وفي نبضات قلوبنا نحن. عندما يُخاطِب المحبُّ حبيبته، ويقول مع إليوت: «أنتِ الموسيقَى، طالما كان ثمَّة موسيقى»، فإنه يسمو بحبيبته إلى عَنانِ السماء، هو يَختَزِل في الموسيقَى عاطفتَه، ويجعلُها حياةً أسمى، ألم يقُل بيتشر إن أعماقَ السماء لا يصِلُها من الموسيقَى أجمل من نبضِ قلبِ المُحِب؟

الموسيقَى هي رائحةُ الحب، هي لغةُ القلوب بين المحبِّين، لغةُ الملائكة الطيبين؛ فحيث تُوجَد الموسيقى يختفي كُلُّ شَر. إذا فاض الشعور ولم يعُد في مقدور الكلمات أن تُفصِح، أسعفَتْنا الموسيقى. في أعمقِ أعماقِ الكون تَسْري الموسيقى. اختزَل فيثاغورث الحركة الإيقاعية للأجرام السماوية من نجوم وكواكب في موسيقى تحكي جمال الكون وهارمونيَّتَه. ومثل كلِّ معنًى عميقٍ غزيرٍ في حياتنا، يَصعُب أن نجد لها تعريفًا يُرضي الجميع. مثلها مثل مفهوم الخير أو الإنسانية أو الشِّعر. الموسيقى شعرٌ استُبدلَت فيه بالكلمات الأنغام، من هنا فإنها تَتسَلَّل إِذ تَتسَلَّل إلى الروح، إلى الجوهر منا. هي عند بيتهوفن إلهامٌ يسمو على كُلِّ الحكمة وكُلِّ الفلسفة. إنها التفكير بالصوتِ النَّقيِّ الخالص. في حضرتها تحس بلَذَّة العودة إلى الإنسانية والروح، كما يقول توفيق الحكيم. بلا موسيقى تُصْبِحُ الحياةُ خَطَأً، وليس ما يُعبِّر عن هذا أفضَل من الصمت. هكذا قال نيتشه، الذي قال أيضًا: مِن أجل الموسيقى، تُصبح الحياة على الأرض شيئًا يستحقُّ! هل منَّا مَن يستطيع أن يتخيل عالمًا صامتًا بلا صوتٍ، بلا موسيقى؟ عالمًا أصَمَّ يحيا به أناسٌ كُلُّهم صُمَّان؟!

فلُوت ديفيي

قديمةٌ هي الموسيقى، هي في قِدَم الإنسان العاقل (هومو سابيِنْس Homo sapiens) هي أقدمُ كثيرًا من الزراعة، بل وربما سبقَت حتى اللغة ذاتها. في عام ١٩٩٥م عُثر في أحد الكهوف عند سفوحِ جبالِ الألب بوادي نهر إدريكا Idrijca غربي سلوفانيا، على قطعة من فلُوت من العَظم طولها ١١ سنتيمترًا، أثارت ضجةً كبرى، وقُدِّرَ عُمْرُها بما لا يقل عن ٤٣٠٠٠ عام، وما قد يصل إلى ٨٢٠٠٠ سنة. صُنع هذا الفلُوت إذن — وقد قدِّر طولُه الأصلي بنحو ٢١ سنتيمترًا — في زمنٍ لم تكن قد ظهرَت به تكنولوجيا مُعالجة العِظام، ولا ما تتطلبه من فَن. كان الفلُوت (فلوت ديفيي Divje) عبارةً عن قطعة مُجوَّفة من عَظْمَة فَخْذ شبلٍ من أشبال دُبِّ الكهوف المنقرِض، وكان يحمل أربعة ثقوبٍ متساوية القُطْر، ثُقِبَت صُنْعِيًّا بأداةٍ ما (ربما كانت سِنَّةً من أسنان حيوانٍ لاحمٍ كالضبع). كانت الثقوب تجري في خَطٍّ مستقيم على ناحيةٍ واحدة من العَظْمة، بحيث تتوافَق في ترتيبها مع المسافات بين أصابع اليد البشرية، ثم إن المسافة بين الثقب الثاني والثقب الثالث كانت ضِعفَ المسافة بين الثالث والرابع؛ الأمر الذي يسمح للعازف بأن يعزفَ النغمات الكاملة، ونصف النغمات أيضًا. غَيَّرَ هذا الفلُوت من رؤيتنا إلى صانعه، إنسانِ نيانديرتال (هومو نياندرثالينسيس Homo neanderthalensis) الذي انقرضَ منذ نحوِ ثلاثينَ ألفَ عام، وكان هو النوع البشري الوحيد الذي تطوَّر في أوروبا. يبدو أن إنسانَ نيانديرتال كان يعرفُ الموسيقى ويعزفُها — موسيقى العصر الحجَري. وتَسبَّب هذا الفلُوت في أن يمدَّ المؤرخون تاريخَ الإبداع الموسيقي للإنسان إلى الوراء في الزمن نحوَ عشرةِ آلافِ سنةٍ على الأقل؛ فأقدمُ ما عُثر عليه قبلَه من جنس الفلُوت في أوروبا أو آسيا كان عمره يتراوح ما بين ٢٢ ألفًا و٣٥ ألفَ عام.

لكنَّ الفلُوت الخَشبِي، بلا شك، قد سبق هذا؛ فهو أسهل صُنْعًا من الفلُوت العَظْمي. ثُم لا بد وأنْ قد كانت قَبْلَه أيضًا الآلاتُ الإيقاعيةُ التي يُصدر عنها الصوتُ عن طريق القَرْعِ (كالطبول). الأداء الموسيقي إذن، كما يرى العلماءُ الآن، يعود إلى أكثر من ٢٥٠ ألف سنة إلى الوراء، بل وربما إلى ٥٠٠ ألف سنة.

مِن زمانٍ سحيق والإنسان يعزفُ الموسيقى، ويبحثُ كي يصنعَ لنفسه آلةً تعزفُها. ماذا يا تُرى في الموسيقى يدفع الإنسانَ البدائيَّ إلى أن يبتكر آلةً للعزف؟ هل الموسيقى ضرورةٌ من ضرورياتِ بقاءِ الإنسان؟ وإذا ما كانت الموسيقى قديمةً هكذا، فهل هي سلوكٌ تطوُّري؟ أم تُرَاها صورةً من صور التنامي الثقافي؟ إنها في الحق تميِّز كل الثقافات البشرية. هي عالميةٌ بمعنى الكلمة، كانت مصاحبةً للبشَر في كل الحضارات. إنها تُوجَد في كل ثقافة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة في مجتمعاتنا، حتى ليصعُب أن يُنظر إليها في أي ضوءٍ آخر. لو أن الموسيقى قد نشأَت منذ بضعة آلافٍ من السنين فقط، لكان الأغلب الا تُعتبر تكيُّفًا تطوريًّا؛ فالتطور لا يعمل بهذه السرعة، ولكنها قديمة، وقد تكون بالفعل قد وقعَت تحت طائلة التطوُّر.

في الموسيقى سرٌّ بيولوجي على ما يبدو آسِر. لماذا نُحب الموسيقى جميعًا؟ لماذا تنتزع منَّا العواطف؟ لماذا تنتشر هكذا في كل المجتمعات المعروفة على اتساع العالم؟ الوليد في عمر شهرَين يلتفتُ برأسه نحو الصوت الجميل، ويُشيح بوجهه عن الصوت المنفِّر التصعيدُ المُبهِج للأوركسترا يدفع بالدمع إلى أعيننا ويُثير الرعشة في أجسادنا. إذا ما اقتربَت السمفونية من نهايتها سرت قُشَعريرةٌ لذيذة في كياننا تُغلِّف نفسَ مراكز السعادة في المخ، نفس أجهزة الإثابة التي تُستَثار عند أكل الشيكولاتة أو ممارسة الجنس أو تعاطي المخدرات أو الاستماع إلى النُّكَت!

أهيَ صفة بيولوجية؟

لو أن الموسيقى كانت صفةً بيولوجية يعمل عليها التطوُّر، فلا بد أن تكون بحيث يعبِّر عنها البشرُ قبل أن تؤثِّر فيهم الثقافة؛ في الأطفال مثلًا. الأطفال والرضَّع يُحِسُّون بالفعل بالمنبِّهات الموسيقية ويُصْغُون إليها. تقول الأبحاث إنهم يمتلكون القدرةَ الموسيقية، تمامًا مثل الكبار. هم لا يميِّزون فقط الاختلافات بين النغمات المتشابهة، إنما هم يُحسُّون الكُنْتُور اللحني ويتذكَّرونه، ويستخدمون في ذلك استراتيجيةَ البالغين في الاستماع، فيهتمُّون بالعلاقات بين طبقاتِ الصوت قبل النغماتِ ذاتها، ويكتشفون التغيُّرات في الإيقاع، ويُدرِكون اللحنَ أيًّا كانت سرعة أدائه — وهذا كله هو ما يقوم به الكبار عندما يعالجون الموسيقى. الأطفالُ قبل سن المدرسة ينهمكون في الغناء في أثناء اللعب، وفي مقدورهم أن يؤلِّفوا أغانيهم الخاصة، وأن يُؤَدُّوها، لا أَنْ يُقلِّدوا الكبار فقط.

الأمُّ تُغنِّي لوليدها بنفس الطريقة؛ في طبقةِ صوتٍ عالية، بسرعةٍ متمهلة، بنغمةٍ مميزة، ولِكُلِّ ثقافة، لكلِّ قبيلة، تهويداتُها للأطفال. وهي جميعًا متشابهة، حتى لتقتَرِح أن الموسيقى ليست من ابتكار الإنسان، وإنما هي فِطْرية. الأمهاتُ اللواتي يُتقِنَّ الموسيقى، يُهَدهِدنَ أطفالَهن بشكلٍ أسهل. والطفلُ الذي ينام بسهولة دون جلَبة يغلبُ أن يحيا حتى سن البلوغ، لا سيما في القبائل البدائية التي تسكُن الأحراش. لن يصرخَ الطفلُ فَيُنَبِّه المفترِسات. إذا ما ظهر الاستعداد الوراثي للموسيقى مبكرًا في البشر، فسَيَحيا مِنْ نَسلِ مَن يتمتَّع بالمَلَكة الموسيقية عددٌ أكبر ليُسهِمَ أكثر في بناء القبيلة، وتنتشر الصفةُ مع الأجيال.

أَمَا نَشهَد حالاتٍ تجري فيها الموسيقى في العائلة؟ أمَا نسمع عن أطفال في عمر ٣ سنوات يستطيعون العزفَ على الآلات الموسيقية؟ ويفهَمون الموسيقى الكلاسيكية جيدًا؟ أهناك جينٌ لعشق الموسيقى؟

الموسيقى على ما يبدو صفةٌ ذات علاقاتٍ بيولوجية. هي تستوفي شرط القِدَم ليعملَ عليها التطور وهي تُفصِح عن نفسها في الأطفال قبل أن يتأثروا بالثقافة السائدة حولهم. ثمَّة تجربةٌ مثيرة نُشرَت مؤخرًا (سبتمبر ٢٠٠٤م) أُجريَت على مدى ٦ سنوات على أكثر من ٣٠٠٠ من الأطفال الرضَّع قبل خروجهم من مستشفَى الولادة مع أمهاتهم، كانت التجربةُ عن التمييز في الأذن بين ما يُسْمَعُ من كلامٍ ومن أنغام. دعنا نرى أولًا كيف نسمع.

كيف نسمع؟

عرفَ العلماء من زمانٍ طويلٍ أن المناطقَ السمعية بنصفَي المخ تختلفُ في تصنيفها للأصوات؛ النصف الأيسر يسودُ عند فَكٍّ مغاليقِ الكلام وغيرِه من الإشارات الصوتية السريعة التَّغَيُّر، بينما يسود النصفُ الأيمن في معالجة الأنغام والموسيقى؛ فَبه من كثافة الأعصاب ما يزيدُ عن النصف الأيسر، مما يسمح بتمثيلٍ أكثر تفصيلًا لتردُّداتِ صوتِ الموسيقى. وبسبب طريقة تنظيم شبكة المخ العصبية، فإن النصف الأيسر من المخ يتحكَّم في الجانب الأيمن من الجسم، والأذن اليسرى ترتبط بالنصف الأيمن من المخ. وكلنا بالطبع يفترضُ أنَّ الأذنَ اليمنى والأذنَ اليسرى تعملان بنفس الطريقة، لكن كيف تعمل الأذن؟ كيف نسمع؟

تتحرك الموجاتُ الصوتية على طول قناة الأذن، حتى تصطدمَ بطبلة الأذن، وهذه غشاءٌ رقيق يفصل الأذن الخارجية عن الأذن الوسطى. تهتزُّ طبلة الأذن وتمرِّر الاهتزازات إلى ثلاث عُظَيماتٍ صغيرة في الأذن الوسطى خلف الطبلة (المطرقة والسندان والرِّكاب)، فتقوم بتمرير الاهتزازات إلى غشاءٍ نسيجيٍّ رقيق في مدخل الأذن الداخلية يُسمَّى «النافذة البيضاوية.» تتحرك هذه النافذة لتُحرِّك سائلًا في قوقعة الأذن يحتوي على خلايا شَعريَّة دقيقة مرتبطة بالأعصاب، فَتَتَمَدَّد وتتقلَّص لتضخيم الاهتزاز الناجم عن الصوت. تُنقَل هذه الدفقات عبْر عصَب السمع إلى محطة بالمخ الأوسط، ثم إلى مسالكَ أخرى تنتهي إلى القشرة السمعية للمُخ. يتم النقل عن طريق بروتين اسمُه TRPA1 موجودٍ على أطراف الخلايا الشَّعرية يقوم بتحويلِ موجاتِ الصوت إلى إشاراتٍ كهربائية. الخلايا الشَّعرية التي لا تحمل هذا البروتين لا تستطيع أن تولِّد الإشاراتِ الكهربائية استجابةً للاهتزاز. الغريب أن قوقعةَ الأذنِ لا تحمل من الخلايا الشَّعرية إلا نحو ٣٥٠٠ خليةٍ فقط، مقارنةً بنمو مائة مليون خلية من مستقبِلات الضوء في العين. تتسرَّب هذه الاهتزازاتُ المُضخَّمة أيضًا عائدةً إلى الأذن في ظاهرة تُسمَّى «الظاهرة الأذنية السمعية»، وهذه يمكن رصدُها وقياسُها بميكروفونٍ دقيقٍ يُوضَع في قناة الأذن لقياسِ السمع، في الرضَّع.

الأذن اليمنى ليست كاليسرى

فوجئ العلماء إذ وجَدوا أن الأذنَ اليسرى للرضَّع تقوم بتضخيمٍ إضافي لنغمات الموسيقى، بينما تقوم الأذن اليمنى بالتضخيم الإضافي للأصوات السريعة (كالكلام). القَعْقَعَةُ (بديل الكلام) تُضَخَّمُ أكثر في الأذن اليمنى، بينما تَقْدَحُ الألحانُ زناد تضخيمٍ أكثر في الأذن اليسرى. وهذا يُناظِر طريقةَ عمل المخ عند معالجة الكلام والموسيقى. هذا أمرٌ «خلْقِي»، يميِّز الطفل عند ولادته. المخ مهيَّأ منذ الولادة للتمييز بين الموسيقى والكلام. والأذن أيضًا. الأذن اليمنى ليست كالأذن اليسرى. وهناك من الأبحاث الأقدم ما يعضِّد هذه الفكرة؛ فقد اتضح على سبيل المثال في بعض التجارب على الأطفال أنَّ مَن كان يُعاني مِنْ ضَعْفِ السمع في الأذن اليمنى يُواجِه مشاكل أكثر في التعلُّم بالمدرسة، مقارنةً بمن يعاني من ضعف السمع في الأذن اليُسرى.

الموسيقى والمجتمع

ثمَّة مَن يقول إن الموسيقى تلعب دورًا خطيرًا في تعزيز الروابط الاجتماعية؛ فهي تقوِّي الروابط على المستوى الفردي — بين الأم ووليدها مثلًا، وعلى مستوى الجماعة أيضًا — فَتُبعِد الناس عن التشاجر والتقاتل فيما بينهم. ثم إن الغناء الجماعي لا بد وأنْ كان يشجِّع الصائدين عند صيد الفريسة؛ الأمر الذي نشهده الآن لا نَزال عند قيام مجموعةٍ من العمال بعملٍ شاق. والموسيقى تُعزِّز الروابطَ بين الأفراد في مجتمعاتنا المعاصرة بعد أن تكاثرَت أعدادُنا وأصبحَت المداعبةُ بين الجنسَين أمرًا صعبًا؛ هي تعزِّز بقاء البشر لأنها تُعَزِّزُ الغَزَل، أصبحَت سلوكًا للغزَل يُفسِّر افتتانَ البشرِ بأغاني الحب. لقد كتَب تشارلس داروين منذ سنة ١٨٧١م يقول: «يبدو من المحتمل أن أسلافَ الإنسان — ذكورًا أو إناثًا، أو هما معًا — قد حاولوا، قبل أن يكتسبوا القدرة على التعبير عن الحب باللغة، أن يَجْذبوا بعضهم بعضًا بالأنغام والإيقاع.»

هناك إذن من الشواهد الكثيرُ مما يُوحي بأن الموسيقى تكيُّفٌ تطوُّري قبل أن تكون تناميًا ثقافيًّا، هي جزءٌ من بيولوجيا الإنسان. كل فرد منا له القدرةُ على أن يصنع الموسيقى، بصوته أو بالآلة، بغَضِّ النظر عن موهبته أو مهارته. سوى أن أمرَ بيولوجية الموسيقى لن يستقرَّ تمامًا حتى يتضحَ بالتجربة أن صفةً ما موسيقيةً لها أساسٌ في مادَّتنا الوراثية.

إدراك طبقة النَّغَم

صفةُ الإدراك الفوري المُطْلَقُ لحِدَّة النغْمة (Perfect Pitch) صفةٌ نادرة في البشر ولكنها مميزة جدًّا، يتحلى بها فردٌ واحد من بين كل ٥٠٠ فرد (ويصل البعض بهذه النسبة إلى واحدٍ بين كل عشرة آلاف) يستطيع حاملها أن يُمَيِّز اختلافًا في تردُّد النغمة قدره ٦٪ فقط. يبدو أن نصف كبار الموسيقيين يحملونها. تصبح النغمةُ المُفرَدة على السُّلَّم الموسيقي لديهم وكأنها «شيءٌ» محدَّد يُدْرَك فورًا (أهذه مثلًا «صول» أم «صول مخفوضة» G or G-flat?) معرفتُها لا تحتاج إلى نغمةٍ أخرى معياريةٍ يُقاس عليها. هذه صفةٌ قد تُشبِه إمكانية إدراك المكسور من الشعر دونما دراسة. أذْكُر أنني قرأتُ ذات يومٍ بعيد، وكان عُمري نحو ٩ سنوات، إعلانًا في إحدى المجلات، كُتِب في صورة زجل، عن صنفٍ من السجائر. يقول الإعلان:
قَابِلْنَا واحدْ مِنْ أُسْبُوعْ
بِيِشْتَرِي بضَاعَة فْ دُكَّانْ
بَايِنْ عَليه ذُوقُه كويِّسْ
مِنِ الجَمَاعَة الجِنْتِلْمَانْ

•••

جيبِ الصِّديرِي فِيه علْبَة
«أرجو» أبو الوَرَقِ الْهَفَّافْ
بِالطَّبْع عُشاقِ التَّدْخِين
يدُوقُوا أَحْسَن الأَصْنَافْ

أحسَستُ أن الشَّطرَ الأخير قَلِق، شيءٌ به أَقلَق أُذُني، وما زلتُ أذكُره حتى الآن! لا أعرفُ كَم من القراء ممن لم يدرُسوا موسيقى الشعر سيُقلِقُه هذا الشَّطر.

كان للعالَم الأمريكي دينيس دراينا D. Drayna صديقٌ يهتم بالموسيقى والسيكولوجيا. كان هذا الصديق يتمتَّع بصفة الإدراك المطلَق لحدة النغمة، ولاحظ أن البعضَ فقط من أبنائه يتَحلَّى بها، لا كُلَّهم. فسأل دراينا عن السبب. كان هناك في الأبحاث المنشورة ما يقول إن احتمال أن يكون لحامل هذه الصفة أقاربُ يحملون نفس الصفة، يبلغ أربعة أمثال الاحتمال بالنسبة لمن لا يحملونها. قرَّر هذا الأخير أن يفحصَ الأمرَ وراثيًّا، وقام بدراسةٍ هامةٍ نشرها عام ٢٠٠١م، استخدَم فيها ٢٨٤ زوجًا من التوائم البريطانيات؛ ١٣٦ زوجًا من التوائم المتطابقة و١٤٨ زوجًا من التوائم غير المتطابقة، وكان عمرهن يتراوح ما بين ١٨ و٧٤ سنة (لا تختلف الذكور عن الإناث بالنسبة لهذه الصفة). طَلَبَ من كُلٍّ من هؤلاء أن تستمع لمدة ٨ دقائق إلى ٢٦ لحنًا معروفة (٣٧ ثانية لكل لحن)، بعد أن سُجِّلَت الألحان وبعضُها يحمل طبقة الصوت الخاطئة، ثم سُئلَتْ أن تحدِّد الألحان الخاطئة، اتضح أن هناك قَدْرًا كبيرًا من التباين بين الأفراد في مهارة الإحساس بالأنغام، وأن مُعظَم هذا التبايُن كان وراثيًّا (٧١–٨٠٪) والباقي منه (٢٠–٢٩٪) يرجع إلى الخبرة الحياتية. كما ظهر أيضًا بعد فحص درجة السمع في التوائم هذه، أن درجة إدراك النغمة يتم في المخ، لا في الأُذن. أمَلَ دراينا أن تُستخدَمَ أدواتُ الجينوميا في العثور على الجينات المسئولة التي تُورَّث للنسل، تلك التي تتحكَّم في مناطقَ من المخ متفردة، وتُحدِّد درجةَ الإحساس بالنغم. والحق أن صفة الإدراك الفوري للنغمة هذه تستحقُّ المزيدَ من الدراسات لما لها أيضًا من علاقاتٍ بالذاكرة واللغة والتنامي المبكِّر.
يبدو أن كل فردٍ منا يُولَد ومعه هذه الخصيصة. ثم إنه يفقدها مع تقدم العُمْر؛ فَحَيَاتُنَا عندئذٍ لا تحتاج إلى مثل هذه الحاسة المهذبة للسمع. الطفلُ، كما يرى بعضُ العلماء، يحتاجُ إلى الإدراك الدقيق لحدَّة النغمات يُساعده حتى يَتَعلَّم الكلام، فإذا ما تمَّ له ذلك لم يعُد في حاجةٍ إلى هذه الحاسة المهذبة، فيفقدها بالإهمال — هذا إذا لم تكن لغتُه نغميةً ترتكز على تمييز طبقة الصوت، مثل بعضِ اللغات الآسيوية التي يُلفَظ فيها نفسُ الصوت أحيانًا في طبقتَين ليُمثِّل كلمتَين تختلفان في المعنى. [من معاني كلمة «ما ma» في اللغة الصينية الرئيسية (المَندَرِين mandarin): «أُم» أو «امرأة سليطة اللسان» أو «حصان» أو «قِنَّب»، وطبقة الصوت عند النطق بها هي التي تُحدِّد المعنى]. أما مَن يتعلَّم مِن الأطفال العزفَ على آلةٍ موسيقيةٍ في السنين المبكِّرة جدًّا من العمر، فإن نسبةً كبيرةً منهم تبقَى محتفظةً بهذه الخصيصة، لا يفقدونها. ومثلهم أيضًا مَن يَفقِدُ نظرَه من الأطفال؛ إذ تظل هذه الصفة هامةً في حياتهم، يُدرِكون بها مثلًا صوتَ عربةٍ تتحرك، أو خُطَى شخصٍ يقتربُ أو يبتعد.
قد تكونُ هناك إذن جيناتٌ تُحدِّد الإدراك التلقائي للنغمة، لكننا قد نجد دليلًا أوضحَ على علاقة الموسيقى بالجينات إذا تفحَّصْنا «متلازمة ويليامز» (Williams syndrome)، وعشرون في المائة ممن يحملون هذه المتلازمة يحملون أيضًا صفةَ الإدراكِ التلقائي للنغمة.

متلازمة ويليامز

متلازمةُ ويليامز عيبٌ خِلْقيٌّ نادر، يُولَد به طفلٌ بين كلِّ عشرين ألفَ ولادة، اكتشفَه سنة ١٩٦١م، طبيبٌ نيوزيلنديٌّ اختصاصي في القلب اسمُه J. C. P. Williams، ونشَر عنه ورقةً علمية، ثم اختفَى ولم يُعْثَرْ له على أثَر. تظهَر المتلازمةُ في الذكور وفي الإناث على السواء، وفي كل الأجناس. أطفال ويليامز قِصارُ القامة عادةً ويُعانون من ضيقٍ في الأورطي والأوعية الدموية الرئيسية، ومن لغَط في القلب، وتخلُّفٍ ذهني؛ إذ يبلُغ مُعامل الذكاء لديهم ٥٥–٦٠، ومُخهم يقلُّ في الحجم عن الطبيعي بنسبة ١٥٪ وهم يشيخون مبكرًا، ولا يستطيعونَ أن يقوموا بأبسطِ العمليات الحسابية — لا يستطيعون مثلًا أن يجمعوا ٢ + ٣، كما أن قُدْرتَهم على التكيُّف المكاني مُنخفِضَة، إذا مشَوا خارجَ المنزلِ بضعَ دقائقَ فقد لا يستطيعون العودة. قُدراتُهم الحركية ضعيفة. الكثيرون منهم يقضُون سنواتِ حياتهِم الأولى في التردُّد على مستشفَى القلب وهم ممتازون في التعرُّف على الوجوه، وفي التحدُّث؛ فهم اجتماعيون للغاية. إذا استمعتَ إلى واحدةٍ من هؤلاء تُغنِّي تساءلتَ عن جَوهرِ ما نَعْنيه بكلمة «ذكاء.» وهم للأسف يعرفون ما يكفي كي يعرفوا أنهم مختلفون ويتحملون — عارفين — مضايقاتِ رفاقِ الدراسة، والنظرات المحدِّقَة والوحدة. استَمِع إلى واحدةٍ من هؤلاء تقولُ عن حياتها مع أقرانها بالمدرسة: «كنتُ أتجه إليهم أحيانًا وأسألهم هل تريدون أن تعرفوا ما بي؟ ولماذا أمشي بهذه الطريقة؟ ولماذا أبدو هكذا؟ البعض ينظرون إليَّ في أسًى نَظْرَتَهُمْ إلى شخصٍ مُخيفٍ غامض. هذا يؤلمني. يزعجني، لكنك لا تستطيع أن تتحكَّم فيما يفكِّر فيه الناسُ أو يفعلون.»

ولكنك لا تملك إلا أن تُحبَّهُمْ. وجوهُهم بشوشة. لا يكُفُّون عن الابتسام. كلهم عواطف وشفقة. يُحبُّون الناس ويقتربون منهم ويُدرِكون أحزانهم.

ويعشقون الموسيقى عشقًا. علاقتُهم بها متينة وعميقة. قد لا يُركِّزون طويلًا في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة، لكنهم يُنفِقون الساعاتِ والساعاتِ بلا مللٍ يستمعون إلى الموسيقى أو يعزفونها. شغفُهم بالموسيقى لا يُحَدُّ. واحدةٌ منهم — جلوريا لينهوف G. Lenhoff — تستطيع أن تُغنِّي ٢٠٠٠ أغنية من ٢٥ لغة من بينها اليابانية والعربية والعبرية. مرةً وقفَت في المطار تُغنِّي باللغة البوسنية أمام حَمَّالٍ بوسنيٍّ، فانخرط يبكي!
يُولَدُ طفلُ ويليامز وقد اقتُضبَ مقطَع، طولُه ١٫٥ مليون قاعدة، يحمل نحو ١٧ جينًا، من الذراع الطويلة لإحدى نُسختَي الكروموزوم السابع من الجينوم. اكتُشف ذلك عام ١٩٩٣م، من بين هذه الجينات المُقْتَضَبَة. جين اسمه ELN يشفِّر لبروتين الإيلاستين Elastin، المسئول عن مرونة الأوعية الدموية، والذي يُشكِّلُ نحو نصفِ الوزنِ الجافِّ للشرايين. هذا يفسِّر السبب في إصابة أطفال ويليامز بأمراض القلب؛ فالنسخة الباقية من الجين (الموجودة على النسخة الأخرى من الكروموزوم السابع) لا تكفي لتشفير القَدْر الكافي من الإيلاستين. من بين ما يحمله المقطع المُقْتَضَبُ من جينات هناك الجين LIMK1، وثمَّة علاقة معروفة عن تحكمه هو والجين ELN في القدرات البصرية الفراغية التي يعاني من تدهورها أطفالُ ويليامز. بالمقطع المقتضب أيضًا جينان آخران هما WSCR1 وFZD3 ويعملان مع LIMK1 في المخ، فيظهر أثرها في تطوره وعمله. والأغلب أن سنجد في هذا المقطع المحذوف من الكروموزوم السابع جينات تتدخل في نمو المخ وعمله. لقد فُتِحَتْ أمام العلماء نافذة يمكن منها أن يُطلُّوا على المخ ووظائفه، وأن يتحركوا ليعرفوا عن الجينات التي تسبب ولع أصحاب متلازمة ويليامز بالموسيقى وباللغة، وحساسيتهم البالغة للضجة، واستجابتهم العاطفية العجيبة للأنغام، وارتفاع نسبة من يتحلون بالإدراك التلقائي لطبقة النغم بينهم.

يفقد أصحاب متلازمة ويليامز بعضًا من مادتهم الوراثية، جزءٌ من كيانهم المادي يختفي، فيستبدلون به الموسيقى، لُبَّ الكون! إذا اختفت الجيناتُ جميعًا، تَبقَى الموسيقى! في البَدْء كانت الموسيقى!

٥ × ٨ = ٤٠

الجينات والبيئة تعملان معًا في تحديد ما يُفكِّرُ فيه الناس ويحسُّونه ويفعلونه، وتحدِّدان كلَّ خصائصِ البشر. والقول إن هذه الصفةَ أو تلك وراثيةٌ بحتة، أو بيئيةٌ بحتة، هو أمرٌ عسيرٌ وخاطئ في معظم الأحوال. هل نستطيعُ أن نسألَ أيهما يؤثِّر في مساحة المستطيل: طوله أم عرضه؟ السؤالُ بلا معنًى. لا هذا وحده ولا ذاك، هما معًا؛ فبدون أيهما لن يكون ثمَّة مستطيل. ٥ × ٨ = ٤٠، فهل الرقم ٤٠ يحدده الرقم ٥ أم الرقم ٨؟ السؤال لا معنى له، كذا الأمر بالنسبة للوراثة والبيئة في آثارهما على الصفات البشرية، ولا سيما السلوكية منها، كالتذوُّق الموسيقي أو المَلَكة الموسيقية أو الإدراك الفوري لطبقة النغم.

والبيئة — ونعني بها كلَّ ما يؤثِّر في الصفات خارجَ ما يعملُ عليها من جينات — تؤثِّر في كل خصائصنا المتعلقة بالموسيقى. صوت الموسيقى يصل من الأذن إلى المخ، وبالمخ — الذي تحكُمه المادة الوراثية — يحدث الأثر.

الموسيقى والمخ

يُولد الطفلُ وهو يحمل البلايين من الخلايا العصبية في مُخه — النيورونات. وفي خلال السنين الثلاثة الأولى من عمره تنشأ الروابط بين هذه النيورونات. تصبح هذه الروابط أقوى كثيرًا في قشرة المخ إذا نشأ الطفل وهو يستمع إلى الموسيقى. «اعزِف لطفلك، غَنِّ له وارقص.» الغناءُ الجماعي في روضة الأطفال، والتدريبات على لوحة مفاتيح البيانو تُحسِّن كثيرًا من نوع الذكاء المطلوب للمستوى الرفيع من العلوم والرياضيات. غناؤك تحت «الدش» يَشْفي مُخَّك. عُرِفَ من زمانٍ أن الغناء يَشْفي. إذا كنتَ تُغنِّي وتُدندِن فأنتَ في حالةٍ نفسيةٍ طيبة. الأغنيةُ بهجةٌ من مباهج الحياة، أيًّا كانت طريقةُ غنائك، تُنسِيك متاعبَك، وتُحِسُّ معها بالراحة والأمان. الطفلُ يتعلم موادَّه الدراسية بصورةٍ أفضل إذا تمَّ ذلك عن طريق الأغنية. يتذكَّر المادَّة بسهولة. غَنِّ إذن كلما استطَعتَ، وحيثما تمكَّنتَ. إن شَتَّى صور التعبير بالصوت تَشْفي؛ الغناء، الصفير، الترتيل، الدَّنْدَنَة، الهَمْهَمَة، إلقاء الشعر، الكلام، بل وحتى قولك آاااااه!

حكَّة المخ

هناك بعضُ الأغاني «تلتصق» بروسنا، وتسبِّب «حكَّة المخ»، وهي حكَّةٌ لا يمكن أن «تُهْرَش» إلا بأن تُكَرِّرَ اللحن وتُعيدَه مرةً وراء مرة، حتى وأنت تسيرُ وحدَك في الشارع. تُسمَّى مثل هذه الأغاني باسم «دودة الأذن.» قد تأسِرُك هذه الدودة وقد تُزعجك. هي مثلُ الهِستَامِينَاتِ سوى أنها تَستَحِكُّ المخ. وما من طريقٍ إلى «الهَرْش» سوى أنْ تُكرِّر اللحن في عقلك وتُكرِّره. معظَم الناس مُعَرَّضون لهذه الدودة. يُعاني منها حتى كبار الموسيقيين. موتسارت كان يُعاني منها. وليس من طريقةٍ نعرِفها تخلِّصنا منها، لكن الموكَّد أنَّ البعض منا أكثرُ عُرْضةً من غيرهم، النساء أكثرُ عُرضةً من الرجال. الموسيقيون أكثرُ عُرْضَةً من غيرهم، فهل للوقوع في أَسْرِ دودة الأذن علاقةٌ بالوراثة؟

الموسيقى والتغير الفسيولوجي

تستثير الموسيقى فينا استجابةً عاطفية. ثمانون بالمائة من الكبار يستجيبون فيزيقيًّا للموسيقى، بالرعشة، أو الضحك، أو الدموع. الموسيقى تَستَلُّ منهم العواطفَ والانفعالات. سُجِّل معدلُ النبض وضغطُ الدم ومعدَّل التنفس، وغير هذه من المقاييس الفسيولوجية، أثناء الاستماعِ إلى قطعٍ موسيقيةٍ مختلفة تعبِّر عن السعادة وعن الخوف وعن التوتُّر، فاتضح أن لكل نمطٍ من الموسيقى نمطَه المختلفَ من التغيُّر الفسيولوجي. وعندما سجَّل العلماء مخاخَ الموسيقيين الذين تتملكهم النشوة عند الاستماع إلى الموسيقى، اتضَح أن الموسيقى تنشِّط نفسَ أجهزة الإثابة بالمخ التي ينبِّهها الطعام والجنس والمخدِّرات.

الموسيقى والقشرة السمعية بالمخ

تتم معالجةُ الموسيقى كما قُلنا في القشرة السمعية بالمخ، التي تتألف من طبقاتٍ من خلايا المخ والسبل التي تربطها — وهي الجزء من المخ الذي تجري به عمليات التفكير. والروابط بين خلايا المخ هي مفتاح عمله. واستجابةُ الموسيقيين للموسيقى في هذه القشرة أكبر؛ إذ تُصبح لديهم أكثر اتساعًا. حجمُ القشرة عندهم يزيد بمقدار ١٣٠٪ عنه لدى غير الموسيقيين. يرتبط مدى الزيادة بمستوى التدريب الموسيقي، مما يشير إلى أنَّ تَعلُّم الموسيقى يزيد عددَ الروابط بين النيورونات التي تُعالِج الموسيقى. ثم إن مخَّ الموسيقيِّ يخصِّص مساحةً أكبر للتحكُّم الحركي في الأصابع التي تُستخدَم في العزف على الآلة؛ فالمناطق من المخ التي تتلقَّى المُدخَلاتِ الحِسِّيَّة من أصابع اليد اليسرى الأربعة، من السبَّابة حتى الخنصر — وهي المستخدمة في عزف الكمان — تكون أكبر بكثيرٍ في عازفي الكمان. هل هذه الصفات جميعًا تقع أصلًا تحت تحكُّم البيئة؟

كيف «يسمع» الصُّم؟

يُحِسُّ الصُّم باهتزازات الصوت بنفس المنطقة من المخ التي يستخدمها غيرُ الصُّم في السمع؛ الأمر الذي يُفَسِّر كيف يستمتعُ الصُّمُّ بالموسيقى، ويُفسِّر كيف أن البعضَ منهم يصبح عازفًا ومؤلفًا موسيقيًّا. عُرِّضَت أيادي عددٍ من الطلبة الصُّم، ومجموعة أخرى من الطلبة الطبيعيين لاهتزازاتٍ مُتَقَطِّعة. نَشِطَت في كلتا المجموعتَين نفسُ المنطقة من المخ التي تُعَالَجُ فيها الاهتزازاتُ طبيعيًّا، لكن الطلَبة الصُّم أظهروا نشاطًا في منطقةٍ بالقشرة المخية لا تنشَط عادةً عند الأفراد الطبيعيين إلا أثناء التنبيه الصوتي. لم يظهر هذا الأثر في غير الصُّم. هذا يعني أن اختلاف الخبرة يُمكِن أن يؤثِّر في تنظيم عمل المخ. مخاخ الصُّم تُعيد برمجةَ نفسِها لتسمع الموسيقى.

ظاهرة موتسارت

صاغَ ألفريد توماتيس A. Tomatis مصطلَح «ظاهرة موتسارت The Mozart Effect» ليَعنيَ به ما يحدُث من زيادة في تنامي مخ الأطفال تحت سن الثالثة عندما يستمعون إلى موسيقى فولفجانج أماديوس موتسارت (W. A. Mozart) (أو موزار). ولقد أصبح الآن مصطلحًا شاملًا يُشير إلى قدرة الموسيقى على تحسين الصحة والذاكرة والانتباه والإبداع، وعلى تخفيض الاكتئاب والقلق. نشأَت الفكرةُ عام ١٩٩٣م بجامعة كاليفورنيا عندما أُجريَت تجربةٌ على ستة وثلاثين من الطلبة لدراسة أثَر الاستماع لمدة عشر دقائق لصوناتا البيانو K448 لموتسارت. قالت النتائج إن هذه الصوناتا تعزِّز التعقُّلَ المكاني (أي القدرة الذهنية على معالجة الأشياء في الفضاء الثلاثي الأبعاد)، الذي يقيسه اختبار ستانفورد-بينيه. بلغَت الزيادة ٨-٩ نقاط، وكانت هذه أعلى زيادة نُشر عنها في أي بحث، لكن هذا التعزيز لم يستمرَّ إلا ١٠–١٥ دقيقة. قشرة المخ — بجانب إسهاماتها في التفكير النظري المجرد، وفي التخطيط — تُسهِم في التحكُّم في الحركة واللغة والذاكرة والسمع. ربما كانت الموسيقى «تُنعِش» الناقلات العصبية داخل قشرة المخ؛ ومن ثَم يتحسَّن الأداء الذهني المكاني.
أظهرَت تجاربُ تاليةٌ على الفئران أن أداءها الذهني يتحسَّن إذا استمعَت إلى نفس الصوناتا؛ فهي تستطيع في سرعةٍ أن تجدَ طريقَها في تعقيدات المتاهات. وقالت نتائجُ البحوث بعد ذلك إن هذه الموسيقى ترفَع من تعبيرِ بضعة جينات ذات علاقةٍ بالاتصالات بين خلايا المخ. يَسْتخدم مخُّ الإنسان عند الاستماع إلى الموسيقى مجالًا عريضًا من المناطق؛ الإيقاعُ وطبقةُ الصوت تُعالَج بالنصف الأيسر من المخ، والجَرْسُ واللحنُ بالنصف الأيمن والمناطق من المخ التي نستخدمها في المهامِّ المكانية الزمانية تتراكَب بالفعل مع مناطقِ معالَجة الموسيقى. ويقترحُ البعضُ أن الاستماع إلى الموسيقى يركِّز على مناطق المخ التي تختص بالتعقُّل المكاني. أمَل الباحثون أن تُساعدَ هذه النتائج في تصميم علاجاتٍ للمصابين ببعضِ الأمراض العصبية كالصرع والألزهايمر. ثمَّة أبحاثٌ عن الصرع بيَّنَت مؤخرًا وبوضوحٍ أهميةَ «ظاهرة موتسارت» في خفضِ نشاطِ نوباتِ المرضِ بعدَ الاستماع إلى صوناتا K448. قيل إن الخصائصَ الإيقاعية لموسيقى موتسارت تُحاكي الدوراتِ الإيقاعيةَ التي تحدث بمخ الإنسان.

قامت شكوكٌ كثيرةٌ حول ظاهرة موتسارت؛ فلقد أُعيدَت التجربة على أيدي علماء آخرين ولم يتوصلوا إلى نفس النتائج الإيجابية. قالوا إنه إذا ما كانت موسيقى موتسارت تُحسِّن الصحة، فلماذا كان موتسارتُ نفسُه كثير المرض. إذا كان الاستماع إلى موتسارت يرفع الذكاءَ فلماذا لا يكون أذكَى الناس وأكثرهم روحانيةً من المتخصصين في موتسارت؟

خُصلة من شعر بيتهوفن

في فيينا، عاصمة النمسا، وفي أصيل يوم ٢٦ مارس ١٨٢٧م، كانت عاصفةٌ رعديةٌ رهيبة تَزأر، والمطرُ ينهمر بغزارة. غير أن المريضَ بيتهوفن على فراش مَوْته لم يكنْ يَسْمع. كان قد أُصيبَ بالالتهاب البلوري أثناء عودته إلى فيينا من إحدى رحلاته في ديسمبر ١٨٢٦م، فأضاف إلى ما به من مرض. ستَّةٌ من مُحبيه كانوا حول سريره. أقنعوه أن يسمَحَ للكاهن بأن يؤدي طقوسَه الأخيرة. عندما انتهى الكاهنُ من صلواته رفَع بيتهوفن قبضةَ يده إلى أعلى وقد أطبق أصابعَها وهو يشهد البرق يُعربد بالخارج، ثم هَمَس بآخِر كلماته: «هلِّلوا يا أصدقاء، لقد انتهَت المَلْهَاةُ!» ومات أعظم عبقريٍّ موسيقيٍّ في التاريخ، آخر الموسيقيين الكلاسيكيين وأولُ الموسيقيين الرومانيكيين. كان على سريرِ موته قد خَطَّط سمفونيتَه العاشرة واكتملَت في رأسه، لكنها لم ترَ النورَ قَط. يا خسارة ماتت معه! موسيقيًّا كانَ الرجلُ حتى آخر لحظة في حياته.

اسمُه لودفيج فان بيتهوفن، وكلمة «فان» بالفلمنكِيَّة تعني «ابن»، وهو من أصل فلمنكي (وهي ليست «فون» الألمانية التي تشير إلى النبالة)، أما كلمة بيتهوفن نفسها فتعني بالهولندية «حديقة البنجر.» وُلِد في مدينة بون في ١٧ فبراير ١٧٧٠م، وإن كان هو يقول إنَّ ميلاده الحقيقي كان عام ١٨٧٢م، أما ١٧٧٠م فهو عام ميلاد أخيه الأكبر، الذي تُوفي رضيعًا، وكان اسمه أيضًا لودفيج. لم تكن طفولتُه سعيدة. كان والدُه مُغنِّيًا فَظًّا، قرَّر أن يُصبِحَ ابنُه في عبقرية موتسارت الموسيقية، أن يكونَ «موتسارت الثاني.» بدأ إذن في قسوةٍ يدرِّب ابنَه في عُمر ٥ سنوات على العزف على الكمان والبيانو. كان هذا الوالد فقيرًا سكِّيرًا. كان يعود سكرانًا مع أحد أصدقائه في منتصف الليل ليُوقِظَ ابنَه الطفلَ كي يعزفَ لهما على البيانو. وعلى عُمر الثامنة كان على الصغير أن يتكسَّب من العَزْف. وفي عام ١٧٨٧م زار فيينا ليَدرُسَ على يدَي موتسارت. قال عنه موتسارت فيما بعدُ: «سيترك هذا الشاب بَصْمَتَهُ على العالم»، لكنَّ بيتهوفن عاد سريعًا إلى بون عندما عرف أن والدته تُحتضَر، ليرجع ثانيةً إلى فيينا عام ١٧٩٢م؛ حيث مكث حتى آخر عُمره.

في أوائل عشرينيات عمره، في عام، ١٨٠١م، اكتشَف بيتهوفن أن سَمْعَه يضعُف. عذَّبه ذلك، مثلما عذَّبه ما يسمعه من طنينٍ مستمرٍّ وصفير. كتَب عام ١٨٠٢م «وصيَّة المدينة المقدَّسة» — وقد عُثر عليها بعد وفاته — وفيها يُفصِح بالموسيقى عمَّا لاقاه من عذاباتٍ في بدايات صمَمه. ومع تفاقُم حالته، أصبح سريع الغضب والانفعال. فقَد معظم أصدقائه المقرَّبين، ولم يبقَ له منهم إلا قلَّة، لكنه استمرَّ يكتُب الموسيقى. وعلى عام ١٨١٩م، كان قد فقَد سَمْعَه تمامًا. لم يعُد في إمكانه أن يعزفَ البيانو عَزْفَ الماهر الصَّناع، لم يَعُدْ يَسمع الأنغامَ إلا في عقله. انعزل عن الناس. أصبح وحيدًا. اتجه إلى الله يبحث عن العزاء والسلوان الروحي. قال: «سأسمعُ في السماء.» كتَب وهو أصَم سيمفونيتَه التاسعة التي توَّج بها مُنجَزاته الموسيقية.

عندما انتهَى العرضُ الأول لسيمفونيته التاسعة هذه (عام ١٨٢٤م) انفجر جمهور المستمعين في تصفيقٍ مجنون. كان بيتهوفن يقف وظهرُه للجمهور. لم يسمَع شيئًا. أدارته واحدةٌ من الفرقة الموسيقية ليواجه الجمهور. انحنى شكرًا. رأى التصفيق. لم يسمعه. «سينتهي كلُّ شيء، سيفنَى العالَم، وستبقَى السيمفونية التاسعة.» هذا ما قاله ميكائيل باكونين M. Bakunin.
في ٢٧ مارس ١٨٢٧م، اليوم التالي لوفاة بيتهوفن، وصل إلى فيينا موسيقيٌّ يهوديٌّ شابٌّ عمره ١٥ سنة، يُدعَى فيرديناند هيلر F. Hiller في صحبة يوهان هوميل J. Hummel، ليُلقِيَا النظرة الأخيرة على بيتهوفن. كان هيلر قد زاره يوم ٢٠ مارس، قبل أسبوع، وسمعه يقول: «إنني أعتقد أنني سأشرع قريبًا في رحلتي إلى السماء.» كان من عادة أصدقاء المتوفَّين في تلك الأيام أن يأخذوا — كذِكْرى — خُصلةً مِن شَعرِ الفقيد. وكان رأسُ بيتهوفن عندما وصل هيلر يكاد يكون أصلع بعد أن «عالجه» قَبْلًا العديد من الأصدقاء. تمكَّن هيلر من الحصول على خُصْلة من شعر بيتهوفن واحتفظ بها حتى ١ مايو ١٨٨٣م، عندما أهداها إلى ابنه باول Paul الصحفي، في عيد ميلاده. ثم اختفَت الخُصلة من تاريخ موت باول عام ١٩٣٤م، حتى ظهَرَت ثانيةً عام ١٩٤٣م، عندما اتضَح أنها قد أُهْدِيَتْ كمكافأة، إلى الطبيب الدانيمركي كيي ألِكزَنْدَر فريمنج K. A. Fermming، الذي ساعد اليهود كثيرًا أثناء الحرب العالمية الثانية في تهريبهم بحرًا إلى السويد. عندما مات الدكتور فريمنج، آلَتْ خُصلة الشعر إلى ابنته بالتبني، التي أرسلَتها، بسبب ضائقةٍ مالية، إلى «سوثبي» في لندن، لتُباع هناك بالمزاد العلني. بيعت الخُصْلة في ديسمبر سنة ١٩٩٤م، بمبلغ ٣٦٠٠ جنيه إسترليني. اشتراها أربعةٌ من الأمريكيين ينتمون إلى جمعية بيتهوفن الأمريكية. أصبح مألوفًا في السنين الخمسة الأخيرة بيعُ خُصلاتٍ من شَعر الشخصيات التاريخية والعامة؛ مثل إبراهام لنكولن، وزوجته ماري، ونابليون، وهنري فورد، وإلفيس بريسلي ومارلين مونرو.

في عام ١٩٩٦م، رأت الجمعية الأمريكية أن تقوم بتحليل بعض الشَّعر من خُصلة بيتهوفن (وهي تضم ٥٨٢ شعرة) لفحصها كيمائيًّا ووراثيًّا، في محاولة لمعرفة الكثير من الأسرار التي تكتنفُ حياة بيتهوفن — ما السبب في موته المبكر نسبيًّا (٥٧ عامًا)، وربما أيضًا لمعرفة شيء عن جينوم فنانٍ عبقري. كان بيتهوفن يزور الطبيب بعد الطبيب بحثًا عن علاجٍ لأمراضه، كان يُعاني من سوء الهضم، ومن آلامٍ مزمنة في البطن ومن حدَّة الطبع، ومن الاكتئاب. كانت آلامه الجسدية هذه تُقلِقه كثيرًا، حتى ليكتب لأخوَيه خطابًا قبل وفاته ببضع سنين يقول فيه: «عندما أموت، وإذا كان الدكتور شميت لم يزل حيًّا، فاسألاه باسمي أن يكتشف ي وأرفِقا هذه الوثيقة المكتوبة، بتقريره عن مرَضي، فقد يُصالحني العالم، على الأقل بعد موتي.»

تحليلُ الشَّعر يُعطي دلالاتٍ مهمةً عن حياة صاحبه. ولقد نتذكَّر قصةَ التحليل الكيماوي لشعر نابليون. حُلِّلَت من شَعر نابليون خُصلةٌ أُخذَت من مُتحَف كيب تاون، وكان قد أهداها إليه قسِّيس من جزيرة سانت هيلانة؛ حيث نُفي نابليون ليمكُث بها ستَّ سنوات إلى أن تُوفي في ١٥ مايو ١٨٢١م وعمره ٥١ سنة. أثبت تحليل الشَّعر بمعمل ماكرون McCrone للبحوث أن نابليون لم يمُت كما قيل من التسمم البطيء بالزرنيخ، الذي اتُّهم أحد معاونيه (الكونت تشارلس ده مونتولون C. de Montholon) بأنه كان يدسُّه في طعام الرجل بِناءً على أوامرَ من الملكيين الفرنسيين، الذين كانوا يخشَون من عودته ليقود ثورةً جديدة. ولقد أُجرِي أيضًا مثل هذا التحليل على شَعر الملكة الروسية أناستازيا Anastasia التي ماتت سنة ١٥٦١م، إذْ فُتِح تابوتُها عام ١٩٩٦م، وحُلِّل شَعرها، واتضح أنها ماتت مسمومةً بالزئبق. الشَّعر يحفَظ السُّم أكثر من أي جزءٍ آخرَ من الجسم.
لإجراء الاختبارات الكيماوية والوراثية على خُصلة شعر بيتهوفن، كان من الضروري بادئ ذي بدء التأكُّد من أنه بالفعل شَعر بيتهوفن! أُخذَت عيِّناتٌ من عِظَام جثته، وقُورنَت تتابعات دنا DNA السبحيَّاتِ بها بتتابعات دنا السبحيات الموجودة ببُصَيْلات الشَّعر. كانت هناك ٨ شعرات تَحمِل البُصَيْلات بالفعل. واتضح أن الشَّعر لبيتهوفن.
حُلِّلَت شَعرَتان في معمل ماكرون، وستُّ شعراتٍ في معمل أرجون Argonne. أعلن وليام وولش W. A. Walsh، رئيسُ مشروع بيتهوفن البحثي، النتائج في مؤتمرٍ صحفي عُقد يوم ١٧ أكتوبر سنة ٢٠٠٠م، أظهرَت النتائجُ أن الشعرات الثمانية كانت جميعًا تحمل مستوًى عاليًا للغاية من الرصاص، يبلغ في الحق نحو مائة ضعفِ التركيز المعروف في شعر الأفراد الطبيعيين. ربما كان التسمُّم بالرصاص هو السبب في كلِّ الأعراض المرَضيَّة التي قاسَى منها بيتهوفن في حياته، وأثَّرَت في شخصيته وسلوكه، لقد عرفنا الآن السبب في مرضه المزمن، الذي طلَب هو يومًا من طبيبه أن يكشفَه — إن نَكُن قد تأخَّرنا نحو قرنَين من الزمان.

لم يظهر بالشعر أثَرٌ من الزئبق. كان مَرضَى الزُّهَرِي في ذلك الزمان يُعالَجون بمركَّبات الزئبق. الرجل لم يُصَب بالزهري بالفعل كما يقول كل دارسيه، ولم يظهر أيضًا أن بيتهوفن كان يتعاطى أية مسكنات، كالأفيون، يخفِّف بها آلامه في الفترة الطويلة التي قضاها على سرير الموت. كان الرجلُ على ما يبدو قد قرَّر أن يحفظ مُخَّهُ صافيًا للموسيقى. ألَم يكُن يفكِّر في سيمفونيته العاشرة؟

حدَّد تحليل الدنا جزءًا كبيرًا من التركيب الوراثي لبيتهوفن، وستُتاح البيانات للبحث في قضية التميُّز الوراثي للعباقرة — إنْ كان ثمَّة تميُّز — وللبحثِ في أمرِ إصابة بيتهوفن بالصَّمَم، وهل كان هذا صممًا وراثيًّا؛ فقد غدا الآن معروفًا التركيب الجُزَيئي لعددٍ من الجينات المسئولة عن الصَّمَم.

بيتهوفن؟ إذا تجسَّدَت الموسيقى كانت هذا الرجل. قاسى كثيرًا في حياته، في جيناته، على ما يبدو، كان الصَّمَم، لكن انتصاره على الصَّمَم، قدرته على التأليف الموسيقي بعد أن فقَد سَمْعَه، كان معجزةً من معجزات الفنان، كان فنُّه أكبر من آلامه، أكان فَنُّه في جيناته؟ أم هل قَدَحَتْ آلامُه زِنادَ عبقريته الموسيقية؟ كل ما نعرفُه هو أنه ذات يومٍ حزينٍ راعد، انفلَت من جسده وآلامه، من وراثته ومن بيئته، وحمَل معَه سيمفونيته العاشرة بعيدًا إلى عالَم الأنغام الأرحَب.

كتَب أحدُ العلماء يومًا عن الموسيقى، فقال إنها، مثل غيرها من ضروب الفَن، بلا فائدة. إذا استَغْنَى الإنسان عنها فلن يموت. أَتَذَكَّرُ يومًا سألَتني فيه عن معنى الحب، فَأَجَبْتُ: «لا معنى للحب، الحب هو المعنى.» أتُراني هنا أودُّ لو أقول: «لا معنى للموسيقى، الموسيقى هي المعنى»؟

العبقرية والوراثة

إذا سُئلتَ: «لو أن بيتهوفن كان قد تزوَّج وأنجب، فهل تتوقع أن يكون ابنُه عبقريًّا في الموسيقى مثله؟» فالأغلب أن ستكونُ إجابتك بالنفي. لماذا؟ خِبرتُك الحياتية وقراءاتك ستقول إن هذا مستبعَد. هل سمعتَ عن شيكسبير آخر غير ويليام شيكسبير؟ الحقيقة أن «العبقرية» البشرية كانت دائمًا مشكلةً صعبةَ التفهُّم. هناك من يَعْزوها إلى البيئة والوضع الاقتصادي الذي ينشأ فيه الإنسان. وهناك السلوكيون المتطرفون، وكان منهم مَن قال: «أعطِني عشرة أطفالٍ أصحَّاء، وأعطِني ما أطلُبه من إمكانياتٍ لتربيتهم، وسأضمَن أن أنتقيَ عشوائيًّا أيَّ طفل منهم وأدرِّبه ليصبح ما أشاء؛ طبيبًا، محاميًا، فنانًا، تاجرًا، بل وحتى شحَّاذًا أو لصًّا، بِغَض النظر عن مواهبه، أو ميوله، أو قدراته، أو كفاءته، أو سلوك أسلافه!» الأمرُ كله أمرُ بيئة، هناك مَن يرى أن العبقريات ليست سوى نتيجة التركيز المُفرِط في العمل. كان داروين يقول إن كل الناس — باستثناء البُلَهاء — لا يختلفون كثيرًا في الذكاء، وإنما في الحماس والعمل الجاد. ولما سُئل نيوتن كيف توصَّل إلى اكتشافاته المذهلة أجاب: «إنني أضَعُ الموضوع أمامي طولَ الوقت (وأفكِّر فيه)، وأنتظرُ حتى تتكشَّف الصورة أمامي قليلًا قليلًا.» الممارسةُ الجادةُ المُتعمَّدة — لا الفروق في القدرة الموروثة — هي التي تُميِّز هذا الفردَ عن ذاك. هناك الرواية التي يحكيها عالم الرياضيات هاردي عن زيارةٍ قام بها للرياضياتي رامانوجان Ramanujan؛ إِذ وصَل إليه بالتاكسي متشائمًا؛ لأن رقم التاكسي كان ١٧٢٩م، فإذا برامانوجان يقول إن هذا رقمٌ عجيب وفريد؛ لأنه أصغرُ رقمٍ ينتُج عن حاصل جمع مُكعَّبَين، وبطريقتَين. (أجهدتُ نفسي حتى عرفتُ الحل؛ هذا الرقم هو حاصل جمع مكعَّب الرقم ١، زائدًا مكعَّب الرقم ١٢، وهو أيضًا حاصل جمع مكعَّب الرقم ٩ + مكعَّب الرقم ١٠.) كيف توصَّل الرجل إلى هذا؟ لأنه كان يفكِّر دومًا في الأرقام؟
لكنْ هناك حكايةٌ أخرى عن طفلٍ اسمه كارل فريدريخ جاوس C. F. Gauss في عمر ١٠ سنوات كان في فصله بالمدرسة، وكان مدرِّس الفصل قد تغيَّب، فدَخل آخَر، كان همُّه هو إسكات التلاميذ، طلَب منهم أن يَجمَعوا الأرقام من ١ حتى ١٠٠. هذا سيُسكِتهم حتى نهاية الحصة. بعد دقيقةٍ لاحظ أن جاوسَ قد جلس صامتًا، فَسَأَلَهُ كم حاصل الجمع؟ أجاب الطفل ٥٠٥٠. الإجابة صحيحة! كيف توصَّل إليها هذا الطفل؟ أجَابَه: (١ + ١٠٠) = (٢ + ٩٩) = = (٥٠ + ٥١) = ١٠١. هناك خمسون عمليةَ جمعٍ كهذه؛ فحاصل الجمع هو ١٠١ × ٥٠ = ٥٠٥٠! كم من الأطفال يا تُرى يمكنه أن يفكِّر هكذا؟ إنه «فلتة»، «عبقري» ولا شك. دون تفكيرٍ في المشكلة طويلٍ عميقٍ مركَّز استطاع أن يحلَّها.

«العبقرية» إذا أمكن تعريفُها لا بد أن تكون صفةً كَمِّيَّةً يؤثِّر فيها عددٌ كبيرٌ من الجينات، وتنتُج عن توليفة من الجينات تتفاعل معًا بعضها مع بعض (ومع البيئة). وحدوث هذه التوليفة أمرٌ بالغ الندرة، فإذا وقعَت فإنها لا تُورَّثُ بالمعنى المفهوم؛ لأن الفرد لا يُورِّثُ تركيبَه الوراثي، إنما يُورِّثُ نِصفَهُ فقط، تُفَكُّ التوليفةُ الوراثية ليحصلَ النسلُ على بقية مادته الوراثية من الوالد الآخر.

حُلِّل شَعرُ بيتهوفن، نعم. وفُحصَت بدقة في خلاياه بقايا مادته الوراثية المُهَشَّمَة. لكنَّا أبدًا لن نتمكَّن من السرِّ الوراثي لعبقريته؛ هذا أمرٌ مُحال، حتى لو عرفنا التشريح الجُزَيئي لجينومه كاملًا، فكيف لنا أن نعرفَ الجيناتِ الخاصةَ بالعبقرية التي تشكِّل توليفتَه المتفرِّدة؟ وأنَّى لنا أن نعرفَ العواملَ البيئيةَ التي تفاعلَت معها؟ العبقرية سرٌّ أكبر منَّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥